قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والخمسون

(عذرا، هل يمكنك أن تدليني على غرفة مكتب السيد ليث؟)
كانت متذمرة و هي ترمي بعض الملفات فوق بعضها، حتى أوشك حاسوبها ان يقع أرضا لولا أن أمسكت به في اللحظة الأخيرة، فثبتته و أزاحت الملفات بلا اهتمام، عابسة الوجه و على ملامحها يبدو الضيق واضحا و كأنها قد ملت العمل و كل شيء...

الا أن الصوت الهادىء القوي، بنبرة أنثوية ثابتة، وصلها و جعلها ترفع وجهها ذو الملامح المتجهمة لتنظر الى صاحبة السؤال البسيط...
للحظات لم ترد دليلة وهي تتطلع بإهتمام الى الشابة التي تقف أمام مكتبها...
كانت امرأة في أوائل الثلاثينات على ما يبدو، تصغرها ببضع سنوات، جميلة الوجه، أو هكذا يمكن أن تبدو، تميزها عينان عسليتان كبيرتان...

ترتدي عباءة سوداء، تغطيها من أعلى رأسها و حتى أخمص قدميها، حتى تمازج وشاح رأسها بالعباءة في سوادهما الحالك...
أكثر ما يميزها هو أنها ثابتة الملامح بشكل غريب، مرفوعة الوجه بكبرياء فطري...
لكن ملابسها غريبة، على الأقل بالنسبة الى المكتب هنا، لا توجد مهندسة بينهن ترتدي عباءة...
بدت شفتا دليلة مستقيمتين في خط ثابت، و بملامح قاتمة سألتها دون ترحيب
(هل يمكنني معرفة من تكوني أولا؟).

ارتفع حاجب سوار للحظة، الا أنها سيطرت بسرعة على ثبات ملامحها و هي تقول بود و رزانة
(أنا زوجته)
عند هذه اللحظة، تركت دليلة القلم الذي كان يلازم يدها ببطىء و هي تتراجع في مقعدها لترمق سوار مجددا بنظرة أكثر بطئا، نظرة بدت، مهينة دون سبب معين...
ضاقت عينا سوار بعدم ارتياح أمام تلك النظرات الغريبة البطيئة، الى أن قالت دليلة أخيرا دون مرح
(العروس؟).

هزت سوار رأسها قليلا و كأنها تجيب على السؤال بإستهانة مندهشة من هذه الصراحة الشديدة...
ثم بدأت تتحقق من شكل هذه الشابة، كانت متوسطة الجمال أو أقل، سمراء و ذات شعر أجعد مصفف
في منتصف الثلاثينات من عمرها تقريبا، لكنها كانت شديدة الإهتمام بمظهرها و زينتها، و ملابسها عصرية و ذات طراز خاص...
ابتسمت سوار في النهاية و قالت بثبات أكبر
(بالكاد يمكن وصفي بالعروس! لقد مضى على زواجنا أكثر من ثمانية أشهر حبيبتي).

لم تتحرك دليلة من مكانها و هي ترمقها بنفس النظرات الغريبة و التي بدت أكثر شرودا و أكثر، نفورا...
تابعت سوار بنبرة أكثر عفوية
(يبدو أن الأخبار تتناقل هنا أسرع مما تخيلت!)
رفعت دليلة عينيها الى عيني سوار، ثم قالت أخيرا بنبرة باردة مختصرة
(ليس بالضرورة، لكن خبر كزواج السيد ليث من المؤكد أنه يكون قد أحدث جلبة، من التهاني بالطبع)
ابتسمت سوار دون سعادة حقيقية...

ترى كيف أخبرهم بالأمر و كيف كانت المناسبة؟، ترى هل يعرفون بأنها الزوجة الثانية له.؟
بالتأكيد! أي سؤال أحمق هذا...
إن كان قد أخبرهم بزواجه منذ ثمانية أشهر، فمن المؤكد يعرفون بزواجه الأول و الذي استمر لسنوات قبلها...
شعرت سوار بنوع من الضيق لتصنيفها كزوجة ثانية لليث الهلالي أمام العاملين معه، الا أنها لم تسمح لأي من مشاعرها بالظهور على ملامحها الثابتة...

أسبلت دليلة جفنيها و هي تلاعب القلم المستكين على سطح مكتبها، ثم قالت بفتور
(مكتبه في نهاية الرواق)
ارتفع حاجبي سوار الآن، الا أنها هزت رأسها بتعجب، تستدير كي تغادر هذا المكتب، لكن و قبل أن تخرج، التفتت الى الفتاة الجالسة و سألتها بفضول
(لم نتعرف!)
رفعت دليلة عينيها الى سوار مجددا، ثم قالت دون ابتسام
(مهندسة دليلة، أعمل هنا منذ بضعة سنوات)
ابتسمت سوار بأناقة و هي تقول بصوت هادىء
(تشرفنا).

ثم استدارت لتخرج، الا أنها اصطدمت بفتاة أخرى كانت على وشك الدخول للمكتب فاعتذرت منها بتهذيب و خرجت...
دخلت الفتاة الى المكتب و هي تنظر الى دليلة التي كانت تشيع سوار بنظراتها، حتى بعد خروجها، فسألتها بفضول
(من تلك المرأة التي خرجت للتو من المكتب يا دليلة؟)
لم ترد دليلة على الفور، بل ظلت تنظر الى الباب المفتوح بشرود، ثم قالت أخيرا بصوت فاتر
(زوجة ليث الجديدة).

اتسعت عينا الفتاة و هي تجلس خلف المكتب المقابل لتقول بذهول
(حقا! العروس!)
استدارت دليلة في كرسيها المتحرك، ثم قالت ببرود
(ليست عروس كما ذكرت للتو، الآن فقط انتبهت الى أنه قد مر حوالي ثمانية أشهر منذ ذاك اليوم الذي أتى فيه الى العمل يخبرنا بزواجه مبتهجا و كأنه شاب في مقتبل عمره)
ضحكت زميلتها و هي تقول.

(نعم. نعم، اتذكر هذا اليوم، لقد اندهشنا جدا بمدى مباهاته بزواجه الثاني، بل أنه قام بتوزيع الحلوى، و لم ينس العمال في إكراميات احتفالية، كان كمن يتزوج للمرة الأولى، والله كان لطيفا جدا)
لم تشاركها دليلة الضحك، بل ظلت على شرودها و هي تلاعب قلمها، ثم قالت أخيرا بصوت قاتم
(ليس لطيفا، بل ساذجا)
ارتفع حاجبي زميلتها و قالت بإهتمام.

(لا ليس ساذجا، لا تنسي أنه صبر طويلا قبل قرار الحصول على طفل، لهذا من الطبيعي أن يكون سعيدا بزواجه الثاني و سرعان ما سيدخل المكان مبتهجا بخبر الحمل)
نظرت اليها دليلة نظرة طويلة، ثم قالت بإختصار
(زوجته ليست حاملا يا ناريمان، رغم مرور ثمانية أشهر على زواجهما)
اتسعت عينا ناريمان و قالت بصوت ذو مغزى
(هل استطعت تقدير حجم بطنها بهذه السرعة و خلال لحظات رغم ارتدائها ملابس فضفاضة!).

نظرت اليها دليلة و هي تقول ببرود
(بالنسبة لزواج غرضه الأول الحمل، فمن الطبيعي أن تكون الآن في الأشهر الأخيرة من الحمل، أي أنه مهما كانت ملابسها فضفاضة فلن تنجح في اخفاء بطنها أبدا، كما أنها ترتدي كعبا عالي رفيع)
مطت ناريمان شفتيها و قالت متنهدة
(تحليل منطقي، لكنه ليس دليلا مطلقا)
ابتسمت دليلة بسخرية و استياء دون أن ترد، بينما كانت ناريمان تراقبها بإهتمام، الى أن قالت بحذر.

(دليلة، آن الأوان كي تخرجيه من رأسك، السنوات تمر دون جدوى)
نظرت دليلة اليها بنظرات بلا معنى، ثم قالت أخيرا بجمود
(وإن أخرجته؟، ماذا سيحدث؟، هل لديك بديل مقنع؟)
لوحت ناريمان بكفيها و هي تهتف بدهشة
(بالله عليك يا دليلة، و لماذا يجب أن يكون هناك بديلا من الأساس؟، لا أصدق أنك أساسا كنت متقبلة فكرة أن تكوني زوجة ثانية!).

كان هذا الموضوع موجعا بالنسبة لها، الا أنها اعتادت الألم، و بات تتقبله بشكل فاتر، لذا قالت بصوت ميت
(و ما المشكلة في هذا؟، أنا إنسانة تفكر بعقلها، و لا مانع لدي في مشاركة أخرى بزوج)
هزت ناريمان رأسها بعدم تصديق، ثم قالت بصبر محاولة أن تثنيها عن طريقة تفكيرها
(المشكلة أنك مهندسة، ذات مكانة ووظيفة مرموقة، لم يسبق لك الزواج بعكسه، لكنك تفكرين بطريقة تجعلك تبخسين حق نفسك).

رفعت ناريمان وجهها و هي تقول بصلابة
(لأنني ذات مكانة ووظيفة مرموقة فأنا أفكر بعقلي قبل أي شيء، أنا لا أحتاج الى بيت يأويني أو رجل ينفق علي، أنا فقط احتاج الى زوج لا يقل عن مستوى اختياري، يناسبني عمرا و عقلا و مكانة، و لا مانع لدي في المشاركة)
زفرت ناريمان و هي تهز رأسها بيأس، ثم قالت بخفوت
(لا فائدة، نفس الكلام منذ سنوات و لا أمل في تغيير رأيك، لماذا أحاول حتى؟).

صمتت للحظة ثم رفعت وجهها تنظر الى دليلة قائلة...
(لكن ما يدهشني هو أنك على ما يبدو لم تنسي الأمر بعد زواجه الثاني!)
عادت لتصمت للحظات، ثم قالت بذهول و بنبرة هامسة
(دليلة! هل تفكرين في أن تكوني زوجة ثالثة؟)
رمقتها دليلة بنظرة قصيرة، قبل أن تقول ببرود
(و هل هناك فرق بين الثالثة و الثانية؟)
رفعت ناريمان كفيها و هي تقول بنفاذ صبر
(يالله، عقلي لم يعد يستوعب، أنت حالة لا تصدق!).

نهضت دليلة من مكانها و هي تغلق حاسوبها بقوة، قائلة بنبرة جليدية
(صدقي اذن، إن وجدت من هو أفضل لصرفت نظر عنه، لكن حتى هذه اللحظة، لا يمكنك حتى أن تنكري على الأمل، فهذا أبسط حقوقي)
ارتفع حاجبي ناريمان و هي تقول بصوت ذاهل
(حقوقك! أي حق هذا؟)
التفتت دليلة تنظر اليها بقوة و هي تقول من بين أسنانها
(نعم حقي، حقي في البقاء حوله منذ سنوات، أنتظر عودته بعد كل سفرة و كل زيجة، لقد كنت أعرفه قبل زواجه الأول حتى).

هزت ناريمان رأسها و هي تهمس لها بلطف
(لكنه لم يمنحك أي أمل من قبل، فلماذا توقفين حياتك من أجله؟)
ضحكت دليلة بسخرية و هي تستند الى حافة مكتبها قائلة ببرود
(أوقف حياتي؟، ما الذي أوقفته تحديدا؟، أين هي تلك الخيارات التي تجاهلتها لأجله؟)
بدت ناريمان مرتبكة قليلا، الا أنها قالت بخفوت
(كانت هناك بعض الفرص)
أرجعت دليلة رأسها للخلف ضاحكة و هي تقول.

(آه نعم، واحد غير قادر على فتح بيت واحد حتى، و آخر أرمل لديه ثلاث أطفال يريد مني رعايتهم، و الألطف من هذا و ذاك ثالث لم يتم شهادته الجامعية)
صمتت للحظة و هي تنظر الى الأرض قائلة
(أخبريني بصدق و امانة، كامرأة، من أفضل لك، زوج مقتدر و في شخصية ليث حتى و إن كان المقابل المشاركة مع زوجة أو زوجتين أم أحدى تلك الفرص؟)
أطرقت ناريمان برأسها قليلا، ثم قالت بخفوت
(ربما لو صبرت قليلا، لوجدت من يناسبك).

ابتسمت دليلة بفتور ثم قالت
(وصلت الى منتصف الثلاثينات و لم أجد من يرضي فكرتي عن الزواج، لذا لا تلوميني على الأمل على الأقل)
رفعت ناريمان وجهها تنظر الى دليلة، ثم قالت بهدوء
(لكن بماذا قد يفيدك الأمل سوى المزيد من العشم و الألم مرة بعد مرة؟)
هزت دليلة كتفها و هي تبتسم بحزن قائلة
(لا يفيد بشيء، مجرد أمل و ها أنا أتابع حياتي و عملي، و أرى المتاح من الفرص).

تنهدت قليلا بنفس مختنق، قبل أن تنظر الى الباب المفتوح حيث خرجت سوار منذ قليل ثم قالت بخفوت
(تبدو مختلفة جدا عنه، لقد سافر الى كل بلدان العالم، لسانه و أناقنته و عصريته، كل ما فيه يختلف عنها، ألم يفكر لحظة في هذا قبل أن يتزوج مجرد امرأة بسيطة الهيئة مثلها؟)
قالت ناريمان بصدق
(لا، أنت تبالغين، لقد رأيتها، وجهها يشبه القمر)
ابتسمت دليلة بسخرية و هي تعاود النظر اليها قائلة ببرود.

(من منا السطحي في تفكيره الآن؟، ماذا يفيد الوجه الذي يشبه القمر بينما يبدوان مختلفين تماما، على الأرجح أنها مجرد ربة منزل، لا تعرف سوى العباءة السوداء، و هي ضخمة الحجم كذلك)
قالت ناريمان بحذر و تردد
(هل قيمت نفسك على أنك أفضل منها؟)
هزت دليلة كتفها مجددا، ثم قالت بثقة.

(بنظرة سريعة، أنا مهندسة و اعمل في مجالي منذ سنوات، أهتم بشكلي و ملابسي و لغتي حتى و إن كان وجهي لا يشبه القمر، أما هي فمجرد سجينة لبلدة صغيرة و تقاليد بالية كما يبدو عليها، حتى لهجتها مختلفة، لذا الوجه الشبيه بالقمر يخسر في تلك المقارنة).

في تلك الأثناء...
أخذت سوار نفسا عميقا و هي تقف أمام باب مكتب ليث المغلق، تؤخر نفسها عن فتحه قليلا...
إنها المرة الأولى التي تأتي فيها لزيارته في مكان عمله و دون معرفة مسبقة منه...

لقد خرج اليوم غاضبا كعادته في الكثير من الايام بسبب خلاف بينهما، لكن هذه المرة شعرت بعد خروجه بضيق أخذ يتزايد الى أن بدأ يكتم أنفاسها، لذا قامت فجأة بتجهيز ملابسها ثم أتت الى مكتبه حيث سبق و املاها العنوان و أرقام هواتفه كلها...
طرقت سوار الباب و انتظرت الى أن سمعت صوته الهادىء يدعوها للدخول، ففتحت الباب ووقف به تنظر اليه خلف مكتبه عن بعد، ثم قالت بخفوت
(هل أعطلك لو دخلت قليلا؟).

رفع ليث وجهه بسرعة عن حاسوبه و لم يكن هناك مجال أي مجال للشك في تلك السعادة التي تجلت على ملامحه برؤيتها، و كأنه لم يخرج من البيت غاضبا منذ ساعات قليلة...
للحظات ظل مكانه ينظر اليها مبتسما و كأنه يرسم لها صورة و عي تقف في باب مكتبه، الى أن نهض من مكانه و استدار حول مكتبه ليقول بصوت مبتهج رجولي ووقور
(تعالي يا مليحة، كنت أشعر بأن اليوم سيحمل لي بعض الحلوى خلال العمل)
ابتسمت و هي تسبل جفنيها بثقة...

حسنا إنه يغذي غرورها و لا يمكنها إنكار هذا، لقد ظنت أنه سيقابلها متجهما، أو على الأقل لن ينسى خلافهما صباحا...
لكن هذه المقابلة كانت أروع من أن تتخيلها...
حين ظلت واقفة مكانها بصمت، تبدو مترددة قليلا، تطوع ليث قائلا بحنان
(هل ستظلين واقفة عند الباب طويلا؟، هل ندمت على قدومك؟).

ابتسمت قليلا الا أنها بدت أكثر ارتباكا و هي تتسائل عن سبب قدومها الى هنا بالفعل، فتحرك ليث من مكانه مقتربا منها و هي تراقبه خلسة من بين أجفانها المسبلة...
عطره شديد الوضوح و كأنه قد وضع منه للتو، و أناقته لا جدال عليها، تزيده وقارا و احتراما و جاذبية...
وصل اليها أخيرا فأمسك بكفها قبل أن يغلق الباب خلفها بيده الأخرى، ثم أمسك كلتا يديها معا وهو يقول مبتسما ناظرا الى عينيها
(صباح الخير يا مليحة).

و قبل أن ينتظر منها ردا كان قد أخفض وجه ليقبل وجنتها بنعومة، ثم حرك وجهه ليقبل وجنتها الأخرى!
يقبلها ببساطة و كأنه صديق، قبلتين دافئتين صباحيتين رائعتين...
من المفترض أن تكونا مجرد قبلتيين ودودتين الا أن تأثيرهما مذهل...
ابتعد وجهه عنها فرفعت وجهها المحمر اليه و هي ترد عليه بصوت ثخين أجش
(صباح الخير، أشعر أنني تسرعت حين حضرت الى هنا دون موعد).

ابتسم لعينيها وهو يشدد على قبضتيها و كأنه يخشى هربها سريعا، ثم قال بجدية رغم ابتسامته التي لم تفارق وجهه
(بل كان أجمل تسرع قمت به)
نظرت حولها قليلا و هي تشعر بإضطراب متجنبة النظر اليه، الى أن وقعت عينيها على مقدمة عنقه الظاهر من قميصه، فأبقتهما هناك و هي تقول بخفوت
(لقد، لقد خرجت دون فطور اليوم)
ارتفع حاجبي ليث وهو ينظر اليها بدهشة، ثم قال مبتسما بتعجب
(و هل أنبك ضميرك على هذا؟).

لعقت سوار شفتها و هي تزفر قليلا بينما بدت أكثر اضطرابا كفرس على وشك الإندفاع جريا، لكنها قالت بصدق
(نعم، لم أشأ أن يبدأ يومك بشكل سيء، لكنك تنفعل ما أن نختلف في الرأي فتخرج سريعا غاضبا كالأطفال)
ترك ليث كفيها ليمسك بوجهها يرفعه اليه فجأة، ثم قال بجدية
(لم أغضب كالأطفال، بل خرجت كي لا ترين غضبي الحقيقي و هذا ما لا أرضاه لك)
ارتجفت سوار قليلا، الا أنها قالت بخفوت و هي تنظر اليه
(هل تهددني يا ليث؟).

لم يرد عليها على الفور، بل ظل صامتا قليلا و عيناه تنطقان بألف معنى، الى أن قال أخيرا بصوت أجش خافت
(هل هذا هو كل ما استطاع عقلك الغبي استنتاجه؟)
بدأت شرارات الغضب تلمع في عينيها و هي تنفعل تلقائيا، فقالت بحدة
(ليث أنا لا)
الا أنه قاطعها بجدية و دون ابتسام
(أنا أحبك، لا تشكي في هذا مطلقا)
أخفضت وجهها قليلا و هي تقول بخفوت
(نعم أعلم)
ابتسم ليث بسخرية، قبل أن تفلت ضحكة مستاءة من بين شفتيه قائلا بحدة.

(لا تبالغي في اظهار سعادتك بالأمر رجاءا، فقلبي الذي شاب على حبك لن يحتمل هذه السعادة المتوهجة البادية في اجابتك العميقة!)
بدت سوار أكثر ارتباكا و كأنه قد احرجها، فأخذت نفسا عميقا و قالت بحزم و هي تحاول تحرير يديها من كفيه.
(أنا، لم آت الى هنا كي نزيد من حدة نقاشنا، لقد أتيت فقط كي)
صمتت و هي تعجز عن استعادة كفيها فتذمرت و تململت بينما قال ليث بهدوء جاد
(اذن لماذا أتيت؟).

رفعت وجهها اليه و قالت بحدة، (ربما لو تركتي يداي للحظة لتمكنت من اخبارك)
ترك ليث كفيها ببطىء، فاستعادت سوار أنفاسها معهما و حاولت الوقوف بثبات قبل أن تتحرك لتفتح حقيبتها الضخمة الأنيقة السوداء، ذات الشريط الوردي الشاحب، و بهدوء أخرجت حافة علبة بلاستيكية تحتوي على بعض الشطائر و الفواكه المقطعة، و قالت بخفوت دون أن ترفع وجهها اليه
(أتيت اليك بفطور خاص، كبادرة صلح بيننا).

ثم أخرجت العلبة و أمسكت بها بين كفيها تقدمها له دون أن تنظر اليه، و قالت بقنوط
(إن، إن حدث و اختلفنا فيما بعد، لا تترك فطورك، على الأقل فكر في استيقاظي مبكرا كي أعده لك)
ساد صمت طويل بينهما وهو ينظر اليها بينما هي تتجنب النظر اليه تماما، و حين اضطرت الى رفع عينيها الى عينيه حين طال صمته، احتوتها عيناه كالعادة، ككل مرة تفعل...

وضع ليث يديه فوق كفيها الممسكتين بالعلبة، ثم انحنى اليها و قبل أطراف أصابعها وهو يهمس لها بصوت أجش
(كم هي حركة غالية منك يا مليحة)
ابتسمت سوار رغما عنها و شعرت بالرضا يفيض بداخلها بعد أن كانت تشعر بالأسى و القنوط بعد خروجه من البيت غاضبا...
رمشت بعينيها و هي تشعر بخجل أحمق يمتزج بسعادة طفولية، و قالت بحزم
(لن أعطلك أكثر، سأعود للبيت الآن).

حاولت التراجع خطوة، الا أنه سارع بوضع كفيه على خصرها هذه المرة فأصبح الحصار أقوى و لا فكاك منه، رفعت اليه عينين متسائلتين فقال بهدوء
(هل تظنين أن أتركك تخرجين هكذا ببساطة! خاصة بعد تكلفك العناء في المجيء الى هنا خصيصا كي تراضيني!)
قالت سوار بعنفوان
(لم آت كي)
رفع ليث حاجبا متحديا ينتظر منها انكارا وقح أو كبرياء غبية، لكنها تنهدت و قالت بقنوط
(حسنا كما تشاء، أتيت كي أسترضيك، هل انت راض الآن؟).

قال ليث بصوته الاجش العميق
(ليس تماما، لماذا لم تتصلي بي كي أرسل اليك السيارة بالسائق؟)
رفعت سوار وجهها و قالت بسرعة
(لم أرى لهذا داعيا، المكان بسيط و ليس بعيدا، آمل الا أكون قد أغضبتك أكثر بخروجي دون اذن منك!)
كانت لهجتها دفاعية، حادة، بل أقرب الى الهجومية، لذا لم يرد ليث على الفور، بل ظل صامتا وهو ينظر اليها نظرة ألجمت باقي الكلمات في حلقها، فتراجعت، حينها قال بجدية.

(أنت لست سجينة هنا يا سوار، بإمكانك الخروج كما تريدين، بل هذا ما كنت أحثك عليه منذ فترة و أنت تماطلين)
شعرت بإحراج أكبر و هي تطرق برأسها، . فقال كي يهون عليها الأمر
(هل استقليت سيارة أجرة؟)
أومأت سوار برأسها دون أن تجيب، فقال لها مقترحا ببساطة
(ما رأيك لو علمتك القيادة؟، حينها قد تأتين كل يوم لإصطحابي، فقد مللت القيادة)
نظرت اليه سوار متفاجئة، و للحظات راق لها الأمر...

فهي تستطيع حمل السلاح و مؤخرا ركوب الخيل، و لم تتعلم القيادة قبلا، و هذا يبدو مضحكا...
لكنها عادت و قالت بصوت جاد
(لا أعتقد أنني سأجيد القيادة في مثل هذا الزحام، فهي تحتاج الى أعصاب باردة و أنا كما تعرفني)
صمتت ساخرة بينما ابتسم ليث ليتابع عنها بنبرة أكثر عمقا
(كتلة من نار)
ابتسمت قليلا و هي تضحك بخفوت، ثم قالت أخيرا.

(لا أعلم ماذا دهاني اليوم، ربما لأنه يوم تخشاه كل امرأة لكن لم أظن أنني سخيفة الى هذه الدرجة، طبعا أنت لا فكرة لديك عما أعنيه، تظن أنني على الأرجح أتكلم بالألغاز)
لم يرد على الفور، بل ظل صامتا وهو ينظر اليها مبتسما، ثم تناول العلبة منها، ليضعها جانبا على طاولة صغيرة، ثم رفع وجهها اليه و قال بنعومة.

(بلى أعرف، اليوم هو يوم مميز جدا لدي، لأنه يوم بلوغك الثلاثين، أجمل ما قد تبلغينه في حياتك و لا أدري إن كنت ستزدادين جمالا مع كل عام أم أنها ميزة خاصة بالثلاثين تحديدا دون غيرها، اليوم هو يوم مولدك، و لولا معرفتي بأنك لا تفضلين الإحتفال بيوم مولدك لأقمت لك حفلا كبيرا).

كانت سوار تنظر اليه فاغرة شفتيها، تنظر اليه بذهول، بينما هو يتكلم بمنتهى البساطة، و ما أن انتهى من خطابه الرقيق حتى انحنى اليها وهو يقول بخفوت
(كل عام و أنت بخير يا مليحة، كل عام و أنت معي الى أن يحين الأجل)
فغرت شفتيها أكثر و هي تظنه سيقبل وجنتيها كما فعل لحظة دخولها، الا أنه أغلق شفتيها بقبلة أكثر رقة صدمتها و جعلتها ترتبك و تبتعد بسرعة، لتعدل من وشاحها و قد احمرت وجنتاها بشدة من هذه الجرأة...

هزت رأسها قليلا، ثم قالت بصوت أجش مختنق
(كيف، لم أظن أنك ستتذكر تاريخ مولدي!)
ارتفع حاجبي ليث وهو ينظر اليها بعجب، ثم قال ببساطة
(أتذكر؟، إنه يعد أهم يوم من أيام حياتي، إنه اليوم الذي أهدتني الحياة بك يا مليحة، فكيف أغلف عنه!)
رمشت بعينيها قليلا و هي تنظر أرضا بإرتباك، لا تعلم هل تفرح أم تستلم لتلك القبضة المقفلة على صدرها، و التي تذكرها أنها ببلوغها الثلاثين، فهو في المقابل على وشك بلوغ الأربعين...

دون طفل واحد!
اظلمت عينا سوار بشدة و هي تصل الى هذه النقطة...
يالله، لم تكن يوما سوى نكبة في حياة أي رجل يدخل حياتها!
إنها لا تزال حتى الآن تعاني من ذنب الحياة التي عاشتها مع سليم رحمه الله، و الآن تعاني من حرمان ليث من الطفل الذي يتمنى، لكن بداخلها رفض هي غير قادرة على ابعاده عن نفسها و عقلها كي تتمتع بحياة مستقرة...
ربت ليث على وجنتها وهو يقول بجدية صلبه.

(فيما كل هذا الشرود؟، هل هي مناسبة حزينة اليك الى تلك الدرجة؟، لولا معرفتي بك أكثر من نفسك لظننت بالفعل أنك تخشين بلوغ الثلاثين!)
لعقت سوار شفتيها و هي تقول بحزم خافت، نادمة على قدومها الى هنا، بقدميها...
(أنا، لقد عطلتك أكثر مما ينبغي، لذا سأخرج الآن و أتركك الى عملك، )
أمسك بها ليث بقوة، جعلت عينيها تتسعان قليلا و هي تنظر اليه بدهشة، بينما بادلها هو النظر بجدية، ثم قال بقوة.

(دخول الحمام ليس كالخروج منه، تأتين إلى صباحا و معك فطور معد بيديك، في يوم مولدك، بنية خالصة منك في استرضائي، ثم تنوين الخروج هكذا ببساطة؟)
عقدت سوار حاجبيها و هي تنظر اليه بشك، ثم قالت بحدة لم تستطع السيطرة عليها، هجومية كنبرة ساكني الجبل من الفارين من العدالة
(ماذا تريد بعد؟)
ابتسم ليث وهو يقرص وجنتها قائلا بمزاح أجش.

(هدىء من أعصابك يا عم الحاج، لم أقصد شيئا يتعارض مع سطوتك يا وحش الليل، أنا فقط قصدت الخروج في نزهة صباحية بريئة مع زوجتي الجميلة المتفانية في اسعادي)
عقدت سوار حاجبيها غير متجاوبة مع مزاحه...
متفانية في اسعاده؟، لا، هذا ليس حقيقيا أبدا، فهي ليست متفانية في إسعاده، بل لم تحاول حتى...
قالت سوار بتردد
(لا، لن أقبل أن تترك عملك و تخرج بسبب زيارتي)
قال ليث بصوت قوي لا يقبل الجدال.

(هذه الزيارة تأخرت أكثر من اللازم يا سوار، لذا أرى أنها مناسبة تستحق الإحتفال، فضلا عن مناسبة يوم مولدك)
فتحت فمها تنوي المعارضة، الا أنها اكتشفت أنها لم تخرج من البيت في نزهة منذ فترة طويلة...
كانت ترفض بتهذيب كلما عرض ليث عليها الخروج، لكن الآن شعرت بنفسها تميل للتنزه و استنشاق هواء ناعم عليل يهدىء من قسوة قلبها عليه...
ابتسم ليث وهو يرى استسلامها النادر، فتركها قائلا بهدوء
(لحظات و سأكون جاهزا).

اتجه الى مكتبه، ليأخذ سترته و مفاتيحه و يغلق حاسوبه بينما هي تراقبه بتفحص...
ثمانية أشهر، ثمانية أشهر كاملة من المفترض أن تكون قد اعتادته خلالها، لكن هذا لم يحدث بعد...
كان هناك حاجز يفصل بينهما...
إنه يعود الى نفس الشخص الذي عرفته طوال حياتها، ليث، معلمها و صديقها الوحيد...
أحيانا تترك لنفسها متعة الضحك معه، تستمع اليه مساءا لساعات طويلة و هي مبتسمة، مستندة بذقنها الى كفها دون ملل...

و كأن السنوات قد عادت بهما، حتى أنها بدأت تتحداه و تضحك و تحتد معه و تلاعبه كما كانت تفعل في مراهقتها...
الى أن يصل الأمر بينهما الى منطقة الزوج و الزوجة، حينها تبدأ في غلق الأبواب حول نفسها بتوتر...
لم تحرمه من حقه أبدا، فيكفيها حرمانها له من الأطفال، لكنها لم تكن معه...
كيف تشرح لنفسها هذا، لم تكن مثله...
إنه يحيا فيها حلما قديما، بينما هي تتذوق ما يقدمه لها بحذر...
كان شغوفا، و كانت مترددة...

رفع وجهه اليها فجأة، فارتبكت و أشاحت بوجهها خوفا من أن يدرك فيما تفكر فيه، و أبقت على رأسها منخفض الى أن وصل أليها و أمسك يدها فأجفلت بقوة، الا أنه قال ببساطة
(هيا بنا)
أومأت برأسها صامتة، لكن و قبل الخروج من الباب، أمسك بالعلبة التي أحضرتها له، فقالت و هي تفتح حقيبتها
(سأعيدها في حقيبتي)
الا أن ليث أبعد العلبة عن يدها وهو يقول بإصرار
(بل سأمسكها في يدي، أريد للجميع أن يراها).

ابتسمت قليلا و هي تتقدمه، لكنها قالت بدهشة
(رائحة عطرك واضحة جدا، هل تجدد وضعه في المكتب؟)
ابتسم ليث وهو يقول ببساطة
(إنه العطر الذي تحبيه)
مطت سوار شفتيها و هي تقول بإمتعاض
(نعم أعرف، لكن لماذا تجدد وضعه في المكتب، طالما أنني أنا من أحبه، و أنا في البيت لا هنا!)
أمسك ليث بمرفقها وهو يقودها خارج المكتب، مبتسما دون رد...
هل يخبرها أنه كان يعلم بقدومها اليه؟
هل يخبرها أنه وضع العطر خصيصا، استقبالا لها؟

هل يخبرها أنه لم يكن ليحتجزها في البيت، لكنه لم يكن ليجازف بحمايتها في نفس الوقت، من الحقير راجح من جهة، و من نفسها من جهة أخرى، فربما تهورت و قررت فعل أي شيء يخص الثأر الذي لا تزال عازمة عليه...
هل يخبرها أنها مراقبة؟
لا، لن يفسد يومها مطلقا بمعلومة تافهة مزعجة كهذه...
خرجا من المكتب، لكن ما أن فعلا حتى أوقفتهما دليلة التي اقتربت منهما و هي تقول ناظرة الى كل منهما بتفحص
(ليث، كنت أريدك في أمر هام).

ابتسم ليث بلطف دون أن يترك مرفق سوار، ثم قال بهدوء
(ليس الآن يا دليلة، مضطر للخروج، بالمناسبة أحب أن أعرفك على زوجتي، سوار الرافعي)
ابتسمت دليلة ببرود و هي تقول بنبرة فاترة
(سبق و تعارفنا، مرحبا مجددا)
ردت عليها سوار بإبتسامة مقتضبة، بينما انخفضت عينا دليلة لترمق العلبة في يد ليث رافعة حاجبيها...

ابتعدا عنها، و بقت هي على نظرتها، و لم تدرك أن سوار قد التفتت تنظر اليها، تتحقق من مراقبتها لهما، أو له على الأصح...

ابتسمت سوار برقة و هي تغمض عينيها للهواء الجميل الملامس لبشرتها...
كان الجو أكثر من رائع هذا الصباح، كانت كالمساجين اللذين يطلقون سراحهم لبعض الوقت...
المكان مفتوح و الخضار يحيط بهما حول طاولة مميزة، بينما هو يراقبها مبتسما بصمت...
الى أن قال أخيرا بخفوت
(هل أنت تعيسة الى هذه الدرجة يا سوار؟)
فتحت سوار عينيها و هي تنظر اليه بدهشة مجفلة من سؤاله الخافت العميق، فقالت بتردد بعد فترة
(لماذا تقول هذا؟).

ضيق ليث عينيه وهو ينظر اليها ثم قال بخفوت
(لو رأيت تلك الملامح التي أراها الآن، تبتسم لنسمة هواء و كأنها المتبقي لها من الحياة، لعرفت الجواب)
ضحكت سوار بعصبية و هي تقول
(لا تكن سخيفا، أنا فقط أستمتع بالهواء، لا تضخم الأمر)
لم يرد عليها ليث على الفور، بل ظل ينظر الى عينيها ثم قال أخيرا
(لم أقصد أن أحتد عليك صباحا)
أطرقت سوار بوجهها دون أن ترد...

من معرفتها الخاصة به خلال الأشهر الماضية، ادركت أن هناك جوانب كثير من ليث الهلالي لم تكن تعرفها الا بمكوثها معه في بيت واحد، كزوجين...
صحيح أنه تهذيبه لا جدال حوله، رقته في معاملتها تذيب المفاصل...
لم يحتاجا الى خادمة مطلقا، كان يعاونها في كل شيء و لم يثقل عليها في الطلبات أبدا...
رائع، بإختصار هو رائع...
طالما كانت في حيز توقعاته، دون أن تتجاوزه...

لكن إن تجاوزته، حينها يبدأ الجانب العنيد منه في الظهور، جانب جنوبي يابس لا يعرف الدلال...
يصطدم بمثيله لديها، فيتناطحان كثورين هائجين...
لم يكن هذا الصباح هو الخلاف الأول بينهما، بل كان واحدا من سلسلة طويلة، كلما تعارضت رغباتهما معا...
لم تعرف رجلا في مثل عناده من قبل، حتى جدها ووالدها و أعمامها، و بالتأكيد سليم رحمه الله...

علي الرغم من رقته الشديدة و تهذيبه، الا أنه كان الأشد عندا في كل من دخل حياتها من رجال
عندا أقرب الى التسلط أحيانا، يسمح لها بما يريد و يمنع عنها ما لا يحب...
و هي لم تنصاع أبدا للتسلط...
قال ليث بجدية حين طال شرودها
(لا رد لديك، من الواضح أنني قد جرحتك بالفعل)
رفعت سوار وجهها اليه و قالت بهدوء
(لم تجرحني، أنت فقط تحاول زرعي في حياة لا تناسبني)
انعقد حاجبي ليث وهو يقول بحدة
(أنا؟، لقد تركت كل شيء لأجلك).

ارتجفت شفتي سوار و هي تقول بصوت غريب
(هذا تحديدا ما أقصده، يفترض بي أن أكون شاكرة لك و ممتنة، لكن هذا الشعور لا يلائمني، كنت أفضل البقاء و المواجهة، لا البقاء ممتنة لزوج قبل بي مع وصمة عار لن تزول لسنوات طويلة)
انعقد حاجبي ليث بشدة، بينما تابعت سوار تقول بقوة
(أريد العودة الى حياتي و بلدتي، أريد البقاء مع جدي، أريد أن أخرق عين كل من يتجرأ على ذكر اسمي بالسوء، أريد ال).

صمتت متعمدة و هي تطرق بوجهها، فقال ليث بنبرة غريبة
(تريدين الأخذ بثأرك)
رفعت وجهها اليه و قالت بعد فترة
(نعم، لا زلت أريد هذا، فبعد شهور طويلة من تدليلك و تضحيتك لي، ظننت انني بدأت أتأقلم مع حياة مختلفة تماما، و أنني نسيت سليم رحمه بالله، لكن العكس هو ما يحدث، بداخل صدري نار لا تهدأ، لكنها تستعر أكثر مع كل شهر يمضي، أنا أتألم يا ليث)
كان يستمع اليها بملامح غاضبة، قاتمة...
فقالت بهدوء.

(ها هي طاقات غضبك تهدد بالإنفلات، ماذا ستفعل الآن؟ تتركني هنا و ترحل؟)
أغمض ليث عينيه وهو يزفر بصمت، ثم قال بعد فترة طويلة
(ماذا أفعل معك؟، أخبريني بالله عليك ماذا أفعل معك؟، أمنحك كل ما أستطيع و أنت لا تن)
مالت سوار اليه و قالت بحدة
(أنصاع، لا أنصاع، لماذا لم تتابع؟)
ضرب بقوة فجأة على الطاولة وهو يقول من بين أسنانه.

(لن تمسكين بسلاح و تهدري دما، لن يحدث، و لن تعودي للبلد، الأمر ليس له علاقة بحب أو عشق، بل له علاقة بحمايتك و هذا ما عاهدت الله عليه، لن أتركك لنفسك مطلقا)
تسببت ضربته في انسكاب كأس الشاي الخص بها على الطاولة، و تساقطت قطراته على عبائتها...
أجفل ليث بقوة وهو يدرك ما فعل، فنهض من مكانه مسرعا وهو يتفحص ساقيها
(هل أحرقك؟، هل أصبت؟)
قالت سوار و هي تنظر حولها بإرتباك.

(لقد انسكب معظمه فوق الطاولة، بضعة قطرات فقط تساقطت على العباءة، هلا جلست من فضلك، الجميع يتطلعون تجاهنا)
بدا ليث منعقد الحاجبين بشدة، وهو يضع يدا على ظهر مقعدها، بينما اليد الأخرى رفعت وجهها اليه و استقرت على وجنتها و كأنه يعتذر لها اعتذار صامت دون كلمات، لا يهينه...
أسلبت سوار جفنيها و هي تقول
(أرجوك اجلس).

بدا ليث مترددا قليلا، لكنه ابتعد عنها أخيرا، ثم أشار الى النادل كي يأتي و ينظف تلك الفوضى، و طلب منه كأسا جديدا...
بقت سوار صامتة و هي تتطلع الى البعيد، ثم قالت أخيرا بهدوء
(أنت تظنني غير سوية، اليس كذلك؟، امرأة متعلمة و مثقفة و لا تزال تدور في قيد الثأر، لا يمكنك أن تشعر بما أشعر أنا به)
لم تتجرأ على النظر اليه، الى أن قال أخيرا بصوت قاتم.

(لا، لا أظنك كذلك، أعرف أنك أمضيت فترة طويلة جدا في البلد، تشبعت خلالها بكل كيانها، الصالح منها و الطالح، حتى أثناء سفرك للدراسة، ما كانت سوى محطات، تعودين بعدها للبلد التي تحيا بها جذورك)
رفعت وجهها اليه و هتفت بحدة
(اذن لماذا تلومني؟، لماذا تمنعني؟)
ابتسم ليث ابتسامة غريبة، بهما من العنف و الخوف معا ما جعلها ابتسامة هزمت قلبها للحظة، ثم قال بخفوت.

(سأمنعك، لم أحصل عليك أخيرا كي افقدك بهذه البساطة، سأتمكن من عمل غسيل مخ كامل لك، سأقتلعك من تربتك و أزرعك في أرض جديدة إن اقتضى الأمر)
انعقد حاجبي سوار و هي تهتف فجأة بتمرد
(الا رأي لدي؟)
بقى ليث صامتا قليلا، ثم قال أخيرا وهو يهز رأسه نفيا
(لا، فيما يخص هذا الأمر، لا رأي لديك، أنا آسف، تعقلي و انسي الأمر).

كان كلا منهما ينظر للآخر بحدة و قد بدأت الحرب الجنوبية تحدتم بينهما مجددا، الى أن نهضت سوار من مكانها فجأة و هي تقول بحدة
(يوم مولد رائع و احتفال أكثر روعة، أريد العودة)
و دون انتظار رأيه كانت قد خرجت مسرعة، بينما أشار هو الى النادل تاركا ورقة مالية ليلحق بها بسرعة...
و ما أن وصل اليها حتى أمسك بمرفقها، فقالت بحدة
(لا تمسك بي بهذا الشكل)
قال ليث من بين أسنانه.

(اصمتي يا سوار و كفى جدالا، لقد أوشك صبري على النفاذ)
فتح باب السيارة ثم دفعها للداخل بفظاظة، ثم صفق الباب، ليدور حولها و يحتل مكانه مكفهر الوجه...
نظرت سوار الى جانب وجهه وهو يقود السيارة مندفعا بصمت، فقالت بصوت قاتم
(ربما علينا العودة لشجار الصباح اذن، انا أريد السفر لجدي، أبسط حقوقي الإطمئنان عليه في مرضه)
قال بقوة قاطعا.

(لن تسافري بمفردك، بالله عليك كفي عن الشجار، لقد بدأت أصاب بارتباك في الأمعاء بسبب عنادك الصباحي كل يوم)
هتفت سوار بحدة أكبر
(أريد رؤية جدي، إنه يحتاجني، كيف لك أن تكون عنيدا متصلب الرأس الى تلك الدرجة؟)
ضرب ليث المقود بقوة وهو يصرخ و قد خرج عن طوره
(أنت تريدين السفر وحدك الى عرين الأسود، القصة لم تهدأ حتى يومنا هذا).

صرخت سوار بقوة و عنف و هي تنزف بداخلها خزيا من طريقة اخفائها و كأنها فرطت في شرفها بالفعل...
(لا يهمني مخلوق، أنا لست بمثل هذا الجبن؟)
ساد صمت ثقيل حاد، و حين نظرت اليه كان جانب وجهه غير مقروء الملامح، الى أن قال أخيرا بصوت بارد
(تظننيني جبانا يا سوار؟)
رمشت بعينيها و هي تقول بسرعة
(لا، لا، لم أقصد هذا، لا تستغل الكلمة كي تمثل دور المجروح).

ضحك ليث بسخرية، ثم صمت، و كذلك هي، فلم يعد لديهما المزيد كي يقولاه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة