قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والأربعون

كانت تيماء تصدر أنينا يشبه أنين فرس جامحة تلد...
تطبق على أسنانها بقوة، ثم تنتهي بصرخة معذبة عالية
(قااااااااااااصي)
مرة، و اثنتين، و ما أن صرخت باسمه في الثالثة، حتى وجدت كفها بين يديه القويتين...
رفعت تيماء وجهها و فتحت عينيها الحمراوين و هي تنظر اليه، ثم بكت بكل قوتها و هي تضحك في آن واحد
(أنت هنا أخيرا).

أطبق قاصي يده على كفها بقوة ثم ضم رأسها الى جبهته وهو يقبل كل حبة عرق على وجهها المحتقن هامسا بصوت أجش مختنق
(كما سأكون دائما، تأكدي من هذا)
ابتسمت و ضحكت و هي ترفع وجهها لتتقبل قبلاته الحانية و المجنونة في آن واحد...
ثم أطبقت جفنيها بقوة و صرخت فجأة بصوت مرعب
(أنا أتألم)
انعقد حاجبي قاصي بألم وهو يشعر بقلبه يكاد يمزق صدره و يخرج من بين أضلاعه وهو يسمع هذا الصراخ المرعب...
فنظر الى الطبيبة و هتف بقوة.

(الا توجد وسيلة لتخفيف هذا الألم عنها؟)
ابتسمت الطبيبة و قالت بهدوء
(فعلنا كل ما في وسعنا، لكنها تظل ولادة، المعجزة التي تتكرر كل يوم، حيث يخرج من الألم حياة جديدة)
ابتلع قاصي الغصة في حلقه وهو ينظر الى تيماء، ثم طبع شفتيه على وجهها المبلل بقوة و همس فوق بشرتها بعنف
(هانت يا تيماء، هانت، تحملي قليلا)
أومأت برأسها و همست لاهثة
(سأتحمل، سأتحمل، يكفي أنك هنا، لا تتركني أرجوك).

هتف قاصي فوق بشرتها حتى لامست أسنانه وجنتها
(و ربي لن أتركك، لن أفعلها يا مهلكة)
ظلت تيماء تنتفض و تلهث بعنف، ثم همست مبتسمة بصعوبة من بين لهاثها الحاد
(لا أكاد أطيق الصبر على حمل سليم بين أحضاني يا قاصي، ابننا، هل تصدق هذا؟)
ضحك قاصي بينما كانت ملامحه كلها تنطق بالألم و عيناه دامعتان وهو يهمس بقوة
(هل تصدقين أنت؟)
هزت رأسها نفيا و هي تقول ضاحكة بعذاب.

(لا، لا زلت لا أصدق حتى الآن، على الرغم من أنه كان رفيقي الوحيد طوال فترة غيابك)
همس قاصي فوق جبهتها وهو يشدد قبضته على كفها
(لن يكون الوحيد بعد الآن، و لن يكون هناك فراق أبدا)
كانت الطبيبة تفحصها، ثم قالت مبتسمة بنبرة حازمة
(حان الوقت يا تيما)
أخذت تحاول تنظيم نفسها عبثا، ثم قالت بصعوبة من بين أنفاسها المتقطعة...
(أستطيع فعل هذا، استطيع، آآآآآآآآآآآه).

كانت صرختها عنيفة وموجعة، فأطبق قاصي عينيه بقوة، وهو يشدد على قبضتها حتى كاد أن يكسر عظامها الهشة...
قالت الطبيبة بقوة
(ادفعي يا تيما)
أخذت تيماء نفسا عميقا، ثم حاولت دفع الجنين بكل قوتها، و هي تصرخ بقوة
(أنا أتألم يا قااااااااااصي)
كانت تقريبا يضم جسدها العلوي كله الى صدره وهو لا يزال مطبقا جفنيه...
للحظات شعر بالعالم يدور من حوله و أوشك على السقوط أرضا...

و ما أن شعر ببوادر الإغماء، و أنه سيتركها بخلاف القسم الذي قطعه لها...
ذكر نفسه بالمرة التي صرخت فيها و هو بعيدا عنها، حين ذبحوها قسرا، و أسالوا دمائها...
هذه الذكرى تحديدا هي التي جعلته يطرد الدوار و يبعد عن حافة الإغماء...
فتخيل أن الزمن قد عاد به الى الوراء سنوات طويلة خلت، و أنه كان هناك...
تخيل أنه اقتحم المكان و صرع كل النساء من حولها، و اندفع اليها و هي تصرخ بقوة...
فأمسك بيهما و صرخ.

(لن أسمح لشيء بأن يؤلمك مجددا، أقسم لك)
فتحت تيماء عينيها الباكيتين من بين صراخها الموجع، و نظرت اليه، و بأصابع مرتجفة، مدتها لتمسح دموع تساقطت على وجهه لم يشعر بها...
الا أنها لم تطل في لمستها، فقد انتابتها أعلى نوبة ألم شعرت بها على الإطلاق
فتراجع رأسها للخلف و أغمضت عينيها و هي تصرخ بعنف
(آآآآآآآآآآآآه، يا رب، لم أعد أحتمل)
فتح قاصي عينيه المتورمتين و مد لها جانب كفه بجوار فمها و صرخ بقوة.

(خذي عضي عليها)
هزت تيماء رأسها نفيا و هي تقول...
(لاااا، لاااااااااا، لن أفعل، آآآآآآآآآآآه)
الا أن قاصي صرخ بها بعنف
(عضي عليها)
فتحت تيماء أسنانها، ثم عضت على جانب كفه برفق، فقالت الطبيبة بقوة
(استعدي يا تيما)
أغمضت تيماء عينيها و عضت أكثر و أكثر، حتى شعرت بطعم الدم على سانها و هي تصرخ بعنف مكتوم...

أما قاصي فكان هو من صرخ عاليا، ليس ألما من عضتها، بل ألما على رؤية ألمها المتوحش، و العروق الزرقاء النافرة في عنقها النحيف...
الى أن انتهى كل شيء فجأة...
و أمام عينيه الذاهلتين، رأى الطبيبة تمسك بالجنين من قدميه، و هي تحاول انعاش النفس بداخله كي يصرخ صرخة الحياة، و ما أن أطلق صرخة بكاء صغيرة، حتى ناولته الى تيماء ووضعته فوق صدرها برفق، قائلة بهدوء.

(قبلي ابنك، إنه يحتاج لبعض الرعاية الخاصة حالا، لكنه يحتاج الى صدرك أولا)
نظرت تيماء الى الطفل بين ذراعيها بذهول، قبل أن تنفجر باكية، و هي تضحك في نفس الوقت، أما قاصي فكان ذهوله أكبر، و كأن الصدمة لم تغادره بعد...
مد يدا مرتجفة ليمسح بها على رأس الطفل الذي بدا كقطعة لحم حمراء صغيرة جدا، منطبقة الأجفان و الأطراف، بينما كانت تيماء تبكي بصوت عال و تضحك ضحك هيستيري...
همس قاصي بذهول.

(ابني، سليم قاصي الحكيم)
أومأت تيماء و هي تبكي بقوة
(نعم، إنه هو بالفعل)
أغمض قاصي عينيه وهو يخفض وجهه ليقبلها بعنف جعلها تتأوه ضاحكة، بينما هتافه الهامس يصم أذنيها
(أحبك، أحبك، أقسم بالله أحبك يا مهلكتي)
تحركت الطبيبة تأخذ الطفل منهما و هي تقول برفق حازم
(الآن اسمحا لي، نحتاج لفحصه أولا)
حاولت تيماء التشبث بطفلها و هي تهتف بقلق
(الى أين تأخذينه؟)
قالت الطبيبة بهدوء
(لا تقلقي، سنفحصه أولا).

حاولت تيماء الإعتراض، الا أن قاصي أمسك بكفها و قال بحنان لاهث مجهد
(لا تقلقي، سيكون بخير، دقائق فقط و يعود اليك)
أومأت تيماء برأسها قبل أن تستريح بها على صدره، بينما كانت عينيها متعلقتين بالباب الذي خرج منه طفلها في سرير زجاجي...
و في الخارج كان سالم يقف مستندا الى الجدار برأسه وهو يضع يده على قلبه...
الوجع الذي يشعر به الآن لم يشعر به منذ مرض مسك، حين كانت تتأوه بصمت خافت قوي و شجاع...

لم يظن وقتها أن هناك شيء آخر في هذا العالم قد يوجعه الى هذا الحد...
حتى اليوم، اليوم فقط شعره بنفس الوجع مجددا...

بعد ساعات...
وبعد أن ساعدها قاصي في الإغتسال و تغيير ثوب الولادة، حيث رفضت أن يساعدها أحد الا هو...
رافقها ببطىء حتى استلقت على سرير غرفتها النظيفة في المشفى...
رفعت تيماء وجهها الشاحب الى قاصي و همست
(لم يعيدوه حتى الآن)
أحاط وجنتها بكفه وهو يقول بخفوت متحشرج
(لا تقلقي، زيادة رعاية، هذا جيد)
قالت تيماء بخفوت
(لم يعطوني الفرصة حتى كي أرضعه).

جلس قاصي على حافة السرير قبل أن يجذبها برفق حتى أجلسها على ركبيته بمنتهى الحرص، ثم قال بصوت جش وهو يقبل وجنتها قبلة لا تنتهي، حيث تبقى شفتيه على بشرتها طويلا، حتى أن يتكلم من خلالها
(ليس بهذه السرعة، سيأتون به في أي لحظة)
رفعت تيماء وجهها الشاحب اليه و همست بضعف
(لكن)
رفع قاصي اصبعه ووضعه على فمها وهو يقول بصوت مختنق.

(هشششششش، دعيني أستمتع بتلك اللحظة و أنت بين أحضاني بمفردك، فابنك الفضولي كان يرافقنا في الأمس و لم آخذ راحتي تماما في وجوده)
ضحكت تيماء و هي تنشج بضعف، قبل أن تريح وجهها على صدره، تاركة لأصابعه حرية الحنان الذي تبعثه عبر شعرها الكث الفوضوي...
كانت لحظة لم يشأ أي منهما الكلام خلالها...

صمت، صمت، و كل منهما يضم الآخر اليه برفق، خوفا من أن يكون سرابا، و يكون كل ما عاشاه في الساعات الأخيرة ما هو الا مجرد حلم...
لكن صوت آت من باب الغرفة جعلها ترفع رأسها بسرعة، فرأت والدها يدخل الى الغرفة...
الا أنه تسمر مكانه ما أن رآى وضعهما فبرقت عيناه غضبا و تجهمت ملامحه بتعصب...
احمرت وجنتا تيماء بشدة، فحاولت التحرك بضعف، الا أن قاصي لم يبدو في عجلة من أمره...

خاصة وهو ينهض ببطىء و هي محمولة بين ذراعيه، رامقا سالم بنظرة قاتمة، قبل أن يضعها بحرص في فراشها وهو يقول بفظاظة
(الناس يطرقون الباب المغلق قبل اقتحام الغرف بهذا الشكل)
ضاقت عينا سالم وهو يقول بنبرة غريبة
(هل تعلمني كي أتعامل مع ابنتي؟)
استقام قاصي وهو ينظر اليه بهمجية ليقول صارما
(لا مانع لدي مطلقا، طالما أنها زوجتي، و حقي بها يفوق حقك).

لم يرد سالم، بل ظل ينظر اليه بنفس النظرة الغريبة الغير مطمئنة، أما تيماء فأمسكت بمعصم قاصي بأصابع واهنة و هي تهمس بقلق
(كفى يا قاصي، لا داعي لهذا الآن)
الا أن سالم بدا غير مهتما وهو يتحرك ببطىء حتى وصل اليها، ثم انحنى ليضع شفتيه على جبهتها برفق، بعد أن قال بهدوء
(حمد لله على سلامتك يا تيماء)
فغرت تيماء شفتيها بذهول، بينما أغمضت عينيها بشعور صادم عنيف نبض في جسدها الخائن جراء تلك القبلة...

و كأنها عادت الى سن الرابعة عشر من عمرها، و كأنه استجاب...
نظر قاصي اليه بجنون غاضب و قبل أن يتمكن من السيطرة على نفسه مد كفيه عبر السرير من فوقها، و دفع كتفي سالم بكل قوته، و الذي بدوره لم يتحمل الدفعة و قوتها فتراجع للخلف و ارتطم بطاولة صغيرة خلفه مسقطا مزهرية للزينة موضوعة عليها
هتفت تيماء مرتاعة
(قاصي، ما الذي فعلته؟)
رد قاصي بنبرة مخيفة.

(ليست هذه هي الأولى، فقد سبق و كسرت ساعده، و لن تكون الأخيرة اذا عاود لمسك بطريقة لم تعجبني)
هتفت تيماء بقوة
(أرجوك يا قاصي أفق، هذا ليس وقتا للجنون)
الا أن سالم استقام في وقفته. يعدل من ملابسه بهدوء، ثم نظر الى قاصي و قال ببساطة
(هل أنت راضيا عن حالك الآن؟، تشعر بالزهو من نفسك؟، تماما كما تشعر بالفخر لخطفك لطفل صغير من بين أحضان أمه. ، و التي هي بين الحياة و الموت الآن؟).

اتسعت عينا تيماء و نظرت الى والدها بذهول و هتفت
(ماذا تقصد يا ابي؟، من هي تلك التي بين الحياة و الموت؟)
قال قاصي بسخرية
(هل صدقته؟، إنه يهذي ليعكر علينا سعادتنا فقط)
الا أن تيماء هزت رأسها بنفاذ صبر ثم قالت بقوة
(أخبرني يا ابي أرجوك، عمن تتكلم؟)
قال سالم بقساوة
(والدة عمرو، اتصل بي راجح للتو و أخبرني أنه تم نقلها للمشفى في حالة حرجة منذ ساعتين و هي الآن في قسم العناية المركزة).

رفعت تيماء يدها الى صدرها و هي تشهق بصدمة، بينما هدر قاصي بقسوة
(و هل تتوقع مني أن أصدق هذا الهراء، خاصة إن كان صادرا عنك أو عن ابن عمران؟)
قال سالم بإزدراء
(لم أطلب منك التصديق، و الأمر بأكمله لا يعنيني من قريب أو من بعيد، أنا فقط أتسائل عن تلك النفس المشوهة التي تمتلكها و تجعلك مجرما الى تلك الدرجة!)
التوت شفتي قاصي بسخرية، ثم قال باستهزاء
(أنت الذي تتسائل؟، عجبا، اترك السؤال لغيرك).

بدت ملامح سالم مخيفة وهو يحاول جاهدا السيطرة على أعصابه، فقد وهنت القوى و لان العظم، و لا يملك الآن سوى الهدوء و الصبر على أن يبعد هذا المشوه عن عائلته...
نظرت تيماء الى قاصي و صرخت بقوة
(لا يمكنك البقاء ساكنا بهذه الطريقة، تأكد من الأمر، افعل شيئا)
نظر اليها قاصي بصمت و عيناه عميقتين، كغابتين داكنتين في الظلام...
ثم نظر الى سالم مرة أخرى قبل أن يخرج من الغرفة دون كلمة واحدة...

و ما أن اصبح خارجها حتى ابتعد بخطوات واسعة وهو يخرج هاتفه من جيب بنطاله، و طلب رقما...
ثم قال بنبرة قاسية
(أريد منك معروفا، خذ هذا الاسم و العنوان، اريد معرفة مكان وجودها، و ان كانت فعلا في المشفى، اريدك أن تتأكد من الأمر و تسأل في المشفى عن وجودها و غرفتها و حالتها، ارجوك في أسرع وقت)
أما في غرفة تيماء...
فكانت تجلس نصف مستلقية على سريرها متسعة العينين، شاحبة الملامح
و كل ما بها يصرخ.

أنا السبب، أنا السبب، لو كنت اتصلت بها في وقت باكر كما عزمت لما تعرضت لهذا، أنا أصبحت أم و أفهم ما مرت به جيدا، إن كنت لا أطيق صبرا على رؤية طفلي الذي أخذوه مني و لم يمر على رؤية عيني له سوى لحظات قليلة، فكيف يكون حالها هي، أنا السبب، رفعت تيماء أصابعها المرتجفة لتضعها على فمها المرتعش و هي تنظر بذهول الى الجريمة التي شاركت فيها لمدة ساعات، فقط ساعات قليلة، كانت خلالها من الأنانية بحيث فضلت التمتع بحياتها و أسرتها الصغيرة مرة واحدة فقط قبل أن تفقدها...

كان سالم ينظر من نافذة غرفتها الى الحديقة الخضراء الجميلة الخاصة بالمشفى، ثم قال فجأة بصوت هادىء
(هل تعلمين أن زوجك المحترم قام بعملية نصب ضخمة تجاه ابن عمك راجح؟)
انتفضت تيماء و هي تنظر الى والدها بصدمة، فرمشت بعينيها قبل أن تستوعب الصفعة الجديدة...
عملية نصب تجاه راجح؟، ما فهمته أنه سرق والده، عمران، كنوع من التعويض
لكن ها هي تعود للرواية الأولى...
عملية نصب؟

فغرت تيماء شفتيها المرتعشتين ثم قالت بخفوت متشائم
(هل لديك أي معلومات عن تلك القصة؟)
استدار سالم اليها وهو يضحك مستاءا، ثم استند الى اطار النافذة و قال بفظاظة
(إنها ليست قصة قبل النوم، بل معلومة حقيقية، زوجك نصاب، نصب على ابن عمك راجح في مبلغ لن تتخيلي عدد أصفاره)
سرت رعدة باردة في جسدها كله، و تصلبت أطرافها، الا أنها تماسكت في اللحظة الأخيرة و قالت بصوت ثابت.

(إن كان الأمر حقيقي فلماذا لم يقدم راجح بلاغا ضده، كما قدم بلاغا يتهمه فيه بخطف ابنه؟)
ضحك سالم ضحكة قصيرة ثم قال ببساطة
(لأنه لا يستطيع، لقد نصب زوجك على راجح في عملية تجارة آثار، و لن يستطيع المتضرر اللجوء للقضاء، فالقضاء لا يحمي المغفلين، و الخارجين عن القانون)
بهت وجه تيماء حتى أصبح يماثل غطائها بياضا، بينما ارتعشت شفتيها و هي تهمس بعدم تصديق
(لا، هذا ليس صحيحا)
قلب سالم شفتيه بإمتعاض قائلا.

(للأسف صحيح، لقد قام عمران و راجح بالمشاركة في عدة عمليات من هذا النوع، لأن هناك منقبين يعرفون أماكن العثور عليها، لقد بدآ في هذه العمليات منذ فترة على الرغم من نصيحتي المستمرة لهما بألا يفعلا، فالوقوع فيها خطير و عقوبته شديدة، لكنهما لم يسمعا للنصيحة، و غرهما الربح الفاحش من ورائها دون مجهود يذكر، هذه المرة كانت أكبر و كلفتهما مبلغا ضخما قبل نقلها للخارج، لكن تم ضبطها و تبين أنها مزيفة، لكن اين الشحنة الأصلية التي تم التأكد منها؟).

مد كفيه و قال هازئا...
(لا أحد يعرف)
كانت تيماء تشعر بالعالم يدور من حولها، و يدها لا تزال على قلبها المصدوم، الا أنها قالت بصوت مرتجف
(و لماذا تتهمون قاصي بالأمر؟، ما دخله و كيف له بتدبير كل هذه العملية وهو لا يفهم في أصولها؟)
انعقد حاجبي سالم و نهرها بفظاظة قائلا.

(الى متى ستظلين بهذه السذاجة؟، ألم تلاحظي النقلة الظاهرة عليه؟، ألم تري بعينيك طريقة انفاقه للمال؟، لقد اختفى بعد هذه العملية مباشرة، ثم ظهرت عليه آثار الثراء فجأة، أنا أرفض تصديق أنك بمثل هذا الغباء، بالله عليك أنت أستاذة جامعية، فكيف لك أن تتعاملي بعقل طفلة و غبية أيضا! أفيقي، لقد أصبحت أم الآن، هل ترين فيه والدا صالحا بينما أنا لا؟، لم أقدم يوما على عمل غير مشروع، قمت بتأمين حياة كريمة و مرفهة لك و لأختك، و في النهاية خرجت كلاكما عن طوعي و تزوجت ضد رغبتي مما أفقدني مكانتي و هيبتي في العائلة، إنهم ينظرون إلى كمن لا يملك سيطرة على بناته، و على الرغم من ذلك لا زالت أكفل كليكما).

اطرقت تيماء بوجهها في صمت...
تنظر الى الشرشف الأبيض الذي يغطيها، و قد تحول الى موجة بيضاء غائمة بفعل الدموع الحبيسة التي تجمعت فوق حدقتيها...
النهاية تكتب الأسطر الأخيرة، و بمنتهى السرعة...
في قصة طويلة، طويلة جدا...

مضت ساعتان كاملتان...
قبل أن يدخل قاصي الى الغرفة، رفعت تيماء وجهها اليه بسرعة ما أن سمعت صوت دخوله...
و كان والدها قد توجه الى الحضانة ليرى ابنها، أما هي فلم تجد القدرة على الوقوف على قدميها لحين مجيئه...
و ليته لم يأتي...
من نظرة واحدة الى وجهه علمت الجواب...
فتحت فمها و همست بصوت مريع مصدوم
(الخبر حقيقي، أليس كذلك؟)
أطرق قاصي بوجهه وهو يتجنب النظر اليها، ثم قال أخيرا بصوت خفيض.

(إنها محتجزة في العناية المركزة بالفعل. و حتى الآن لم يتم تشخيص حالتها، و الزيارة ممنوعة لها)
رفعت تيماء يدها الى وجهها، و همست بألم
(يا ويلي، أنا السبب، أنا السبب)
نظر اليها قاصي عاقدا حاجبيه بحدة، ثم أسرع اليها ليجلس بجوارها، فضم كتفيها بذراعه، قبل أن يرفع ذقنها اليه قائلا بقوة
(أنت لا دخل لك على الإطلاق يا حبيبتي الصغيرة، الأمر يخصني أنا وحدي، الذنب ذنبي أنا).

ربما في حياة أخرى لو كانت سمعت منه كلمة حبيبتي الصغيرة، لكانت انهارت فرحا...
لكن اليوم، حطت الكلمة كحامض على قلب مجروح...
ابتلعت تيماء الغصة في حلقها، ثم نظرت اليه و قالت بجدية
(ماذا ستفعل الآن؟)
أطرق قاصي بوجهه، دون أن يظهر منه ما يدل على نية معينة، فصرخت به تيماء فجأة بصرامة
(لماذا أنت صامت؟، عليك أن تعيد لها ابنها، قبل أن يحدث لها شيء).

رفع قاصي وجها متخاذلا، لينظر اليها، ثم قال بخفوت أجش و بعينين حمراوين غائرتين
(لا يمكنني ترك و ابني مطلقا. ، )
هزت تيماء رأسها بعدم استيعاب. ثم نظرت اليه و قالت من بين أسنانها بشراسة
(هل تدرك ما تقول؟، أنت على استعداد لترك امرأة تموت وحيدة و محرومة من رؤية ابنها الوحيد و الذي كنت السبب في حرمانها منه، هل حقا أنت مجرم الى هذه الدرجة؟)
انعقد حاجبي قاصي و قال بصوت خفيض متصلب
(أنت تتكلمين بصيغة سالم الآن).

هتفت تيماء في وجهه بحدة
(و قد كان محقا في هذه النقطة)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يحاول جاهدا السيطرة على التوتر الذي بدا يسري في جسده مهددا بالإنفجار في أي لحظة
و كانت هي تعلم كل انفعال يسري بداخله، الآن و بعد كل هذه السنوات باتت تستطيع قراءة دواخله بمنتهى السهولة...
تنهدت تيماء و أمسكت بيد قاصي المستريحة على بطنها و قالت بخفوت و هي تنظر الى عينيه
(اذهب، اذهب يا حبيبي، استودعتك الله).

ضاقت عيناه ألما و قال بصوت خفيض
(و كأنك لن ترينني مجددا)
ظلت تنظر اليه طويلا و هي ترتجف بصمت الى أن انسابت دمعتان على وجنتيها، فمدت ذراعيها تحيطان بهما عنقه بقوة و هي تضمه الى صدرها بعنف...
نعم إنه مجرم...
اقترف الكثير...
تسبب في كارثة انسانية...
و ها هو سيبتعد للأبد، سيتم القبض عليه ما أن تحط قدماه أرض البلد، و تنتهي الحكاية...
الطفل الذي لم يرى في حياته سعادة مطلقا، سيعاقب على أفعاله...

الا يحق لها على الأقل أن تضمه الى صدرها مرة أخيرة؟
إنها الآن ليست نادمة على ليلة أمس و الوقت الذي جمعهما سويا، و لو عاد بها الوقت لكررت ما فعلت...
فهي لا ترى فيه الآن المجرم، بل ترى طفلا صغيرا، قتلوا أمه أمام عينيه...
و لم يعرف سوى الظلم من بعدها...
أخذت تضمه اليها أكثر و أكثر، وهو كان يصهرها على صدره بين ذراعيه، و كفيه تتحركان على ظهرها و كأنه يعلم كذلك أنها المرة الأخيرة...

انسابت دموعها على عنقه و هي تهمس مبتسمة
(في أمان الله)
أبعدها عنه قليلا وهو ينظر الى وجهها الباكي، ثم قال بصوت غريب
(أنت لا تكرهينني؟، الا تشعرين بالنفور لما تسببت به؟)
ابتسمت بقهر، لكنها همست بإختناق
(أشعر بالنفور لما فعلت، لكنني لا أكرهك، أنت طفلي الاول، أتدرك هذا؟، ولا توجد أم في هذا العالم قادرة على كره طفلها مهما اقترف).

شعر بقبضة جليدية تطبق على صدره وهو يقبض على كفها الصغير البارد، الا أنه قال بصوت خفيض
شديد العمق
(سأصحح كل شيء ثم أعود اليك، لا تخافي، لقد أقسمت لك)
أومأت برأسها دون أن ترد و هي تبتسم له من بين دموعها، ثم رفعت كفها لتمسح به تلك الدموع قبل أن تهمس بصوت لا يكاد أن يكون مسموعا
(نعم ستفعل، هي اذهب)
رأته حلقه يتحرك بصعوبة وهو يتأمل أصابع كفها على أصابعه و التناقض الواضح بينهما، يزيد من جمال تشابكهما...

ثم قال بصوت أجش دون أن يرفع عينيه اليها...
(على حجز مقعد في أول طائرة، سيكون السفر جوا مجازفة، لكن في كل الأحوال على أن، أحاول)
أومأت تيماء برأسها و هي تحاول جاهدة التحكم في صلابتها و قوة ارادتها، ثم قالت بصوت مختنق الا أنه حازم، شديد البأس.
(أعرف أنها كذلك، لكنك ستفعل، لأن هذا هو الصواب)
رفعت عينيها الى عينيه، فرأت حاجبيه ينعقدان أكثر و حلقه يتحرك بصعوبة، فشدت على أصابعه و هي تقول بهدوء.

(اذهب الآن، أرجوك اذهب، و ربما إن كانت الأمور أفضل قد)
صمتت تبتسم بحزن يائس دون أن تستطع حتى متابعة كلمتها الكاذبة البائسة...
تكلم قاصي يتابع عنها
(سأذهب لأرى سليم مرة أخرى، سأملي عيني برؤيته، علهم يسمحون لي بحمله، و أعدك أنني لن أتأخر عليكما)
أومأت دون أن تستطيع الرد، فحاول التحرك ببطىء و كأنه مجبر، مقتاد الى الأسر بيديه...

لكنه سرعان ما عاد اليها وهو يضمها الى صدره بكل قوته، ليرفع وجهها اليه يشبعه تقبيلا...
قبلات ليست كالقبلات، بل عهود و رغبة أخيرة في الحياة...
و هي لم تمنعه، بل تركت له نفسها تماما، فربما كانت المرة الأخيرة التي يتقابلان فيها...
و انتزعها من بين أحضانه بقوة كما جذبها اليه، ثم خرج مندفعا دون أن ينظر للوراء...
بينما ظلت هي تحدق في الباب الذي خرج منه و يدها على قلبها، هامسة بذهول.

(و كأنك أتيت فقط لتحضر وصول ابنك الى الحياة ثم رحلت سريعا، هذا ليس عدل)
صمتت لحظة ثم أغمضت عينيها و هتفت بقوة
(ليس عدلا أبدا).

الساعات تمر ببطىء، وهو يجلس مكانه في الطائرة ممسكا بكف عمرو لا يحررها مطلقا...
خاوي الروح، بعد أن ترك قلبه خلفه و سافر بدافع البقية المتبقية من ضميره...
تركه لتيماء و سليم في هذا اللحظة، بدا كإنتزاع الروح منه مع بقاءه حيا...
ملامحه متحجرة و عيناه حمراوان، فاقدا للحياة و لن يستعيدها الا بالعودة اليهما...
شعر قاصي فجأة بضغط عمرو على كفه برفق، فنظر اليه قاصي بعينين فارغتين...

بينما عمرو ينظر اليه بعينيه الطفولتين الواسعتين، ثم قال ببساطة
(هل تبقى وقت طويل قبل أن أرى ماما؟)
ظل قاصي على حاله و نفس نظراته الفارغة الأقرب الى الإتساع و الدهشة قليلا، . ثم قال بصوت خافت أجش
(لا أعلم، صدقا لا أعلم)
رد عمرو عليه قائلا بتشوق
(اشتقت اليها جدا)
لم يرد قاصي، فمهما بلغت قوته لم يكن يمتلك الكافي منها كي يتحمل نظرات الإتهام التي تخيلها في عيني عمرو...

فمال اليه يضمه الى صدره وهو يغمض عينيه ليريح رأسه للخلف، هامسا بتضرع و توسل
يا رب، يا رب، أنا آسف والله، قال عمرو ببراءة وهو يندس بين أحضان قاصي
(أبي هل يمكننا اصطحاب ماما هذه المرة حين عودتنا الى تيماء؟)
أومأ قاصي برأسه دون صوت، ثم قال بصوت متحشرج.

(إن كانت قادرة على هذا فسوف نصطحبها معنا، و سأجهز لها أجمل بيت تتمناه، و أنت سيكون لك بيتين، ووالدتين، و الكثير من الأخوة، سيكون كل شيء رائعا، سيكون كل شيء في منتهى الروعة)
ابتسم عمرو بجذل وهو يقول راضيا كقطة مستكينة
(نعم هذا رائع جدا)
كان يقولها و النعاس يداعب جفنيه ارهاقا، فأغمضهما قليلا، بينما بقى قاصي مكانه مغمضا عينيه وهو يهمس.

لا تفعليها يا ريماس، أرجوك لا تفعليها الآن، سأعتذر لك العمر كله لكن إياك أن تفعليها،
كان قاصي يناول أوراقه و جواز سفره الى ضابط المطار المسؤول وهو يضع نظارة سوداء، دون أي تعبير على وجهه الجامد بقناع من الحجر، منتصب القامة، قوي البنية بثقة مرتسمة بمهارة...
ممسكا بكف عمرو دون أن يحررها أبدا...
بينما الضابط ينظر الى الأوراق يفحصها و ينقل عينيه منها الى قاصي بدقة، مضيقا عينيه...

و فجأة صرخ عمرو بفرحة جبارة.
(ماما!)
اندفع رأس قاصي كالرصاصة وهو ينظر الى من يهتف عمرو بإسمها، أمام ملامحه المذهولة...
رأى ريماس تندفع من بين المتواجدين و هي تجري في اتجاه عمرو الذي أفلت يده من كف قاصي بقوة و اندفع يجري اليها، حتى سقطت أرضا على ركبتيها و هي تلتقطه بين أحضانها بقوة و هي تبكي بصوت عال هاتفة باسمه...
(عمرو، يا حبيبي، يا حبيب قلبي و عمري، أخيرا يا حبيبي).

أما الضابط فقد تكلم في جهازه الخاص وهو يشير اشارة خاصة بيده...
و سرعان ما وجد قاصي نفسه بين مجموعة من أفراد الأمن و الضابط يقول بنبرة حازمة
(تفضل معنا دون شوشرة في المطار)
لكن قاصي كان ينظر الى ريماس التي تحتضن عمرو بقوة و هي تشهق باكية، و الشعور الأول له هو الفرحة الغامرة بأنها سليمة و أن عمرو قد عاد الى أحضانها قبل أن تضيع الفرصة...

لكن هذا الشعور لم يطل أكثر من لحظة، حين رأى راجح يظهر من خلفها وهو ينظر الى عيني قاصي مباشرة، مبتسما ابتسامة سعيدة، راضية كنمر متخم بعد فريسة ضخمة...
ثم رفع كفه الى جبهته ملوحا وهو ينادي بصوت عال
(رحلة سعيدة)
لم يتكلم قاصي و لم يقاوم و الضابط يقتاده بصمت، أما ريماس فنهضت على قدميها ببطىء و هي تنظر الى قاصي باكية، تضم عمرو الى ساقيها و خصرها بقوة...

وقف قاصي مقيد اليدين كالمجرمين، على الرغم من أنه لم يكن هناك داع لهذا...
فهو كان مستسلما تماما، هادىء الملامح...
واقفا مكانه ينتظر دخوله الى الضابط، بينما عيناه مثببتين على عمرو الذي كان يبادله النظر عن بعد وهو بين أحضان أمه الجالسة على أحد المقاعد البعيدة، و بجوارهما راجح واقفا، منتشيا وهو ينظر الى قاصي في وقفته التي تهز البدن شفقة عليه...

تحرك عمرو من بين ذراعي أمه فجأة و اندفع يجري الى قاصي وهو يقول ببراءة
(بابا)
لكن ما أن تجاوز راجح حتى أمسكه من ذراعه بقسوة وهو ينهره بعنف
(لا تتحرك من مكانك يا ولد)
ثم دفعه بقوة يعيده الى حضان ريماس التي شهقت خوفا و هي تضم عمرو بقوة...
أما قاصي فقد بدا و كأن وحشا قد تلبسه فجأة فتحرك دون تفكير وهو يصرخ بوحشية
(لا تمد يدك على ابني)
نظر اليه راجح بنظرة تشبه نظرة قاصي في التوحش وهو يصرخ بعنف.

(ابن من يا ابن الحرام)
و قبل أن يتمكن أحد من الإمساك بهما، كان كلا منهما قد وصل الى الآخر فأمسك راجح بمقدمة ملابس قاصي بعنف وهو يرفع قبضته...
الا أن قاصي ضربه برأسه بكل قوته، فترنح راجح و تراجع للخلف عدة خطوات...
في تلك اللحظة أمسك العساكر بقاصي بقوة وهم يكبلون حركته، بينما خرج الضابط من مكتبه وهو يصرخ بعنف
(ما الذي يحدث؟، ماذا يحدث هنا، ادخلهم يا ابني، جميعهم).

جلست ريماس في المقعد المواجه لمكتب الضابط و هي تضم عمرو بين ذراعيها و قد رسم الحزن خطوط العمر واضحة تحت عينيها، بينما كلا من قاصي و راجح يقفان متجاوران في مواجهته...
نظر الضابط الى ريماس و قال بتجهم
(لقد سبق و قدمت بلاغا ضد المدعو قاصي تتهميه فيه بأنه اختطف ابنك و بناءا عليه تم اصدار أمر بمنعه من السفر، لكنه كان قد خرج من البلد فعلا وقتها، و بناء عليه سيتم التحفظ)
قاطعته ريماس تقول بخفوت.

(من فضلك، لحظة من فضلك، هناك ما أريد قوله)
شبك الضابط كفيه وهو يقول بإهتمام
(نعم، تفضلي)
نظرت ريماس الى كلا من قاصي و راجح دون كلام، ثم أعادت وجهها الى الضابط و قالت بنبرة خافتة
(قاصي لم يختطف ابني، أنا من سلمته له بأرادتي و طلبت منه السفر به بأي طريقة)
اتسعت عينا راجح بذهول قبل أن يصرخ بجنون
(ماذا؟، ماذا تقولين أيتها المعتوهة الغبية؟)
صرخ الضابط وهو يضرب على سطح المكتب
(لا تتكلم مطلقا قبل أن أطلب منك).

هدر راجح بجنون
(الا تعلم من أنا؟)
ضرب الضابط على سطح مكتبه مجددا وهو ينهض من مكانه وهو يستند الى مكتبه قائلا بقسوة
(أعرف أنك من ستشرف الحجز إن لم تصمت حالا لنحرر الواقعة)
برقت عينا راجح بشكل مخيف وهو ينظر الى ريماس بنظرات مهددة، الا انها تجنبت النظر اليه، بينما كان قاصي هادئا تماما، جامد الملامح كالحجر...
عاد الضابط الى مكانه جالسا، ثم قال بقوة متوجها بكلامه الى ريماس.

(الآن اسمعيني جيدا، لقد سبق و قدمت بلاغا تتهمين فيه قاصي بخطف ابنك منذ سبعة أشهر، و الآن تقولين أنه لم يختطفه، بل أنت من سلمته له بإرادتك؟، كيف هذا؟)
أومأت ريماس برأسها، ثم قالت بصوت أكثر خفوتا...

(أنا كنت متزوجة من قاصي لفترة خمس سنوات وهو من ربى ابني و اعتنى به، و فجأة ظهر لنا راجح، يريد استعادة ابنه، فتطلقت من قاصي كي تظل الحضانة من حقي، لكن راجح ظل يهددني بخطفه و أنا من لها حق الوصاية على عمرو الآن بعد أن تنازل عنه تماما منذ مولده و لم يقدم أي طلب بضمه الى حضانته، حتى بعد زواجي، لذا خفت على ابني، فطلبت من قاصي السفر به بعيدا، وهو فعل هذا بسلامة نية، حيث أنه كان مسافرا الى زوجته الأخرى بطبيعة الحال، بعدها بدأ راجح يتحرش بي و يهددني، و أجبرني على تقديم البلاغ خوفا منه).

ضاقت عينا الضابط وهو يستمع الى أقوالها بإهتمام، بينما صرخ راجح بجنون مرة أخرى
(أقسم أن أشرب من دمك يا بنت ال، أقسم)
الا ان الضابط صرخ بقوة
(خذوه الى الحجز حتى يهدأ)
ظل راجح يقاوم بعنف و جنون، الا أنهم اقتادوه بالقوة وهو يشتم بأقذع الألفاظ...
فنظر الضابط الى من يسجل المحضر و قال بصرامة
(سجل هذا أيضا عندك)
ثم أعاد اهتمامه الى ريماس قائلا...

(قبل أن تتابعي كلامك عليك معرفة أنك ستواجهين تهمة البلاغ الكاذب أولا، ثم التآمر على ابعاد الطفل عن رؤية والده حتى و ان كانت الحضانة معك)
أومأت ريماس برأسها و هي تقول بخفوت
(أعلم هذا، و مستعدة لتحمل العواقب، لا يمكنني ترك قاصي يتهم بتلك الجريمة بينما أنا من كانت السبب من البداية)
ضاقت عينا الضابط وهو يراقب ريماس بدقة، ثم قال بصوت صارم.

(إن كنت تحاولين حمايته من دخول السجن، فهناك تهمة تزوير أوراق للسفر، لن يفلت منها)
قالت ريماس بصوت خفيض
(لا دخل لي بالتزوير، أنا أتكلم عن ما يخصني فقط، لقد سألته إن كان قادرا على اصطحاب عمرو معه ففعل، لذا أردت اخلاء ذمتي)
نقل الضابط عينيه بين ثلاثتهم، ثم قال أخيرا رافعا حاجبيه
(عامة سيتم تسجيل أقوالك الجديدة، و يتابع التحقيق مجراه).

دخل أحد العساكر الى الضابط و ناوله بطاقة صغيرة، فنظر اليها الضابط مهتما، ثم قال بهدوء
(دعه يدخل)
دخل رجل متوسط العمر، مهندم بشكل واضح وهو يبتسم ابتسامة عريضة، مادا يده الى الضابط قائلا ببشاشة و دبلوماسية
(سعادة الباشا، مع جنابك فاروق العشري)
قاطعه الضابط وهو ينهض من مكانه مصافحا
(أشهر من النار على العلم سيد فاروق. من يجهل واحدا من أكبر المحامين في البلد، تفضل بالجلوس. ).

جلس المحامي بأريحية وهو يقول مبتسما
(أكرمك الله يا حبيبي، حاضر عن السيد قاصي الحكيم من قبل الحاج سليمان الرافعي، دعنا نرى الآن ماذا لدينا؟)
نظر الى قاصي و قال ضاحكا
(بماذا تشاقيت هذه المرة يا قاصي)
قال الضابط بجدية، و تجهم
(متهما بخطف طفل من أمه، الا أنها تراجعت عن أقوالها فجأة و ادعت أنها هي من طلبت منه ذلك)
لوح المحامي بكفيه وهو يقول بسعادة و ابتسامة عريضة
(خير و بركة، يسقط الإتهام بتنازل المدعي).

قال الضابط بتجهم
(الأمر ليس بهذه البساطة يا سيد فاروق و أنت سيد العارفين بهذا، الأمر خطير)
قال المحامي ببساطة
(ليس هناك ما لا حل له، المهم أن الأم قد اعترفت بالحق، من بعدها، يهون كل شيء)
زفر الضابط بنفاذ صبر، ثم قال بخشونة
(و لديه جريمة تزوير، أوراق هوية و شهادة ميلاد و)
قاطعه المحامي وهو يقول بدهشة ضاحكا.

(تزوير! والله لو أعرف أن الأمر بهذه البساطة لما أتعبت نفسي و تركت أشغالي و جئت الى هنا على وجه السرعة، محلولة باذن الله)
زم الضابط شفتيه، ثم قال بإستياء واضح...
(يا سيد فاروق الأمر خطير)
رفع فاروق كفه وهو يقول بمنتهى الثبات
(القانون هو الحكم، انا لا أتحرك الا بدستوره، محلولة باذن الله).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة