قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والستون

(كم الساعة الآن يا ولدي؟)
نظر أمجد الى ساعة معصمه، ثم قال مبتسما بخفوت وهو يعاود النظر الى أمه
(الحادية عشر يا حبيبة)
ارتفع حاجبي والدته و قالت بدهشة متفاجئة
(هل مر الوقت سريعا هكذا؟، لم أشعر به، هيا، اذهب الى شقتك)
ابتسم أمجد وهو يربت على كفها قائلا بمزاح حنون
(هل مللت من رفقتي يا أم أمجد؟)
تأوهت والدته و هي تتشبث بكفه قائلة بحرارة
(والله لو أمضيت المتبقي من عمري كله برفقتك، لن تكفيني).

انحنى أمجد اليها ليقبل جبهتها وهو يقول بخفوت
(حفظك الله لي يا حبيبة)
رفعت أمه يدها تتلمس رأسه برفق حتى قبلت وجنته، ثم قالت بحزم
(هيا الآن، لن تضعف قلبي بكلامك الآسر، اذهب الى زوجتك، لا يصح أن تتركها حتى هذه الساعة و في بداية زواجكما)
ابتسم أمجد بسخرية بسيطة، الا أنه قال بهدوء
(لا تقلقي يا أم أمجد، إنها لا تهتم)
ارتفع حاجبي والدته قليلا، ثم عقدتهما و هي تقول بتردد و بنظرة غير مبصرة
(لا تهتم؟).

أعاد أمجد صياغة عبارته، فقال بلطف وهو يربت على كفها مجددا
(أقصد أنها متفهمة جدا لرغبتي في قضاء بعض الوقت معك، خاصة بعد اقامتنا في شقة مستقلة)
طلت والدته على صمتها لبضعة لحظات و هي عاقدة حاجبيها و كأنها غير مقتنعة تماما، الى أن قالت أخيرا بخفوت و دون مقدمات
(أنت لست مرتاحا يا ولدي).

ارتفع حاجبي أمجد وهو ينظر الى وجه والدته، الحنون و نظراتها البعيدة الغير مبصرة و على الرغم من ذلك فهما العينان اللتان تريانه أكثر من أي شخص آخر...
فقال بصوت خافت متراجع
(ماذا تقصدين يا حبيبة؟)
قالت أمه دون مواربة و بنبرة أكثر حزما
(أنت لست مرتاحا في زواجك، و لا يمكنك خداعي)
ظل أمجد صامتا قليلا، ثم قال محاولا صرف نظرها عن الأمر
(ما الذي جعلك تظنين هذا؟).

رفعت والدته يدها في الهواء بحثا عن وجهه الى أن لمسته فأمسكت بذقنه و أدارته اليها و قالت بقوة هامسة
(انظر الي، تستطيع خداع الجميع، لكن ليس والدتك التي تعرفك من نبرة صوتك، أكثر من نفسك)
لم يرد أمجد على الفور، بينما تابعت والدته تقول بصوت أكثر خفوتا و حزنا...

(أين ذهبت نبرة الحماس التي كانت تتراقص في صوتك و أنت تتحدث عنها، قبل الزواج؟، لماذا تبدو شاردا باستمرار بخلاف أي زوج سعيد بالمرأة التي اختارها بنفسه؟)
لم يرد أمجد مجددا، بل ظل صامتا فقالت والدته بقلق
(هل تشعر بالندم؟، هل عاودك التفكير في أمر الإنجاب، فندمت؟)
رفع أمجد وجهه و نظر اليها، ثم قال بصوت هادىء صادق.

(لا يا أمي، لم أندم، و لا أظنني سأفعل، كل يوم يصدق ظني، و أكتشف اي امرأة رائعة تزوجت، كل يوم أعرفها به أكثر، يمر و كأنه خط جديد في لوحة رائعة الجمال)
صمت بللحظات فهمست والدته بأسى و هي تربت على ذقنه قائلة
(اذن ما الأمر؟)
تنهد أمجد قليلا، ثم قال بصوت متوتر
(أشعر بأنني لا أمثل لها، ما تمثله هي لي)
ارتفع حاجبي والدته بدهشة قبل أن تهتف باستنكار
(بعد كل ما قدمته لها من تضحية؟، كيف لها أن تشعرك بهذا؟).

قال أمجد بقوة
(أنا لا أريد منها ثمنا، لأي تضحية قدمتها، أنا فقط أريدها أن)
صمت متنهدا، غير قادرا على ايجاد الكلمات المناسبة و التي تخنق صدره بعدم راحة...
ثم قال أخيرا وهو ينظر الى والدته بتعب
(أريدها أن تكون انسانة، تبكي خوفا من احتمال ابتعادي عنها، لكنني متأكد أنني لو فعلت، فستودعني مبتسمة بكل أناقة، و تشكرني على الأيام الجميلة، لا يفعل الإنسان هذا، الا مع شخص لم يمثل له شيء، أي شيء).

صمت قاطعا كلامه وهو يعقد حاجبيه بشدة، ثم لم لبث أن حك جبهته وهو يضحك بعصبية قائلا
(ما هذا الذي أقوله؟، هذه المرأة رائعة معي بكل بساطة، فمما أشكو؟)
كانت والدته تنظر اليه بدقة على الرغم من غيوم عينيها، ثم قالت أخيرا بصوت حزين ملهوف.

(تشكو من جانب بك لن تستطيع تغييره أبدا، أنت تعطي من تحب قلبك بالكامل و تتوقع منه أن يبادلك بالمثل، أنت يا حبيبي لا تعرف السطحية و الأناقة الفارغة، أنت تمنح من روحك دون حساب، لطالما كانت هذه نقطة ضعفك تجاه الجميع)
ابتسم أمجد بسخرية و قال متنهدا
(ربما آن الأوان كي أتخلص من هذا الجانب التافه اذن)
عقدت والدته حاجبيها و قالت بحزم
(لا تقل هذا، لن تكون أمجد ولدي الذي أعرفه، ).

ابتسم أمجد دون مرح، ثم قال بمزاح زائف
(كفى كلام عني الآن، لما لا ترتاحي قليلا، فأنت لم تعتادي السهر و أنا سأبقى بجوارك الى أن تنامي)
قالت والدته قاطعة، بصرامة
(بل ستذهب الى زوجتك من فورك، فأنا سأظل مستيقظة قليلا، الى أن يطرق النوم أجفاني)
قال أمجد مترددا، (لكن مهجة نائمة الآن، و لا أشعر بالراحة في تركك)
قالت أمه دون تراجع
(سأكون بخير، و إن احتجت شيئا فسأنادي عليها، لا تقلق، هيا اذهب).

اتجه أمجد الى باب غرفتها بعد أن تأكد من ايصال كل ماتحتاجه الى متناول يديها، لكن و قبل أن يخرج، نادته قائلة
(أمجد)
التفت ينظر اليها بصمت، و هي أدركت أنه يفعل، فقالت متحفزة كأم مستعدة على افتراس من يجرؤ على المساس بإبنها الذي سيبقى في نظرها طفل مهما خط الشيب شعر رأسه
(لم أوافق على تلك الزيجة الا لتكون سعيدا، ضحيت بأكبر أمنية لي في سبيل سعادتك، أما سعادتك، فلن أضحي بها أبدا).

لم يرد أمجد عليها سوى بكلمتين، خافتتين
(تصبحين على خير يا حبيبة).

رفعت مسك عينيها عن الكتاب الذي كانت تقرأه ما أن سمعت صوت المفتاح في باب شقتهما، ثم رأت أمجد يدخل بهدوء صامتا...
راقبته لبضعة لحظات بعينين حادتين، الى أن رفع وجهه اليها أخيرا و قال بخفوت
(مساء الخير، ظننتك نمت منذ فترة!)
لم ترد مسك على الفور، بل كانت تنظر اليه بنفس النظرة المتفحصة، ثم وضعت كتابها جانبها و نهضت من مقعدها و هي تقول ببساطة
(كنت أنتظرك)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول واضعا مفاتيحه جانبا...

(هذه سابقة من نوعها)
توقفت مسك مكانها للحظة، قبل أن تعاود الإقتراب منه ببطىء، ثم قالت بصوت متزن
(ما الذي أفهمه من هذا تحديدا؟)
نظر اليها أمجد و قال بنفس البساطة
(قصدت فقط أنك تنامين ما أن يطرق النوم عينيك، إنها المرة الأولى التي تشعرين فيها بغيابي)
رفعت مسك حاجبيها و هي تتأمله دون كلام وهو يفرغ جيبيه من محفظته و هاتفه دون أن ينظر اليها...
ثم قالت بفتور
(الازلت غاضبا مني؟).

رفع أمجد وجهه لينظر اليها و قال بنبرة طبيعية
(لأي شيء؟)
فتحت مسك شفتيها تنوي الكلام، الا أنها لم تلبث أن تراجعت، ثم قالت بإبتسامة أنيقة
(لا شيء، كنت أسال فقط، هل تناولت الطعام مع والدتك؟)
سوى أمجد كتفيه، ثم نظر اليها قائلا
(لا، فضلت أن آكل هنا، في بيتي)
ابتسمت مسك أكثر قليلا و قالت بهدوء راض
(جيد، فأنا أيضا كنت أنتظرك، لما لا تبدل ملابسك، الى أن أعد الطعام).

و دون أن تنتظر منه ردا، كانت تتجه الى المطبخ، الا أنه أمسك بيدها و جذبها اليه برفق، حتى رفعت وجهها اليه متسائلة، فنظر الى عينيها مليا قبل أن يقول بجدية
(كيف كانت مقابلتك اليوم؟)
مالت ابتسامتها قليلا، ثم قالت بحذر
(ظننتك لن تسأل، لقد كانت موفقة جدا من وجهة نظري، الا أنني لا أعلم إن كنت قد حصلت على الوظيفة بالفعل، سأعرف خلال أيام)
اومأ أمجد برأسه صامتا، ثم قال بهدوء و ثقة.

(سيقبلون بك، من ذا الذي لا يقبل بمسك الرافعي؟)
ارتجفت ابتسامتها قليلا، و دلكت احدى ذراعيها بكفها الأخرى و هي تبدو متململة بين ذراعيه، الى أن قالت أخيرا بخفوت
(س، سأعد الطعام، إنه جاهز، سأقوم بتسخينه فقط، و إن كنت لا. ).

كانت تهمس و هي تتراجع برأسها للخلف بينما شفتاه تلامسان عنقها بنعومة و رفق، و أصابعه تعزفان لحنا باتت تدرك نغماته مؤخرا على جسدها، مدركا تماما، كيف يشعل حماسها بمجرد لمسة تجعلها تقطع كلماتها الخافتة لتلتقط نفسها بين كل كلمة و أخرى...
الا أنها تابعت محاولة التماسك
(و إن كنت لا أفضل الأكل في، هذه الساعة المتأخرة من الليل)
همهم أمجد قائلا من بين قبلاته الناعمة، (حقا!).

ضحكت و هي تشعر بأنفاسه تدغدغها، فأطبقت عنقها على تجويف كتفها بارتجاف، ثم قالت بإختناق
(بلى، فهذا غير صحي تماما)
كان قد جذبها اليه الآن بقوة حتى رفعت عينيها اليه متسائلة بدهشة، فقال لها مبتسما
(ما رأيك باقتراح آخر اذا يا سيدة ألمظ؟)
تألقت ابتسامتها بخبث و هي تهمس متفاعلة معه بكل حواسها
(هذا صحي أكثر على الأقل، يفقدك بعض السعرات، بعكس الأكل ليلا)
رفع أمجد وجهه عنها وهو يقول رافعا حاجبيه بحيرة.

(ما هو هذا الذي يفقد السعرات؟، أنا لم أقترح شيئا بعد! بما كنت تفكرين؟)
عقدت حاجبيها بشدة، ثم لم تلبث أن دفعته و هي تقول بفظاظة
(اذن ابتعد و احتفظ باقتراحاتك لنفسك، أنا ذاهبة لآكل، لقد جعت انتظارا)
أسرعت الخطى تجاه المطبخ، الا أنه كان أسرع منها فرفعها بين ذراعيه وهو يضحك قائلا.

(سيظل رأسك يابسا و لسانك طويلا، و ذكائك العاطفي محدود، لا أعلم لماذا أحببتك صدقا، ربما كان هذا نتيجة المرة الوحيدة التي دعت بها أمي علي في مراهقتي و لا تزال تندم عليها حتى يومنا هذا)
ضربت مسك صدره وهي تقول بحدة
(أنزلني، لا أريد منك شيئا)
خفتت ضحكات أمجد قليلا، و نظر الى وجهها المنفعل العابس، ثم همس دون أن يحررها أو ينزلها أرضا
(هل سمعت ما قلت؟، أحبك).

سكنت مسك بين ذراعيه و قد ارتاحت يداها على كتفيه، و بهتت ملامحها قليلا...
و طال بهما النظر، كل ينظر الى عيني الآخر و في عينيه حوار قاتم، يخالف رغبة عواطفهما الجامحة...
بدا أمجد منتظرا، عاقدا حاجبيه، بينما أسبلت مسك جفنيها قليلا و مالت برأسها الى كتفه دون كلام...
و هي تعقد ذراعيها حول عنقه أكثر...

و حين يئس من ردها، تحرك بها الى غرفتهما في صمت، صمت استمر خلال الساعة التي تلت و التي لم يقطعه خلالها سوى صوت أنفاسهما المتبعثرة...
صمت تام لم يجرؤ على قطعه بكلمة كي لا يفقد هذا الجو الحميمي الدافىء بينهما، الى أن نامت بين ذراعيه أخيرا مبتسمة برقة و هي تحتضن ذراعه و تنام وجنتها عليها...
بينما بقى أمجد مستيقظا، ينظر اليها طويلا دون ابتسام وهو يداعب خصلات شعرها...

منذ اليوم الأول لزواجهما و هو يعلم أنه حظى بالزوجة المثالية...
زوجة كما يقول الكتاب...
زوجة بمواصفات رفيعة المستوى...
زوجة أنيقة، راقية، قوية، أخلاقها لا خلاف عليها...
مرحة بالفطرة، مجرد سماجتها تضحكه دون جهد، و حتى دون أن تحاول افتعال المرح...
تجيد اعداد الطعام الصحي بمهارة، و حين أبدى دهشته ذات يوم، قالت ضاحكة بتحد.

أنه لا توجد فتاة من عائلة الرافعي لا تجيد الطبخ، فهذه وصمة عار، و هي لا تقبل بأن تكون أقل مستوى في أي شيء...
هذا دون ذكر توافقهما الجسدي الملحوظ...
نعم زوجة مثالية...
مثالية أكثر من اللازم، و كأنها مرسومة بالمسطرة...
و هذا ما كان يوتره...
لا يريدها مثالية، مراعية لرغبته في البقاء مع والدته حتى وقت متأخر...
لا تغار لأنها تثق بأخلاقه، لا بحبه.

لا تفضي له بمقابلة العمل لأنها لم تعتقد أنه أمر شديد الأهمية بالنسبة له...
أو ربما لم ترد أن تكون العلاقة بينهما أكثر عمقا عن مستوى معين...
إنها تبقيه في المنطقة الآمنة من حياتها، كي تسهل عليه الخروج فيما بعد، مع رسالة شكر لطيفة منها...
أظلمت عينا أمجد وهو ينظر الى ملامحها الراضية المسترخية...

انها تضعه خلف حاجز زجاجي بارد، ليتمتع كل منهما بالنظر الى الآخر و كأنه في واجهة أنيقة للعرض دون التوغل للمظورات
فأحيانا تغيب عنها المثالية للحظات حين ينشأ بينهما خلاف لسبب أو لآخر، و يحاول هوا اختراق هذا الحاجز الزجاجي، و فرض سيطرته على مشاعرها...
حينها تبدأ الشخصية التي يمقتها في الخروج للسطح...
الشخصية المتعجرفة التي تدخرها لتدافع بها عن نفسها ضد أي ممن قد تسول له نفسه بمس كرامتها ولو بكلمة...

مسك الرافعي أفهمته من اليوم الأول أنها ستكون زوجة مثالية، طالما عاملها على هذا الأساس...
أما بخلاف ذلك، فستكون شخص آخر، لا يود التعرف اليه...
الغريب في الأمر، أنها منحت لشخص مثل زوج اختها امتيازات لم تسمح له هو زوجها بأن ينالها...
منحته الثقة، على الرغم من كل عيوبه و رفضها التام لتصرفاته، الا أنها تمنحه ثقة مطلقة...
و هذا هو ما حجبته بإرادته عن علاقته به كزوجها...
الثقة المطلقة...

كانت تعلم أنها تتهور كطبيعتها...
لكن الا تستحق حياتها منها لحظة تهور واحدة؟
لقد كبتت كل أحلامها منذ بداية ادراكها للحياة، قبلت بدراسة لا تحبها، و عمل لا تطيقه، و زوج تنفر منه، و في النهاية مدير يتحرش بها...
علي مدى تسع و عشرين عام و هي تقبل بما لا تريد، لأنها الفرص الأخيرة في حياتها...
أما آن الأوان كي تنتفض و تسعى للحصول على ما تتمنى ولو لمرة؟
كانت تظن أن الطلاق هو كل مبتغاها...

لكن منذ أن ساقها القدر الى البناية التي يقطن بها، وقد أدركت بأن مبتغاها هو الحلم الذي تحلم به كل فتاة...
نعم هي تشعر بنفسها كفتاة يزدهر قلبها بالحب للمرة الأولى...
لا مجرد امرأة مطلقة، على أعتاب الثلاثين من عمرها...
مضى على سكنها هنا ما يقرب من العام و نصف، و هي على أحلامها المسكينة في أن يشعر بها و يحاول التقرب منها...
لكن الى متى ستنتظر؟، و كم من أعوام ستضيع؟

وقفت ياسمين أمام باب البناية و هي تضم كنزتها بكلتا قبضتيها الى صدرها، ناظرة للبعيد و هي تحاول تهدئة قلبها المرتجف...
الى أن رأته خارجا من الباب في نفس موعده...
رفع أمين وجهه الرزين فرآها أمامه، و للحظة شعرت بخطواته تتباطىء قليلا مما منحها الأمل فانتفض قلبها أكثر...
كم هو جذاب في رجولته، ملامحه المتجهمة تضفي عليه هالة من الجاذبية تجعل الجنس اللطيف ينجذب اليه تلقائيا...

لا مبالته بهن، و رزانته، ثقل تصرفاته...
كلها مواصفات كانت تتمناها بأحلام يقظتها، الوردية بكل درجاتها...
أمامه هي تشعر بأنها في الثامنة عشر...
لا مجرد موظفة مطلقة و مطحونة يوميا في التعامل مع كافة قطاعات الشعب...
رسمت على وجهها ابتسامة متألقة ما أن اقترب منها، الا أنه أخفض وجهه عن قصد و قال بإيجاز
(السلام عليكم)
و أوشك على تجاوزها و المضي الى عمله، الا أنها نادته قائلة بقوة قبل أن يفتر عزمها.

(و عليكم السلام و رحمة الله، أستاذ أمين، لحظة من فضلك)
توقف أمين وهو يوليها ظهره، فسقط قلبها بين أضلاعها و ظنت أنه سيتابع طريقه دون أن يلتفت اليها، الا أنه استدار اليها متسائلا...
و للحظة ظنت أن عيناه قد تجرأتها عليها للحظة أطول مما اعتادت منه، قبل أن يخفضهما وهو يقول
(كيف حالك سيدة ياسمين، تحت أمرك)
ابتسمت و هي تقول بعصبية قليلا
(سيدة! لا داعي للألقاب، نحن، جيران، و أنت، ساعدتني كثيرا).

لم يرد وهو ينظر بعيدا عن قصد، حتى ظنت أنه زفر بخفوت، فابتلعت ريقها بصعوبة، ثم قالت باتزان
(كان استقبالكم لي غاية في الذوق و الكرم، على الرغم من تطفلي على جمعكم العائلي)
رمقها أمين بنظرة مختصرة، ثم قال بهدوء
(شرفتنا)
اتسعت ابتسامتها، ثم تنحنحت قائلة
(منذ فترة طويلة لم أشعر بجو العائلة كما شعرت في بيتكم، انت تعلم، منذ وفاة والدي، اقتصرت حياتي مع والدتي و أختي، و الآن صفيت بمفردي)
قال أمين بنبرة جادة.

(الحل بيدك، يمكنك العودة للسكن مع والدتك، هذا أفضل لامرأة في مثل وضعك)
بهتت ملامح ياسمين و تسمع منه تلك النبرة الأقرب الى الهجومية، فعقدت حاجبيها و هي تنظر أرضا بتوتر، و صمت هوا شاعرا بضرورة المغادرة من هنا سريعا...
فوقوفهما معا أمام البناية بهذا الشكل مثيرا للشك، الا أنه و قبل أن يعتذر منها، تكلمت ياسمين قائلة بصوت باهت دون أن تنظر اليه.

(أنت لا تعرف شعور امرأة مضطرة للسكن مع رجل غريب، يعايرها بطلاقها كل لحظة، حتى لو كان زوج أختها، لا تجد الخصوصية أو الكرامة)
نظر اليها أمين الآن، نظرة مطولة الى رأسها المنخفض، و شعرها المتطاير حول وجهها...
ثم قال مفاجئا نفسه
(و هل وجدت الخصوصية و الكرامة الآن؟)
رفعت وجهها تنظر اليه مجفلة، كانت تلك المرة الأولى التي يبادر فيها للكلام دون ضغط...
فابتسمت بارتباك و قالت بضعف
(أحاول).

أطرق أمين برأسه، ثم نظر بعيدا و قال بتغير مفاجىء و كأنه ندم على محاولته للكلام معها
(يجب أن أذهب الآن، لا يصح وقوفنا بهذا الشكل، و أنت لماذا تقفين هكذا؟)
قالت ياسمين و هي تحاول تدارك نفسها و تذكر ما أرادت قوله...
(أنا كنت ذاهبة لعملي، لكن رأيتك خارجا فأردت أن أطلب منك طلبا)
نظر اليها متسائلا بحيرة، و نظراته مترددة في تأمل ملامحها و، بنيتها...
ثم قال بخشونة
(تفضلي، تحت أمرك)
ابتسمت و قالت بسعادة.

(الأمر لله، كنت أتمنى منك الا تخيب ظني في رجاء خاص، عرفت من نورا أنها قد اجتازت اختبارها الأخير، و كانت تشعر بالرغبة في الترفيه عن نفسها، لذا أتمنى منك السماح لها بزيارتي، ليست وحدها بل مجموعة كبيرة من صديقاتها، سأدعوهن للغذاء، ان وافقت أنت)
تجهمت ملامحه بشدة و ظل صامتا، مما جعلها تشعر بإهانة بالغة...
الهذه الدرجة يراها غير جديرة بالثقة؟
تبا لها، لماذا تقبل بهذه الإهانة؟

أرادت في اللحظة تجاوزه و تجاهل رده لتبتعد عنه للأبد...
و كادت أن تفعلها...
لكن الغيظ بداخلها جعلها تعض على أسنانها ثم عادت لتلتفت اليه و هي تقول بقوة
(أنا دخلت بيتكم، و أكلت من طعامكم، اصبح بيننا خبز و ملح، ساعتدني قبلها و اخذتني الى أمي و بقيت معي حتى اطنئننت عليها، أقطن معكم منذ عام و نصف و لم ترى مني ما يثير شكوكك تجاهي الى هذا الحد، فقط أخبرني ما هو الضرر الرهيب الذي قد ألحقه بأختك الصغيرة؟).

كان يستمع الى نبرتها الحادة وهو متجهما، متفاجئا من اندفاعها، و ما أن انتهت حتى قال بسرعة و دون تفكير
(أنا لا أتهمك بشيء اطلاقا، لا تلصقي بي ذنب كهذا، لكن أنا لا أعرفك)
شعرت ياسمين بأنه صفعها أكبر صفعة ممكن أن تتلقاها في حياتها...
صفعة احراج بالغ، و كأن في كلمته البسيطة، الرد البالغ
أنا لا أعرفك، فمن أين لي أن أثق بك؟
قد تكونين سيئة السلوك، أو حتى مجرمة، أنا لا أعرفك...

رفعت ياسمين عينيها تنظر اليه بصمت و قد شحب وجهها تماما من الإحراج البالغ، فقالت بصوت جامد
(معك حق، بعد اذنك سأنصرف)
و بالفعل تجاوزته بساقين تتخبطان، الا أنه ناداها بسرعة
(ياسمين)
توقفت مكانها و شعرت بقلبها يدق بسرعة و غباء، اسمها منه جاء دافئا بشكل لم تتوقعه...
فالتفتت تنظر اليه بصمت و بحدقتين مهتزتين، فبدا مرتبكا، ثم قال أخيرا بخفوت
(لم أقصد أن أجرحك، أنا فقط).

لم يجد المزيد من الكلام، فقالت تعفيه من الحرج
(أنت صادق)
رفع وجهه ينظر اليها بصمت، فتابعت بنفس النبرة
(أكثر من اللازم، لا تدعني أؤخرك عن عملك أكثر من هذا، الى اللقاء)
و استدارت مجددا، الا أن صوته علا من خلفها يقول بصرامة
(متى تريدين أن تكون تلك الزيارة؟)
توقفت مكانها و تسمرت، بينما فغرت شفتيها قليلا، ثم التفتت اليه و هي تتأكد مما يقصد...

كانت ملامحه متجهمة كعادته، لكن عيناه كانتا مختلفتين، بهما نظرة لم تستطع تفسيرها كي لا يضيع قلبها...
همست ياسمين أخيرا و هي تهز كتفها بتردد
(نهاية الاسبوع، اذا وافقت)
أومأ أمين برأسه متفهما، ثم قال أخيرا بخشونة
(حسنا)
ارتفع حاجبيها و هي تنظر اليه بدهشة، الا أنه تجاوزها بدوره منهيا الكلام قائلا
(من الأفضل لك الذهاب الى عملك، فوقوفك هنا، خطأ).

ابتعد عنها و تركها تنظر اليه بصدمة، بدأت تتحول الى ابتسامة وردية...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة