قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والعشرون

(حسنا لا بأس، أنا أقبل)
للحظات و بعد أن نطقت عبارتها الهادئة المتزنة دون انفعال يذكر، وقف أمجد ينظر اليها، عاقدا حاجبيه بسبب غضبه على أبيها و قراراته الظالمة، حتى أنه لم يدرك على الفور معنى ما نطقت به.
الى ان بدأت عيناه تتسعان قليلا، وهو يستوعب ما سمعه، قبل ان يقول بخفوت مضطرب
(عفوا! ماذا قلت للتو؟)
ارتفع حاجب مسك بسخرية و هي تقول
(أراك قد تأثرت بطريقة كلامي و استعرت الكلمة التي كنت تكرهها).

برقت عينا أمجد باضطراب أكبر وهو يقول منفعلا
(توقفي عن سخريتك المقيتة الآن حالا، و أعيدي ما قلته!)
ابتسمت مسك بأناقة و هي تتجاوزه لتسير معتدلة لتتجه الى مكتبها و تجلس ببساطة بينما هو واقفا مكانه منفعلا لا يدري إن كان قد سمع موافقتها للتو أم أنه يتوهم...
أما هي فقط اهتمت بتجميع بعض أوراقها، ثم قالت بهدوء دون أن تنظر اليه
(لقد قلت ما سمعته للتو، لقد قبلت عرضك للزواج شاكرة، إن كنت لا تزال مهتما بالأمر).

كانت تتكلم، كمن يتكلم عن عرض بيع تذكرة مسرح زائدة عن الحاجة، لا عرض زواج، طال به الصبر الى ان واقفت عليه أخيرا...
وقف أمجد ينظر اليها طويلا و هي تجلس خلف مكتبها، تنظر الى أوراق المشروع التي عكفت على تحضيرها طويلا، كانت ملامحها هادئة دون تعبيرات، الا أن بعض الحسرة كانت ظاهرة في عينيها...
في تلك اللحظة شعر بشعور غريب، شعور مناقض للسعادة التي كان من المفترض أن يشعر بها لقبولها عرضه أخيرا...

شعر بالغضب عليها، غضب عنيف ازاء جرأتها على التفكير في المشروع في تلك اللحظة التي سرقت كيانه كله و قلبته رأسا على عقب، و جعلته فاقدا للقدرة على الكلام، كما هو حاليا...

لذا و ما أن بدأ يستوعب الأمر كله دفعة واحدة، حتى اندفع اليها بكل قوته الى ان وصل الى حافة مكتبها، و بحركة خاطفة، اختطف ملف الأوراق من بين أصابعه، ليقذفه بعيدا بكل قوته، حتى تطايرت الأوراق منه في سماء المكتب قبل أن تتساقط أرضا على بعد، بينما مسك تنظر الى ما حدث بذهول، قبل ان تعيد عينيها غاضبتين عنيفتين الى عيني أمجد و هي تهتف بغضب
(هل جننت؟، ما الذي).

الا أن أمجد انحنى مستندا الى سطح المكتب بكفيه حتى اصبح وجهه قريبا من وجهها المشتعل و قاطعها بنبرة صارمة
(اصمتي)
برقت عيناها، بانفعال رافض لتسلطه، الا أنها آثرت الصمت و هي تواجه عينيه غريبتي المشاعر في تلك اللحظة، و ما أن كتفت ذراعيها و جلست صامتة منتظرة و متظاهرة بالملل، حتى قال أمجد بهدوء صارم، آمر
(هل وافقت للتو على الزواج بي؟)
رفعت مسك ذقنها تنظر اليه بهدوء، ثم قالت ببساطة.

(هذا ما يبدو، لكن ان كنت تشعر بالتردد بعد أن وجدت نفسك تنزلق الى حافة الجد، فيمكنك التراجع في أية لحظة، لا تخف)
ساد الصمت بينهما، لعدة لحظات، لم تستطع فيها قراءة نظرات عينيه قبل أن يقول أخيرا بخفوت دون أن يتحرك من مكانه...
(لقد واقفت)
اضطربت مسك قليلا أمام تلك النبرة الدافئة بشكل غريب، و غير مرغوب فيه، لكنها قالت ببساطة
(نعم، على ما يبدو).

كانت عيناه تتحركان على ملامح وجهها و كأنه يراها من منظور آخر، بينما كانت هي الأخرى تختلس النظر اليه بحذر...
كان يتأملها كما لم يفعل من قبل، و رأت زاويتي شفتيه ترتفعان قليلا ببطىء، هل هذه ابتسامة؟
زفرت مسك و هي تقول محاولة الخروج من تلك الدائرة التي أحاطت بهما فجأة
(حسنا، و بما أننا قد اتفقنا على الموافقة المبدأية، يمكنك الآن العودة الى مكتبك، و سوف نتابع الكلام في التفاصيل لاحقا).

ارتفع احد حاجبي أمجد، و مالت ابتسامته قليلا قبل أن يهمس بصوت أجش خافت، مداعب بشكل يثير الرجفة في العمود الفقري،
(ربما تودين لو قدمت طلبي كتابيا، مع طابع دمغة، لتتم الموافقة عليه رسميا!)
نظرت اليه مسك لتقول ببرود
(ليس هذا وقت سخرية، لو كنت تتحلى ببعض الذوق لأدركت ذلك)
ارتفع حاجبه الآخر وهو يقول بنفس الخفوت
(أتحلى ببعض الذوق؟، هل تتكلمين عني؟ أم تتكلمين عن نفسك يا متحجرة المشاعر، يا صخرة).

لمعت عيناها بحدة و هي تقول
(أمجد، لا يحق لك اهانتي)
ابتسم فجأة بحنان، وهو يتأمل حدتها و لمعان عينيها قبل ان يقول
(لم أكن أهينك، بل كنت أصفك، فأنت صخرة و هذا يثير اعجابي، لكنك تفتقرين الى الذوق و اللياقة، على الأقل ابتسمي و انت تنقلين لي خبر موافقتك بعد طول انتظار)
زفرت مسك بنفاذ صبر و هي تقول بفظاظة، رغم الارتباك في داخلها و الذي اخفته بمهارة
(لو لم تكن قد لاحظت، لقد خسرت عملي للتو).

انعقد حاجبي أمجد و هو يقول بجدية
(و ربحت زوج، يريدك، و يتمناك، و يقسم على ان يجعلك سعيدة المتبقي من عمره)
فتحت مسك فمها تنوي الكلام بحدة، الا ان الكلمات وقفت على حافة شفتيها، و ظهر ترددها و ارتباكها للحظة، قبل ان تستجمع شتات نفسها ثم رفعت وجهها لتقول بهدوء
(أشكرك على نبل كلماتك، لكن المكان غير مناسب لهذا الحوار).

ضغط أمجد على شفتيه وهو يحاول السيطرة على جموح رغبته في، ضربها بأقرب ملف أوراق، على رأسها علها تستشعر بعضا من تلك السعادة الغير متوقعة و التي انتشرت داخله جراء موافقتها الباردة...
تلك الباردة، متحجرة القلب...
لكنه لن يسمح لغضبه بأن يؤثر على تلك النشوى المتوهجة بداخله...
حتى مسك الرافعي نفسها لن تفلح في افساد تلك اللحظة عليه، لذا همس لها آمرا
(ابتسمي)
تأففت مسك و هي تقول متذمرة بخفوت
(كفى عبثا).

الا أن أمجد قال مكررا بنبرة أكثر تسلطا
(ابتسمي)
أبعدت وجهها عن مجال عينيه وهي تقول باستياء
(أمجد، لو دخل احد الى المكتب و انت في هذا الوضع الغير لائق سيظن)
ابتسم امجد وهو يلاحقها بنظراته من جانب لآخر
(ماذا سيظن؟)
تأففت مجددا لا تجد ما ترد به، ثم قالت أخيرا بعصبية
(سيظن أن شيئا غير لائقا يحدث)
اتسعت ابتسامته و برقت عيناه أكثر بينما زفرت هي مرة أخرى، قبل ان يقول بخفوت.

(لا تقلقي، لقد أرهبت الجميع هنا، فلن يجرؤ أحدهم على الدخول الى مكتبك دون طرق الباب، ابتسمي يا مسك)
رفعت مسك عينيها اليه يائسة، ثم قالت اخيرا بهدوء ساخر
(لا أصدق رد فعلك على موافقتي! ألم تخطب من قبل!)
هز رأسه نفيا ببطىء دون أن يفقد ابتسامته الحانية، أو بريق النصر في عينيه وهو يقول
(لا، لم يحدث، لم أخطب من قبل، لذا اعذري سعادتي العاطفية الساذجة)
رفعت مسك ذقنها و قالت بهدوء.

(لكن أنا سبق و خطبت من قبل، مرتين، و واحدة منهما كانت عقد قران)
طارت الابتسامة من شفتي أمجد، الا انه لم يتحرك من مكانه، بل حاصر عينيها بنظرة جدية، ثم قال بصوت خافت، مجفل من بأسه
(أصمتي)
الا أن مسك استقامت و هي تفرد ظهرها بتحدي قائلة باصرار
(لا لن أصمت يا أمجد، عليك أن تتعامل مع هذا الوضع و تؤكد لي أنك لن تستغله ضدي في أي يوم بنوازعك الشرقية الذكورية)
ساد الصمت بينهما قبل يقول أمجد أخيرا بجمود.

(أستطيع التعامل مع الوضع بمهارة، دون الحاجة الى تذكيري به في لحظة تعد من اهم لحظاتنا معا، و التي سنتذكرها طويلا فيما بعد)
شعرت بالحرج من تهذيبه، تبا لهذا التهذيب المثالي، لا يحق لرجل أن يتظاهر بالمثالية مطلقا...
لعل اكثر ما تبغضه في أمجد الحسيني هذا الجو المحيط به من المثالية، و التي تعلم جيدا انها مجرد مظهر، فلا رجل يتمتع بها مطلقا...

قالت مسك اخيرا و هي تتظاهر بترتيب أوراقها، أو على الأقل المتبقي منها...
(عامة كما سبق و قلت، المكان غير مناسب للكلام في موضوع خاص، هلا استقمت رجاءا، فأنا لا أشعر بالراحة و انت تنحني على المكتب بهذا الشكل)
قال أمجد بهدوء
(أنا أحاول منذ لحظات صدقيني، لكن عمودي الفقري قد تشنج على ما يبدو من طول فترة الإنحناء).

نظرت اليه مسك بعينين واسعتين، قبل أن تفلت ضحكة قصيرة من بين شفتيها و هي تهز رأسها يأسا، رافعة يدها تغطي فمها الضاحك...
بينما كان أمجد يتأملها مفتونا بضحكتها النادرة، الى أن قال أخيرا بخفوت
(ها قد ابتسمت أخيرا، اللهم لك الحمد، علينا تسجيل تلك اللحظة النادرة، كي نستخدمها كدليل على قدرتك على الابتسام ذات يوم)
زمت مسك شفتيها و هي ترتب أوراقها تنفضها على سطح المكتب قائلة.

(حسنا، و بما أنك قد نلت ما تريد، هلا تركتني الى عملي الآن، و سنتابع حوارنا لاحقا)
قال امجد بهدوء وهو ينظر الى الأوراق التي ترتبها
(لقد رتبت الأوراق للمرة العاشرة على الأقل، حتى قاربت على الإستغاثة، هل هذا يعني أن تأثيري فيك كبير الى هذا الحد؟)
أشارت مسك باصبعها و ذراعها المفرود الى الباب قائلة
(أخرج يا أمجد، الآن)
عقد أمجد حاجبيه و قال مستنكرا
(أتطردين خطيبك؟)
قالت مسك بصرامة و بلا تردد
(نعم).

ابتسم أمجد بجذل، فتوترت مسك و هزت رأسها بسرعة قائلة بعصبية
(لا، أقصد لست خطيبي بعد، إنه مجرد قبول مبدئي)
استقام أمجد متأوها وهو يضع يده خلف ظهرهه، فرفعت مسك حاجبها و هي تقول بشك
(هل أنت بخير؟)
نظر اليها بخبث قائلا
(هل أشم رائحة قلق علي؟، أم أنك تشككين في قدرتي كزوج مستقبلي؟)
احتدت نظراتها و هي تهتف بحدة
(احترم نفسك، و توقف عن قلة الأدب)
قال أمجد ببراءة.

(قدرتي كزوج في حمل الأغراض الثقيلة من السوق، حمل الأثاث أثناء تنظيفك للأرض)
ارتفع حاجبي مسك و هي تنظر اليه عاجزة عن الرد المناسب، بينما هو ينظر الى السقف متخيلا، مبتسما، هامسا
(ستكونين رائعة و أنت تنظفين الأرض، بجلباب ذو)
هتفت مسك بصرامة
(كفى، أنا أحذرك)
نظر اليها قائلا بجدية وهو يهز رأسه يائسا منها
(أفكارك ملوثة جدا، حاولي تنظيفها قليلا، ليس كل الزواج متمحور حول)
هتفت به مسك بقوة.

(احترم نفسك يا أمجد الحسيني)
ابتسم لها وهو يقول غامزا
(ثلاث مرات احترم نفسك! آه لو كنت حلالي الآن!)
نهضت مسك من مكانها بعنف، الا أنها أغمضت عينيها بألم متبقي في كاحلها المصاب، لكنها فتحتهما و التقطت أنفاسها قائلة بصرامة
(أخرج من المكتب يا سيد أمجد، فمن الواضح أنك غير قادر على السيطرة على نفسك، كان من الخطأ أصلا الجمع بين الحياة الشخصية و المهنية)
نظر اليها أمجد بعطف قبل أن يقول بجدية خالصة هذه المرة.

(أعتقدت أنك ذكرت أن طريقك المهني هنا قد انتهى)
ظهر بعض الالم في عينيها و تخاذلت نظراتها، الا أنها عادت و رفعت وجهها قائلة ببرود
(هل عدت الى محاولة ايلامي من جديد؟، ان كان هذا هو قصدك، فلن ينفعك، لأنني لن اهزم)
رد عليها أمجد بجدية و هدوء دون أن يرف له جفن
(و أنا لا أريد أن أراك مهزومة، بل سأمنعك بالقوة، لو فكرت في الإنهزام، ربما أريد منك البكاء، لكن الإنهزام، لا و ألف لا).

صمتت مسك للحظة، ثم قالت بهدوء جامد
(أشكرك على نبل كلماتك، الا أنني خير قادرة على شد أزري، بنفسي)
هز أمجد رأسه نفيا ببطىء، قبل أن يقول
(لن تكون هناك كلمة بنفسي بعد الآن، بل سنكون معا، في مواجهة أي شيء، أو أي احد)
حاولت مسك الرد، الا أنها لم تستطع، بل ظلت صامتة تماما و هي تواجه عينيه النافذتين، ثم ابتسم لها برفق و قال بهدوء واعد بالسعادة.

(أنت محقة، لن يصلح الكلام هنا، لدي الكثير و الكثير من الكلام لك، بعد أن أصبحت خطيبتي أخيرا)
همست مسك بصوت خافت
(لست)
الا أنه أشار اليها ملوحا يقول
(أراك عند مغادرتك، حين أقلك بنفسي)
رأته يستدير ليغادر، الا أنها نادته فجأة قائلة
(أمجد)
التفت ينظر اليها رافعا حاجبه، مبتسما، و الشغف باديا في عينيه جراء مناداتها باسمه بأريحية...
الا أنها قالت بخفوت هادىء.

(يمكنك الإنسحاب في اي لحظة، سآخذ الأمر بروح رياضية، خذ وقتك و ابدأ التفكير من جديد على مهل)
لم يرف بجفنيه و لم تختف ابتسامته، بل نظر الى عينيها بهدوء قبل ان يقول بثبات
(حين تتعرفين إلى بشكل أعمق، ستعرفين أنني رجل لم يعتد الإنسحاب)
خرج أمجد بعدها مغلقا الباب خلفه، بينما بقت مسك مكانها تنظر الى البعيد و هي تهمس لنفسها
ما بالك تسرعت في القبول! و كأنك كنت تنتظرين الحجة!

أما أمجد فبعد أن أغلق الباب، وقف في الخارج ممسكا بمقبضه و هو يبتسم بسعادة لم يتخيل أن تكون بمثل هذا الوهج الداخلي المذهل...
لم يخدعه احساسه حين قرر أن مسك الرافعي أصبحت شخصا مهما جدا بالنسبة له، و أن مشاعره قد بدأت في التورط معها منذ فترة دون أن يقوى على الإعتراف...

رفع رأسه و أخذ نفسا عميقا، قبل أن يتجه الى مكتبه مبتسما، الا أنه و قبل أن يبتعد وجد سالم الرافعي خارجا من مكتب احد المدراء، فلم يؤخر وقتا، بل اتجه اليه على الفور قائلا بتهذيب
(سيد سالم، هل آخذ من وقتك دقيقة؟)
توقف سالم أمامه مجهد الوجه، و عيناه تتطلعان الى الباب المغلق خلف أمجد، باب مكتب مسك،
الا أنه قال بهدوء
(بالطبع يا أمجد، أنا في عجلة من أمري قليلا، لكن تفضل و تكلم).

أوشك أمجد على الكلام، الا أن سالم قاطعه فجأة قائلا وهو يشير بعينيه الى مكتب مسك
(كيف حالها الآن؟، هل تكلمت معها؟)
نظر أمجد بنظرة جانبية الى باب مكتب مسك قبل أن يعيد عينيه الى سالم قائلا بهدوء وهو ياخذ نفسا حادا
(حالها حال من تعرض لظلم فادح، و هي تستحق معاملة أفضل من هذه)
عقد سالم حاجبيه وهو يقول بخشونة رغم اجهاد عينيه.

(رئاسة المشروع ليست نهاية العالم، لم تعتد مسك أن تكون مدللة، لقد وصلنا للقرار بعد تفكير عميق و لدينا نظرة بعيدة للأمور)
قال أمجد فجأة بنبرة قاسية قليلا
(و هل النظرة البعيدة، تصل الى قرار صرفها من العمل دون وجه حق رغم كفائتها!)
اتسعت عينا سالم بدهشة قبل أن ينعقد حاجبيه بشدة قائلا بذهول غاضب
(هل أخبرتك؟)
قال أمجد دون أن يرف له جفن.

(أرجو الا يغضبك تدخلي في أمر خاص، لكن أمر مسك يهمني و هي كانت في حاجة الى من تتكلم معه)
ضاقت عينا سالم بحدة وهو ينظر الى أمجد بنظرة غامضة، ثم قال بخشونة موجزة
(كهذا اذن، عامة شكرا لك يا أمجد على اهتمامك بمسك، و أحب أن اطمئنك أنها ستكون في منصب اعلا و مركز متميز خارج البلاد، أي ستتاح لها فرصة يتمناها آلاف الشباب، و أنا متأكد من أنك تتمنى لها الخير).

انعقد حاجبي أمجد فجأة، و لمع بريق الخطر في عينيه، الا أنه سيطر على هدوء ملامحه و لم ينفعل، بل قال بهدوء حاسم
(أنا لا أريد أن اؤخرك سيد سالم، لذا سأنتقل مباشرة الى الموضوع الذي استوقفتك له، أتعشم أن تتكرم بالسماح لي بزيارتك، زيارة شخصية في بيتك إن كان لديك متسع من الوقت)
ساد صمت غريب بينهما، و بدت ملامح سالم و كأنها قد تصلبت فجأة بادراك غامض، الا أنه قال أخيرا بصوت غريب.

(زيارة شخصية! الا يمكن للموضوع أن يحل هنا في الشركة؟)
قال أمجد بشجاعة
(أخبرتك أنه موضوع شخصي سيد سالم، و لا دخل له بالعمل)
أظلمت عينا سالم أكثر و قال بجفاء...
(أمجد، لا أعتقد أن)
قاطعه أمجد قائلا بحزم أكبر و دون تراجع
(أنا أعرف أن بيتك هو بيت الكرم و لن ترفض لي زيارة)
زفر سالم وهو ينظر الى عيني أمجد الذي بادله النظر و قد كشف كل أوراقه أمام سالم الرافعي دون خوف أو تردد...

ثم قال سالم فجأة بحسم وهو يمد يده مودعا
(حسنا، كما تريد يا أمجد، تعال الى بيتي الليلة في تمام التاسعة و ننهي الأمر)
صافحه أمجد بقوة، دون أن يغفل الى عبارة ننهي الأمر، لكن ثقته لم تهتز، بل شد على كف سالم وهو يبتسم قائلا
(هذا من دواعي سروري، لن أتأخر)
أومأ سالم بضيق و عيناه تدوران حول أمجد في حرب صامتة، الا أنه انصرف أخيرا، متجها الى باب مكتب مسك، ففتحه قائلا بهدوء آمر
(تعالي يا مسك لأقلك في طريقي).

ضاقت عينا أمجد وهو يحاول سماع ردها من الخارج، فقد كان يتوق الى ايصالها بنفسه كي يجد بضع دقائق يحادثها بها...
لم يسمع ردها، الا أنه ابتسم وهو يرى ملامح سالم و قد ازدادت تلبدا، و احمرت وجنتاه بغضب قبل أن يقول بحزم
(كما تشائين)
ثم أغلق الباب دون أن يلقي اليها التحية حتى، فاصطدمت عيناه بابتسامة أمجد التي أخفاها مباشرة و ادعي عدم الاهتمام، الا أن سالم قال بخشونة
(ألازلت هنا يا أمجد؟، هل تريد شيئا آخر!).

ابتسم امجد وهو يقول ببساطة، واضعا كفيه في جيبي بنطاله
(على الإطلاق، كنت أطمئن الى سلامة مرورك)
ازداد عبوس سالم وهو يقول بجفاء
(لن أضل طريقي في الرواق يا أمجد، كما أنني لن أسقط في بالوعة تم اكتشافها حديثا، اذهب الى عملك، تفضل)
لم يفقد أمجد ابتسامته وهو يمد يده بتهذيب قائلا
(تفضل)
فقال سالم بحدة
(تفضل أنت أولا، أريد أن أرى ابتعادك لو تكرمت).

ضحك أمجد وهو يتظاهر بعدم فهمه لتلك الحرب الباردة التي اشتعلت بينهما فجأة، ثم قال ببساطة
(لا أعلم لماذا أنت غاضب؟، لكن عامة انا متجه الى مكتبي، اراك الليلة)
ازدا عبوس سالم بشدة وهو يراقب ابتعاد أمجد، ثم نظر الى باب مكتب مسك بنظرة، رافضة...

كان أمجد يجلس في مكتبه ينهي ما عليه من أعمال، يحاول الإسراع قدر الإمكان كي يذهب الى مسك و يقلها معه الى بيتها...
لم يجدا الوقت للكلام، وهو يحتاج الى الكلام معها، لا فرصة تجمع بينهما سوى الدقائق القليلة في السيارة...
كانت أسماء تجلس أمامه في الكرسي المقابل لمكتبه، تراقبه بعينين سارحتين، تتأملان ملامح وجهه المنشغلة بدقة، ثم قالت أخيرا بخفوت
(سيد أمجد)
همهم أمجد قائلا دون أن يرفع وجهه.

(هممم، نعم يا أسماء)
بدت أسماء مترددة قليلا و هي تتلاعب بأصابعها، تتأمل انحناءة رأسه، ثم قالت
(هل أنت متضايق من جلوسي معك؟)
رفع أمجد وجهه لها وقال ببساطة و لطف
(بالطبع لا يا أسماء، تعرفين أن مكتبي مفتوح لك دائما، سبق و قلت لك هذا مرارا)
ترك القلم من يد ثم نظر اليها مبتسما
(ها قد تركت ما بيدي، أخبريني، ماذا تحتاجين؟)
فتحت أسماء فمها لتتكلم بلهفة، الا أنها عادت و أغلقته بيأس، ثم أطرقت برأسها قائلة بقنوط.

(لا أحتاج شيئا، أنا فقط كنت في حاجة الى من يستمع لي)
قال أمجد بهدوء
(و أنا أستمع اليك، تكلمي، لا تخشي شيئا)
لم ترفع وجهها اليه، كانت ملامحها حزينة و مجهدة، و شاردة تماما، كمراهقة أضناها الحب و امرأة أشقتها الحياة...
قال أمجد بخفوت وهو يميل قليلا الى سطح المكتب
(هل هي حالة زهرة؟، اسمعيني يا أسماء للمرة الأخيرة، و لن أكررها، أنا سأتكفل بعلاج زهرة، فتوقفي عن العناد)
رفعت أسماء وجهها اليه و قالت بحدة.

(لا، لا أقبل، لا أقبل منك أنت تحديدا)
عقد امجد حاجبيه و قال بحيرة
(لماذا؟، لماذا ترفضين مساعدتي أنا تحديدا؟ هل جرحت شعورك بأي طريقة؟)
نظرت اليه بيأس و همست
(أنت لا تفهم، أنت لا تفهم أبدا)
عقد أمجد حاجبيه أكثر و ضاقت عيناه وهو ينظر الى ملامحها الحزينة المجهدة، ثم قال بخفوت مغيرا الموضوع
(لما لا نفكر في علاج زهرة، اليوم سأباشر ب)
هتفت أسماء تقول بأسى.

(لقد وجدت زهرة من يتكفل بعلاجها بالكامل، ثم أن الموضوع ليس مشكلة مادية فقط، لا يزال امامنا طريق طويل للعلاج، والله هو العالم، ان كان الأمل موجود فعلا أم لا)
صمتت فجأة حين اختنق صوتها فقال أمجد بخفوت
(تفائلي خيرا يا أسماء، أخبريني، من تكفل بعلاجها؟، و لماذا قبلت من شخص آخر غيري)
قالت أسماء بعد صمت طويل و بصوت مختنق
(لم أكن أريد قبول المساعدة منه كذلك، الا أنه بدا أهون خيارا منك).

ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بحيرة
(لهذه الدرجة؟، لما كل هذا الجفاء يا أسماء؟)
رفعت وجهها تنظر اليه بألم ثم قالت بخفوت
(ليته كان جفاءا، ليته كان)
ارتبكت ملامح أمجد قليلا، و نقرت أصابعه على سطح المكتب وهو يفكر بعمق، بينما أسماء تنظر اليه بأسى...
و ساد الصمت بينهما عدة لحظات قبل أن يقطعه صوت مسك وهي تقول بحزم من باب المكتب
(معذرة، ظننتك وحدك في المكتب، الا أنه على ما يبدو بات هذا مطلبا صعبا هذه الأيام).

شعر أمجد بروح جديدة من الإنتعاش تدب في أعماقه ما أن سمع صوتها، فرفع رأسه ينظر اليها بملامح هادئة، الا أن نظرة عينيه كانت تناقض هدوء ملامحه تماما...
كانت واقفة في اطار الباب كلوحة كلاسيكية أنيقة، تشبه القمر في جماله و علوه...
ابتسم أمجد ابتسامة صغيرة ثم قال بلطف و نظرات الشقاوة تتقافز من عينيه
(تفضلي يا آنسة مسك، لا أحد غريب).

دخلت مسك على مهل الى أن جلست على الكرسي المقابل لكرسي أسماء، واضعة ساقا فوق أخرى، ثم قالت بجمود
(مرحبا أسماء، الا عمل لديك؟)
رفعت أسماء وجهها الشاحب تنظر الى مسك بكل خيلائها و أناقة طلتها، ثم قالت بخفوت
(انتهى عملي)
قالت مسك بترفع،
(اذن ماذا تفعلين هنا؟، لماذا لم تغادري؟)
ردت أسماء بنبرة محتدة قليلا...
(السيد أمجد أخبرني أن مكتبه مفتوح لي دائما، و لا أظنه يعترض)
قالت مسك بجدية و حزم.

(مكتبه مفتوح للطلبات، للشكوات، للاقتراحات، لكن ليس لجلسات الصفا و تبادل الأحاديث اللطيفة)
قال أمجد بجدية و قد توترت ملامحه من مدى عجرفة ملامحها
(مسك، لا داعي لهذا، فأنا لا أمانع لو احتاجت أسماء للكلام)
الا أنها التفتت اليه فجأة و قالت بصراحة
(لكن أنا أمانع).

صمت أمجد مصدوما، كانت تتكلم بتملك غريب، و عيناها تنذرانه الا يتحداها و رغم غضبه من معاملتها المتعجرفة، الا أنه شعر بمتعة غير عادية، و كأن الحجر قد نطق أخيرا...
أعادت مسك عينيها الى أسماء بعد أن رمقت أمجد بنظرة تجمد الدم في العروق، ثم قالت بهدوء
(و الآن هلا عذرتنا قليلا، لأن لدي موضوع هام أناقشه مع السيد أمجد، و أعتقد أن جلسة الود هذه يمكن أن تتأجل لوقت لاحق).

أظلمت عينا أسماء و نهضت من مكانها، مندفعة، الا أن أمجد قال يوقفها بهدوء
(أسماء، اعذري فظاظة الآنسة مسك، فقد كان يومها شاقا نفسيا، لكنها في الحقيقة أكثر تعاطفا مما تبدو)
اندفع رأس مسك ملتفتا اليه و هي تنظر اليه بشراسة...
أيجرؤ على أن يبرر تصرفاتها لإحدى العاملات، و كأنم يجلسون في مقهى عام للسمر...
لكنها عضت على شفتها و امتنعت عن الرد مؤقتا كي لا تسيء الى هيبتها، بينما قالت أسماء بفتور متداعي.

(أعرف أنها أكثر تعاطفا يا سيد أمجد. بالدليل، الا أن البشر أحيانا يحتاجون الى معاملة أكثر انسانية)
اتسعت عينا مسك بذهول و هي غير قادرة على السيطرة على غضبها أكثر ففغرت فمها تنوي قذفهما بسهام لسانها اللاذع، الا أن أمجد تطوع و قال بلطف و عينيه على الفم الغاضب الذي قاطعه...
(و لأنها من البشر، اعذريها لأجل خاطري، صدقا كان يومها صعب).

نقلت أسماء عينيها بينهما بيأس متألم، و أدركت بما لم يقبل الشك أنهما يبدوان لائقين ببعضهما، ظاهريا على الأقل...
خاصة و أمجد يدافع عنها بهذا اللطف، أدركت أن الأمل البعيد، أصبح الآن مستحيلا...
لذا أطرقت بوجهها و هي تقول
(لا بأس سيد أمجد، لأجل خاطرك فقط، أراك لاحقا. ).

اتسعت عينا مسك أكثر، و زمت شفتيها بعنف و هي تنفث نفسا كاللهيب، لكنها تماسكت الى أن غادرت، حينها فقط تكلمت هي و امجد في نفس اللحظة و بصوت واحد...
حيث قالت هي محتدة و منفعلة
(و ماذا بعد؟)
بينما تكلم هو برفق و عينيه الحنونتين تحيطان بها، تضمانها في عناق لا مثيل له
(كيف حالك الآن؟)
صمت كل منهما وهو يستوعب ما نطقه الآخر...

كان أمجد متراجعا في مقعده ينظر اليها بابتسامة، بينما هي تميل الى سطح المكتب و عيناها تلمعان كالعاصفة...
زفرت مسك بغضب، قبل أن تقول ببرود
(كيف لك أن تبرر تصرفاتي أمام احدى العاملات بتلك الطريقة؟)
لم ينفعل أمجد و لم يفقد ابتسامته وهو يقول برقة
(لقد عاملتها بقسوة دون أن تستحقها، لذا كنت أطيب خاطرها)
هتفت مسك بحدة.

(و لماذا تطيب خاطرها من الأساس؟، هذا تعدي للحواجز الرسمية التي يجب احترامها بين الزملاء، فمابالك بالمرؤسين؟)
مال أمجد الى سطح المكتب وهو ينظر الى عينيها الغاضبتين، ثم قال بهدوء
(أنت تعطين الأمر أكبر من حجمه يا مسك، نعم هناك حواجز، لكننا بشر في النهاية، نضعف، نتقارب، نشعر بآلام بعضنا البعض بدافع المكان الواحد و الذي يجمع بيننا عدد من الساعات قد يفوق ما يقضيه كل منا خارجه)
قالت مسك من بين اسنانها بغيظ.

(سبق و اخبرتك أنها تميل اليك و أنت تشجعها، و لو فكرت في الأمر مليا لوجدت أنك بتقاربك الزائد منها تعطها تشجيعا ستؤذها به أكبر مما ستفعل لو أجبرتها على احترام الحدود بينكما)
قال أمجد متشدقا بلطف
(هذا غير مؤكد)
الا أن مسك هتفت بحدة و هي تلوح بكفيها
(هل أنت أعمى؟، الفتاة عيناها تلمعان كالنجوم ما أن تنظر اليك)
قال أمجد ببساطة.

(حتى لو كان هذا صحيحا، فهي لا تزال صغيرة، الفارق بيننا في العمر كبير و معظم الفتيات في مثل عمرها يشعرن بافتتان لاقرب رجل يتواجد داخل اطار حياتهن، سرعان ما ستتخلص منه، لكن هذا ليس مبرر لأصدها بفظاظة كما تفعلين فأهد ثقتها بنفسها)
أغمضت مسك عينيها بيأس و هي تهز رأسها ساخرة، قبل أن تقول باستهانة.

(يبدو أن قلبك العطوف هذا هو سبب انجذاب النساء اليك، كل يوم، أجد من تحتاج للكلام معك، و كأنك المصلح الإجتماعي الوحيد، مراهقات و متزوجات و الله أعلم من أيضا)
كانت تهز ساقها بعصبية وهو يراقبها باستمتاع فاق الوصف، قبل ان يميل اليها مضيقا عينيه قائلا بشك
(هل هذه غيرة؟، لا، لا، لا تقولي، هل هذه غيرة فعلا؟)
نظرت اليه مسك باستنكار قبل ان تهتف
(ماذا؟، هل فقدت عقلك؟، ما هي الغيرة أصلا؟).

اتسعت ابتسامة أمجد وهو يقول ببساطة
(انها نوع من المشاعر الإنسانية، يشعر به الإنسان تجاه شريكه، فيمنحه الحق بالملكية و الأفضلية بين الجميع)
ضحكت مسك بسخرية و هي ترجع خصلة من شعرها الى اعلى رأسها قائلة ببرود
(تحتاج الى امرأة فاقدة الثقة بنفسها كي تغار)
قال أمجد بجدية رقيقة وهو يتأمل تلك الخصلة الفاتنة
(بل أحتاج الى امرأة ذات قلب، يحوي حبا متملكا).

ازدادت حركة شفتيها امتعاضا و هي تهز ساقها قائلة دون أن تنظر اليه
(لو كان هذا هو طلبك، فقد اخطأت حين تقدمت طلبا ليدي)
قال أمجد بصوت غريب وهو ينظر اليها بجدية
(هل فقدت القدرة على الحب؟)
نظرت اليه مسك بصمت، قبل أن تقول بهدوء مماثل
(ربما لم أمتلكها من الأساس)
قال أمجد بجدية و شبه قسوة
(ارفض تصديق هذا).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة