قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والستون

أخفضت سوار عينيها الى قبضة ليث التي أطبقت على ساعدها بقوة، ثم رفعت عينيها المتورمتين اليه...
كان واقفا بذات الشموخ الذي لم يفقده يوما، منذ بداية شبابه، هيبته التي كان الجميع يتكلم عنها قبل ان يبلغ الثلاثين حتى...
يتطلع اليها بنفس النظرة التي لم تدرك معناها الا مؤخرا، نظرة قاومتها طويلا و رفضتها رفضا باتا...
نظرة عشق جادة و كأنها الحياة بالنسبة له...
فهمست سوار بتعب
(أريد العودة لبيتي، أرجوك).

رفع ليث يده الى وجنتها يحيطها برفق، ثم قال بخفوت حازم، حنون
(ليس بعد، لم تنتهي مهمتي يا مليحة)
عقدت حاجبيها و همست بعدم تركيز
(مهمتك؟)
أومأ ليث برأسه دون أن يحيد بعينيه عن عينيها، ثم قال بخفوت و ثقة
(مهمتي كانت أن تستعيدي طهارة سمعتك)
فغرت سوار شفتيها المرتجفتين قليلا و هي ترفع يدها لتمسح بأصابعها، الا أن أصابعه سبقتها لتمسح الخط الندي الناعم و قال بألم
(الم تنفذ دموعك بعد حبيبتي؟).

عضت على شفتيها و هزت رأسها قائلة بإمتنان و بنبرة مختنقة
(هذه الدموع لأنني استعدتها، استعدت سمعتي و شرفي، مهما قلت فلن أوفيك حقك مطلقا)
ابتسم ليث قليلا وهو يضمها الى صدره بقوة في دارهما الذي غادراه ذات يوم ليلا هربا من اتهامات الالسنة الباطلة...
و عادا الآن اليه فور خروجهما من دار ميسرة...
خرجا معا أمام الجميع وهو ممسك بكفها بقوة و لم يتجرأ أحد على اعتراض طريقهما...

و كأن ألسنة أعمامه قد انعقدت تماما، وهم ينظرون اليهما بذهول...
أما ميسرة فصرخت خلفهما
(لن أتركك تهنأ بها، لن أفعل، لاحقتها لعنة لن تنتهي أبدا، و أنت ستلحق بها)
حينها استدار ليث لينظر اليها، فضاقت عيناه بنفور، حيث كانت هيئتها مخيفة...
أقرب الى البشاعة...
يعلم الله أنه لم ينظر اليها تلك النظرة من قبل، لم يراها بشعة مطلقا، حتى و إن كانت لم تجذبه تماما...
لكن في تلك اللحظة، رآها كمسخ دميم، فقال بأسف.

(كنت أشفق عليك من جهلك و سواد روحك، أما الآن فحتى الشفقة، أصبحت أغلى مما تستحقين)
صرخت ميسرة بعنف
(لا ترحل مع اللعينة، لا تفعل)
الا أن والدها صرخ بها وهو ينهال عليها ضربا
(كفاك، حططت هامتي أرضا أمام الجميع، اخرسي)
لم يلتفت ليث اليهم أبدا و لم يهتم
بل خرج مع سوار كي لا يسمع المزيد من صوتها المخزي...
كان في حاجة للإنفراد بها، سوار دون غيرها...

ضمها الى صدره بقوة حتى تبكي الى أن تنفذ دموعها تماما، ثم يمسحها لها...
لم يتوقع أن تطلب منه العودة الى بيتهما، و طالما أنهما هنا في دارهما، فهذا يعني أنها قصدت العودة الى بيتهما في المدينة...
فقال بخفوت وهو يضمها اليه أكثر
(ظننتك ستسرين بالعودة الى دارك يا مليحة)
رفعت وجهها الشاحب المبلل اليه ثم همست.

(لم أشعر به داري، أريد العودة لشقتنا هناك في المدينة، بعيدا عن البلدة و قوانينها، بعيدا عن كل ما عايشته هنا من ألم، لقد منحت هذه الأرض أكثر مما احتمل و اكتفيت، فمهما بلغ حبي لها، لكنني أريد الإبتعاد)
ابتسم لها ليث بحنان و بدت عيناه بعمق المحيط، قادرتين على ابتلاعها فلا تنجو منهما مطلقا...
ثم قال بصدق لم يخطئه قلبها.

(على الرغم من عنادك و غبائك و سوء تصرفك، و فضلا عن رغبتي في بعض الأحيان بضربك حتى تفقدين الرؤية باتزان، الا أن تلك الأيام التي عشناها سويا في شقتنا هناك، كانت أسعد أيام حياتي على الإطلاق)
ابتسمت له قبل أن تغمض عينيها على آخر دموعها التي انسابت من تحت جفنيها المنطبقين...
و همست على مضض و كأنها تخجل من اعترافها.

(لا أعلم إن كانت أسعد أيام حياتي، فلم أكن أبدا بمثل هذا العنف و الغضب و الشعور بالقهر، كما كنت هناك، أحيانا كنت أرغب أنا أيضا في ضرب رأسك الصلب بأقرب جدار، لكن، لكن هناك بيتي. )
اتسعت ابتسامته وهو ينظر اليها بنظرة جعلته أصغر عمرا، ثم قال بصوت أجش
(لا أحد غيرك مسموح له بمخاطبتي بتلك الطريقة يا مليحة)
ابتسمت بجمال حتى تألق طابع الحسن في ذقنها فضاعت ابتسامته هو، و قال مبهورا.

(سبحان خالق هذا الجمال، من أين لك بكل هذا الحسن؟)
أسبلت جفنيها و هي تشعر بنفسها ملكة في حضرة سيد عرشها، كانت له طريقة في مغازلتها تجعلها تشعر بهذا...
حتى صيغة كلماته مختلفة و كأنه خرج من كتاب ألف ليلة و ليلة، لها وحدها و دون غيرها...
رفعت وجهها تنظر اليه و همست بصوت مرتجف
(اذن لنعد الى هناك)
قال ليث بعد فترة من تأمله لها، (ليس بعد حبيبتي، هناك زيارة أخرى أهم)
عقدت سوار حاجبيها و هي تقول بقلق.

(زيارة أخرى؟، ماذا تقصد؟ أعصابي لم تعد تتحمل، ارحم سني فأنا لم أعد صغيرة لكل هذه الإنفعالات)
ضحك ليث عاليا وأمام عينيها المشدوهتين رأت رأسه المتراجع للخلف، و كأنه فتى يغازل مراهقته الحبيبة...
ثم نظر اليها قائلا بخبث
(أي سن تتحدثين عنه يا وحش الليل؟، لقد كدت أن تصيبيني بإصابات خطيرة جدية و أنت تصارعينني بمقاومتك الغبية بينما)
هتفت سوار و قد احمرت وجنتاها بشدة بينما اتسعت عيناها.

(هششششش، ما هذا الذي تقوله؟ هل فقدت حيائك يا رجل؟)
ابتسم بحنان وهو ينحني ليلثم ثغرها الخلاب، ثم قال هامسا بجدية
(معك، أريد أن أفقد حيائي و عمري الذي ضاع بعيدا عنك)
ارتبكت اكثر فترنحت، الا أنه اسندها الى صدره و سألها بخفوت
(هل أنت بخير؟)
أومأت برأسها دون رد، حينها همس لها بجدية
(جيد، اريد منك أن تستجمعي قواك لفترة يا مليحة الى أن ننتهي من زيارتنا التالية، و أعدك بعدها أن تنامين بين أحضاني للأبد).

رفعت سوار وجهها تنظر اليه بصمت، مدركة بأنه لن يتراجع عن شيء سبق و دبره مطلقا...
لقد باتت تعرفه جيدا...

ارتمت سوار بقوة على صدر جدها و هي تضمه اليها بقوة باكية، فضحك بوهن و هو يسعل قليلا
ثم قال
(على مهلك يا ابنة غانم، لم يعد جدك في عزمك و قوتك)
رفعت سوار كفه الى فمها و قبلت ظاهرها بقوة هامسة من بين دموعها
(اشتقت اليك يا جدي، اشتقت اليك جدا، بعيد الشر عنك يا غالي، أنا السبب في مرضك، لذا لم أقوى على رؤيتك)
رفع جدها يده ليربت بها على قمة رأسها ثم قال بصوته الخشن.

(لا تقولي هذا يا جوهرة عائلة الرافعي، و سيدة هذا الدار، ما هو الا عمر و ينقضي ليسترد الخالق أمانته)
بكت بصوت مختنق و همست
(لا تقل هذا، أرجوك)
قال جدها وهو يربت على كفها الممسكة بيده...
(ظلمتك كثيرا يا ابنة غانم)
هزت رأسها بقوة و قالت بحزم و هي تمسح دموعها
(لا، لم تظلمني، لا تقل هذا، كل خطوة في حياتي اتخذتها بمحض ارادتي)
قال لها جدها بملامح متغضنة.

(فرضتها عليك الظروف، و كان علينا الوقوف ضدها، كي لا نجبرك على شيء)
ابتسمت بحزن و قالت
(قدر و مكتوب يا جدي)
قال سليمان بتعب
(أين هو زوجك)
استدارت سوار تنظر خلفها، حيث كان ليث واقفا، مكتفا ذراعيه، و للحظة توقفت عيناها على عينيه...
كانت النظرة فيهما غريبة وهو ينظر اليها، عاقدا حاجبيه و كأن ما سمعه قد أوجعه بطريقة تجهلها...
قالت سوار و عيناها لا تزال تحومان عليه
(ها هو عند الباب يا حاج)
فقال سليمان يناديه.

(تعال يا ليث يا ولدي، لا أقوى على رفع رأسي)
اقترب منه ليث و قال بهدوء
(السلام عليكم يا حاج، سلامتك من المرض)
اقترب من الجهة الأخرى من فراش سليمان الرافعي و انحنى ليربت على كفه ليقول بصوت جاد
(أريد جمع أعمام سوار يا حاج، لدي ما أقوله لهم)
رفعت سوار وجهها تنظر اليه بحيرة، الا أنه تابع يقول بنفس الحزم.

(أعلم أن الوضع غير مناسب لطلبي هذا، لكنني سبق ووعدتك أن أسترد سمعة سوار و أرد لها شرفها، و سيحدث هذا على الملأ)
نظر اليه سليمان يتفحص ملامحه بقوة، فتابع ليث يقول وهو ينظر الى وجه سوار المبهوت.

(لقد عرفت من أشاع عنها بالباطل، وهو من عائلتي، لذا فأنا المسوؤل بالكامل عن رد شرفها، لقد تمت معاقبة هذا الشخص، أما بالنسبة لسوار، فأنا سأمنحها مهرا جديدا، و تزف الى داري في هودج عروس، على مرأى و مسمع من الجميع و أولهم أعمامي. )
ارتفع حاجبي سوار بذهول و قالت
(مهر و هودج! لا مستحيل، لن أقبل بهذا أبدا)
ابتسم لها ليث دون مرح، فقد كانت النظرة بعينيه حزينة وهو يقول بجدية.

(اتركي الأمر للرجال هذه المرة أيضا يا مليحة، و أعدك أن تكون المرة الأخيرة التي يفرض عليك بها شيئا)
أغمض سليمان عينيه وهو يتأوه بصوت أجش معذب
(الحمد لله)
ثم مد يده بضعف الى أن أمسك بها ليث و مال اليه، كي يسمع ما يقول، فهمس سليمان بصوت خشن متعب
(أنا مدين لك، كلنا مدينون لك يا ولدي)
كانت سوار تنظر اليهما و كأنها تحاول استيعاب ما يحدث، و ما أن استعادت صوتها حتى عارضت بقوة.

(لا أريد أن أزف و أخرج من هنا عروسا فهذا دار)
صمتت و هي تمسك لسانها في اللحظة الأخيرة، الا أن ليث أدرك تماما ما كانت على وشك قوله، فأظلمت عيناه قليلا، لكنه قال بخفوت و كأنه لم يفهم...
(سيتم هذا الأمر كما يليق بك يا سوار، و إن كان لديك هنا من يهمك بحق فستقبلين بهذا، لأن شرفك هو شرف كل شخص في هذا الدار)
تاهت عيناها أمام عينيه الصارمتين، فنظرت الى جدها و قالت متوسلة
(جدي).

بقى سليمان صامتا قليلا وهو يفكر بعمق، ثم قال أخيرا آمرا
(اذهبي و استدعي من أعمامك كل من هو موجود في البلدة حاليا يا سوار)
هتفت سوار بعجز مصدومة
(لكن)
قال سليمان بنبرة قوية رغم ضعفها
(لا تجادليني الآن يا ابنة غانم، اعترفت أنني ظلمتك بالفعل، لكن لا تتمردي في نهاية حياة جدك يا فتاة و ترفقي به)
نقلت سوار عينيها بينهما بغضب و ألم، الا أن ملامح ليث كانت جدية تماما لا تقبل الجدال أو المفاوضة...

فما يأمر به، يخص شرف المليحة ابنة وهدة الهلالي، لذا هو على استعداد لدفع حياته ثمنا لهذا الشرف...
نهضت سوار مندفعة بقوة و هي تنفض عبائتها بجنون، بينما نظر سليمان الى ليث يتأمله طويلا ثم قال بخفوت
(أنت يا ولد، تعلمت منك الشجاعة)
عقد ليث حاجبيه بشدة وهو يعيد الى عينيه الى سليمان الرافعي متفاجئا من عبارته المجهدة، فقال بسرعة
(حاشاك يا حاج)
الا أن سليمان هز رأسه قليلا وهو يرفع وجهه مغمضا عينيه، ثم قال بتعب.

(ليتني فعلت أشياء كثيرة على الملأ كما فعلت أنت، مرة بعد مرة! كم من مرة وقفت أمام الجميع و تحديت القوانين، نصرة للحق! أما أنا فكانت العائلة لدي أهم، مما جعل الظلم يقع على كثير من أحفادي)
ظل ليث صامتا قليلا وهو يستمع الى سليمان، ثم قال دون مواربة همسا...
(قاصي الحكيم يا حاج)
ارتفع حاجبي سليمان وهو ينظر الى ليث بدهشة مصدوما، ثم قال بوهن
(ألهذه الدرجة أنا مكشوف اليك يا ولد)
ابتسم ليث برفق، ثم قال بخفوت.

(لا يا حاج، لكن حين تذكر كلمة ظلم في هذا الدار، لا يسعني الا تذكر اسم واحد، قاصي الحكيم، أخي الثالث بعد سليم رحمه الله، قصة تشاركها ثلاثتنا و اختلف كل منا أنا و سليم على الحكم بها، بينما بقى قاصي ضائعا بين أمواج هذه الرحلة المضنية، لقد أريق دم والدته ظلما و عاش هو منبوذا من الجميع ملطخ بعارها المزعوم، و الظالم يسكن أرجاء هذا الدار، هانئا دون ذرة رحمة).

تغضنت ملامح سليمان أكثر دون أن يجد القدرة على فتح عينيه، ثم قال بخفوت
(لم أكن أعرف)
قال ليث بصوت خافت قليلا
(و بعد أن عرفت؟، لا أقصد أن أتهمك بشيء يا حاج، لكن من الواضح أنك تريد سماع هذا، و الا ما كنت قد بدأت الكلام و أنا لن أكتم حقا أبدا)
ساد صمت ثقيل بينهما، ثم قال سليمان أخيرا
(عمران الآن في السجن، هل عرفت؟)
أومأ ليث وهو يقول بصدق.

(بالطبع عرفت، كان هذا مجهود قاصي الشخصي، كم قضى من السنين وهو يعد لهذا، كان يلاحقه سرا يجمع أقل معلومة قد تفيده، كان كمن يحارب أمواج البحار، لا يملك الا طاقة غضب قادرة على احراق الجميع، هي فقط من ساعدته على الوصول الى هدفه الذي كان مستحيلا في بداية شبابه...
لقد أقسم قاصي قديما ان يقتل عمران، و كان يحيا لهذا السبب فقط، لكن شيء واحد هو ما منعه).

فتح سليمان عينيه و نظر الى ليث بصمت، ثم قال بصوت غريب مؤلم
(حفيدتي الصغيرة، تيماء ابنة سالم)
أومأ له ليث بصمت، ثم قال أخيرا بخفوت
(كانت له الحياة، كما كانت سوار بالنسبة لي، فكان على كل منا البحث عن حياته، فوق القوانين و الماضي و كل شيء آخر)
أفلتت تنهيدة يائسة من بين شفتي سليمان وهو يتنفس بتحشرج، ثم قال بصوت مختنق
(لقد عوضته، و سأفعل المزيد)
ابتسم ليث دون مرح، ثم قال بخفوت.

(أتخيل أنك قد عوضته بسخاء يا حاج، لكنك لو كنت تعرف قاصي جيدا، فستدرك أن المال لم يكن مطمعا له مطلقا، لا شيء يوازي شرف الأم، مهما كانت امرأة بسيطة، ظن البعض ألا قيمة لها، فانتهكوها دون رحمة و كأنها لا تستحق الرحمة، و كأنها ليست من البشر أصلا)
كان سليمان ينظر اليه بنظرة غريبة موجعة، ثم قال بخفوت و كأنه ينشد الراحة من غريب
(سأعمل على أن يظهر الحق حين يسترد الله أمانته).

ظل ليث صامتا قليلا، يشد على يد سليمان و كأنه يمنحه الدعم على الرغم من كل شيء، رغبة أخيرة منه في أن يساعد قاصي قدر استطاعته في هذا الأمر الحساس، على الرغم من كونه ليس من العائلة...
ثم قال بحذر
(أطال الله عمرك يا حاج، لا أعرف بالضبط ما انتويته، لكن الا تظن أن وقوفك بجوار قاصي في حياتك سيشكل له فارقا)
قال سليمان بصوت خافت
(الأمر صعب، صعب، عمران، لا يزال ولدي، كيف أملك القوة؟)
رد ليث دون تردد...

(أمام حساب رب العالمين، ستتمنى لو عدت يوما كي تمتلك تلك القوة)
نظر اليه سليمان بدهشة، فتنهد ليث قائلا
(أعلم أنني تجاوزت حدودي)
الا أن سليمان قال بعد فترة...
(أتعلم لماذا اخترت أن أتكلم معك أنت تحديدا؟)
رد ليث بخفوت
(لماذا يا حاج؟)
أجابه سليمان قائلا مرهق الأنفاس
(لأنك لا تملك مصلحة، أخشى على قاصي من أولادي من بعدي، لن يرحموه)
قال ليث مؤكدا
(و هذا سبب أدعى كي تدعمه في حياتك و تبريء ذمة والدته يا حاج).

نظر اليه سليمان طويلا وهو يتفكر في كلامه القوي ثابت النبرات، ثم قال بخفوت
(السبب الآخر، أن ما فعلته حتى الآن مع سوار، جعلك أقرب لي من أولادي يا ابن الهلالي، الآن فقط سأطمئن الى انني سأرحل و أتركها في حماية رجل يصونها و يحميها من الجميع)
أسبل ليث جفنيه وهو يتنفس بقنوط، نفسا طويلا، بطول السنوات المضنية، ثم قال أخيرا بصوت غريب.

(ليتك لم تضيع منا السنوات يا حاج، لكن، الحمد لله على كل حال، قدر و مكتوب، و قدري أن تكون سوار لي في نهاية المطاف، لذا فأنا شاكر على هذه النعمة)
شد سليمان على يد ليث بقوة و همس بحرارة
(أشكرك، أشكرك يا ولدي على رد كرامتها للمرة الثانية)
ابتسم له ليث دون رد، بينما لم يكن رضاه كاملا، ليست سمعتها فقط هي ما يسعى اليه، لو كان الأمر بيده، لإقتص من راجح على فعلته...

أن ينقذ سمعتها دون أن يعاقب مدنسها، لهو نصر منقوص، و كرامته موصومة بهذا النقص للأبد ما لم يأخذ لها حقها...
خرجت سوار برفقة ليث من جناح سليمان الرافعي و هي تغلي و ترتعد، لكنها لم تجرؤ على الكلام أو النطق، فما فعله معها كان أكبر من أن تستطيع معارضته...

خرج أعمامها قبلها بعد جلسة مطولة، ووافق الجميع على التعويض المادي و العلني الذي تعهد به ليث أمامهم جراء ما اقترفته احد أفراد عائلته دون أن يذكر اسم ميسرة، كي لا تسوء سمعتها هي الأخرى على الرغم من أنها تستحق، كان طلبه الوحيد أن يبقي على اسم من ارتكب هذا الجرم اكراما لإعتبارات خاصة، لذا كان الأمر مفهوما دون الحاجة للإعتراف باسمها...

لذا تمت الموافقة على صلح جديد و تعهد آخر من قبل ليث، و أمام عينيها العسليتين الواسعتين، رأته يحمل المسؤولية مجددا...
كم بدا مهيب الشكل وهو يجلس في مواجهتهم، عارضا عليهم القبول بجميع شروطهم كي يستحقها من جديد، دون ان يخفض هامته ولو للحظة...
عيناه لا تحيدان عن عينيها الا اضطرارا، يبتسم لها كلما انتابها التردد أو الإرتباك و الحرج من حساسية وضعها...

لذا لم تستطع المعارضة حين قبل جدها و أعمامها بما عرض، فأغمضت عينيها يأسا...
و ما ان فتحتهما مجددا حتى رأت عينيه تنظران اليها مباشرة، و بنظرة صريحة، قوية، و كأنه يحاول اختراق أعماقها ليعلم مدى احساسها بأنها مرغمة على ما تريد من جديد...
(تمهلي يا مليحة، قد تتعثرين بطرف عبائتك، فتسقطين على ذقنك و قد يطمس طابع الحسن الذي أعشق تذوق طعمه، حينها لن ارحمك).

توقفت سوار مكانها في الرواق الطويل، ثم التفتت اليه و هي تهمس بغضب من بين أسنانها
(هششششششش، ما بالك اليوم؟، ستفضحنا، هل أصابك مس من الجنون؟)
ابتسم قائلا بثقة و جدية و هو ينظر اليها
(الا تدرين ماذا أصابني؟، نعم أصابني مس من الجنون، فالليلة هي ليلة عرسي الحقيقي منك، منك وحدك دون شريكة لك بي، مصانة الكرامة، مرفوعة الرأس، اليوم أنا عريس، اتضنين على ببعض السعادة؟).

لمعت عيناها رغم عنها، و لم تستطع اخفاء البريق بهما...
و لمح هو هذا البريق الخاطف، فابتسم لها بحنان و ابتسمت رغم عنها...
حينها فقط مد لها ذراعه كي تحتمي باحضانه، فتقدمت اليه بملىء ارادتها حتى اندست في صدره مخفضة الوجه، فانحنى وجهه ليلثم جبهتها متنهدا بقوة و كأنه مرهق حد السقوط بين أحضانها...
ثم همس لها فوق جبهتها...
(الليلة ستكونين أجمل عروس، عروس بحق، لا كالمرة السابقة).

رفعت وجهها الشاحب اليه و همست بينما ارتاحت كفها على صدره
(كنت تعد لكل شيء قبلا؟)
أومأ لها دون رد، ففتحت شفتيها تود الكلام، لكن عيناها شردتا فجأة تجاه الممر المؤدي الى جناحها مع سليم...
توقفت سوار مكانها و قد خانتها قدماها للحظة...
بدت و كأنها قد أفاقت على نفسها من تلك الفرحة التي أوشكت أن تختطفها، و أدرك هو ما تفكر به، فهو يعلم جيدا مكان جناحها مع سليم...

شعر ليث بألم في صدره و كأن هناك من مد قبضته و اخترق بها صدره، ثم انتزع قلبه حيا من بين أضلاعه...
نفس الشعور الذي أحسه حين رآها ذات يوم على ظهر جوادها، ترتدي ملابس الرجال، الا أنه عرفها من عينيها، و لمح الضحكة الوضاءة بهما...
نفس قرصة القلب الموجعة، الا أنه أتبع نظراتها الى الممر الذي شردت به صامتة تماما...
ثم أعاد عينيه اليها و قال فجأة خفوت
(يمكنك الذهاب).

رفعت سوار وجهها اليه مجفلة، ثم قالت و هي ترمش بعينيها
(ماذا قلت؟، الى اين أذهب؟)
قال ليث بعد لحظة صمت
(الى جناحك القديم، يمكنك دخوله، لن أتطفل على ذكراك)
بهت وجه سوار تماما و ارتجفت شفتيها ناظرة اليه بعدم تصديق، ثم هزت رأسها بقوة و هي تقول
(لا، لن أفعل، لا يمكنني أن)
الا أن ليث رفع أصابعه ليسكت فمها بها وهو يقول بصوت خافت عميق
(اذهبي).

وقفت سوار مكانها تنظر اليه بعينيها من فوق اصابعه التي تغطي فمها، قبل ان يبعدها ببطىء...
فهمست باختناق
(لن أستغرق وقتا طويلا)
أومأ ليث برأسه، أو هكذا توهم لها، فقط مالت رأسه قليلا دون أن تستطيع قراءة ملامحه...
فابتعدت عنه تتراجع للخلف في خطوات متعثرة دون أن توليه ظهرها، وهو كان يستدير معها ليراقبها بصمت الى أن استدارت أخيرا و أسرعت الخطى بينما عبائتها ترفل خلفها...

أغلقت سوار باب جناحها و سليم خلفها، لتنظر اليه كما تركته تماما...
ظلت واقفة مكانها تجيل عينيها في المكان و هي تتنهد بصوت مرتجف، كان هو نفس المكان...
نفس الروح الجميلة التي تسكنه، و كأنها لا تزال تسمع صوت ابتهالات سليم...
فابتسمت بحزن، ثم أغمضت عينيها و همست
(السلام عليكم و رحمة الله)
لترفع يديها أمام وجهها و تهمس بقراءة الفاتحة، و ما أن انتهت حتى مسحت وجهها بكفيها قبل أن تفتح عينيها مجددا...

كانت النظرة بعينيها مختلفة، عميقة الحزن، لكن مع ابتسامة لم تمت على شفتيها...
تحركت سوار ببطىء حتى ذهبت الى دولاب سليم، ففتحته و التقطت احدى عبائاته...
و كما أمرت، تركت العباءات كما هي دون غسيل، كي تبقى رائحته الطاهرة بها...
أغمضت سوار عينيها و هي تستنشق هذه الرائحة العطرة، لتملأ بها صدرها...
ثم اتجهت ببطىء الى السرير و جلست على حافته بينما العباءة بين كفيها...
رفعت سوار وجهها و همست بإختناق.

(عرس جديد، و اعتذار آخر، أنا آسفة يا حبيبي و صديقي الغالي)
صمتت قليلا و هي ترمش بعينيها كي لا تطرف دموعها المحتجزة، ثم أخذت نفسا عميقا للتتابع همسا
(آسفة لأنني الليلة، لست مجبرة، أنا ذاهبة معه بكامل ارادتي يا سليم)
عادت لتصمت قبل أن تنظر الى الغرفة الجميلة، فابتسمت أكثر و لم تستطع منع الدموع من الإنسياب على وجهها، ثم هتفت همسا من بين بكائها الناعم و ابتسامتها الحانية.

(آسفة لأنني، أحبه، أحبه بكل جوارحي)
أغمضت عينيها بقوة و هي تدفن وجهها في العباءة الناعمة، و أبقته هناك عدة لحظات، قبل أن ترفع عينيها الحمراوين، واسعتين، واسعتين للغاية، قبل أن تهمس ببطىء
(آسفة، لأنني لن آخذ بالثأر، و أعرف أنك الآن ارتحت يا حبيب الروح)
نظرت حولها مبتسمة من بين دموعها، ثم أومأت مبتسمة و كأنه موجود حولها، و همست مجددا
(أعرف أنك ارتحت).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة