قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والعشرون

حين خرجت مسك من غرفتها، وجدت تيماء تستعد للمغادرة، فهتفت بها بدهشة
(الى أين تظنين نفسك ذاهبة؟، لن أسمح لك بالسفر عودة في نفس اليوم، ظننتك تريدين الحفاظ على هذا الطفل!)
كانت تيماء تثبت وشاحها حول رأسها ثم قالت بهدوء و تصميم
(اطمئني، لن أسافر عودة، فأنا أنوي بالفعل الحفاظ على هذا الطفل و لن أجازف أكثر)
عقدت مسك حاجبيها ثم قالت بقوة.

(اذن الى أين ستذهبين؟، لا داعي للسؤال حقا، ستذهبين اليه مجددا، دخل كلامي من أذن و خرج من الأخرى)
انتهت تيماء و استدارت اليها لتقول بحزم
(نعم ذاهبة اليه يا مسك، و قد دخل كلامك من أذن بالفعل، الا أنه لم يخرج من الأخرى)
ردت عليها مسك بشك
(هلا أخبرتني عما تنتويه على الأقل)
قالت تيماء و هي تلتقط حقيبتها
(سأذهب الى زوجي، أعرف أنه في المطبعة طوال الفترة المسائية. هذا هو ما أنتويه، ).

ثم اقتربت منها تربت على ذراعها قائلة
(اعتني بنفسك يا مسك، و رجاءا كفى فروسية، لا داعي لأن تكوني خارقة في كل شيء)
قالت مسك بخفوت
(انت تتكلمين كشخص أعرفه تماما، أكاد أشك في أنك أخته هو)
ابتسمت تيماء و هي تقول
(ربما لأننا اكتشفنا أننا نهتم بأمرك فعلا)
صمتت لحظة، ثم قالت بهدوء
(ترفقي بالرجل، و امنحيه الفرصة، أصابع يدك ليست متشابهة، و أنا أشعر بأنه مختلف، قلبي يحدثني بهذا)
ردت عليها مسك بفتور.

(اتبعي قلبك يا تيماء و اذهبي لزوجك، عسى أن تقعي فيكسر عنق أحلامك الوردية و تنزلين لتقيمي معنا على سطح هذا الكوكب)
ابتسمت تيماء قبل أن ترتفع اليها لتعانقها فجأة بكل قوة...
أجفلت مسك من هذا العناق الخانق و بدت مترددة، ثم قالت أخيرا بهدوء
(ما سبب هذا العناق؟)
قالت تيماء بخفوت دون أن تترك عنق مسك.

(حين شعرت أن العالم يدور من حولي و الألم يعصف بي، لم أرى أمامي سواك فأتيت اليك جريا، و أنا بالفعل افضل حالا الآن)
بدت عينا مسك شاردتان، الا أنعها ابتسمت أخيرا لتقول بخفوت
(هذا بيت والدك، و سيكون مفتوح لك على الدوام)
ابتعدت عنها تيماء لتقول مبتسمة بحزن.

(مفتوح لي على الدوام، الا في حالة وجوده، البيت الحقيقي بالأشخاص يا مسك و ليس بالجدران، لذا بيتك أنت، هو ما سيظل مفتوحا لي، و انا آسفة جدا لاننا لم نكتشف هذا الا مؤخرا جدا)
ابتعدت عنها و هي تقول بخفوت
(أراك قريبا، تمني لي الخير. )
رفعت مسك كفها في اشارة تحية صامتة، قبل أن تخرج تيماء مغلقة الباب خلفها، بينما بقت مسك في البيت الكبير، وحيدة، لا يشاركها سوى صوت دقات ساعة الحائط...

ليست المرة الأولى التي تسافر فيها لقاصي...
فعلتها و هي ابنة الرابعة عشر من عمرها، و فعلتها وهي ناضجة في الرابعة و العشرين...
و ها هي تعيدها مجددا، لكنها المرة الأولى التي تتجه فيها الى عمل يخصه...
لم تعرف لقاصي يوما عملا، سوى أنه كان يعمل في خدمة والدها، دون هدف أو طموح، دون وظيفة حقيقية...

أما اليوم و على الرغم من بساطة العمل الذي يعمل به، الا انها كانت ممتنة على الأقل لأن عمله ذو عنوان و مسمى واضح...
وقفت تيماء في مدخل المطبعة تراقبه عن بعد...
ما ان دخلت حتى لمحته عيناها على الفور، و من لا يستطيع أن يميزه بين الجميع...
كان يعمل بقميص تغطيه الاحبار و الشحوم أمام مطبعة عتيقة، ككل الأجهزة في هذا المكان القديم المتوارث على ما يبدو...

كان يبدو شارد الذهن، متجهما، متباعدا، و كأن آلاف الأميال تفصل بينهما...
سمعت فجأة صوت عمرو يهتف بسعادة قائلا
(تيما، أبي تيما هنا)
لم تكن قد لاحظت وجود عمرو الا بعد ان قفز من تحت احدى الماكينات وهو يهتف باسمها، فرفع قاصي وجهه على الفور متجهما و كأنه لا يصدق هذيان عمرو...
لكن ما أن رآها، حتى تسمر مكانه و ذهلت ملامحه، و تلاقت أعينهما...

للحظة رأت توهجا في عينيه، بريقا لا يمكنها ان تخطئه أبدا، لكنه سرعان ما خبا قبل أن يهتف بقوة
(تيماء!)
التفتت اليها أعين جميع العاملين في المطبعة فشعرت بالحرج، و أطرقت بوجهها قليلا قبل أن يندفع اليها قاصي تاركا ما بيديه قاطعا الخطوات بينهما حتى وصل اليها و أمسك بذراعيها هاتفا
(تيماء؟، كيف وصلت الى هنا؟ و لماذا، هل أنت بخير؟، أجيبي)
هتف بالكلمة الأخيرة بقوة و ذهول.

فرفعت وجهها تنظر الى الأعين المحدقة بهما قبل أن تقول بحرج و بخفوت
(شعرت بالرغبة في رؤيتك، فجئت اليك)
كان قاصي ينظر اليها كمن ينظر الى مجنون، ثم صرخ بها فجأة
(لا تخبريني أنك قدت سيارتك الى هنا؟)
سكن المكان من حولهما تماما، فعضت على شفتها و هي تقول بخفوت
(السيارة أكثر أمانا على الطفل من حركة القطار)
ازداد اتساع عيني قاصي ذهولا و غضبا حتى تطاير الشرر منها، قبل أن يهتف بها
(هل جننت؟)
قالت تيماء بهمس محرج.

(اخفض صوتك يا قاصي، زملائك يحدقون بك)
نظر قاصي اليهم متجهما قبل أن يهتف بفظاظة
(ما الأمر، ألم ترو رجلا متزوجا من مجنونة من قبل؟، كل واحد الى عمله، هيا)
عاد الجميع الى أعمالها مبتسمين، لكن و قبل أن تستطيع تيماء فتح فمها كان قاصي قد أمسك بكفها ليجرها خلفه وهو يقول بقوة
(ابقى مكانك يا عمرو و لا تتحرك، أريد تيماء في كلمة على انفراد).

شعرت تيماء بوجنتيها تلتهبان قبل أن يدخل بها الى غرفة صغيرة تحتوى على الكثير من الرزم المطبوعة، ثم دفعها أمامه ليغلق الباب خلفه، بينما هتفت به همسا بغضب
(كيف تعاملني بتلك الطريقة أمامهم؟، سيظنون الآن أنك أحضرتني الى هنا كي توبخني و)
لم تستطع متابعة كلامها، لأنه كان قد أحاط خصرها بذراعيها، ليقبلها، برفق!
لم تتخيل أبدا أن يقبلها خارج البيت. و خاصة في مكان عمله.

لم تتخيل أيضا أن يقبلها من الأساس، بل تخيلت أنه سيصب جام غضبه عليها...
لم تتخيل أن يقبلها بمثل هذا اللين الذي أوشك على اذابة عظامها...
كانت قبلة غريبة، بطيئة و حنونة و مشتاقة، جعلتها تتعطش للمزيد، أكثر من قبلاته العنيفة التي تعرفها جيدا، فاستسلمت لها بنهم و هي تمسك بساعديه المحيطين بخصرها كي تدعم نفسها فلا تسقط أرضا...

مرت بهما دقائق طويلة، أو ثوان، لا تعرف تحديدا، الى أن رفع قاص وجهه المحمر اليها، ليهمس بخفوت ذاهل
(اشتقت اليك!)
كانت لا تزل تتنفس بضعف، قبل أن تهمس بصعوبة و اختناق
(و لماذا تبدو مذهولا الى تلك الدرجة؟، هل الإشتياق إلى أمر صعب حدوثه الى تلك الدرجة؟)
انعقد حاجبيه بشدة وهو ينظر اليها، يتأكد من وجودها قبل أن يهمس أخيرا.

(حين أكون مشغولا طوال اليوم، أعاني من عدم التركيز في عملي و اي شيء آخر لأنك تحتلين كل تفكيري و في هذه اللحظة تحديدا كنت أفكر بك و أتمنى لو أراك أمامي لأشبعك تقبيلا فأشبع جوعي لك، فأرفع وجههي لأجدك أمامي دون سابق انذار و كأنني تمنيت أمنية فتحققت بمعجزة، حينها يصبح الإشتياق أمرا صعبا تصديق طاقته الى حد الجنون)
ابتسمت تيماء و هي تنظر اليه بشوق مماثل قبل أن تقول بصوت أجش هامس.

(و أنا أيضا اشتقت اليك، فلم أستطع الا أن أحمل نفسي و آتي اليك على جناح السرعة)
زفر قاصي بقوة وهو ينظر اليها متجهما، ثم قال بخشونة
(حسابنا لن يكون هنا، حسابنا سيكون في البيت، و سأعمل جاهدا على تعليمك عدم المجازفة بسلامة طفلك مجددا)
رفعت تيماء يدها تلامس فكه و هي تهمس بعذوبة قبل أن ترتفع على أطراف أصابعها لتقبل هذا الذقن المتصلب
(طفلي بخير، أنا من هي ليست بخير بعيدا عن والده).

لم يخف تجهم قاصي وهو ينظر اليها بغضب قبل أن يخفض رأسها اليها ليختطف من شفتيها قبلة أخرى أشد نهما، ثم ابتعد عنها يقول آمرا بصرامة
(امنحيني خمس دقائق و ابقي مع عمرو الى أن أجهز نفسي و أبدل ملابسي)
ابتسمت تيماء و هي تقول بهدوء
(لن أذهب الى أي مكان)
ظل قاصي على تجهمه قبل أن يقول بفظاظة
(هذه الوداعة لن تفيدك حين نصل)
هزت تيماء كتفيها و هي تقول بمكر
(قد لا أكون بنفس الوداعة حين نصل).

لمعت عينا قاصي ببريق مشتعل قبل أن يقول بخفوت
(هذا يعد بالكثير، و كل شوق لرؤية مخالب قطتي الصغيرة)
دفعته تيماء عنها برفق و هي تقول مبتسمة
(لنترك هذا لوقته و نخرج من هنا أولا، فمنظرنا أصبح سيئا للغاية و على الأرجح قد تركت انطباعا سيئا الآن لدى زملائك في اول مرة يرونني بها)
فتحت الباب ثم استدارت اليه قائلة بهدوء
(لا تتأخر، لأننا سنعيد عمرو الى أمه قبل أن نتجه الى شقتك).

برقت عينا قاصي أكثر و أكثر، وهو غير مصدقا بعد الى أن تيمائه الليلة ستكون له و بين ذراعيه بعد ثلاثة أيام من الشوق المضني لها...

قالت تيماء برقة و هي تجلس بجوار عمرو على كرسي مرتفع
(اشتقت اليك جدا يا عمرو، تبدو و كأنك قد كبرت قليلا في هذه الفترة)
قال عمرو وهو يؤرجح ساقيه
(و أنا أيضا اشتقت اليك جدا يا تيما، كنت ألح على أبي كل يوم كي يأخذني اليك، )
قالت تيماء و هي تشعث نعومة شعره بأصابعها
(ها قد أتيت اليك بنفسي، اخبرني عن احوالك و عن المدرسة)
قال عمرو بقنوط
(لقد تغيبت عن المدرسة ثلاث أيام)
ارتفع حاجبي تيماء بدهشة قبل ان تقول.

(ثلاثة أيام كاملة؟، لماذا، هل أنت مريض؟)
قال عمرو متجهما
(بل أمي هي من كانت مريضة)
انعقد حاجبي تيماء قليلا باهتمام قبل ان تقول له بخفوت
(مما كانت تعاني؟)
رد عمرو بخفوت
(كانت تبكي كل ليلة و تصر أن تضمني اليها طوال الليل حتى تنام، و في الصباح تبكي مجددا و تتوسل الى أبي كي يبقيني معها يوما آخر، الا أن أبي اليوم تشاجر معها صباحا و أخبرها أنني يجب أن أذهب للمدرسة في الغد و اليوم اصطحبني معها رغم ممانعتها).

بدت تيماء مهتمة جدا، ثم مالت اليه مكتفة ذراعيها فوق الطاولة أمامهما، لتقول بخفوت
(الا تعلم لماذا تبكي والدتك هكذا؟، و مما هي خائفة)
قال عمرو بقلق
(منذ أن أتى الرجل الى منزلنا و هي مرعوبة)
ازداد انعقاد حاجبي تيماء لتقول بخفوت
(اي رجل؟)
شهق عمرو وهو يزم شفتيه و كأنه تذكر شيء ما، فقالت تيماء بلطف
(عمرو، هل تخفي عني شيئا؟، هيا أخبرني و الا لن آتي الى هنا مطلقا)
قال عمرو بقلق
(ستغضب أمي، هذا سر بيني و بينها).

ازدادت تيما اقترابا منه و همست له،
(أعدك الا أخبر أحدا، هيا أخبرني عن أي رجل تتحدث؟)
اقترب منها عمرو و همس في اذنها
(زارنا رجل غريب في بيتنا و جعل أمي تبكي بشدة، و قد خافت منه جدا)
عبست تيماء و هي تنظر الى عمرو بقلق، ثم قالت بخفوت
(هل أنت متأكد من أنه قد دخل الى البيت، أم من أمام الباب فقط؟)
همس لها عمرو.

(دخل الى البيت و طلبت مني أمي أن أدخل الى غرفتي، لكنني وقفت انظر اليهما من شق الباب، كانا يتشاجران بصوت خافت، لم أسمع ما قالاه)
سألته تيماء بخوف
(الا تعرفه من قبل؟، أو هل ذكر اسمه على الأقل؟)
قال عمرو بخفوت
(بلى، اسمه راجح)
اتسعت عينا تيماء بذهول و صدمة قبل أن تهمس
(هل أنت واثق؟)
أومأ عمرو برأسه دون أن يتكلم، بينما كانت تيماء تفكر في تلك القصة الغريبة، لكنها مالت الى عمرو مجددا و همست.

(هل أنت متأكد من أنه لم يمس والدتك بأي سوء؟)
رد عليها عمرو قائلا
(كانا يتشاجران، لكن حين خرجت من باب غرفتي لأراقبهما وجدته يعانقها)
شهقت تيماء بصوت عال و هي تغطي فمها بكفها بينما هتف عمرو بخوف
(ما الأمر؟)
رمشت تيماء بعينيها و هي تحاول السيطرة على صدمتها، قبل أن تهمس له بارتجاف
(لا شيء حبيبي، لم أقصد أن أخيفك)
نظرت اليه بصمت طويلا قبل أن تهمس له محذرة.

(عمرو، هذا سر بالفعل، لا تخبر به احد، خاصة، موضوع ال، العناق هذا)
قال عمر بثقة و براءة
(لن أخبر أحدا)
أومأت تيماء بعدمل ثقة، بينما أخذت تفكر في الأمر بذهول.

هل يعقل أن يكون هو نفسه راجح بالفعل؟، و من يكون غيره، خاصة مع موضوع العناق هذا! لكن لماذا تكتمت الأمر عن قاصي، لماذا لم تطلب منه ابعاده؟، هذا ان كانت تريد ابعاده من الأساس، و لا تكون قد ضعفت أمامه من جديد! لكن هل نسيت أنها زوجة قاصي و عليها أن تحفظ اسمه حتى لو كانت زوجته بالإسم فقط،
غضت تيماء وجنتها الشاحبة بكفها، قبل أن تهمس بقلق
أي تعقيد هذا!

فتح قاصي باب شقته القديمة، ثم اشار اليها مبتسما، متجهما في نفس الوقت، و الوعد الخبيث في عينيه...
(ادخلي)
دخلت تيماء و هي تتأمل المكان بصمت، متذكرة أول ليلتين من زواجهما، كانت الذكرى الأشد قسوة و صدمة في حياتها كلها، فاقت حتى الذكرى الأولى و اقتحام والدها لنفس الشقة و اختطافها منها بعد ضربها...
أغلق قاصي الباب خلفه، فاستدارت اليه لتقول بهدوء
(أريد الكلام معك في أمر هام).

اختفت الإبتسامة عن شفتي قاصي و أسرع الخطا اليها وهو يهمس بشوق جدي
(و أنا أيضا)
فتحت تيماء فمها لتمنعه عما ينتويه الا أنه عاد و أغلقه لها بكل قوة وهو يدفعها كي تتراجع الى غرفتهما، أو التي كانت غرفتهما...
كانت تحاول جاهدة الكلام لكنها كانت واقعة تحت ضغط قوته و شوقه، الى أن شعرت بنفسها تسقط جالسة على الفراش من خلفها،
كان مشتاقا اليها كشوقها اليه، يحترق بنارها كاحتراقها بناره...

بينما أصابعه تتعامل بعصبية مع وشاحها و أزرار قميصها، و ما أن مال اليها ليقبلها مجددا حتى رفعت كفها كحاجز بين شفاههما، رفع قاصي وجهه المتجهم اليها ليهمس بنفاذ صبر
(ما الأمر؟)
قالت تيماء بهدوء
(أخبرتك أنني أريدك في أمر هام)
قال قاصي باستياء
(الا يمكن تأجيله قليلا؟).

نهضت تيماء واقفة ما أن تراخت قبضتاه عنها، بينما بقى قاصي مكانه نصف مستلقيا، مستندا الى مرفقه وهو يراقبها تعيد تزرير قميصها ببساطة، ثم استدارت اليه، لتقول باتزان
(لقد منحتني فرصة كبيرة في التفكير خلال الثلاث أيام الماضية يا قاصي، فكرت طويلا ووصلت الى قرار)
ارتفع حاجبي قاصي دون تعبير معين على قناع وجهه الصلب، ثم قال بفتور
(أي قرار)
رفعت تيماء وجهها و قالت.

(حين تزوجتني، لم تخبرني أنك متزوج بالفعل، لم تمنحني فرصة القبول أو الرفض، و مضى بنا الحال و أنا واقعة تحت ذنب الإعتراض، كي لا أتسبب في الأذى لابنك)
اطرقت بوجهها قليلا، ثم قالت
(لكن بعد تفكير عميق، وجدت أنه لا سبب يجعلني أتحمل هذه الحياة)
تسمر قاصي مكانه و لمعت عيناه ببريق مرعب خطير، الا أن تيماء لم تخف، و لم تتراجع و هي ترفع وجهها اليه لتقول بهدوء.

(لقد قدمت لك الكثير من التنازلات سابقا يا قاصي، تنازلت عن دراسة الطب، تنازلت عن عائلتي، تنازلت عن مال أبي، تنازلت عن منحتي، و أنا لست نادمة، لأنك عندي أهم من كل ما تنازلت عنه، لكن آن الأوان كي تتنازل أنت كي تصح علاقتنا، خاصة و أننا ننتظر طفلا على الطريق، اثبت لي مرة واحدة أنك جاد في هذه العلاقة، و أنني لست الوحيدة التي تحارب لأجل انجاحها).

كان قاصي في تلك اللحظة مخيفا بحق، النظر اليه قد يوقف الكلمات و يجمدها، الا أنها شعرت بهدوء غريب و هي تتابع قائلة.

(أنا أرفض أن تكون لي شريكة بك، تشاركني أيامك، أوقاتك، حياتك، متعللا بأنك لا تشاركها فراشها، لذا و اختصارا لكل ما فات، عليك أن تختار، إما أن تطلق ريماس، أو تطلقني، و عليك أن تعرف بأن عمرو سيظل ابنك دائما و مرحب به في أي وقت، حتى لو سمحت أمه باقامته عندنا اقامة كاملة، لن أعترض، لكن استمرار زواجك بها أمر منتهى بالنسبة لي).

ساد صمت مشحون، وكلا منهما ينظر الى الآخر، قبل أن ينهض قاصي من مكانه ببطىء شديد و عيناه على عينيها...
الا أنها لم تهرب، بل قالت بهدوء أكبر
(و أقسم بالله، لو حاولت استخدام العنف معي مجددا فسوف أصرخ و أجمع سكان البناية جميعهم، بمن فيهم السيدة امتثال، لتعرف أنك زوجي، لا خالي، و حينها سأطلب مساعدة أبي و أعمامي)
تسمر قاصي مكانه وهو ينظر اليها ذاهلا، بينما انحنت لتلتقط وشاحها و هي تقول بخفوت.

(أنا سأخرج من هذا الباب، ولو حاولت منعي بالقوة فسوف تكون قد قضيت على المتبقي من حكايتنا يا قاصي)
لفت وشاحها كيفما اتفق حول رأسها، بينما تكلم قاصي أخيرا بصوت غريب جدا
(هل تتخيلين أن اتركك ترحلين و أنت تحملين ابني؟)
استدارت اليه و فتحت ذراعيها لتقول بهدوء
(امنعني، هيا امنعني بالقوة، و من يدري ربما أجهضت و حينئذ سأكون قد تخلصت من الرابط المتبقي بيننا)
استدارت لتغادر، الا أن صوت قاصي قصف من خلفها بعنف.

(هل الطفل هو كل ما يربط بيننا يا تيماء؟)
ظلت تيماء واقفة مكانها دون أن تستدير اليه، ثم قالت أخيرا بجمود
(للأسف، وصلت الى هذه القناعة ذات صباح و أنا أعاني من غثيان الحمل وحيدة، بينما أنت تقيم مع زوجتك و ابنك)
عبس قاصي بشدة وهو يقول مجفلا
(كيف عرفت؟)
ضحكت بسخرية و هي تقول بخفوت.

(كنت في زيارة لها، و عرفت منها كل التفاصيل التي أريد، بدئا من كلامكما سويا عني، و حتى اقامتك معها، لأنها تعاني من نوبة خوف أو دوار أو لا أعرف مما تعاني بالضبط)
قال قاصي بقوة
(تيماء، أنت تخطئين فهم الأمر)
استدارت اليه و قالت ببرود
(بل الآن فقط استوعبت الكثير من الأمور، أنا لست ناقمة عليك يا قاصي، بدليل أنني أتيت كي أمد لك يدي للمرة الأخيرة، إما أنا أو هي، و إن اخترتني، لن يفرقنا مخلوق بعد الآن).

قال قاصي بصوت قاطع
(و إن رفضت؟)
شعرت تيماء بطعنة نافذة في صدرها، الا أنها قالت مبتسمة برقة، تداري بها الألم
(حقك، و حقي أن أسافر للأبد، دون أن تمتلك حق منعي، لأنني سأكون قد حصلت على الطلاق منك).

خرجت مسك مندفعة من غرفة الإجتماعات و هي لا تكاد تبصر ما أمامها من شدة الغضب و الإحساس بالظلم، لم تنتظر حتى لحين انتهاء الإجتماع، بل لملمت أوراقها و خرجت مندفعة أمامهم جميعا...
و أمام والدها على الأخص و الذي كان يترأس الإجتماع بعد عودته من سفرته...
كانت تضرب الأرض بقدميها، و كل ما ترغبه هو الإبتعاد عن هنا...
سمعت صوته يهتف من خلفها و وهو يكاد أن يلحقها جريا متجاوزا الموظفين كي لا يصطدم بهم.

(مسك، مسك، انتظري)
الا أنها لم ترغب في سماع صوته، و لم ترغب أيضا في رؤية وجهه...
دخلت مكتبها و قبل أن تغلق الباب خلفها كان أمجد قد ضربه بكتفه كي يفتحه، أشارت مسك باصبعها قائلة بنبرة آمرة وقحة
(أخرج من مكتبي حالا)
الا انه دخل و اغلق الباب ليكتف ذراعيه قائلا بتوتر
(أنت تتصرفين بحماقة، تعقلي و اهدأي، كان عليك سماع أسباب اختيارهم على الأقل قبل الانصراف بهذا الشكل الطفولي)
هتفت مسك بقوة و قهر.

(من السهل عليك قول هذا بعد ان تم اختيارك لرئاسة المشروع الذي عكفت ليال طويلة على دراسته، بينما لم تفعل انت شيء سوى اللحاق بي من مكتب لآخر)
قال أمجد بصرامة
(أخبرتك من قبل أنني لا أطمح مطلقا الى رئاسة هذا المشروع تحديدا، فلدي من العمل ما يكفيني)
قالت مسك بقوة و تهور
(بدليل اختيارك، هذا جو غير منصف مطلقا، أنت لم تنال رئاسة المشروع بنزاهة)
هدر بها أمجد بقوة كي يوقفها.

(الإختيار كان من والدك في الأساس، هو من استبعدك)
زمت شفتيها و هي تتنفس بقوة و قد احمر وجهها حتى شعر بالتعاطف معها فقال بهدوء
(اهدئي قليلا حبيبتي، كي نفكر في الامر، اتفقنا؟)
ساد الصمت بينهما لفترة، قبل أن تقول رافعة حاجبيها
(هل قلت حبيبتي للتو؟)
انعقد حاجبي أمجد بشدة و ارتبكت ملامحه وهو يقول بذهول
(ماذا؟، بالطبع لا)
قالت مسك ببرود
(بلى قلت، يستحيل أن تخدعني أذني الى تلك الدرجة).

ازداد انعقاد حاجبيه قبل أن يقول بخفوت
(مسك، أنا)
الا أنه صمت فجأة ما أن فتح الباب من خلفه ليدخل سالم الرافعي ناظرا اليهما قبل ان يقول بهدوء
(هلا تركتنا قليلا يا أمجد من فضلك)
استدارت مسك ناظرة من النافذة باستياء، بينما قال أمجد على مضض وهو ينظر اليها بقلق
(بالطبع)
خرج أمجد مغلقا الباب خلفه، بينما بقى سالم مكانه ينظر الى مسك، ثم قال أخيرا بهدوء.

(لقد أحرجت نفسك و أحرجتني معك أمام الجميع بتصرفك اللامسؤول هذا)
استدارت مسك اليه لتقول بصوت ناري مكتوم
(لقد كان اختيارك، لماذا قمت باستبعادي دون وجه حق؟)
رد سالم بتوتر
(اختيارك لم يكن فرضا أو أمرا مسلما به يا مسك، عليك أن تنزلي من عليائك قليلا)
هتفت مسك بقوة
(أنا لست مدللة أو تافهة كي أغضب حين أخسر شيئا، لكنني أكره المحسوبية و المحاباة، كان عليكم الإشارة الى هذا قبل أن أبذل كل هذا الجهد).

هتف سالم هو الآخر
(تهذبي يا فتاة، أنت تكلمين والدك)
قالت مسك بحسم و اصرار
(حسنا يا والدي، أنا أعتذر، لكن من حقي معرفة سبب استبعادي و اختيار أمجد)
صمت سالم قليلا وهو ينظر أرضا بملامح متجهمة، بينما مسك تراقبه بدم يغلي في عروقها...
الى أن رفع وجهه أخيرا و قال بهدوء
(أنا من استبعدك فعلا يا مسك، لأنك لن تتابعي العمل معنا في الشركة، )
بهتت ملامح مسك و هزت رأسها قليلا كي تستوعب ما قاله للتو، فهمست.

(هل فهمت ما سمعته بطريقة صحيحة؟، هل سيتم الاستغناء عني؟، لكن لماذا؟، ماذا فعلت؟)
نظر اليها سالم ليقول بخفوت
(لم تفعلي شيئا يا مسك، بل على العكس أنت تملكين قدرات اكبر من هذا المكان لذا قررت أن تعودي للعمل في الخارج، هذا سيناسبك أكثر)
كانت مسك تنظر الى والدها و كأنها تنظر الى شخص غريب، الا أنها قالت بفتور كي ترى نهاية الموضوع
(أنا لا أريد العودة، أنا راضية بعملي هنا)
زفر سالم بقوة قبل أن يقول بصوت قاتم.

(باختصار، لقد أغضبت أعمامك بشدة، و جرت عدة جلسات للصلح بيننا، انتهت باعتذار علني مني أمام الجميع ووعد مني بأن تتركي عملك)
فغرت مسك شفتيها بذهول قبل أن تهمس
(قرروا معاقبتي؟)
هتف سالم بغضب
(يا ابنتي لقد تعبت جدا في الفترة الاخيرة بسبب فعلتك على الملأ، أنت من تسبب في كل هذا و هذا أنسب حل وصلنا اليه، علما بأنهم لا يعلمون بنيتي في السماح لك بالسفر و العمل في الخارج).

عاد الصمت بينهما طويلا قاتلا، قبل ان تهتف مسك فجأة بعنف و قهر
(حين اختار اشرف زوجة غيري، و طلقني في أحلك أوقات حياتي لم يتحرك أي منكم لمعاقبته، و الآن تعاقبونني لتجرأي على رفض زاهر على الملأ؟)
قال سالم بنفاذ صبر
(يا مسك افهميني، لقد نالوا ما يريدون و ظنوا بانهم قد نجحوا في عقابك، بينما انت ستبدأين في مرحلة جديدة من حياتك أكثر عملية و تطورا، فلماذا الغضب؟).

أظلمت عينا مسك و هي تنظر اليه بصمت رهيب، بينما هو يتهرب من عينيها بعينيه، الى أن قالت أخيرا بمنتهى الهدوء و هي ترفع ذقنها
(لا بأس يا أبي، أنا التي لا ترغب في العمل هنا، لكن اسمح لي أنا لن أسافر، دعهم يحققون عقابهم كاملا، و أنا أكثر من قادرة على بدء طريقي من جديد و بنفسي، و لأرى من يستطيع أن يسرقه مني)
ثم استدارت بعيدا عنه و هي تكتف ذراعيها، الى أن قال سالم أخيرا بخفوت.

(سنتابع حديثنا لاحقا، حين تكوني قد هدأت قليلا)
لم ترد مسك الى ان سمعته يفتح الباب و يخرج...
حينها فقط ضحكت، ضحكت عاليا حتى دمعت عيناها بشدة، و استمر ضحكها و دموعها، الى أن سمعت صوت أمجد يقول من خلفها بقلق
(مسك، هل أنت بخير؟)
استدارت اليه مسك و هي تمسح الدموع عن وجهها قائلة من بين ضحكاتها المتبقية
(عفوا، لقد اضحكني شيئا، حتى دمعت عيناي)
اقترب منها أمجد دون أن يرفع عينيه عن عينيها ليقول باهتمام.

(ما الذي دار بينك و بين والدك؟)
ارتفع حاجبيها و هي تقول بسخرية
(أنت حقا فضولي بشكل غريب)
عقد أمجد حاجبيه وهو يرد عليها بغلظة،
(توقفي عن التلاعب بالألفاظ يا مسك، أخبريني)
ابتسمت مسك بأناقة و هي تقول
(حسنا، لا مانع لدي من اخبارك، قريبا جدا ستنتهي من فظاظتي و غروري و تعاملي السيء مع باقي الموظفين)
لمع القلق في عيني امجد وهو يقول متوترا
(كيف؟، تكلمي مباشرة بالله عليك)
رفعت مسك كتفيها بلامبالاة و قالت ساخرة...

(في جلسات الصلح لدينا في البلد، تم الاتفاق بين والدي و أعمامي على معاقبتي بسبب ما فعلته في حق ابنهم زاهر على الملا، و استقر بهم الرأي بإرغامي على ترك العمل، و السفر للخارج)
هتف أمجد فجأة بذهول غاضب شرس
(على جثتي)
ابتسمت مسك و هي تقول
(هذا هو ما حدث، و سرعان ما ستجد من يحتل هذا المكتب غيري)
اقترب منها امجد، ليقف امامها قائلا بعنف وهو يتنفس بسرعة
(لن أسمح بهذا، مطلقا)
قالت مسك بلطف.

(للأسف القرار سيكون أعلى منك، لكن أشكر لك مشاعرك)
نظر كلا منهما الى الآخر بنظرات غريبة، تحمل الكثير الى أن قال أمجد ببصوت حار
(تزوجيني)
اختفت الابتسامة عن شفتي مسك و هي تنظر اليه بصمت، ثم قالت بخفوت
(الا زلت مصمما؟)
هتف أمجد هامسا...
(أكثر من أي وقت مضى)
أطرقت مسك بوجهها و هي تفكر طويلا بينما هو ينظر اليها نظرة يائسة عنيفة، الى أن نظرت اليه أخيرا و قالت بهدوء
(حسنا لا بأس، أنا أقبل).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة