قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والأربعون

كانت تنظر الى سقف غرفتها بعينين واسعتين، حالمتين، لا يزال الألم مختفيا بداخلهما بخجل...
بينما هي تشعر بلمسات أصابعه تسري على بشرة كتفها و ذراعها...
أدارت وجهها ببطىء تنظر الى وجهه الذي يعلوها وهو ينظر اليها مبتسما بنظرة لم تعهدها به من قبل...
نظرة غريبة، جعلته أصغر سنا، و اهدأ بالا، و أكثر سلاما...
همس لها بصوت أجش خافت وهو يلامس وجنتها بظهر اصبعه
(مرحبا)
ارتبكت تيماء و لعقت شفتها و هي تهمس بإختناق.

(أهلا)
اتسعت ابتسامته وهو يقول بنبرة مداعبة
(ظننت أنني سأحتاج لوقت أطول في محاول اقناعك)
احمرت وجنتاها بشدة و هي تتمسك بطرف الغطاء تحتمي به، بينما هو مستلقيا بجوارها في سريرها الضيق...
السؤال المجنون الذي أخرته طويلا بدأ يطفو الآن الى سطح وعيها المتداعي...
ماذا فعلت للتو؟، لقد عاشت لحظات حميمية مع مجرم فار من العدالة!

أي غباء جعلها تفعل ذلك؟، كيف استسلمت؟، و الأشد غرابة، كيف استمتعت للمرة الأولى في حياتها؟
عضت تيماء على شفتها المرتجفة، و تنتفض من البرد...
برد داخلي لا أمل في تدفئته، الا أنها شعرت بإصبعه يتحرك الى شفتها المسكينة يحررها من أسر توترها وهو يقول بخفوت
(هوني عليك)
رفعت حدقتيها تنظر الى عينيه، و حينها حصلت على الجواب
لم تكن مع مجرم فار من العدالة، بل كانت مع قاصي الحكيم، زوجها و حبيبها و والد ابنها...

هو في نظر الجميع مجرم، و في نظر قلبها حبيب و ليحترق الجميع...
فتحت شفتيها لتقول بارتباك
(ستتأخر عن موعد عمرو)
ارتفع حاجبيه بدهشة قبل أن يضحك برفق وهو يقول مازحا
(لقد بدأت تتصرفين كأم حازمة بالفعل، كيف لك التفكير في عمرو بينما نحن معا في تلك اللحظات التي سيتم تسجيلها في التاريخ)
ابتلعت تيماء توترها و هي تقول بخفوت
(يتوجب التفكير على واحد منا على الأقل، و من الواضح أنه لن يكون أنت).

ضحك مجددا، فوقع قلبها بين أضلعها و صرخت في داخلها
يا ويلي من تلك الضحكة! خفتت ضحكة قاصي تدريجيا وهو يداعب ملامحها، قبل أن يقول بخفوت
(أشعر و كأنها المرة الاولى لنا معا)
ارتجفت شفتي تيماء و هي تسبل جفنيها...
هذا هو شعورها تحديدا، و لم تظن أن هذا ممكنا مطلقا...
همست أخيرا بصوت مختنق
(قاصي عليك الرحيل، أبي، أقصد، سالم، سيصل الليلة)
تسمر قاصي و ضاعت ملامح الرقة و الشوق عن وجهه، فبكت ضياعها بحسرة...

كان فكه يتحرك كمن يحاول كسر قشرة بندق صلبة بصعوبة...
أرادت أن تهون عليه، الا أنها لم تستطع، فقد كانت تعاني مما هو أكثر و أشد...
تكلم قاصي أخيرا ليقول بصوت متصلب بارد
(هل يأتي الى هنا كثيرا؟)
ظلت متمسكة بحافة الغطاء، ناظرة اليها كطفلة مشاغبة، ثم قالت بإيجاز
(لقد يأتي الى هنا مرة كل شهر، لديه عمل و وهو)
صمتت قليلا لا تجد ما تتابع به، الا أن قاصي لم ينتظرها للتتابع بل سألها بصوت قاس.

(هل يقيم معك في نفس الشقة؟)
تحرك حاجبها قليلا، لكنها قالت بسكون
(بالطبع)
ثم صمتت، فقال قاصي بصوت متشنج
(فيما تتكلمان و كيف تمضيان وقتكما معا؟)
لعقت تيماء شفتها، و قالت
(نتكلم في دراستي، الحمل، يسألني أسئلة مختصرة، نحن لا نمضي وقتا طويلا سويا فهو لديه عمل و أنا لدي محاضرات لكن)
صمتت قليلا و هي ترفع عينيها الى عيني قاصي، و هالها مدى العنف المرتسم بهما، ففغرت شفتيها قليلا، ثم سألته بشك.

(أشعر، أشعر أحيانا بأنك تغار من سالم كرجل، لا كوالدي)
قال قاصي بعنف و دون تردد
(هذا لأنني لم أشعر به والدك يوما، أنا أراه رجل غريب، و أشعر بالجنون كلما تخيلت أنه قد يمضي ليلته معك في نفس الشقة، هذا الحق حصري لي أنا وحدي)
كانت تيماء تنظر اليه بذهول، ثم همست أخيرا
(أنت غير سوي يا قاصي)
ضحك بقسوة وهو يقول بسخرية
(هل لاحظت هذا للتو فقط؟).

عادت لتسبل جفنيها، و هي تشدد من ضغط أصابعها على الغطاء، ثم قالت بصوت واه
(عامة ليس هناك ما تغار منه، فالحديث بيننا مختصر و جاف، لم يتغير شيء بيننا فلا تقلق)
أراد الصراخ بها، أن هذا ليس صحيحا.
بل تغير كل شيء...
هناك ما تغير في سالم الرافعي، هو يعرفه أكثر منها...
سالم الرافعي لم يكن ليهتم بكل هذا القدر، سالم الرافعي كان يأنف من مجرد الكلام عنها قديما...

لكن الآن، كل مدى ما يحاول التقرب منها دون أن تلحظ...
ربما بجفاء كي لا يفسد صورته الصلبة أمامها، لكنه يفعل...
و هذا لا يرضيه...
تيماء له وحده، تخصه وحده...
رفع قاصي قبضته و ضرب بها على قلبها مرتين وهو يقول بخشونة
(أنت تخصينني، أنا وحدي. )
تأوهت تيماء بألم و هي تدلك موضع الضربة، ثم قالت بغضب
(لا تفعل هذا إنها تؤلم، لست كيس ملاكمة)
قال قاصي دون أن يبتسم، (جيد، كي تتذكري هذا دائما).

ابتعد عنها ليستلقي على ظهره واضعا ذراعيه أسفل رأسه، ناظرا الى السقف بشرود، بينما أخذت تيماء تنظر اليه، ثم قالت بخفوت
(كيف عرفت عنواني؟)
نظر اليها قاصي بطرف عينيه ثم قال مبتسما دون مرح
(إنها نفس الشقة التي كانت تقطنها مسك، و سبق أن سافرت اليها و كنت أعرف عنوانها، هل نسيت؟)
أغمضت عينيها و هي تقول
(نعم، نعم صحيح، لقد فاتني هذا)
قال قاصي ممتنا ببساطة
(لقد جربت حظي و فلح، لقد وفرت على عناء البحث عنك).

لم ترد تيماء، بل ظلت شاردة قليلا، ثم سألته بفتور دون أن تنظر اليه
(هل كنت تزورها كثيرا هنا في الشقة؟)
ارتفع حاجبي قاصي وهو يلتفت اليها مبتسما ليقول بمرح مداعبا شعرها
(الا زلت تغارين من مسك؟، انظري الى بطنك التي تعلو أنفك يا غبية، لا حاجة لك للغيرة من مسك الا لسبب واحد فقط وهو شعرها بالطبع)
عقدت تيماء حاجبيها و ضربت كفه بقوة و هي تقول بتبرم
(تبا لك).

ضحك قاصي بمرح، الا أن تأوه فجأة وهو يرفع اصبعه الى فمه بألم، فاتسعت عينا تيماء وقالت بدهشة
(ماذا بك؟)
ابعد اصبعه عن فمه وهو يقول بخبث
(وخزتني احدى أسلاك شعرك)
انعقد حاجبيها أكثر و بان الغضب في عينيها و هي تضربه بقبضتيها هاتفة
(أنت لست مضحكا على الإطلاق، كف عن هذا الغباء).

الا أن قاصي ظل يضحك و يضحك أمام عينيها الهائمتين بعشقه، الى أن أمسك بمعصميها و قيدهما فوق رأسها مكبلا حركتها تماما الى أن خفت ضحكه و تلاقت نظراتهما...
فأخفض وجهه اليها ببطىء، لكنها أبعدت وجهها عن مرماه بقوة و هي تقول بسرعة
(أرجوك غادر الآن)
انعقد حاجبي قاصي وهو ينظر اليها و قد اختفت ضحكته، ثم قال بخفوت
(تيماء، علينا أن نتحدث)
لكنها قالت بقوة
(ليس الآن، أحتاج للبقاء وحدي لفترة، أرجوك).

ساد الصمت لبضعة لحظات و هي تشيح بوجهها عنه بإصرار، ثم تركها أخيرا ببطىء قبل أن تشعر به ينهض من جوارها و سمعت صوت حفيف ارتداءه لملابسه فشعرت بألم عنيف يضرب جنبات صدرها...
سيرحل، سيرحل...
أمسكت نفسها بقوة عن القفز اليه و ترجيه الا يرحل، أن يبقى و يطمئنها أن كل ما حدث لم يكن سوى كابوس، الحقيقة الوحيدة فيه هو وجودهما معا...
سمعت صوته يقول أخيرا بخفوت.

(لقد سجلت لك رقم هاتفي و عنوان شقتي، اتصلي بي إن احتجت لأي شيء الليلة و غدا سأكون عندك من الصباح الباكر)
نظرت اليه بسرعة و قالت مندفعة
(سالم سيكون هنا، لا تأتي لأنه إن رآك قد يتهور و يتصرف بشكل لن يرضيك)
ابتسم قاصي بسخرية وهو ينظر اليها و هي لا تزال مستلقية مكانها، ثم قال بقسوة جامدة.

(فات أوان الخوف منه يا تيمائي، أنت تحملين طفلي، و لن يمنعني عنك مخلوق، أنا فقط سأمنحك الوقت كي تستردي أعصابك من هذا اللقاء، فالإرهاق باد عليك لدرجة لم أتمنى رؤيتها، لكن بعد هذه الليلة، لن يكون بيننا فراق مطلقا، هل فهمت؟).

لم ترد تيماء، وهو لم ينتظر ردها، بل نظر اليها طويلا و كأنه يحفظ صورتها قبل أن يتحرك ليخرج من غرفتها، و سرعان ما سمعت الباب الخارجي يصفق بقوة، و كأنه قد أغلق على قلبها، فشعرت بألم مبرح...
حينها فقط رفعت كفها الى وجنتها و هي تهمس بذهول
(ماذا فعلت؟، ماذا فعلت؟، ياللهي ساعدني).

كان الوقت قد وصل الى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي و هي لا تزال مستيقظة، لم يعرف النوم طريقه الى جفنيها مطلقا...
السكون و الظلام يحيطان بها، الا من اضاءة جانبية خافتة، بينما هي تجلس على الأريكة و ساقيها تحتها...
لقد مضت الساعات ببطىء لم تفكر خلالها بشيء...
كل ما فعلته هو محاولة اخفاء كل أثر لقاصي، كي لا يعرف والدها بالأمر...

أرادت التفكير، لكن كلما صفعتها الحقيقة كانت تحيط عقلها بجدار حجري...
لقد انحدر قاصي لأسوأ منزلة تخيلتها يوما...
كيف يمكنها أن تقضي حياتها مع مجرم! و كيف ستسمح لطفلها بأن يتربى بماله المسروق؟
و الأفظع من هذا كله هو أن هناك أم محترق قلبها على طفلها، كيف تسمح لنفسها بالمشاركة في تلك الجريمة؟، إنها أم الآن و تشعر بالخوف على جنينها الذي لم تراه بعد، لذلك هي متخيلة تماما ما قد تشعر به ريماس من عذاب...

مضت الساعات طويلة بطيئة، الى أن سمعت دقات الثانية صباحا، فنظرت للساعة بعينين فارغتين، و الهاتف في يدها...
كانت قد وصلت الى قرار نهائي...
ستتصل بريماس لتطمئنها على ابنها، و تخبرها بنية قاصي في جمع شملهما قريبا...
أوشكت على طلب الرقم الذي لم يتوقف عن الترجي و التوسل لأشهر طويلة، الا أنها و قبل أن تفعل، سمعت صوت المفتاح و باب الشقة يفتح...

قفزت تيماء من مكانها بسرعة مضطربة كمن ارتكب ذنبا، حتى أن الهاتف سقط من يدها، الا أنها لم تنحني حتى لإلتقاطه، بل وقفت مكانها تضم كنزتها الى صدرها و هي تنظر الى سالم يدخل للشقة مرهق الملامح...
توقف مكانه ينظر اليها متفاجئا، ثم قال بخفوت
(الا زلت مستيقظة؟)
بدت تيماء مرتبكة، لكنها قالت بجفاء معتاد بينهما
(حمد لله على سلامتك)
رمقها سالم بنظرة ضيقة، و قال بجفاء مماثل
(شكرا).

تحرك ببطىء الى أن جلس على احدى المقاعد ليرتاح، ثم نظر اليها و هو يتأمل بطنها المنتفخة، و قال بهدوء
(تعالي اجلسي)
ترددت تيماء قليلا، الا أنها تقدمت و جلست في مواجهته و هي تتجنب النظر اليه...
تكلم سالم يقول بصوت بطيء
(لقد كبرت بطنك عن الشهر الماضي بشكل ملحوظ)
زمت تيماء شفتيها و هي تحدق في البساط الزغبي أسفل قدميها الحافيتين...

علي الرغم من أسئلته المختصرة عن حملها كل مرة، الا أنها متيقنة بما لا يقبل الشك عن مدى كرهه لهذا الحمل، لأنه من قاصي و قد تم دون رغبته، فأفقده جزءا من أرضه، دون ذكر كرامته و هيبته...
ردت تيماء بخفوت
(الشهر الأخير عادة تكون الزيادة به ملحوظة)
أومأ سالم بإشارة مبهمة، ثم سألها بإهتمام
(ما هو الموعد المتوقع لولادتك؟)
رفعت تيماء وجهها تنظر اليه بشك، الا أنها قالت بهدوء.

(من المتوقع أن ألد في وقت مبكر قليلا، لكن لا يزال لدي حوالي أربعة أسابيع، فقد بدأت بشهري الثامن للتو. )
عاد ليوميء برأسه وهو يبدو مهتما على غير العادة...
ساد الصمت بينهما، ثم قال سالم على نحو مفاجيء
(هل اخترت له اسم؟)
تفاجئت تيماء من السؤال، فنظرت اليه مصدومة، الا أنها قالت بتردد
(سليم)
اتسعت عينا سالم قليلا، الا أنه قال بخفوت
(رحمه الله).

شعرت تيماء بشيء يقبض صدرها فجأة، لم تستطع التحكم به، الا أنها هدأت نفسها بأن الرحمة تجوز للأحياء و...
أخذت نفسا عميقا، و ظلت صامتة، فقال يسألها مجددا
(لماذا اخترت هذا الإسم؟، لا أظنك تتذكرين سليم رحمه الله، فقد رأيته لفترة وجيزة جدا من حياتك)
ظلت تيماء صامتة لبضعة لحظات، ثم قالت أخيرا بهدوء مستسلمة و هي تنظر الى عيني والدها
(إنه اختيار والده، فقد كان سليم رحمه الله صديقا مقربا لقاصي).

ما أن ذكرت اسم قاصي حتى تلعثمت و احمرت وجنتيها، بينما تشنجت ملامح والدها و أظلمت عيناه وهو ينظر اليها بحدة و كأنها قد ذكرت اسم عشيقها، لا زوجها...
ظلت صامتة. هادئة، على الرغم من ارتجافها الداخلي، فكانت تعتقد أن والدها من مجرد نظرة الى عينيها سيعلم أن قاصي كان هنا، و الافظع من هذا ما حدث في شقته من تجاوز بينهما...
لا يزال الماضي مسيطرا عليها، علاقتها بقاصي كانت تتخذ منظروا باطلا في نظر الجميع...

و حتى الآن، المنظور الباطل يزداد رسوخا ووضوحا...
شعرت بألم عنيف يضرب بطنها و ظهرها، و قلبها، فأغمضت عينيها تنظم أنفاسها قليلا...
الا أن سالم تكلم مجددا بنبرة عدائية
(تتكلمين عنه ببساطة، هل تعرفين أن الشرطة تبحث عنه بسبب اختطافه لإبن راجح؟)
رفعت وجهها تنظر اليه و بدأت ضربات قلبها تتزايد، مترافقة في الضربات في ظهرها...
لكنها قالت بهدوء زائف.

(أنت تعلم جيدا أنه الوالد الحقيقي لعمرو، الوالد الذي رباه و اعتنى به هو و أمه، أما راجح فقد ألقى به منذ مولده، كما ألقى بطفله الأول الذي توفي بعيدا عنه، من الظلم أن يعد أمثال راجح آباءا)
اتسعت عينا سالم وهو يهتف فجأة مذهولا
(الا زلت تدافعين عنه؟، أنا لا أصدق، حقا لا أصدق)
قالت تيماء بقوة.

(أنا لا أدافع عنه، أنا فقط أتكلم بالمنطق، رجل ألقى بطفله منذ سنوات، بأي حق يطالب به الآن؟، أنت أدرى الناس بإبن أخيك، و تعلم جيدا أنه أبعد ما يكون عن لقب والد)
ضاقت عينا سالم قليلا وهو يقول فجأة
(لماذا أشعر بأنك تضعينني مع راجح في خانة واحدة؟)
ردت تيماء في سرها
لأنه ربما من على رأسه بطحة يتحسسها، لكنها التزمت أقصى حدود الأدب و هي تقول بهدوء.

(أنا لا أفعل، لكن بما أنك ذكرت نفسك، فأساس خلافنا سويا منذ سنوات هو الرغبة في التحكم فيما نبذته قديما، و الأمور لا تتم بهذه الطريقة)
ظل سالم صامتا طويلا وهو ينظر اليها نظرة عنيفة، ثم قال أخيرا بصوت أجش
(لا زلت تعاقبينني حتى الآن على أمر كان خارجا عن ارادتي)
قالت تيماء بقسوة تصحح له كلامه
(تقصد خارجا عن رغبتك، هناك فارق ضخم)
رد عليها سالم بقوة وهو يضرب ذراع المقعد.

(حسنا، خارجا عن رغبتي، لا أنكر، كنت حملا غير مخطط له له، والدتك فعلت ذلك ظنا منها أنها قد تربح بك أكثر)
برقت عينا تيماء بنظرة أكثر قسوة، ثم قالت بنبرة حادة
(و ماذا لو كنت صبيا؟، كان الأمر سيختلف، اليس كذلك؟)
لم يرد سالم، بل نظر بعيدا، ثم قال بعد فترة بصوت أجش حانق.

(لقد منحتك كل ما أستطيع، طلباتك كانت مجابة قبل حتى أن تطلبيها، لكنك تنازلت عن كل هذا وابقيت على فكرة واحدة، و هي أنني والد غير صالح، فسولت لك نفسك الإرتباط بمجرد خادم يعمل عندي، و ماذا كان المطلوب مني حينها؟، أن أصفق لك و اهنئك قائلا، احسنت يا ابنة سالم، احسنت يا ابنة رافعية، دوري معه في الطرقات، فإن تزوجك كان هذا خيرا و بركة، شهران على الأكثر و يرميك بعدها، و إن لم يفعل فسينتهي بك الأمر ساقطة معه في علاقة قذرة...

هل هذا ما كنت تودين سماعه مني حينها كي أكون في نظرك والدا متحضرا؟، أجيبيني)
ساد صمت كئيب بينهما، هو ينظر اليها بغضب، بينما هي تبادله النظر بأسى و يأس، الى أن قالت أخيرا بصوت صلب
(لا فائدة من الكلام الآن، سبق و قلنا كل هذا من قبل و لم نصل لنتيجة، فلنسلم بأننا لن نتلاقى أبدا)
نهضت من مكانها بقوة و هي تقول
(سأذهب للنوم).

لكن و قبل أن تتم كلامها شعرت فجأة بتقلصات حادة في بطنها و ألم كالسكين في ظهرها، فانحنت و هي تمسك بظهرها متأوهة بصوت عال...
نهض سالم من مكانه وهو يقول بقلق
(ماذا بك؟)
حاولت تيماء التنفس بهدوء، ثم استقامت ببطىء و هي تقول بصوت خافت...
(لا شيء، إنه ألم الظهر، يتزايد كل يوم أكثر)
نظرت اليه بعينين زائغتين، ثم قالت بصوت منهك
(هل تريد أن أعد لك بعض الطعام؟)
عقد سالم حاجبيه قائلا بصوت أجش
(لا، اذهبي لترتاحي).

أومأت تيماء برأسها دون أن ترد ثم اتجهت الى غرفتها بخطوات غير ثابتة و هي لا تزال ممسكة بظهرها و هاتفها في يدها الأخرى...
إنها متعبة جدا، لتؤجل الإتصال بريماس لبضعة ساعات، بضعة ساعات فقط من النوم، قبل أن تمضي بيدها عقد التخلص من قاصي للأبد، حكم اعدام قلبها...
لكن النوم لم يأتي، بل استمر الألم حتى الساعة السادسة صباحا...

أربع ساعات كاملة و هي تدور في غرفتها ممسكة بظهرها، غير قادرة حتى على الجلوس أو الإستلقاء...
التقلصات تتزايد فجأة ثم تنقطع، و تتقطع معها روحها اربا...
كانت في حاجة الى قاصي في تلك اللحظة، كي يمسك بكفها، و يخفف من ألمها...
رقمه مسجلا على هاتفها و لا تجرؤ حتى على الإتصال به، فلو فعلت لأتى جريا و حينها ستحدث الكارثة...
كلما تزايد الألم، كانت تغمض عينيها و تتذكر لحظات الشوق بينهما فتبتسم بارهاق و عناء.

كم كان مترفقا بها و بالطفل بطريقة لم تعهدها فيه من قبل، كم كان مختلفا و كأنه طفل يلهو بلعبة طال حرمانه منها، فخشي عليها من أن يكسرها...
كم تتمنى وجوده في تلك اللحظة! آآآآآآآآآه
كانت الساعة قد وصلت للسابعة صباحا...
حين دخلت تيماء الى غرفة والدها دون طرق على الباب، فنادته بألم مستعر
(أبي، أبي)
انتفض سالم من نومه القلق وهو يقول بعدم استيعاب
(هه، ماذا، ماذا حدث؟)
همست تيماء و هي تلهث قليلا متشبثة بالباب.

(أنا ألد)
اتسعت عينا سالم وهو يستوعب ما نطقت به، فقام من الفراش مسرعا وهو يقول
(هل أنت متأكدة؟)
أومأت تيماء برأسها و هي تقول بمجهود واضح
(نعم، متأكدة)
نظر سالم حوله ثم قال بسرعة
(حسنا، حسنا، اذهبي لتستعدي و جهزي حقيبتك)
ردت تيماء بصوت خافت
(أنا و حقيبتي جاهزتان)
انعقد حاجبي سالم بشدة وهو لا يزال يدور حول نفسه، ثم قال بتوتر
(حسنا، حسنا، سأجهز خلال دقائق و أقلك).

أومأت تيماء برأسها بصمت قبل أن تخرج و تغلق الباب خلفها...
ثم وقفت تستند الى أقرب جدار بكفيها مطرقة برأسها و هي تلهث بجهد، و كيانها كله يصرخ
سأتحمل، سأتحمل و لن أتصل به كي لا يأتي، هو سيأتي في كل الأحوال لكنها لن تتحمل رؤية والدها وهو يفعل شيئا ما قد يؤذيه يوم مجيء ابنها الى هذه الحياة، لن تتحمل أبدا...
لو كان والدها أخر مجيئه الى هنا يوما واحدا فقط، لتمكنت من الولادة و قاصي بجوارها، يمسك بكفها...

ما هذا الحظ المؤلم؟
همست تيماء بخفوت و هي تهون على نفسها
(الحمد لله، الحمد لله)
جاء صوت سالم يقول من خلفها بقلق
(هيا بنا)
فرفعت وجهها ببطىء و هي تقوي نفسها مجددا هامسة
سأتحمل و لن أتصل به،
في المشفى كانت تيماء قد بدأت في المخاض، حيث تحولت التقلصات لديها الى ايقاع منتظم...
من السكون ثم الألم العنيف...
بينما كان سالم ينتظرها خارج غرفة الولادة...

كلما بدأت الإنقباضات كانت تهتف عاليا. باسمه عله يأتي، ثم تعود و تتماسك و تهدأ...
أخبرتها الطبيبة أن المخاض قد يستمر لساعات، لذا عليها أن تتحمل قليلا، قبل أن يلجأوا للمسكنات...
و تماسكت تيماء، الى أن تقطعت كل جهودها، فصرخت فجأة و هي تمسك بذراع الممرضة الواقفة بجوارها...
(أريد هاتفي، أريد الإتصال بزوجي، أريد زوجي الآن أرجوك)
و لم تمر دقيقة حتى أتتها الممرضة مسرعة بهاتفها الذي اتصلت برقمه مباشرة...

و مع أول رنين، فتح الخط و سمعت صوته يصرخ بغضب
(أين أنت؟، أنا عند شقتك، أين ذهبت؟)
لهثت تيماء بصعوبة
(قاصي أنا ألد، أنا ألد، ارجوك تعال بأقصى سرعة، أنا أحتاجك)
فغر قاصي شفتيه و شعر فجأة و كأن العالم يدور من حوله بسرعة صاخبة مجنونة، فصرخت به تيماء بقوة
(قااااااااصي، هل تسمعني، أنا أتألم)
أفاق فجأة وهو يصرخ بعنف
(بأي مشفى أنت؟).

عشر دقائق دون زياردة ثانية واحدة...
و كان قاصي يدخل الى قسم الولادة ممسكا بكف عمرو الذي يركض خلفه محاولا اللحاق بخطوات قاصي الواسعة...
لكن ما أن رفع سالم وجهه و رآه مقبلا، حتى علت الصدمة وجهه، قبل أن تتحول بالتدريج الى غضب أسود، فنهض من مكانه وهو يصرخ بقوة
(أنت! من أين أتيت؟، كيف تتجرأ على الظهور بعد كل ما أقدمت عليه؟، سأستدعي لك الأمن قبل أن تراها، أقسم بأنك لن).

لكن و قبل أن يتم قسمه، كان قاصي قد ترك كف عمرو ليمسك بمقدمة قميص سالم و يدفعه بقوة الى أن ألصقه بالجدار من خلفه، ثم همس من بين أسنان بوحشية وجنون...
(أنا الآن على استعداد لقتل أحدهم، أرجوك كن هو هذا الأحدهم، أرجوك)
صرخ سالم عاليا
(الأمن، الأمن، هاتو الأمن لهذا المجنون)
خرجت الطبيبة مسرعة من الغرفة المفتوحة التي تشغلها تيماء، فهتفت تسأل عما يحدث...
تكلم قاصي بلغته قائلا بعنف وهو يدفع سالم بعيدا.

(أنا زوجها، أريد الدخول اليها)
عقدت الطبيبة حاجبيها غير قادرة على فهم ما يقول، بينما صرخت تيماء من الداخل بعلو صوتها و بلغة الطبيبة
(إنه زوجي، أنا أريده أرجوك)
ادركت الطبيبة الأمر على الفور فأمسكت بذراع قاصي وهي تقول
(تعال معي، سنجهزك كي تكون بجوارها)
الا أن سالم صرخ بالإنجليزية
(إنه مجرم، لا يحق له التواجد بجوار ابنتي، اخرجوه من هنا حالا)
صرخت تيماء من الداخل بقوة.

(لا تبعده يا أبي أرجوك، أنا أحتاجه، لا تقتلني بهذه الصورة)
انعقد حاجبي سالم بشدة وهو يسمع نشيجها المتألم...
بينما رفعت الطبيبة كفها و هي تقول بحدة
(أنا لا أفهم جوهر الخلاف، كل ما أفهمه أن ابنتك في الداخل تريد زوجها بجوارها أثناء الولادة و لن يمنعه أحد، و سوف أتأكد من هذا بنفسي)
ثم نظرت الى قاصي و قالت بالإنجليزية
(تعال معي، هل تفهم الإنجليزية؟).

أومأ قاصي برأسه، لكن قبل أن يتحرك نظر إلى عمرو ثم قال بتوتر
(هذا ابني، لا أريد تركه بمفرده)
رمق سالم بنظرة سوداء ثم أضاف
(لا آمن عليه هنا بمفرده)
ضاقت عينا سالم بحدة وهو يزفر نفسا غاضبا محتدا، لكن الطبيبة قالت مستوعبة
(ستأتي ممرضة حالا لإصطحابه الى قسم الأطفال و لن تتركه مطلقا)
انحنى قاصي جاثيا أمام عمرو ليمسك بكتفيه، ثم هزه وهو يقول مبتسما بقوة.

(لا تكن خائفا الى هذه الدرجة، اجمد و كن رجلا، سأدخل الى هذه الغرفة و أخرج منها و أنا أحمل بين أخيك بين ذراعي، سيكون سليم معنا بعد قليلا، لكن أريد منك طلبين، الأول ألا تتحرك مع مخلوق آخر غيري، ستبقى مع الممرضة لحين خروجي، هل هذا مفهوم؟)
أومأ عمرو برأسه، و قال بحماس رغم نظرات الخوف في عينيه
(مفهوم، هل سأحمل سليم أنا أيضا؟)
أمسك قاصي بوجه عمرو بين كفيه، ثم قال بجدية.

(الطلب الثاني، أريدك أن تدعو لتيماء، كي تكون بخير كما لقنتك، فالله لن يرد دعائك، أنا متأكد من هذا)
قال عمرو بقوة
(سأفعل، لقد حفظته)
ابتسم له قاصي بحنان، ثم نهض على قدميه و سلمه للممرضة، و اندفع بعدها ليجهز نفسه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة