قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع

صعد فريد السلالم القليلة للبناية العالية التي يقطنها أمين...
لقد اعتاد حين يعود الى المدينة، يتجه إلى بيت أمين مباشرة حيث تقوم زوجة عمه باطعامه ما لذ و طاب...
كان يعتبرها وزارة التموين الغذائي له في الغربة...
هي تسعد باطعامه وهو يشاركها نفس السعادة...
و كعادته ابتعد عن المصعد و اتجه الى السلالم يصعدها كل درجتين معا...
لم تكن شقة أمين في طابق عال و هو يحب السلالم أكثر من المصاعد البالية...

وصل فريد الى الطابق الثالث وهوا يتابع صعوده كالفرس الجامح، لم يدرك فجأة أن هناك فتاة شابة كانت تخرج علب البيتزا الفارغة لتضعها في صندوق القمامة المخصص بجوار السلالم...
فارتطما سويا...
تراجع فريد عدة درجات للخلف الا أنه لم يسقط، أما الفتاة فكان حظها أسوأ، فقد وقعت أرضا و أسقطت علب البيتزا الفارغة. حولها...
استعاد فريد وعيه سريعا و أسرع في الإقتراب منها ليقول بقلق
(آنسة، هل أنت بخير؟، هل تأذيت؟).

كانت تحك جبهتها حيث ارتطمت بكتفه بقوة، بينما لم تجبه...
فزداد انعقاد حاجبيه وهو ينحني جاثيا على عقبيه بجوارها، هامسا
(هل تأذيت يا آنسة؟)
ظن أنها ستتجاهله بسبب اسقاطه لها أرضا، لكنها رفعت وجهها في النهاية...
شعر فريد بالصدمة و هو يرى الدموع تنساب من عينين غاضبتين منكسرتين، بنيتين بلون القهوة الدافئة...
فقال بقلق أكبر
(هل آذيتك؟، أنا آسف، لم أظنها وقعة شديدة؟).

أدركت الفتاة نفسها ثم أسرعت في النهوض من مكانها و هي تنفض ملابسها البيتية الطفولية رغم أنها تبدو ناضجة شكلا و قواما، ثم قالت بهدوء متجنبة النظر اليه
(لا، لا أنا بخير، لم يحدث شيء، لم أكن منتبهة)
حاولت الإنحناء لإلتقاط علب البيتزا الفارغة، الا أن فريد سبقها وهو يقول
(دعيها أنا سأجمعها)
اعترضت الفتاة و هي تقول
(لا حقا، أنا سوف)
لكن فريد كان قد جمعها ووضعها في الصندوق و أنهى الأمر...

ثم استدار لينظر اليها وهو ينفض يديه قائلا
(أرجو أن تكوني بخير فعلا)
ارتبكت الفتاة الشابة و هي تقول
(أنا فعلا بخير، شكرا لك و أعتذر عن)
كانت قد رفعت وجهها و هي تتكلم الا أنها ما أن رأت وجهه حتى صمتت و شهقت قبل أن تقول
(ما هذا الذي بوجهك؟، هل أنا السبب؟، هل آذيتك؟)
ارتفع حاجبي فريد...
ما شاء الله، ذكاء متقد!، ارتطم وجهها بكتفه، فانتقلت الإصابات الى وجهه بأعجوبة!
لكنه رمش بعينه ثم قال بهدوء.

(لا، هذا شجار خارجي لا دخل لك في توابعه)
ظلت تراقبه بشك و هي تتفحص اصاباته بعينيها، مما منحه الفرصة كي يتأملها هو الآخر...
بشعرها البني بنفس لون عينيها و المجموع في ذيل حصان خلف رأسها...
كانت ممتلئة القوام قليلا، الا أنها أكثر جاذبية بهذا الإمتلاء!
زم فريد شفتيه و أخفض عينيه ثم قال متنحنحا
(حسنا، سررت بلقائك و إن كنت أتمنى أن يكون في ظرف أفضل من هذا).

أومأت الفتاة برأسها ثم استدارت عنه تتجه الى شقتها دون أن تجيب...
الا أنه ناداها فجأة، فاستدارت اليه بدهشة
حينها بدا و كأنه قد ارتبك قليلا، قبل أن يقول
(لماذا كنت تبكين اذن؟)
ارتفع حاجبي الفتاة و هي تسمع هذا السؤال الفضولي الذي غادر شفتيه دون تفكير، فعقد حاجبيه وهو يشتم بداخله...

حسنا ذكائك غلب ذكائها!، لقد انتقلت لك العدوى منها، حاول تدارك الموقف فقال ملوحا بيده مدعيا اللامبالاة، و الإهتمام العطوف ليس غير
(أقصد، هل أنت متأكدة أنني لم أؤذيك؟، أنا طبيب بالمناسبة. )
ابتسم لها و انتظر، لكنها ظلت تنظر اليه رافعة حاجبيها دون اجابة...
فقال بخيبة أمل
(سررت بلقائك، فرصة سعيدة).

ثم نزل السلالم وهو يشتم الغباء بكل أصنافه، توقف بعد عدة درجات ليدرك أنه صاعد و ليس نازلا!، فشتم مجددا ليستدير و يصعد السلالم...
الا أنها كانت واقفة في باب شقتها لم تغلقه بعد...
حين رأته صاعدا توقفت قبل أن تغلق الباب و قالت بحيرة
(هل أوقعت شيئا؟)
زم فريد شفتيه، و قال من فوق كتفه وهو يتجاوزها ليصعد الطابق التالي
(أنا كنت صاعدا، فرصة سعيدة)
ارتفع حاجبيها ثم قالت تناديه
(المصعد يعمل).

لكنه كان قد اختفى عن عينيها، الا أن صوته وصلها من اعلى
(أحب صعود السلالم أكثر)
ارتفع حاجبيها أكثر، ثم هزت رأسها و هي تتراجع لتدخل شقتها هامسة
و لما التعب؟، أنا أشعر بالإرهاق بعد فتح النافذة!، أصحاب العقول في راحة!،
وصل فريد الى شقة أمين لكن و قبل أن يدق الجرس...
سمع صوت شجار و صياح، من الواضح جدا أنها كانت أصوات أمين و أخته المجنونة نورا...
فعقد حاجبيه و همس بتوجس.

شجار!، و على الأرجح عمتي أم أمين تبكي بينهما الآن، هل هذا يعني أنه لا طعام اليوم؟، دق الجرس بعدم ارتياح، و انتظر الى أن فتحت أم أمين الباب...
فابتسم فريد و فتح ذراعيه قائلا بسعادة
(خالتي أم أمين، مضى ثلاثة أيام منذ أن تناولت الطعام من يديك الحبيبتين)
نظرت اليه أم أمين لحظتين قبل أن تخرج منديل من جيب عبائتها لتضعه على عينيها و تنفجر في البكاء...
أسقط فريد ذراعيه وهو يقول بخيبة أمل
(كنت أعرف).

ابتعدت عنه أم أمين فدخل فريد و أغلق الباب خلفه قبل أن يتنحنح بصوت عال مناديا
(أمين يا ابن عمي المفضل، أنا هنا، هل أدخل؟)
خرج أمين من احدى الغرف مكفهر الوجه، صارخا بعلو صوته
(و إن تجرأت و رفعت صوتك مجددا فسوف أضربك المرة المقبلة)
ثم نظر الى فريد قائلا بعنف
(أهلا يا فريد، تعال أدخل)
دخل فريد وهو ينظر حوله بحذر، ثم قال بحرج
(أشعر أنني قد جئت في وقت غير مناسب)
رد عليه أمين وهو يتنفس بغضب.

(البيت بيتك في أي وقت، إنها الخلافات المعتادة، فتاة مدللة عديمة التربية و طويلة اللسان)
تعمد أن يصرخ بكلماته الأخيرة، حتى تسمعها نورا...
فنظر فريد الى حيث كانت نورا واقفة في أحد الغرف و هي تهتف بعنف مماثل
(ليس لك الحق أن تتحكم في حياتي بتلك الصورة)
صرخ امين بقوة جهورية
(سأتحكم بها و أكسر عنقك أيضا)
ثم التفت الى فريد و ربت على كتفه قائلا وهو يلهث بعنف
(أنرت بيت ابن عمك يا فريد، تعال و اجلس).

سحب فريد أحد كراسي مائدة الطعام و جلس و جلس أمين بجواره ليقول باهتمام
(ماذا حدث، لماذا عجل جدي بزواج أختك حتى أننا لم نحضر عقد القران، لقد استائت أمي جدا من الوضع)
فتح فريد فمه ليرد، الا أن نورا صرخت فجأة تقاطعه بجنون
(لقد سئمت، سئمت، سئمت من كل حياتي)
نظر اليها فريد عاقدا حاجبيه بتوجس، فصرخ أمين من مكانه دون أن يستدير اليها
(لو قمت لك لن تسئمي منها فقط، بل ستفقدينها، لملمي نفسك و اخرسي).

ثم نظر الى فريد و قال بجدية
(ماذا كنت تقول؟)
رمش فريد بعينيه و هز رأسه كي يحاول استعادة ما حضره كي يقول لأمين بشأن زواج سوار السريع...
ثم قال أخيرا بخفوت
(أنا أشعر والله أعلم، أنني قد أتيت في وقت غير مناسب)
رد أمين بقوة و أنفاسه تهدر كألسنة اللهب
(لا تقل هذا يا رجل، البيت بيتك، الا تعرف ابنة عمك، لقد أفلت عيارها لكنني لها، سأربيها من جديد)
صرخت نورا من الداخل بجنون
(أنا تربيتي أفضل من الجميع).

نظر أمين الى فريد و قال بجدية و بصوت خافت وهو يميل اليه...
(فريد، بكل صراحة لن يردعها ما هو أفضل من الزواج و أنا لن أجد من هو أفضل منك لها)
سعل فريد بكل قوة وهو ينظر الى امين بعينين واسعتين، قبل أن يعيد عينيه الى نورا التي صرخت من جديد...
(سأحرق نفسي، لترتاحوا مني جميعا)
ظل فريد ينظر اليها بارتياع، بينما همس له أمين بخفوت.

(لقد أردت أن أعرض عليك الأمر منذ فترة، خاصة و أنني سمعت بعض التلميحات عن نية زاهر في التقدم لخطبتها، وهو يكبرها بالكثير و)
قاطعه فريد وهو يقول بقوة
(مهلا مهلا، هل تتكلم بجدية؟)
قال أمين بخفوت
(أخفض صوتك، أنا أتكلم بجدية تماما، المثل يقول اخطب لأختك و لا تخطب لأخيك)
عقد فريد وهو ينظر بعيدا محاولا تذكر المثل، ثم قال
(لا أعتقد أن المثل كان يقول هذا)
قاطعه أمين ليقول بخفوت.

(بيني و بينك أنا رافض فكرة زواج زاهر من نورا تماما، أريد لها من هو أفضل و أريدك أن تسبقه كي لا أقع في حرج الرفض)
ابتسم فريد بصعوبة، لكنه انتفض من مكانه على صوت أمين الذي صرخ فجأة
(الى اين أنت ذاهبة؟)
كانت نورا متجهة بكل عنف الى باب الشقة، كالقطار الأعمى...
فهتفت دون أن تنظر اليه...
(لقد نسيت حقيبتي في شقة ياسمين، سأنزل لأحضرها)
قفز أمين من مكان ليمسك بذراعها و يدفعها بعيدا وهو يهدر بصوت جهوري.

(أقسم بالله لن تخرجي من هذا البيت الا و سأكون ضاربك حتى تصرخين طلبا للرحمة)
صرخت نورا و هي تضرب الأرض بقدميها
(قلت لك نسيت حقيبتي عندها، بها هاتفي و محفظتي و كل شيء، كيف أتركها!)
هدر أمين بها صارخا...
(لن تنزلي و هذه هي النهاية)
ثم استدار ناظرا الى فريد و قال بعنف
(فريد من فضلك، هلا نزلت و أحضرت الحقيبة، لأنني لو نزلت الى تلك المرأة فسوف أرتكب جناية)
نهض فريد من مكانه وهو يحك شعره قائلا بعصبية.

(أنا أشعر والله أعلم أنني قد أتيت في وقت غير مناسب)
الا أن أمين هدر بقوة
(الطابق الثالث، الشقة المواجهة للسلم مباشرة).

وقف فريد أمام الشقة التي دخلتها الشابة التي ارتطم بها منذ قليل...
و على الرغم من شعوره برغبة خفية في رؤيتها مجددا، الا أنه كان يشعر بالحرج، ما المفترض به أن يقول؟
عمتي تسلم عليكم و تخبركم أن لدينا حقيبة وقعت منا عندكم؟، زفر فريد بقوة و همس بنفاذ صبر
(الإنسان أحيانا، تدفعه معدته للإقدام على تصرفات يستحق عليها الرمي بالقباقيب).

أخذ نفسا عميقا ثم رفع اصبعه ليدق جرس الباب لكن و قبل أن يمسه، سمع صوت هتافها الغاضب من الداخل
متخلف، متخلف...
أبعد فريد اصبعه و ارتفع حاجبيه ليرهف السمع جيدا، محللا الإحتمالات
هل معها شخص متخلف في الداخل؟، هل تتحدث في الهاتف مع شخص متخلف؟، هل لا تزال تفكر به منذ أن تركها، و تنعته بالمتخلف؟، عقد فريد حاجبيه وهو يقول بارتياب
(لا، بالطبع لا)
أغمض عينيه وهو يتذكر عبارته الأخيرة المتملقة بابتسامته الحمقاء.

أنا طبيب بالمناسبة، من أغبى طرقه الذكورية في التعارف على الإناث، لقد أحرز هدفا في أكثرها فشلا...
فتح عينيه و اخذ نفسا ثم دق الجرس و انتظر الى أن فتح الباب بعنف، ووقفت أمامه...
ابتسم فريد فجأة...
لا يعلم لماذا ابتسم...
وجهها له براءة متوردة، و شعرها البني أسدلته الآن على كتفيها...
قالت ياسمين بدهشة ما أن استوعبت وجوده...
(أنت مجددا!، هل أضعت العنوان؟، أخبروك أين؟).

لم يرد فريد على الفور، بل ظل واقفا مكانه مبتسما برقة و يداه في جيبي بنطاله الجينز ينظر الى هذا الوجه القريب للنفس، ثم قال أخيرا بنفس الإبتسامة
(عمتي تسلم عليك و تخبرك أن ابنتها نست حقيبتها عندكم).

مضى يومان على رحيله...
تاركا الشقة خاوية و كأن الرياح تصفر بها...
مخلفا موجة من البرود و الصقيع، بينما كان وجوده شيئا آخر...
أغمضت تيماء عينيها و هي تستند برأسها الى اطار النافذة و هي تمسك بين كفيها بكوب القهوة...
منذ يومين تركها، و سافر...
بعد ان أنحنى اليها و هي جالسة في بقعتها المفضلة من أريكة غرفة الجلوس، حيث كانت رافعة ركبتيها الى صدرها تكتف ذراعيها من حولهما...

رفع ذقنها اليه و همس الى عينيها
(أنا يجب أن أغادر الآن)
ردت تيماء عليه دون أن تنظر اليه، بل كانت تنظر الى الأمام بلا حياة
(نعم)
ظل قاصي ينظر اليها قليلا، ثم همس لها بخفوت وهو يجثو بجوارها ممسكا بذراع الأريكة
(أنا مضطر للذهاب، لكنني سأعوض لك غيابي)
نظرت تيماء اليه بصمت طويلا ثم قالت بخفوت.

(لا أحتاج الى تعويض يا قاصي، لو تقبلت تعويض عن كل مرة تكسر بها قلبي، فستمضي المتبقي من حياتك في محاولة تعويضي، فقط اذهب، أنا بخير و لست معترضة)
عقد قاصي حاجبيه و نظر اليها بنظرة لم تغادر تفكيرها حتى الآن، ثم قال لها بصوت عميق
(لست معترضة؟، هل أفهم من ذلك أنك قد تقبلت زواجنا بكل ظروفي؟، لن تهربي مني و لن تحاولي الإنفصال عني؟)
ابتسمت تيماء بحزن، ثم همست و هي تنظر أمامها.

(نعم يا قاصي، لقد اخترتك و تقبلت زواجنا بكل ظروفك، نعم لن أهرب منك و لن أحاول الإنفصال عنك)
اندفع قاصي ليقف ثم جذبها بين ذراعيه الى ان رفعها عن الأرض وهو ينهي كلماتها الخافتة، بكل شوقه لتلك الكلمات التي طال انتظاره لها...
لقد اتخذت قرارها العفريته الصغيرة، جنيته كما يحب أن يلقبها...
و ضمن بقائها معه للأبد...
رفع وجهه عنها، محمر القسمات، مشتعل العينين ثم همس لها بصوت أجش.

(لو كان الأمر بيدي لما تركتك الآن)
الا أنها همست له بخفوت و دون أن تبتسم بشفتيها الحاملتين دمغة شفتيه القاسيتين
(يجب عليك الذهاب لأبنك، هيا اذهب)
نظر قاصي اليها بصمت و في عينيه نظرات رفض قوي، لكن بعمقهما صراع أقوى...
ثم قال أخيرا
(لن أغيب عنك طويلا)
أومأت تيماء دون أن ترد، بينما عيناها الفيروزيتان تنظران اليه بحوار طويل طويل، لم يستطع تفسيره...
بدا مترددا وهو يقول
(هل ستكونين بخير؟).

عادت لتومىء برأسها، ثم قالت بخفوت
(لطالما كنت بخير، لا تقلق)
جذبها اليه ليقبلها مرة أخيرة بكل عنف، قبل أن يبعدها عنه ثم يغادر، كعادته دائما...
و ها هما اليومان يمران كعامين...
عامين و هي تسمع صوته في أرجاء شقتها الصغيرة، تستشعر لمساته على جسدها ليلا فتنهض من نومها مفزوعة تنادي عليه...
و على الرغم من مدى شوقها المضني له، الا أنها لم تجب أي من اتصالاته، و لا حتى رسائله...

و آخر رسالة كانت بالأمس حادة و غاضبة
ردي يا تيماء، لا تفعلي بي هذا، طمئنيني أنك تنتظريني، حينها فقط أرسلت كلمات مختصرة موجزة
أنا بخير، و لن أذهب لأي مكان، أرادت ان تكون الأخيرة منه فعلا، الا أنها كانت بداية واحدة أخرى، غريبة و كأنها بنبرة صوت مختلفة له...
أريد أن أرى النجوم في عينيك من جديد، فهل أستطيع ذلك؟، نظرت تيماء الى الرسالة في الظلام، محدقة في الشاشة طويلا، لا تعلم ماذا تكتب و بماذا تجيبه...

الا أن أصابعها كتبت في النهاية
لا أظن هذا ممكنا، اقبل بي هكذا كما قبلت بك، ثم اغلقت هاتفها و اغمضت عينيها و هي تدس وجهها في وسداتها، مستسلمة لتلك الوحدة الإجبارية المفروضة عليها منذ مولدها...
كم شعرت بالوحشة ليلة أمس و كم تمنت وجوده...
و ما أصعب من أن تشتاق اليه و لا تمتلك القوة لتنطق بهذه الكلمات...
و كأن النطق بها يعريها أمام نفسها و يكشف لها بأي مقدار مخزي استسلمت...

لقد نامت و كلمات الشوق تحرق حلقها، حتى أنها أمضت الليلة كلها بين ذراعيه في أحلامها فقط...
لم ترى أي كابوس على غير العادة...
بل كانت ترى ابتسامته، و عينيه الضاحكتين في لحظات نادرة...
دفىء صدره وهو يضمها اليه فتشعر حينها أنها قد عادت الى بيتها...
و ها هي الآن تفيق على الواقع الموحش في غيابه...
أغمضت تيماء عينيها في لحظة ألم ظنت معها أن قد تنفجر في البكاء مع أول حركة...

لكن صوت خلفها جعلها تفتحهما مجددا على اقصى اتساعهما...
لتستدير بكل عنف أدى الى انسكاب كوب القهوة على بساطها الفاتح...
لكنها لم تهتم، بل كانت عيناها تنظران بذهول الى باب شقتها الذي فتح و أذنها تلتقط صوت المفتاح و كأنه لحن صاخب...
و لم تكد تمر لحظة حتى رأت قاصي يدخل الى الشقة ببساطة، ثم رفع عينيه الى عينيها مباشرة...
فتوقف مكانه و ابتسم...

كانت ابتسامة من وجد ضالته، ابتسامة رجل لم يظن أن يعود ليجد زوجته في انتظاره...
كانت تيماء هي أول من تكلم، فهمست بتعجب
(قاصي!)
برقت عيناه وهو يلتقط همسها المشتاق، فقال بصوت أجش من أعماق حنجرته
(نعم قاصي)
بدت مرتبكة و خجولة كطفلة صغيرة...
لكن خجلها لم يكن خجل امرأة أمام رجل، بل خجل من أن يظهر على وجهها عنف المشاعر التي اكتنفتها في تلك اللحظة...
خجل من أن يرى مدى استسلامها في عينيها...

لم يكن قد أغلق الباب بعد وهو يقول بخفوت ناظرا الى عينيها بدقة
(هل اشتقت الي؟)
رمشت بعينيها الا أنها هزت كتفها باشارة لا مبالية، لكن لسانها لم يستطع الكذب لذا امتنعت بمعجزة عن الصراخ عاليا
نعم اشتقت اليك، و ربي اشتقت اليك أكثر من حنيني لأي مخلوق في هذا العالم، رفع قاصي حاجبه بعدم رضا وهو ينظر الى برودها، و عيناها الواسعتين بجمود و كأنهما منحوتتين من زجاج صافي...
لكنه ابتلع رأيه ثم قال بصوت مرح.

(لم أحضر وحدي، بل أحضرت معي ضيفا لك)
رمشت تيماء بعينيها و هي تحاول استيعاب ما نطق به للتو، و من ملامحه رأته أنه لا يمزح...
فقالت بعدم فهم
(أحضرت، ضيفا؟، الى شقتي؟)
أومأ قاصي بوجهه مبتسما و عيناه تعبثان بها عبثا يقلب الكيان رأسا على عقب، ثم لم يلبث أن قال بهدوء مناديا من خلف كتفه
(اظهر و بان).

رأت تيماء عاصفة هوجاء صغيرة تندفع الى داخل شقتها، ففغرت شفتيها و هي ترى الصغير ذو الشعر الناعم يدور في أنحاء غرفة الجلوس وهو يهتف عاليا بازعاج
(مرحبا تيماااااااااااااااااااا)
ظلت على وضعها تنظر الى ما يحدث بذهول، حيث كان عمرو يمرح في كل مكان قبل أن يصعد الى أريكتها ليقفز عليها...
فناداه قاصي بصرامة وهو يغلق الباب
(لا تقفز على الأريكة)
توقف عمرو على الأريكة، الا أن قاصي تابع بنفس الجدية.

(الا بعد أن تخلع حذائك)
قفز عمرو جالسا على الأريكة و خلع حذائيه، ثم عاد للقفز مجددا...
أما قاصي فدخل و رمى مفاتيحه على الطاولة قبل أن يتجه الى تيماء بخطوات واسعة و عيناه على عينيها المذهولتين...
الى أن وصل اليها و دون أن يسمح لها بالإعتراض كان قد جذبها اليه ليكمل قبلة كان قد تركها على شفتيها عند رحيله...

أغمضت تيماء عينيها لعدة لحظات، دائخة من هول ما يحدث، لكنها انتفضت و حاولت الابتعاد عنه هامسة باعتراض
(ابنك هنا، توقف)
رفع قاصي وجهه على مضض و نظر للخلف الى ابنه الذي كان يقفز في عالم آخر، ثم اعاد وجهه اليها بكسل و رضا قائلا بعبث ساخر
(انه لا يشعر بشيء، ثم أنه سيتعلم آجلا او عاجلا أنه هناك في الحياة ما هو أجمل طعما من الحليب بالفراولة).

زمت تيماء شفتيها و انتزعت نفسها من بين ذراعيه بصعوبة، فقد كانت أقصر منه و كل مصارعتها لا تتعدى جزءا من صدره...
فأبقى على قيدها لعدة لحظات، يتسلى بها ضاحكا قبل أن يحررها بارادته، فعدلت ملابسها و هي تزفر بغضب ثم همست من بين أسنانها بعينين مشتعلتين
(هل أحضرت ابنك معك فعلا؟، الا ترى أنك تضغط على أكثر من اللازم؟)
ارتفع حاجبي قاصي باستفزاز ثم قال بخفوت وهو يميل بوجهه اليها.

(ظننت أنك تودين رؤيته مجددا بعد أن قويت علاقتك به أثناء خطفك له يا معتوهة، كما أنه لم يكف عن السؤال عنك من يومها؟)
صمت قليلا وهو ينظر إلى عينيها ثم همس بصوت أجش
(ماذا فعلت للولد فسلبت لبه كما فعلت مع والده؟، جنية أنت؟، أم فاكهة حلوة المذاق؟)
اضطربت ملامح تيماء قليلا و تراجعت خطوة، الا أنه اقترب منها تلك الخطوة وهو يراقبها بلا حياء...
ثم قال أخيرا بخفوت.

(ثانيا وهو الأهم، لقد كررت على مسامعي أنك لست مولعة بالقرب مني، و أنا كرجل في شهر العسل، ينحصر تفكيري عادة في اتجاه واحد، لذا قررت الحصول على عامل لإلهائي عنك قليلا الى أن)
صمت عن قصد، فرفعت تيماء عينيها اليه محمرة الوجه، و همست عابسة
(الى ان، ماذا؟)
ابتسم قاصي بخبث و قال ببساطة
(الى ان تصبحي مولعة بالقرب مني)
زفرت تيماء بضيق كاذب، بينما صدرها يدق بطبول مجنونة...

استقام قاصي ووضع يديه في حزام بنطاله قبل أن يقول بصوت مرح صاخب
(ثالثا وهو أهم من المهم)
صمت كي يحصل على اهتمامها، فرفت تيماء عينين متجهمتين اليه و زمجرت بخشونة
(ما هو الأهم؟)
لمعت عيناه وهو ينظر اليها طويلا ثم قال ببساطة رغم نظرات عينيه الكاسحة
(ثالثا، انني أريد أن أرى النجوم في عينيك)
أجفلت تيماء من بساطة العبارة التي أرسلها لها في رسالة، بينما بدت كموجة اجتاحتها و هي تسمعها منطوقة...

ارتجفت شفتيها قليلا، لكنها سيطرت على نفسها و قالت بجمود
(و هل سترى النجوم في عيني، عن طريق مجيئك بابنك الى هنا؟)
هز قاصي رأسه نفيا ببطىء وهو يبتسم لعينيها المتجهمتين، ثم قال بصوت عابث
(سلميني نفسك اليوم)
تسارعت دقات قلبها بسرعة أكثر من الحد المسموح به للسلامة العامة، و ارتبك كيانها و اضطربت أنفاسها...
لكنها لن تسمح له بأن يتلاعب بها بطريقة المراهقين تلك...

فرفعت ذقنها و جذبت سترتها لأسفل و هي تقول بهدوء
(آسفة جدا، كنت ذاهبة للكلية الآن، لكن لا تدعاني أعطلكما عن مشاريعكما، و عامة اعتبرا نفسيكما في بيتكما و خذا راحتكما)
حاولت التحرك و تجاوزه، الا أن قبضته امتدت و امسكت بذراعها ليمنعها من الإبتعاد...
و ظل صامتا الى أن اضطرت لرفع عينيها الى عينيه، حينها قال بخفوت آمر، هادىء وواثق
(لن تذهبي للعمل اليوم، انت آتية معنا).

هزت تيماء رأسها نفيا قبل حتى أن يتم كلامه، ثم قالت بعنف
(لا، لن أتغيب عن محاضراتي لأي سبب في الكون، أنا الآن أسعى للحصول على الدكتوراة من هنا، بعد أن حرمتني من المنحة التي تمنيتها، و لقد أمضيت أياما صعبة و أنا أذهب الى الكلية مرفوعة الرأس بعد ما حدث، متجاهلة نظرات الزملاء لي، متأملة أن يتناسو ما سمعوه من فضيحة معاملتي كجارية تابعة لك، لذا و بعد أن مر أصعب يومان، لن أتغيب الثالث مطلقا).

كان قاصي يستمع اليها بصمت، و قد ضاع المرح من وجهه، ظللت عينيه ظلالا سوداء قاتمة...
ثم قال بجمود خافت في النهاية
(جارية؟)
هتفت تيماء أمامه
(و أسوأ)
شعرت و كأنها قد ضربته بكل قوتها، و أقسمت أنها رأت الألم في عينيه...
فارتد ألمه ليجد صداه داخل قلبها الخائن الغبي...
ساد صمت مشحون بينهما، لا يقطعه سوى صوت قفزات عمرو على الأريكة...

الى أن تكلم قاصي في النهاية قائلا بهدوء، لكنه هدوء مخادع و خطير، لا يقبل جدل أو نقاش...
(كما تشائين)
الغريب أنها قد شعرت بخيبة الأمل حين استسلم هكذا بسرعة و بساطة...
لكنه قال بصوت أكثر جدية و صلابة...
(اعتبري نفسك جارية و انظري اليها بهذه النظرة كما تشائيين، الأمر عائد اليك و لن أعيد شرحه مجددا، لكن في كل الأحوال أنت ستتغيبين عن عملك اليوم، و ستأتين معنا).

شعرت بمشاعر متضاربة من الغضب و الرفض و ال، الفرح...
الفرح بقوة، بقوة ماذا؟
هل ستخدع نفسها مجددا؟
لذا هتفت بجدية
(أنا لن)
الا أنه قاطعها هادرا بقوة
(بلى ستفعلين، ولو اضطررت الى حملك على كتفي، لذا اذهبي و بدلي ملابسك بكرامة، فهي لا تناسب المكان الذي سنتجه اليه).

صدمت تيماء من صوته الجهوري، ووقفت مكانها تتنفس بسرعة و قلق و روح التمرد بها تحارب الخوف النابع بداخلها من أن تكون هذه احدى نوبات غضبه التي يجدر بها تجنبها...
مالت بعينيها لترى عمرو و قد توقف عن القفز ووقف ينظر اليهما بحذر...
فأعادت عينيها الى قاصي الذي كان ينظر اليها متجهما، فقالت باستياء و تعثر.

(ثم ألم يكن ابنك مريض و درجة حرارته فوق الأربعين؟، كيف تسافر به فجرا بعدها بيومين؟، الا تملك اي حس بالمسؤولية؟)
التوت شفتاه قليلا بقسوة، ثم قال بخفوت
(حسنا، لنقل أنه لم يصل الى تلك الدرجة تماما)
ارتفع حاجبي تيماء و فغرت شفتيها قليلا...
هذا ليس له سوى معنى واحد!
لم تتوانى عن الهمس بخفوت
(هل كذبت أمه كي تعيدك اليها على وجه السرعة؟).

أخذ قاصي نفسا عميقا حتى انتفخ صدره و كأنه يسوي حملا ثقيلا عن كتفيه، ثم قال بجمود
(ليس الى تلك الدرجة، كان لديه ارتفاع بسيط في درجة حرارته و قد مكثت بجواره الى أن طاب تماما، فوعدته بيوم لن ينسى، و أنت الآن شريكتي في هذا اليوم، شئت أم أبيت)
عقدت تيما حاجبيها و هي تشعر بمشاعر متناقضة جراء كلمة شريكتي...
كلمة كفيلة بأن تملأ السماء من حولها بالقلوب الحمراء الغبية المتطفلة التي تود لو رشتها بمبيد حشري...

لكنها التزمت العناد و قالت بغضب
(و ماذا عن أمه؟، هل وافقت هكذا بسهولة؟)
نظر اليها قاصي نظرة واثقة، ثم قال بتسلط...
(لنقل أن لي أسهما في عمرو، قد تفوق ما لأمه فيه، وهذا يخولني كي أتصرف بما أحب معه)
أسبلت تيماء جفنيها و هي تشعر بعدم ارتياح، ثم قالت بخفوت
(لكنك تكسر قلبها، و هذا ليس ما أردته تماما)
عقد قاصي حاجبيه و قال بقلق
(أكسر قلبها؟، ما الذي جعلك تتصورين أنها قد تشعر بهذا؟).

راقبته تيماء بعينين ثاقبتين...
فقد بدا في هذه اللحظة كطفل ضبط متلبسا بفعل مشاغب...
لكنها كتمت شكها بذكاء و قالت بهدوء
(عبر التقريب بين ابنها و امرأة أخرى، قصدت كسر قلبها كأم)
ارتاحت ملامح قاصي، ثم قال ببساطة
(لا تقلقي من هذه الناحية، أنا أفعل ما في مصلحة عمرو دائما، و أمه لا تجادل، فقد سلمتني دفة القيادة منذ سنوات)
كل كلمة ينطق بها تنحرها نحرا بلا هوادة...

ظلت تيماء واقفة مكانها بحزن غائر في قلبها، الا أن عمرو نادى من خلفهما يقول بتوسل
(أرجوك تعالي يا تيما، سيأخذنا أبي الى ملاه أكبر من تلك التي اصطحبتني لها، و أكثر خطورة، لا ترفضي أرجوك)
شعرت تيماء رغما عنها بشعور محبب عنيف تجاه هذا الصغير و هي ليست المرة الاولى...
بل منذ المرة السابقة و قبل أن تغادره، كانت قد وقعت في حبه و انتهى الأمر...
نظرت تيماء الى قاصي و قالت باهتمام رغم عبوسها
(ملاه، امممممم).

ابتسم قاصي و قال بهدوء مداعبا
(حين ينتهي هذا النهار سيكون أمامك حلان، إما أن أرى النجوم بعينيك، أو الذعر الذي رأيته بهما حين قدت السيارة بسرعة جنونية و أنت معي في طفولتك، لتأديبك، أتذكرين؟)
أتذكرين؟
ياله من سؤال أحمق...
و هل نسيت أبدا أي ذكرى جمعتهما يوما!
ارتجفت شفتاها فلمعت عينيه، ثم همس بصوت أجش مبحوح
(اذهبي لتبدلي ملابسك، الا إن أردت مساعدة مني، سأكون حينها أكثر من متعاون).

وقفت تيماء تنظر مبهورة الى الألعاب شديدة الضخامة و التي انبعثت منها أصوات الصراخ العالي المرتعب...
كانت فاغرة شفتيها و صدرها يتحرك بسرعة، و كيانها كله يصرخ
كلها، اركبيها كلها، تريدين الصراخ حتى الإغماء، تلك هي الحياة، لم تدرك أن قاصي كان واقفا بجوارها. مستندا بذراعيه الى الحاجز الحديدي، يراقبها بصمت، و دون حتى أن يبتسم...
كان مكتفيا أن ينظر اليها فقط، لا يبتغي أكثر من هذا...

بزيها البسيط، من بنطال قطني أبيض و فضفاض، تعلوه سترة رياضيه وردية واسعة جدا و طويلة...
ووشاح حول وجهها بلون وردي بدرجة أكثر قتامة، ينافس تورد وجهها و يبرز زرقة عينيها...
كانت تبدو كوردة جوري، حلوة المذاق!، يقصد الرائحة!
تكلمت تيماء بجدية و هي تنظر الى العجلة الدوارة الضخمة و التي تدور بسرعة خرافية...
(بالتأكيد لن نركب هذه، انسيا الأمر)
هتف عمرو بيأس بينما هو ممسكا بكفها و يقفز توسلا.

(لماذا؟، لماذا؟، لماذا؟، أنا أريدها)
قالت تيماء بجدية
(لا، لست موافقة، انها غير مناسبة لعمرك، لنذهب الى الألعاب المناسبة لك)
أخذ عمرو يتوسل بصوت عالي، الا أنها أصرت على الرفض رغم التوق المنتشر في جسدها الى ركوب هذه اللعبة و الصراخ و الشعور بمثل هذا الإنتعاش الذي لم تعشه منذ سنوات...
تكلم قاصي بصوت هادىء
(يمكنك الركوب و أنا سأبقى مع عمرو، لو أردت).

نظرت تيماء اليه متفاجئة، ألهذه الدرجة هي شفافة أمامه و يستطيع قراءة أفكارها؟
أسبلت جفنيها ثم قالت بخفوت
(لا، أنا لا أريد)
قال قاصي مبتسما وهو يتملقها بنعومة
(أنت تعرفين أنك تريدين يا تيماء، لا يمكنك خداعي)
عضت تيماء على زاوية شفتها السفلى...
الا أنها أخذت نفسا و رفعت وجهها لتقول بجدية آمرة
(قلت لا، لن نركب هذه، إما أن تستمعا الى كلامي أو نغادر جميعنا).

ثم انصرفت مرفوعة الرأس، مما اضطر عمرو و قاصي الى اللحاق بها صاغرين...
ظل ثلاثتهم ينتقلون من لعبة الى أخرى...
يقفون أمامها، يستمعون الى الصراخ العالي، فتنسحب تيماء بهدوء...
الى أن وقفت أمام لعبة الفناجين...
و هي عبارة عن فنجان قهوة لكل اسرة، تجلس به ثم يدور حول نفسه و حول دائرة كبيرة...
لم تكن لعبة مخيفة أو مرعبة، و كانت سرعتها مناسبة...

فجلست تيماء و ارتمى عمرو في أحضانها ما أن بدأت اللعبة في الدوران...
مضت لحظات قبل أن تضحك و هي تحضن عمرو هي الأخرى، حينها لم يتمالك قاصي نفسه فاقترب منها كي يضمها الى صدره...
حاولت الإعتراض الا أنه لم يسمح لها...
فظلا على هذا الوضع بصمت الى أن توقفت اللعبة أخيرا...
سار ثلاثتهم بصمت، يشوبه التوتر الى أن وصلو لمنصة القفز المطاطية...

فوقفوا ليراقبوها، كان بها عدد قليل من الأطفال يقفزون بمرح، بينما تيماء تراقبهم بابتسامة عريضة...
فحمل قاصي عمرو و ذهب به الى المنصة و أدخله بها، ليقفز مع باقي الاطفال...
بينما وقفت تيماء تراقبه بصمت...
كانت جاذبيته طاغية، و عادت لتهمس لنفسها بألم
كجاذبية الرجل الخطأ تماما، رائعا هو بقميصه الأسود المتناقض مع الألعاب الملونة المرحة...
شعره طال و طال وهو لا يجد حرجا من أن يلامس أسفل ياقة قميصه بعبث...

نظرات الفتيات اليه لا يمكن اغفالها أبدا...
لكن تيماء وحدها هي من تتحمل...
ابتسمت تيماء بحزن و هي تسمع شابة بجوارها تهمس لصديقتها
(انظري الى طويل الشعر هذا!، ما أجمله!)
فانزوت جانبا و استندت بذراعيها الى الحاجز و هي تبتلع الغصة المؤلمة...
عاد قاصي أخيرا ووقف بجوار تيماء التي كانت تراقبه مبتسمة ابتسامة أخفت بها ألمها...
ثم قالت أخيرا بهدوء ما أن طال الصمت بينهما.

(عمرو شقي جدا، حين رأيته للمرة الأولى ظننته انطوائيا و خجولا، لكن سرعان ما ثبت خطأ ظني)
كان قاصي يراقب عمرو بصمت، ثم لم يلبث أن قال
(إنه كذلك بالفعل، انه انطوائي و من الصعب جدا أن يتأقلم مع أحد، حتى الآن لم يبني علاقة سوى معي، و أمه، و أنت)
استدار لينظر اليها، فارتبكت قليلا، الا أنه قال متابعا...

(لقد تأخر عمرو في النطق كثيرا، حتى ظننا أنه يعاني مما عانى منه شقيقه الذي ولد و توفي قبله، و هذا بسبب، بسبب ما كانت أمه تتعاطاه، لكن سرعان ما اكتشفنا خطأنا و بمجرد المواظبة على دروس التخاطب، تحسنت حالته الى أن أصبح على ما ترينه حاليا، كما أنه شديد الذكاء).

ظننا، اكتشفنا، خطأنا، كلها كلمات بصيغة المثنى، تجمعه بأم عمرو، بينما هي بعيدة عنهما مئات الأميال...
الألم بداخلها يتزايد، و يتضاعف...
لعقت تيماء شفتيها ثم همست بخفوت
(نعم انه كذلك، إنه رائع)
ساد الصمت بينهما طويلا، و بدت تيماء مرتبكة و متوترة، ثم حزمت أمرها و قالت فجأة
(هل والدة عمرو، مرتبطة بك؟، تريد قربك أو تنظر اليك كما، كما تنظر المرأة الى زوجها؟).

كانت خجولة و هي تنطق بتلك الكلمات، لكنها كانت حازمة...
مما جعل قاصي يستدير اليها بكليته، و ينظر اليها بنظرات لم ترحها، ثم سألها أخيرا بصوت مضطرب
(أخبرتك من قبل أنني لم ألمسها و لم ألمس أي مرأة غيرك منذ ارتباطنا، الم تصدقيني؟)
قالت تيماء بخفوت
(ليس هذا ما سألتك عنه، قصدت رغبتها، احساسها كامرأة، هل، ترغبك، تشعر بك كرجل؟)
تصلبت ملامح قاصي فجأة و تحولت عيناه الى بئرين عميقين لا قرار لهما...

لكنه قال أخيرا بصوت غريب
(و هل تفعلين أنت؟)
ارتبكت تيماء و ابعدت وجهها عنه لتقول باستياء
(لا تغير الموضوع، أكلمك عنها، لا عني)
سألها قاصي بخفوت وهو يقترب منها
(و لماذا تسألين مثل هذا السؤل؟، ما الذي جعلك تفكرين بهذا الشكل؟)
قالت تيماء بخفوت دون أن تنظر اليه...
(إنها تتحجج و تدعي المرض لابنها كي تعود اليها، على الرغم من أنك لا تقربها، فلما تفعل امرأة هذا الا اذا كانت لديها آمالا تخصك).

صمت قاصي ونظر اليها دون أن يجد الجواب المناسب، لكنه لم يجد الوقت ليجيب
فقد تغيرت ملامح تيماء فجأة، و بان عليها القلق و انعقد حاجبيها و هي تقول بجدية
(عمرو ليس على منصة القفز، اين ذهب؟)
انتفض جسد قاصي فجأة و كأن تيارا كهربيا قد سرى به ما أن سمع الكلمات المرعبة...
فنظر حوله برعب و قد تلبدت ملامحه و تحولت الى هيئة مخيفة و مرتعبة في ذات الوقت...
لم يرى عمرو في كل الجهات حول منصة القفز...

فصرخ عاليا وهو يسرع الخطا...
(عمرو، عمرو)
أما تيماء فلم تنتظر، بل جرت تسأل الأمهات و من حولها، ثم أخذت تنادي عاليا هي الاخرى
(عمرو، عمرو)
كان قاصي يدور كالمجنون وهو يدفع كل من يقف في طريقه، فجرت تيماء خلفه الى أن امسكت بذراعه و هي تهتف
(اهدأ قليلا يا قاصي، لنذهب الى مبنى الإدارة و)
الا أن قاصي نفض ذراعها و استدار اليها صارخا فيها بملامح مخيفة
(اصمتي، لا تتكلمي معي الآن).

ارتعبت تيماء و اجفلت ممتقعة الوجه، فتراجعت عدة خطوات و هي تشعر بالدوار...
الا أن قاصي لم يلحظ شحوبها، بل اندفع ينادي على عمرو...
و خلال لحظات لمحه واقفا عن بعد، و هناك رجلا منحنيا يكلمه بينما عمرو يبدو صامتا تماما و منزويا لا يتجاوب مع الرجل...
فجرى قاصي اليه و أمسك بمقدمة قميص الرجل وهو يصرخ بعنف
(ماذا تريد منه؟، ماذا تريد منه؟، لما تكلمه؟)
شحب وجه الرجل و ارتعبت ملامحه وهو يقول بخوف.

(اهدأ يا استاذ، لقد كان ابنك ضائعا و كنت أحاول أن أستعلم منه عن شكل والده)
تجمع الناس حول قاصي وهم يحاولون فك قبضتيه عن قميص الرجل مؤكدين قصته...
فظل على تشنجه لعدة لحظات، قبل أن يحرر الرجل قائلا بخفوت أجش
(آسف، آسف)
ثم انحنى إلى عمرو ممسكا بذراعيه و نهره قائلا بغضب و ملامحه ترتجف
(اياك و الإبتعاد عني مجددا، هل فهمت؟).

أومأ عمرو برأسه صامتا و قد شحب وجه من الخوف بعد الصدمة التي تلقاها في ضياعه لعدة لحظات...
حمله قاصي بين ذراعيه. ثم استدار ليبحث عن تيماء، فوجدها واقفة وحدها تراقبهما و هي تبدو شاحبة و على وشك السقوط...
اقترب منها قاصي و قال بقلق
(هل أنت بخير؟)
ابتلعت تيماء ريقها ثم همست بصوت مرتجف
(أنا بخير، لكن أريد العودة للبيت رجاءا)
عقد قاصي حاجبيه وهو يراقب شحوبها و النظرة الميتة في عينيها...

لم يكن هناك أي أثر للنجوم التي تمنى رؤيتها...
ساد الصمت قليلا بينهما، ثم قال أخيرا بصوت آمر
(ليس قبل أن تقفزي على منصة القفز)
كانت تيماء مشوشة، و شاحبة و على وشك السقوط، فلم تستوعب ما نطق به للتو، فهمست بغباء
(ماذا؟)
رد قاصي بجدية
(أعلم حبك للقفز عليها، و لن أتركك قبل أن تبددي بها رعب اللحظات التي مرت)
افلت نفس مرتجف من بين شفتي تيماء و هي تضحك بعصبية رغم عنها، ثم قالت
(انت من كان مرتعبا).

قال قاصي بنفس الصوت الجاد
(لذا أريد رؤيتك و أنت تقفزين)
رفعت تيماء عينيها لتنظر اليه، كان لا يزال مكفهر الوجه، و ملامحه تتناقض تماما مع ما يطلبه...
فقالت تيماء مرتبكة
(لا يمكنني القفز لينظر الجميع الى جسدي، لم أفعلها منذ زمن)
اقترب منها قاصي و عيناه عليها، الى أن أحاط خصرها اللين بذراعه ثم همس لها
(لقد وجدت للتو مصباح علاء الدين، تعالي معي).

جذبها قاصي خلفه متجاهلا اعتراضها وهو يحمل عمرو بين ذراعيه، ثم تبادل بعض الحديث مع حارس اللعبة...
و بعد أن انتهى الدور الذي يضم بعد الأطفال، أعلن الحارس عن توقف اللعبة قليلا للصيانة...
ثم رفع الستائر الجلدية من حولها...
حينها استدار قاصي الى تيماء و قال مبتسما
(هيا اذهبي، و دعيني أراك و أنت تقفزين الى السماء، و اسرقي النجوم لعينيك)
فغرت تيماء شفتيها مصدومة من الطريقة التي يتكلم بها...

ثم نظرت الى منصة القفز بقلب يرجف، لتهمس لنفسها
فقط قفزتين، لن تضراها، و بالفعل...
وجدت في نفسها القوة و الرغبة في القفز، ففعلت و هي تبتسم تدريجيا مع كل قفزة...
الى ان تحولت ابتساماتها الى ضحكات صاخبة مجنونة، و هي تطير و تفتح ذراعيها و ساقيها كالنجمة...
بينما قاصي يراقبها بانفعال يماثل جنونها، و عيناه تتلقفانها مع كل قفزة...
كانت قفزات محدودة...

توقفت تيماء بعدها و هي تلهث لتقترب من الحافة، فسارع قاصي يلتقطها بذراعه الحره من خصرها و ينزلها أرضا كالطفلة...
و ما أن وقفت على قدميها حتى هتف بها
(لماذا لم تتابعي؟)
لهثت هاتفة
(هذا يكفي، لا أريد أكثر)
قال قاصي معارضا
(اقفزي أكثر، كانت تعجبك و كنت سعيدة بها)
الا ان تيماء قالت باصرار
(لا لن أقفز)
فتح قاصي فمه ينوى أن يجادلها، الا أنه صمت فجأة وهو ينظر الى عينيها بنظرات غريبة...
ثم لم يلبث أن قال بذهول.

(هل أنت حامل؟).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة