قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخمسون

قبل سبعة أشهر، بعد ما حدث لسوار الرافعي، وقع سليمان للمرة الأولى بعد أن عجزت عصاه عن تحمل تلك الضربة...
سمعة سوار الرافعي التي أصبحت علكة في أفواه الحقراء قبل الشرفاء، كانت الضربة القاضية له...
سوار سيدة هذا الدار، و التي ظلت دائما مرفوعة الرأس ببهاء ملكة...
و كل هذا بسبب البذرة الفاسدة التي أنبتت نباتا عطنا ملوثا، عمران ابنه و الذي أنجب من هو أسوأ منه...

منذ ما حدث لسوار وهو يرقد في الفراش غير قادرا على رفع هامته في مواجهة كبار البلد و العائلة...
و ترك للجميع حرية التصرف كما يحلو لهم...
في هذه الليلة تحديدا كان يرقد، ناظرا الى السقف العتيق، يسأل الله أن يخرج من هذه الحياة مستورا مرفوع الرأس كما عاش في هذه البلد دائما...
سمع طرقا على باب جناحه، قبل أن تدخل أم سعيد متنحنحة مطرقة الرأس
(سيدي الحاج، هناك ضيف أتى لزيارتك).

لم يقوى سليمان على الحركة، و لم ينظر اليها حتى، بل قال بصوت خافت أجش
(لا أريد رؤية أحد، لقد منعت الزيارة عني لأي كان)
قالت أم سعيد برجاء
(لكن يا حاج)
الا أنه قاطعها بنبرة أقوى قليلا
(اخرجي من هنا و اصرفيه)
ساد صمت قصير وهو يحدق في السقف قبل أن يسمع صوت الباب يغلق، فعرف أنها قد انصرفت...
لكن صوت هادىء انبعث فجأة من عند الباب المغلق
(أخبروني أنك ترفض أن تفحص من قبل أي طبيب، لماذا؟).

انعقد حاجبي سليمان و ضاقت عيناه قليلا وهو يلتفت يمينا و يسارا ليقول بصوت أجش
(من؟، من أنت؟)
اقترب من الضوء الجانبي الخافت بجوار فراش سليمان، ثم وقف قائلا بهدوء
(هل نسيت صوتي بهذه السرعة؟، أنا قاصي الحكيم يا حاج)
اتسعت عينا سليمان وهو يحاول رفع رأسه كي ينظر الى قاصي، الا أنه كان أكثر إنهاكا من أن يفعل، . فاقترب منه قاصي وهو يضع ذراعه خلف ظهر سليمان ليقول بخفوت
(دعني أساعدك).

و ساعده الى أن أصبح نصف مستلقيا، حينها فقط تمكن سليمان من رؤية قاصي بوضوح...
فقال بصوت واهن أجش
(قاصي!)
ربت قاصي على كتف سليمان ليقول بخفوت
(نعم هو يا حاج)
قال سليمان بضعف
(كيف أتيت الى هنا بعد أن طردتك آخر مرة؟)
زم قاصي شفتيه للحظات، ثم قال أخيرا بصوت جامد
(عرفت مؤخرا بما تعرضت له السيدة سوار، ثم عرفت بمرضك من بعدها، فأتيت كي أراك، ليخبروني أنك ترفض الخضوع لأي فحص أو علاج، لماذا؟).

أظلمت عينا سليمان الرافعي بألم، قبل أن يقول بنفس الصوت الأجش
(أنتظر الموت)
قال قاصي بثقة و هدوء
(لا، سليمان الرافعي لا ينتظر الموت راقدا، بل يقف على قدميه للنهاية)
التفت اليه سليمان بضعف، ثم قال بخفوت متعثر
(لماذا أتيت يا قاصي؟)
أجابه قاصي ببساطة
(أتيتك بابن حفيدك كي تراه للمرة الأولى، فهو سيغيب لفترة طويلة عن البلد و ظننت أنه من حقك أن تراه)
انعقد حاجبي سليمان بشدة وهو يقول حائرا
(ابن حفيدي؟، من تقصد؟).

نظر قاصي الى الباب المغلق ثم قال بهدوء
(تعال يا عمرو، سلم على جدك و قبل يده)
اتجه عمرو الى سليمان الراقد في سريره، حتى وصل اليه و انحنى بخجل ليقبل اليد المتعرقة المغضنة و المرتاحة بجواره على الفراش...
فنظر اليه سليمان بدهشة قبل أن يقول بخفوت
(ما هو اسمك كاملا يا ولد؟)
رفع عمرو وجهه الى سليمان و قال بتردد
(عمروا راجح الرافعي)
اتسعت عينا سليمان اكثر وهو ينظر الى قاصي هامسا
(ابن راجح؟)
قال قاصي بصلابة.

(بل ابني أنا، أتذكر يا حاج؟، إنه ابن تلك الفتاة التي أمرتني أن أبعدها و أبتعد منذ سنوات، لمصلحة تيماء، لقد ربيته و صار صبيا)
أظلمت عينا سليمان وهو يبتلع الغصة في حلقه بصعوبة، ثم قال بصوت واهن
(تعال يا ولد، اقترب مني)
اقترب عمرو منه مجددا فمد سليمان يده ليربت بها على شعره الناعم وهو متجعد الملامح بأسى، بينما قال قاصي برضا
(و تيماء تحمل طفلا من صلبي الآن)
اتسعت عينا سليمان وهو يقول بصوت متكسر.

(تيماء، حفيدتي، تحمل طفلا؟)
أومأ قاصي برأسه وهو يقول مبتسما
(سيكون لي طفلان، طفل من صلبي لا يحمل اسم الرافعية، و طفل ليس من صلبي الا أنه يحمل الاسم. القدر مصر على ربطي بكم مهما أبيتم، لكنني سأرحل قريبا، لم يتبقى لي سوى شيء واحد فقط، وهو ما أنا آسف عليه يا حاج، ثأري من ولدك عمران، لن أتركه، الا أنني لن ألوث يدي بالدم، فأنا أرغب في الحياة لزوجتي و أطفالي، لكن هناك حساب قديم و على تصفيته).

تنهد سليمان وهو يقول بشرود ناظرا الى السقف
(لابد من الحساب يوما)
قال قاصي بخفوت
(سامحني يا حاج و لا تعتقد أنني أفعل هذا بسبب طردك لي، إنه اليوم المحتوم، كان آتيا لا محالة)
صمت قليلا ثم قال متابعا برجاء
(هلا خضعت للفحص و العلاج، لا تفعل هذا، لست سليمان الرافعي الذي أعرفه. قد يكون هذا هو الرجاء الوحيد لي عندك قبل رحيلي لفترة طويلة. )
التفت سليمان ينظر اليه، ثم قال بصوت أجش خافت.

(قبل أن ترحل، اتصل بالرقم الذي سأمليه لك، السيد فاروق العشري، محامي العائلة، أريد منه الحضور ليوم الحساب)
انعقد حاجبي قاصي وهو يقول بعدم فهم
(ماذا تقصد يا حاج؟)
تنهد سليمان وهو ينظر الى السقف قائلا...
(و أنا أنتظر الموت، كان كل ما أفكر به هو من ظلمت، و كانت صورتك هي أول صورة طرأت ببالي، ثم تيماء)
صمت قليلا وهو يبلل شفتيه الجافتين ثم تابع بصوت مختنق.

(سيكون لديك اسم و عائلة في اعتراف خاص مني، يقرأ بعد وفاتي، اما الآن فستنال حقك بيع و شراء في الأرض، نصيب والدك و أخيك سيكون لك أنت و تيماء و طفليكما، و مبلغا يعوضكما عما فات).

وضعت كفها على كتف تيماء و همست بخفوت
(أنا آسفة جدا، فعلنا كل ما في وسعنا، لكننا لم نستطع انقاذه، لم تفلح الأجهزة في بث النفس و الحياة اليه. ، )
ترنحت تيماء فجأة فأمسك سالم بها بقوة وهو ينظر الى الطبيبة بذهول...
بينما كانت تيماء تحاول استيعاب معنى ما نطقت به للتو، فهزت رأسها و كأنها تسألها بصمت...
انحنت عينا الطبيبة بتعاطف و ربتت على كفها لتقول بصوت هامس كي لا تفزعها...
(أنا جدا آسفة).

نظرت تيماء الى والدها و قالت بصوت ذاهل غير مستوعب
(أبي!)
ضمها اليه سالم قليلا وهو يقول بخفوت
(لا حول و لا قوة الا بالله، لله الأمر من قبل و من بعد)
فغرت تيماء شفتيها أكثر و هي تسمع ما قاله، ثم نظرت الى الطبيبة و قالت بعد فترة بصوت هامس غريب
(هل، هل يمكنني حمله قليلا؟)
أومأت الطبيبة مؤكدة بنفس الصوت الهامس المتفهم
(بالتأكيد، تعالي معي).

نظرت تيماء الى ملامح والدها المتجهمة، ثم أفلتت من قبضته بضعف، و تبعت الطبيبة بخطوات مترنحة...
الى أن دخلت الى غرفة خالية، فأشارت الطبيبة الى مقعد متأرجح هناك و قالت بهدوء خافت
(اجلسي هنا، و سرعان ما سأحضره لك)
جلست تيماء ترتجف، و بالفعل أتت الطبيبة خلال دقيقة واحدة تحمل لفة بيضاء نظيفة، انحنت لتناولها الى تيماء بكل حرص و احترام...

فأخذته تيماء بحذر بين ذراعيها، و أبعدت اللفة عن وجهه الأزرق، تنظر اليه بتعبير مذهل
عينان واسعتان، و شفتان ترتجفان كأصابعها...
بينما قالت الطبيبة همسا، احتراما لتلك اللحظة
(سأترك لك بعض الوقت)
لم تسمعها تيماء و هي تنظر الى طفلها طويلا بنفس التعبير الذاهل، ثم همست بإختناق
(كنت فقط أريد ضمك الى صدري، انتظرت طويلا جدا كي أضمك بين أحضاني).

رفعت تيماء يدها الى فمها المرتجف و هي تطبق جفنيها بقوة، ثم ضمت الطفل الى صدرها بحرص و هي تتأرجح به دون كلام...

خرج قاصي بصحبة السيد فاروق وهو يقول بحزم
(صحيح أننا نجحنا في اخراجك بكفالة، لكن لا تنسى أنك لا تزال على ذمة القضية، عامة محلولة باذن الله، المهم أريدك أن تستكين تماما هذه الأيام، و لا تتشاقى بأي شيء يجذب الأنظار اليك مجددا، و إياك، إياك، أكرر إياك و محاولة الهرب، ستخرج من القضية نظيفا باذن الله، المهم ابقى في بيتك و طبعا لا تحاول السفر أو الهرب أو الشقاوة، و أنا سأطمئن الحاج سليمان).

ربت على كتف قاصي بقوة، ثم انصرف...
بينما وقف قاصي ينظر الى ريماس التي كانت لا تزال تقف منتظرة هي و عمرو من بعيد، و ما أن التقت نظراتهما حتى ضمت عمرو الى خصرها بقوة و ظهر في عينيها عتاب عاصف على ما اقترفه في حقها...
لكنها لم تستطع سوى تبريئه، فليس هناك من يخطف ابنه...
و قاصي كان والد عمرو منذ مولده...
سمع قاصي صوت رنين هاتفه، فأخرجه من جيب بنطاله ليرد بهدوء جامد...

فوصله صوت سالم يقول بنبرة خشنة خفيضة على غير العادة...
(أنا سالم يا قاصي، لدي ما أخبرك به، البقاء لله يا ولدي، لقد استرد الله أمانته و اليه الأمر من قبل و من بعد)
شعر قاصي فجأة و كأن الكلمات السريعة الموجزة قد تداخلت فجأة و تحولت الى شيء مرعب...
فقال بصوت مرتجف و كأنه يحاول الإستفسار عن مجهول مخيف...
(ما، ماذا، لحظة، لا أفهم ما تقول، أنا لا أفهم)
تنهد سالم بصوت واضح، ثم قال بخفوت.

(ولد طفلك بعيب خلقي لم يمكنه من النجاة، البقاء لله يا ولدي، تيماء متماسكة جدا و هي مصرة على السفر لدفن جثمان الطفل في بلده)
لم يستطع قاصي الرد، كانت عيناه على ريماس التي رمقته بنظرة أخيرة ثم ابتعدت بعمرو الذي كان صوته واضحا من بعيد
(ألن ننتظر بابا؟)
و الهاتف في يده يخبره أن طفله الآخر أصبح جثمانا بعد أن فاضت روحه الصغيرة بمنتهى السرعة...

هبط قاصي ببطىء الى أن جلس أرضا وهو ينظر أمامه بعينين غير مبصرتين، بينما سقط هاتفه بصوت عال بجواره...

تحرك من مكانه يجر قدميه حتى وصل الى الباب، ففتحه لينظر الى الطارق بصمت...
تكلمت مسك بهدوء
(كيف حالك يا قاصي؟)
ابتعد عن الباب و قال بخفوت ميت
(تعالي ادخلي)
دخلت مسك و تركت الباب مفتوح، بينما اتجه الى الأريكة، لكنه لم يجلس عليها، بل جلس أرضا، يستند بظهره اليها، شاردا تماما و كأنه متعاطيا نوعا من المخدرات...

جلست مسك على الكرسي المجاور له و ساقيها تكاد أن تلامسه، فانحنت تستند بمرفقيها الى ركبتيها و هي تقول بخفوت
(لم ترد علي، كيف حالك يا قاصي؟)
لكنه لم يرد مجددا، بل ظل صامتا وهو يلتقط سيجارة تركها مشتعلة ليأخذ منها نفسا عميقا وهو يرجع رأسه للخلف...
ظلت مسك تراقبه لبضعة لحظات ثم قالت بحزم
(لقد وصلت تيماء الى البلد، لماذا لم تأت لرؤيتها؟).

لم تحصل على جواب مجددا، كان على نفس استلقائه البائس، مرجعا رأسه ليستند به الى مقعد الأريكة ناظرا الى السقف، فتابعت مسك بصوت أكثر خفوتا
(إنها في حاجة اليك أكثر من أي وقت مضى، تبدو متماسكة الا أنها لن تخدعني مطلقا)
أيضا لا جواب، فقالت بقوة
(قاصي، اجمد و ارفع رأسك لتكلمني رجلا لرجل كما أكلمك)
رفع قاصي رأسه ببطىء لينظر اليها نظرة بلا مبالاة، فاحتد صوتها و هي تقول بشدة.

(أنا لا أحب هذا الاسلوب الضعيف، كلمني)
نظر الى عينيها ثم قال بخفوت
(ما الذي تريدين سماعه؟)
صمتت مسك للحظة ثم قالت بهدوء خفيض الصوت
(بداية، لماذا لم تذهب لإستقبال تيماء؟)
ارتعشت شفتا قاصي في حركة خاطفة الا أن وجهه سرعان ما عاد الى قناعه المتجمد في لمح البصر قبل أن يقول بصوت ميت
(هذا أفضل)
هتفت مسك بحدة
(أفضل لمن؟، لك أم لها)
قال قاصي بعد فترة صمت موجعة
(أفضل لكلينا)
قالت مسك بقوة و هي تميل اليه أكثر.

(كيف يكون هذا؟، إنه الوقت الذي يجب أن تكون فيه الى جوارها، تمسك بيدها، و تهون عليها، تخبرها أنك ستكون موجودا دائما)
نظر قاصي الى مسك بصمت، فاختطفت السيجارة من يده لتطفئها في المطفئة التي احتوت على عشرات السجائر غيرها، ثم قالت بحدة
(ليس من المفترض بين أن أتعرض لكل هذه الأدخنة)
لكن قاصي لم يسمعها، بل قال فجأة بخفوت
(لقد خسرت الطفلين في يوم واحد يا مسك، خسرت أبنائي في يوم).

ارتجفت شفتي مسك قليلا، لكن ما لم تتوقعه هو انحناء رأسه المفاجىء ليصدر عنه نشيج خافت عنيف...
لم تستوعبه الا بعد أن رأت قطرات الدموع تتساقط على معصمه المرتمي فوق ساقه...
ساد الصمت بضعة لحظات تركته خلالها يفجر كل ما يوجع صدره بينما تعشر بغصة مؤلمة تشطر حلقها نصفين و هي تراه على هذا الحال...
ثم قال أخيرا بصوت مختنق من بين نشيجه الحاد
(لقد فقط طفلي من تيماء، قبل حتى أن استطيع حمله لمرة واحدة).

لعقت مسك شفتيها و هي تحاول السيطرة على ثباتها قدر الإمكان، ثم قالت بصوت هامس
(أعرف ما تشعر به، لكن أعرف أكثر ما تشعر به تيماء في تلك اللحظة وهو أضعاف ألمك، لماذا لا تذهب اليها يا قاصي؟)
رفع وجهه وهو يهز رأسه نفيا قليلا بإشارة مبهمة، ثم قال بصوت أجش مختنق
(لا أستطيع، لا أستطيع مواجهة رؤية نظرات الكره في عينيها، سأهرب الى آخر العالم قبل أن اتحمل هذه المواجهة)
قالت مسك بإصرار.

(و لماذا تكرهك؟، تيماء انسانة مؤمنة، و تعرف أن هذا قضاء من الله)
عاد ليهز رأسه قليلا، ثم قال بصوت خافت ذاهب الانفاس
(ستفعل، لن يوازي خسارتها الا كرهي)
صمت للحظات قبل أن يهتز رأسه في نشيج أشد اختناقا، لكنه تمكن من القول بصوت عنيف
(اخرجي من هنا يا مسك، لا أريد لاحد أن يراني بهذا الشكل، لا أعلم لماذا أتيت اساسا).

مدت مسك يديها فجأة لتلتقط كفه المرتاح على ساقه و ضغطت عليها بقوة و هي تقول بهدوء حازم، الا أن نبرتها كانت مرتجفة قليلا
(أتيت كي أمسك بيدك، و أخبرك أنني هنا، ابكي قدر ما تشاء، لن يعرف بهذا غيري. ).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة