قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والخمسون

(أريد طفلا)
تسمرت أصابع قاصي فوق وجنتها، ليسحبها بسرعة وكأنها لسعته، ثم قال عاقدا حاجبيه بشدة
(ماذا، ماذا قلت للتو؟)
ردت تيماء بنفس النبرة الخافتة، التي تكاد أن تكون همسا
(أريد طفلا، لأنني أتألم بشدة، و لا أظنني قادرة على التحمل اكثر)
ارتجفت شفتي قاصي بشدة و غارت عيناه، فابتلع نفس الغصة و انقبضت كفه بشدة، حتى ابيضت مفاصل أصابعه...
ثم قال بصوت غريب.

(لما، لما لا أحررك مني، لعلك تحصلين على الطفل الذي تريدين من رجل يستحقك؟)
للحظات شعرت أن هذا ليس صوته، فعقدت حاجبيها و هي تنظر اليه مدققة النظر به...
فرأت ملامحه مختلفة كنبرة صوته، و كأنه يعاني من ألم مبرح...
لذا قالت بصوت مندهش و كأنها تخاطب طفلا
(لا، أنا اريد طفلك أنت، لا أحد غيرك)
ازدادت ملامح قاصي ألما و تشنجا، ثم قال بصوت مختنق
(و ماذا عني؟، هل أنا موجود في هذه الصفقة؟، أم سأكون مطرودا بعدها؟).

رفعت تيماء عينيها تتأمل ملامح وجهه دون رد...
كان مختلفا، لطالما عهدته مختلفا، لكن هذه المرة جاء اختلافه مختلفا، يمسك بحافة الباب بأصابع متوترة متشنجة، بينما فكه يتحرك بطريقة لا ارادية، و عيناه شديدتي العمق و كأنه ينتظر احدهم ليقرر له مصيره...
ارتجفت شفتي تيماء قليلا، قبل أن تبتسمان ابتسامة فاترة فاقدة الروح، ثم قالت بعفوية وهي تشير خلفها اشارة واهية.

(هل سنتابع هذا الحديث أمام الباب؟، جارتك على الأرجح لا تزال واقفة خارج بيتها، تبعد القطط التي ترعاها)
اشتد ضغط شفتيه و اضطربت عيناه، قبل ان يندفع مادا يده ليقبض على كفها المتدلية بجوارها، ثم سحبها بقوة الى الداخل ليصفق الباب بكل عنف...
شهقت تيماء دون صوت و هي تستند بظهرها الى سطح الباب، بينما استند بكفه بجوار وجهها وهو يراقب ملامحها بعينين منفعلتين، بهما من العنف و العصبية و، الألم...

رفع قاصي يده الأخرى ليضعها على جانب وجهها بسيطرة ثم قال بصوت متحشرج قاتم، آمر
(أجيبي، هل صفقتك تضمنني بعد حدوث الحمل؟)
أسبلت تيماء جفنيها قليلا، بينما راقبتها عيناه بدقة، متلقفا كل حركة من عضلات وجهها الرقيقة، يسجلها للأبد...
حين طال صمتها همس بصوت أكثر اختناقا
(تيماء، أجيبي)
حينها رفعت تيماء جفنيها كي تنظر بعينيها الشفافتين الى عينيه الحمراوين المحتقنتين، ثم همست بصوت خافت فاتر
(لم أعد أحتمل).

ارتجفت شفتي قاصي فجأة بمنتهى الوضوح، الا أنه سيطر على إنفعالات وجهه بمهارة وهو يضع قناعا صلبا متحجرا، ثم قال بصوت مختنق قاتم
(ما هو الذي لا تحتمليه أكثر؟، أنا؟)
هزت تيماء رأسها قليلا بإشارة هي نفسها لم تفهمها و شردت عيناها، ثم لعقت شفتها و هي تقول بخفوت
(بل الألم)
ارتجفت عضلة في وجنته، الا أنه لم يفقد سيطرته على ملامحه وهو يكرر كلمتها بصوت أكثر اختناقا
(الألم؟).

رفعت تيماء عينيها اليه، ثم أومأت برأسها و هي تقول بصوت هادىء ميت
(بعض العلاقات لا تلد سوى الألم، و علاقتنا إحداها)
انعقد حاجبيه بشدة و كأنه يتأوه متألما بشدة، لكنه لم يستطع النطق بكلمة، بل ظل على وقفته يحاصرها بهيمنة خوفا من أن تهرب من بين يديه للأبد، فتابعت تيماء بنفس الصوت الفاتر
(أخبرتك أنني لا أخشى الظلام، الا أنني لم أعرف الى أي مدى يمكن لإزدياده أن يطبق على صدر الإنسان حتى يقتله، أنا آسفة).

التوت شفتاه في ابتسامة ألم موجعة، الا أنه فقدها بسرعة وهو يقول بصوت عنيف متحشرج
(آسفة!)
أومأت تيماء برأسها و هي تتابع بهدوء
(أنت بئر عميق جدا و مظلم، من يسقط بداخله يحيا معذبا فيه الى الأبد، و أنا لم تعد لدي أي طاقة للإستمرار)
صمتت للحظة و هي تلتقط نفسا مرتجفا خانها و أفلت بصوت متهدج من بين شفتيها...
ثم قالت بصوت أكثر اتزانا...

(كان من الفترض أن تكون خلف القضبان الآن، لكن ها أنت تقف أمامي حرا، لديك من المال و السلطة ما لا أعرف كيف حصلت عليهما؟، أتدري كم بكيت لأجلك بعد سفرك مباشرة؟)
هتف قاصي بقوة
(تيماء، يمكنني أن أخبرك)
رفعت كفها فجأة و هي تقاطعه بنبرة أكثر قوة و كأنها صرخة مدوية
(لا أريد المعرفة، لم تعد لدي الطاقة أكثر، بت أعرف أنك تستطيع تدبير أمر نفسك جيدا، لكن أخرجني أنا، أرجوك).

صمت قاصي وهو ينظر اليها بألم غادر مريع، بينما بادلته النظر لتقول بصوت مختنق
(كفى يا قاصي، كفى، أنت تطلب مني ثقة عمياء غير مشروطة، لم أعد أملكها، حتى و إن أخبرتني الآن بكل ما أريد معرفته، ستظل على حالك دائما، توجعني ما أن أطالبك بأي تبرير، فتتعمد انزال المزيد من ألم الشك بداخلي)
عادت لتصمت مجددا، و هي تطرق برأسها قليلا، ثم همست بخفوت
(لم آت الى هنا كي نتعاتب، أتيت لسبب واحد فقط).

رد قاصي بنبرة قاطعة عنيفة على الرغم من الألم الذي ظهر فيها بوضوح
(أتيت لأنك تريدين طفلا)
أومأت تيماء و هي لا تزال مطرقة الوجه بصمت، فقال قاصي بصوت أكثر عنفا دون أن ترتفع نبراته كارتفاع صدره بقوة
(و بعد حملك به؟، هل لك أن تخبريني بخططك بعدها أم أنني مجرد فرس استيلاد لا يحق له السؤال؟)
ظلت على حالها، وجهها منخفض، متورد قليلا، لكن ملامحها هادئة هدوءا بائسا...
الى أن قالت أخيرا بخفوت.

(سأبدأ من حيث توقفت حياتي، سأسافر لإستكمال دراستي و أبدأ حياة جديدة، أقل ألما)
اتسعت عينا قاصي بنظرات اجرامية، يريد الضحك بعنف، يحتاج الى الصراخ بقسوة...
يتمنى كسر أي شيء، ثم الإطباق على عنقها الغض ليزهق روحها...
كان جسده يرتجف وهو يحاول السيطرة على تلك الموجة التي سرت بداخله مهددة، و استلزمه الأمر بضعة ثوان كي يستعيد تسمر عضلات جسده قبل أن يرتكب فعلا متهورا...

ثم قال أخيرا بصوت خافت خطير، بل شديد الخطورة
(هل تتوقعين مني منحك طفلا مع التنازل عن حقي به؟)
رفعت تيماء عينيها الغائرتين اليه، ثم قالت بصوت غريب
(الا أستحقه يا قاصي؟)
صمتت للحظة، ثم همست بنبرة أكثر غرابة، مختنقة و زائغة
(الا أستحق منك مكافأة نهاية هذه العلاقة؟، أريد طفلا، فقط طفل، هل هذا أمر صعب للغاية؟)
كان ينظر اليها بملامح محفورة من الألم و العذاب، ثم قال بصوت يرتجف.

(لا زلت عند عرضي، يمكنني تحريرك، ل)
صمت وهو يبتلع غصة في حلقه، ثم تابع بصوت به لمحة خوف
(لتجدين، من هو، أحق بك)
فغر شفتيه يتنفس من بينهما، وهو ينتظر بخوف، يعلم أنها لو أجابته بالموافقة، لربما قتلها قبلا...
نظرت اليه تيماء طويلا، ثم قالت بصوت نافذ الصبر
(ما هذا الهراء الذي تتفوه به؟، لما أبحث عن والد آخر لطفلي بينما أنت واقف أمامي كالباب؟).

أوشك على قتلها بكل صدق، كانت هناك وخزات في باطن كفه تحفزه على كسر عنقها، الا أنه تمالك نفسه بمنتهى الشجاعة و الإرادة...
ثم قال بصوت مرتجف غضبا، و تشنجا...
(هل هي مسألة اختصار وقت؟)
أغمضت تيماء عينيها و هي تهز رأسها بيأس، ثم قالت بجمود
(بل أريد طفلي، و طفلي هو طفلك أنت)
فتحت عينيها مجددا لتنظر الى عينيه مباشرة، ثم قالت بصوت صادق و هي ترفع يدها لتلامس كفه بأصابعها المرتجفة.

(أريد طفلك، أريد طفلا يحمل ملامحك و له نفس عينيك، أريد الشيء الوحيد الجميل من هذه العلاقة، أريد استعادة طفلي منك)
انعقد حاجبي قاصي بشدة وهو يشعر بقبضة جليدية تطبق على صدره بشدة، بينما دموع خائنة تحك عينيه طالبة الإذن في التحرر...
الا أنه تماسك وهو يلتقط أنفاسه بصوت عال، رافعا وجهه لأعلى...
ثم لم يلبث أن أطبق على كفها الملامسة لفكه، وانحنى اليها ليطبع شفتيه على راحتها بكل قوة...

ارتجفت تيماء بشدة و هي ترى كفها البيضاء الصغيرة، فريسة لعنف انفعالاته...
كان يقبل باطنها و ظاهرها بكل ضراوة، مما جعل ساقيها على وشك التداعي و السقوط...
رفع قاصي وجهه أخيرا لينظر اليها بملامح ثابتة قوية، و كأنه استعاد بعضا من شتات نفسه...
ثم قال بصوت هادىء الا أنه مرتجف قليلا...
(اسمعي، أنا لم أستفق تماما بعد، لما لا تدخلي و ترتاحي قليلا، الى أن، آخذ حماما و، ادخلي فقط).

فغرت تيماء شفتيها حبيبتيه أمام عينيه المشتاقتين، و قالت بصوت خافت بسيط
(هل وافقت؟)
أغمض عينيه وهو يهمس بداخله
الصبر يا الله، الصبر، ثم نظر اليها قائلا بإبتسامة جليدية...
(بضع دقائق، امنحيني بضع دقائق ثم نتابع حديثنا بعدها)
بدت تيماء غير راضية تماما و هي تبدو شاردة و يدها الحرة على بطنها، فنظر قاصي الى يدها عاقدا حاجبيه، ثم قال بقلق
(الا زلت تتوجعين؟)
همست تيماء بصوت شارد دون أن تنظر اليه
(جدا).

ازداد انعقاد حاجبيه بشدة وهو يقول بقلق تزايد أكثر، واضعا يده فوق يدها على بطنها
(لقد مضى أكثر من شهر! هل هذا الوجع مستمر دون تحسن؟، سآخذك الى الطبيب)
انتبهت تيماء و هي تقول بحيرة
(طبيب لأي شيء؟)
رد قاصي بنبرة أكثر توترا
(للوجع الذي تعانين منه، أنت تضعين يدك على بطنك بإستمرار، منذ رأيتك آخر مرة و أنت تفعلين هذا)
هزت تيماء رأسها قليلا ثم قالت بسرعة.

(لا، لا، أنا لا أعاني أي وجع، أنا فقط أنسى من حين لآخر، فأظنني لا أزال محتفظة بطفلي)
أبعد قاصي يده عن يدها ببطىء شديد وهو ينظر اليها نظرة، لها أن تسجل على أنها الأكثر وجعا على الإطلاق...
أخذ نفسا عميقا، ثم قال بصوت متحشرج
(ادخلي و انتظريني هناك)
بدت تيماء مترددة، الا أنها قالت أخيرا بصوت خافت
(حسنا، لا بأس).

ثم تركته لتدخل بتمهل الى الشقة، و أوشك هو على اللحاق بها يتابعها بنظراته المتلهفة، الا أنه لم يلبث أن عاد ليلتقط مفتاحه، ثم أحكم غلق الباب، و أخذ المفتاح معه كي لا تحاول الهرب ندما...
سيكون ملعونا إن سمح لها بالفرار بعد إعادة تفكير...
فدخول عرين الأسد، دخولا لا رجوع فيه...
تحرك قاصي أمام عينيها و هي تنظر اليه أثناء جلوسها على الأريكة التي سبق و احتلتها و هي في الرابعة عشر من عمرها...

توقف للحظة وهو يتأملها...
يالله! نفس النظرات المترددة الحذرة و هي تراقبه خلسة، لم يختلف حجمها كثيرا و بدت و كأنها هي نفسها، الطفلة المجنونة التي سافرت اليه في مهمة محددة...
ابتسم قاصي رغم عنه، بحنان متلهف حزين...
في ظروف أخرى لكان ربط الماضي بالحاضر و انتهز الفرصة ليفعل ما يحل له الآن و كان محرما قديما...
كان ليشاركها الأريكة و ينهل من حبها للأبد...

الطفلة الصغيرة التي أعادها الى بيتها قديما، ما هي الا زوجته حاليا...
زوجته و كل ما تبقى له في هذه الحياة...
هي المتبقي من حياته نفسها...
ابتسمت له تيماء ابتسامة مختصرة، ردا على ابتسامته الشاردة وهو يقف عنده محملقا بها عن بعد...
ابتسامتها الفاترة تلك كانت بمثابة صفعة له، جعلته يتراجع للخلف وهو ينظر اليها مجفلا الى أن استدار و أسرع يختفي من أمامها...

اندفع قاصي الى غرفته باحثا بجنون عن هاتفه الى أن وجده أخيرا...
فالتقطه بسرعة وهو يضرب رقما متلهفا، ثم خرج من الغرفة لينظر الى تيماء عن بعد و هي لاتزال جالسة مكانها تتلاعب باصابعها بتوتر...
بينما الهاتف على أذنه، الى أن هتف أخيرا همسا مشتدا
(تيماء هنا)
ساد صمت قصير قبل أن يصله صوت مسك لتقول بعدم فهم
(صباح الخير يا قاصي، هل تدرك أنني في شهر العسل حاليا؟)
هز قاصي رأسه وهو يهمس بعنف من بين أسنانه.

(تبا لشهر العسل، هل سمعت ما قلته؟، تيماء هنا)
قالت مسك برزانة ممتعضة
(أعرف أنها هنا و لم تسافر الى مدينتها بعد، أين رأيتها صدفة بعد رفضك التام لمقابلتها يا سبع الرجال؟)
هتف قاصي همسا محاولا قدر استطاعته السيطرة على جنون انفعالاته
(لم أقصد وجودها هنا في المدينة، بل قصدت أنها هنا في بيتي)
قالت مسك بنبرة مصدومة
(تيماء في بيتك؟، ماذا تريد؟)
رد قاصي بنبرة قاطعة
(تريد طفلا).

ساد صمت قصير بينهما وهو يقف منتظرا الرد، يهز ساقه بعصبية و تشنج، الى أن سألته مسك ببطىء
(تريد ماذا؟)
رد قاصي بتوتر
(تريد طفلا)
صمتت مسك للحظة قبل أن تقول بعدم استيعاب
(لحظة واحدة، لا أفهم شيئا، كيف تريد طفلا؟، من أين؟)
احمرت أذناه قليلا وهو يلوح بكفه، مكررا بنبرة أشد توترا و ذات مغزى
(تريد طفلا، كما يأتي الأطفال عادة، لا مزيد من الشرح. )
ساد صمت ذاهل بينهما الى أن قالت مسك محاولة الإستيعاب.

(هل تقصد أنها تريد أن تستأنفا حياتكما معا من جديد؟)
رد قاصي بصوت قاتم وهو يبتلع غصة مؤلمة في حلقه
(بل تريد طفلا فقط لتسافر بعدها و ننفصل للأبد، أخبرتني أنها غير قادرة على تحمل الألم أكثر و تريد تعويض الطفل الذي فقدته، لا أكثر)
لم ترد مسك للحظتين فقط، ثم هتفت بقوة و حزم...
(لا تستجب لها)
أخرج قاصي رأسه من باب الغرفة لينظر الى تيماء عن بعد وهو يخفي الهاتف.

فرفعت وجهها اليه مباشرة، و ابتسمت نفس الإبتسامة الخالية من روح...
فأعاد رأسه لداخل الغرفة و الهاتف الى اذنه ليقول بتوتر
(إنها تبدو مصممة)
هتفت مسك به بحدة
(لا تدعي الغباء يا قاصي، إنها ليست في حالة سوية، يستطيع الأحمق ملاحظة ذلك)
أطرق قاصي برأسه وهو يضع كفه في خصره، يتنفس بسرعة وتوتر، ثم قال بخفوت
(ربما لو أجبت طلبها ف)
قاطعته مسك هاتفة بحدة.

(قاصي، أنت لم تتصلي بي الآن الا لأمنعك عن هذا، لن تفعل هذا بها مجددا، لن تمنحها طفلا لتتركها تسافر به و تتابع حملها وحيدة يوما بعد يوم، كفى ظلما و استبدادا، لا تفعل هذا بها)
قال قاصي بصوت متداعي
(أنا لا أريدها أن تسافر، أنا أريدها معي)
ردت مسك بصرامة و قوة.

(و هي تريد ان تبتعد، لذا الى أن تستقرا على رأى مشترك واحد، إياك و أن تستجيب لطلبها، لأنك ستكون مستغلا لحالتها، أنا لاحظت الفترة التي قضتها معي أنها لم تتعافى نفسيا بعد)
وقف قاصي مكانه، متوتر الجسد، متهاوي العزيمة، مثقل الروح، فتابعت مسك بصوت أكثر لطفا حين لم يرد عليها.

(قاصي، فكر بها مرة واحدة فقط، فكر في الأصلح لها، لا ما تريده أنت، تلك الفتاة خسرت لأجلك الكثير، في الحقيقة منذ اليوم الأول الذي جمعتكما فيه الحياة و هي تحيا سلسلة من الخسائر بسببك، كن منصفا مرة واحدة، و حررها)
رفع قاصي وجهه الباهت ليهمس بصوت ميت
(أحررها؟)
ردت مسك بنبرة قاطعة...

(إن كنت تحمل لها أي مشاعر متبقية، هذا هو ما عليك فعله، أنت حتى لم تستطع مواجهتها بعد أن فقدت طفلها الى أن أتتك هي بقدميها، أي فرصة أخرى تنتظركما بعد كل هذا الألم؟)
انعقد حاجبيه بشدة وهو يشعر بألم حاد في صدره، ثم قال بصوت أجش
(أنها الشخص الوحيد المتبقي لدي، الشخص الوحيد الذي قبل بي دون شروط، ابعادها الآن يعد حكما علي بالمنفى للأبد)
ردت مسك بقوة و غضب
(لا زلت لا تفكر الا بنفسك فقط).

أغمض قاصي عينيه وهو يتنفس بصعوبة، و منحته مسك الوقت الكافي كي يهدأ و يقتنع، الى أن رفع وجهه أخيرا و قال بصوت خافت
(ألم تفكري بنفسك فقط أنت أيضا يا مسك؟، لماذا تعتبين على اذن في انتهاز الفرصة الأخيرة؟)
ساد صمت مهيب بينهما، طويل جدا ما أن ألقى بسؤاله الخافت الميت، الى أن قالت أخيرا بصوت جامد
(لماذا تؤلمني؟، هل لمجرد أنني أسمعتك ما لا تحتاج؟)
رد عليها قاصي قائلا بصوت هادىء أكثر خفوتا.

(بل أخبرك أنك محقة، محقة في تفكيرك في نفسك)
قالت مسك بحدة
(ماذا تقصد؟، قاصي لا تفعل، ستنندم لاحقا)
الا أنه رد عليها بصوت بسيط هادىء
(أراك لاحقا، صحيح، مبارك لك يا أميرة)
هتفت مسك تناديه بعنف، الا أنه أغلق الهاتف وهو يرفع وجهه ليأخذ نفسا عميقا، نفخ صدره بقوة...
ثم لم يلبث أن اتجه الى خزنة ملابسه، أخرج منها بضعة قطع بسيطة...
ليخرج من الغرفة، و في نهاية الرواق وقف مكانه ينظر اليها...

كانت شاردة الآن فلم تشعر بمراقبته لها، مما أتاح له الفرصة كي ينظر اليها بحرية...
إنها أكثر نضجا، على الرغم من أنها تعيد اليه ذكريات محفورة على قلبه كنقش دائم...
الا أنه لن ينكر نضجها، و الألم البادي في عينيها...
هذا الألم بدا دائما و كأنه مجرد ظل للون الفيروزي في عينيها الكبيرتين...
ابتلع قاصي ريقه ثم قال بصوت عال من مكانه
(سآخذ حماما ثم أتفرغ لك، تصرفي بحرية).

أجفلت تيماء على صوته الجهوري، فرفعت وجهها تنظر اليه، ثم أومأت بصمت، لكن دون ابتسام هذه المرة...
حينها أغمض قاصي عينيه عنها و اندفع الى الحمام صافقا الباب خلفه بقوة...
كان كل ما يحتاج اليه في تلك اللحظة هو وقفة طويلة تحت الماء البارد، فوضع كفيه على الجدار الناعم، مغمضا عينيه، مستسلما لهذا الشلال البارد عله يساعده على الإستفاقة من وهن الأيام الماضية...
لقد كان كالميت، فاقدا العزم و الحياة...

لم يتخيل أن يأتي يوم القبض على عمران الرافعي دون أن انتفاضة داخلية تمسك بزوايا روحه...
لطالما اعتقد أن يوما كهذا هو يوم استعادته للحياة، لكن هذا لم يحدث، فقد كانت خسارته أكبر من ربح النيل من عمران...
لكن الآن فقط، بدأ يشعر بفرصة استعادته للحياة، بقدوم تيماء اليه...

حين خرج اليها، كان قد استعاد كامل تركيزه و انتعش، و شذب لحيته و قام بتقصير شعره قليلا، فبدا أكثر تمدنا بعد أيام طويلة من الهمجية...
وقف قاصي مكانه وهو ينظر اليها...
كانت لا تزال في نفس مكانها على الأريكة، الا أنها تصرفت بحرية كما طلب منها!
فخلعت حجابها و كنزتها، و بقت بتنورتها البسيطة الواسعة و قميص قطني بسيط بلا أكمام...
عقد قاصي حاجبيه وهو يراقبها...
هل تنوي اغواءه؟

ملابسها مجرد قطعا بسيطة حيادية اللون، الا أنه يشعر بالإغواء...
ربما لأنه لم يقربها الا مرة واحدة بعد سبعة أشهر كاملة من الشوق و الوحدة...
و الآن و هي تطلب منه هذا الطلب بكل بساطة، بدأت كل وظائفه الذكورية تتفاعل معها...
أخذ قاصي نفسا عميقا، ثم تحرك اليها ببطىء، حافي القدمين، يقترب منها بخفة النمر الى ان شعرت بوجوده...

فرفعت وجهها اليه و ابتسمت مجددا نفس الإبتسامة المجاملة، و التي يود حاليا لو ضرب وجهها في الحائط كي يمحو عنه تلك الإبتسامة فاقدة الروح...
ارتمى قاصي بجوارها مرتاحا، وهو ينظر اليها مبتسما، ثم قال بصوت هادىء
(هل تأخرت عليك؟)
هزت تيماء رأسها نفيا دون أن ترد، ثم أخفضت وجهها و هي تتلاعب بأصابعها، بينما كان هو يراقبها بتفحص، ثم قال أخيرا بخفوت
(تبدين مترددة)
رفعت وجهها تنظر إلى بصمت، ثم قالت بعد فترة.

(لست مترددة، يمكنني القيام بهذا رغم صعوبة الأمر)
نظر قاصي أمامه بصمت، ثم ابتسم وهو يقول بسخرية مريرة
(رغم صعوبة الأمر!)
لعقت تيماء شفتها، ثم قالت محاولة تبرير كلامها...
(أعذرني، لقد مررت بالكثير خلال الفترة السابقة)
أطرق قاصي بوجهه وهو يقول بصوت غريب مكتوم
(أعرف، أعرف هذا)
ساد صمت طويل متوتر بينهما، و كأنهما غريبان يحاولان ارتكاب خطيئة ما لأول مرة...
ثم نظر اليها قاصي و قال فجأة.

(لقد تم القبض على عمران، هل تعلمين هذا؟)
نظرت تيماء بعيدا، و تحولت ملامحها الى صفحة جامدة باردة، ثم قالت بعد فترة بصوت جاد
(لست مهتمة بمعرفة هذا)
انعقد حاجبي قاصي وهو ينظر الى جانب وجهها الشاحب، ثم قال بصوت ميت
(لهذه الدرجة؟، في يوم مضى كنت تتلهفين لمعرفة كل ما يخصني)
لم ترد تيماء على الفور، بل ظلت صامتة قليلا و هي تنظر الى أصابعها دون حياة، ثم قالت أخيرا.

(لم أعد مهتمة بكل ما يخصكم، عائلة الرافعي بأكملها، تعبت منكم)
قال قاصي بعنف مفاجىء
(لست من عائلة الرافعي)
رفعت وجهها تنظر اليه، ثم قالت بخفوت
(هلا أغلقنا هذا الموضوع رجاءا)
أظلمت عيناه، لكنه قال بصوت جاف
(الا تريدين معرفة أخبار عمرو كذلك؟)
أخذت تيماء نفسا عميقا بصوت عال و هي تنظر بعيدا، ثم قالت
(هو مع أمه الآن، و كلاهما بخير، اليس كذلك؟)
رد قاصي بإيجاز
(نعم)
تنهدت و هي تومىء برأسهما قائلة.

(اذن فهما محظوظان، لا أحتاج لمعرفة المزيد)
قال قاصي بصوت أجش
(كانت خدعة، ريماس بخير، لقد قاما بحجز غرفة عناية مشددة باسمها، بنفوذهم، لقد اتفق والدك و راجح على هذا)
أطرقت تيماء بوجهها، حيث لم تبد على ملامحها أي تعبير معين، خاصة و هي تقول بخفوت
(نعم أعرف، آسفة على هذا)
ضحك قاصي باستياء، ثم قال ساخرا
(هل تعتذرين نيابة عن والدك؟، هذا لطف منك)
رفعت تيماء تنظر اليه، ثم قالت بخفوت.

(الحقيقة، ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي لم آسف بها لشيء فعله، لقد تجبرت جدا مؤخرا، و كان قد آن الأوان لإيقافك)
فغر قاصي شفتيه قليلا، و شعر و كأنها قد ضربته ضربة في منتصف قلبه مباشرة...
لم يصدق أن يأتي اليوم الذي تتكلم فيه تيماء عنه بمثل هذه المشاعر الميتة اطلاقا، .
انقبضت كفه بشدة فوق ساقه، و بدأ أعصابه تهدد بالإنفجار...
الا أن صوتها وصله خافتا مترددا...
(قاصي، هل وافقت على طلبي؟).

نظر اليها بطرف عينيه، و كأنما انسكب ماء بارد على جمرة غضبه فأطفئتها تماما...
ظل ينظر اليها طويلا و هي تبادله النظر بحذر...
فوضوية مظهرها جميلة، و هالة شعرها لم يعرف مثلها من قبل، و الألم في عينيها يقتله...
و صوتها الميت ينحر قلبه...
أخذ نفسا قويا، ثم لعق شفته قائلا بصوت جامد، وهو يتجنب النظر اليها
(فترة النفاس)
قاطعته تيماء قائلة بخفوت
(قضيتها).

نظر اليها وهو يستدير اليها بكليته، ثم أمسك بكفها فجأة وهو ينظر الى عينيها، و قال بصوت مبحوح
(لم أسأل سؤالي بعد، كيف كانت؟ هل عانيت أو تعبت؟ لقد سافرت و بذلت مجهود و لم يكن هذا مريحا لك، هل تابعت مع طبيب؟)
كانت تيماء تنظر الى عينيه هي أيضا وهو يتكلم، و ما أن انتهى، حتى قالت بنبرتها الباهتة
(هل عانيت؟، لا، أنا بخير، لست في حاجة الى طبيب، لست في حاجة الا الى طفل ليعوضني).

تأوه قاصي بصوت خافت، ثم اقترب منها ببطىء، الى ان ضمها اليه قليلا، و همس في أذنها بصوت أجش
(و هل تظنين أن الطفل الجديد سيكون تعويضا كافيا لك؟، هل سينهي ألمك؟)
أومأت برأسها و هي تهمس بصوت مختنق
(نعم، أرجوك، أرجوك)
تأوه قاصي مجددا بصوت عال مختنق وهو يشدها الى صدره، يرفعها بقوة الى أن أجلسها على ركبتيها فوق الأريكة وهو يضمها الى أحضانه قائلا بصوت معذب
(أنا آسف، أقسم بالله أنني آسف).

لم تستطع تيماء الرد، فقد كانت دموعها تنساب على وجهها بصمت بينما هي مستسلمة تماما الى تلك القوة التي تشدها الى راحة مؤقتة، مخدرة...
رفع قاصي أصابعه ليتخلل شعرها بحنان وهو يضم رأسها الى رأسه، لكن ما أن أوشك على تقبيلها حتى رفع وجهه مبتعدا عنها قليلا وهو يمسح طرف عينه بإصبعه...
كان يتنفس بسرعة و إنفعال، فنادته تيماء بصوت خافت حائر
(قاصي!).

حين أعاد وجهه ينظر اليها، كانت ملامحه جامدة و عينيه ثابتتين، بينما الدموع الباردة منسابة على وجهها هي، دون أن تدرك بأنها كانت تبكي اصلا...
رفع قاصي كفيه ليحيط بهما وجهها الشاحب المنتظر، يتأمل كل ذرة منه بعنف، الى ان قال أخيرا بصوت هادىء
(أنا لن أستطيع هذا حاليا يا تيماء)
بدت و كأنها لم تفهم قصده، فقالت بخفوت
(يمكنني القدوم في أي وقت تحدده).

انعقد حاجبي قاصي وهو يسبل جفنيه ليحجب عينيه عن عينيها، ثم قال بنبرة قاتمة جافة
(أنا لست مؤهلا لهذا حاليا)
ارتفع حاجبي تيماء قليلا و هي تقول بدهشة
(لست مؤهلا؟، متى ستكون مؤهلا اذن؟)
أغمض قاصي عينيه بشدة وهو يحاول جاهدا مقاومة الرجفة الصغيرة في نبرة صوتها الباهت...
الصبر يا الله...

كل ما يشعر به حاليا هو أنه مؤهلا لأن يسمح لنفسه، مجرد أن يسمح لنفسه بلمسها، حينها سيضيع معها في عالم يخفف عنهما الألم لساعات...
هو مؤهل لأن ينصهر معها بكل ذرة شوق بداخله تجاهها...
هو مؤهل لأن يجرفها معه في غيمة خاصة بهما، بعيدا عن كل ذكرى موجعة...
ابتلع قاصي ريقه ثم فتح عينيه لينظر اليها، فصدمته تلك العينان الكبيرتان الغير واثقتين...

لكنه التزم حيادية الملامح وهو يقول بصوت أجش هاديء أخفى حقيقة ما يشعر به...
(أنا مررت بنفس ما مررت به، لذا أنا محتاج الى تهيئة نفسية كي أعاود، أعاود، التواصل معك)
فغرت تيماء فمها قليلا و هي تستمع اليه صامتة، حتى بعد أن سكت...
ثم لم تلبث أن رفعت حاجبيها و هي تهز رأسها قليلا، و قالت بإحراج واضح
(هل الأمر صعب الى هذه الدرجة؟).

حسنا إنها مصممة على قتله بأبسط الطرق، عض قاصي على شفته وهو يضغط أسنانه متظاهرا بالتفكير المنطقي، ثم قال أخيرا بصوت بدا غبي على أذنيه
(ليس صعبا، لكن أنت تعرفين، ابتعدنا لفترة طويلة، ثم مررنا بمحنة و، نحتاج أن نتهيأ نفسيا و كفى)
صمتت تيماء بضعة لحظات ثم قالت بخفوت
(و كيف تكون هذه التهيئة التي تحتاج بالضبط؟)
أغمض قاصي عينيه و نفس مرتجف يفلت من بين شفتيه...

آآآآآه يمكنه تخيل بعض انواع التهيئة المجدية جدا...
لكنه صر على أسنانه و أبعد الصور البذيئة عن ذهنه، ثم نظر اليها وهو يمط شفتيه قائلا ببساطة
(علينا أن نبقى معا لفترة، الى أن تعود الأمور لطبيعتها)
كانت تيماء تنظر اليه و كأنما تنظر الى رجل يماطل كي يتخلص منها، فقالت بفتور
(الأمر لا يحتاج لأن تضغط على نفسك طويلا، فقط امنحني الطفل و سأبتعد)
أبعد قاصي وجهه عنها وهو عاقدا حاجبيه قائلا بعصبية.

(أنا أدرى بما أحتاج اليه، و ها أنت تضغطين على حاليا، لقد خرجت للتو من ظرف عصيب فكوني متفهمة، كما أحاول أنا تفهمك)
أطرقت تيماء بوجهها و قد تورد أكثر، بينما هو يختلس النظر اليها بطرف عينيه
هذا كثير، ما يمر به في هذه اللحظة كثير جدا و يفوق احتماله...
لكنها قالت أخيرا قبل أن يفقد أعصابه و يهجم عليها و يغتصبها...

(ليس لدي الوقت الكافي لمثل هذه التهيئة التي تحتاج إن طالت، فأنا لدي فصل دراسي جديد على أن أسافر لألتحق به، الا يمكنك أن تكون أقل أنانية ولو لمرة؟)
نظر اليها بصمت، ثم قال بصوت كئيب
(هل هكذا تشعرين تجاهي؟)
انتفضت تيماء من مكانها بقوة كمهر جامع، و أولته ظهرها و هي تقول ضاحكة بسخرية عصبية
(كان على توقع هذا، كم من مرة تسببت في ضياع دراسة أو منحة؟، دون أن يؤنبك ضميرك ولو للحظة!).

كان قاصي جالسا مكانه ينظر اليها بنظرات فارغة، في عمقها الألم كان واضحا فقط لمن يريد أن يراه...
الا أنه تركها تتكلم بحرية...
فاستدارت اليه و هي تهتف
(حتى عمرو، حتى عمرو لم يسلم من أذاك)
أظلمت عينا قاصي قليلا، و انحنت شفتاه ألما، الا أنها لم ترحمه قائلة بغضب.

(لقد تسببت في ضياع عام دراسي كامل بسبب رغبتك في الإحتفاظ به، دون ذكر جريمة اختطافه من أمه، هل فكرت و سألت نفسك ولو للحظة، بأي حق تتخذ قرارا بأن تحرمه من عام دراسي؟)
ساد صمت قصير بينهما و كل منهما ينظر للآخر...
كانت هي غاضبة تتنفس بسرعة و قد احمر وجهها، و قد أشعره هذا بالراحة قليلا عوضا عن الهدوء الفاتر الذي فاجئته به على باب بيته بطلبها الوقح...
تكلم قاصي قائلا أخيرا بصوت ميت.

(كنت أحاول الإحتفاظ بابني، لذا حين وضعته في كفة أمام عامه الدراسي، رجحت كفته بالنسبة لي بالتأكيد)
صرخت تيماء بقوة و عنف
(لكنه ليس ابنك، لقد خطفته من أمه لمدة تجاوزت النصف عام، لذا معك حق، موضوع إضاعة عام دراسي منه يعد أقل إجراما)
قذفت الكلمة الأخيرة في وجهه بكل عنف و غضب، ثم لم تلبث أن صمتت تماما و قد عم السكون المكان...

رفعت تيماء عينيها الى قاصي بعد فترة طويلة جدا، فرأت ملامحه و قد تحولت الى قناع صلب خالي الشعور، قاسي، قاسي كما عرفته دوما...
أخذت نفسا مرتجفا ثم قالت أخيرا
(أعتقد أن، أعتقد أن طلبي اصبح مرفوضا بعد ما تفوهت به للتو، اليس كذلك؟)
ظل قاصي على صمته وهو ينظر اليها بنفس الملامح، فهزت رأسها مبتسمة بمرارة، و قالت متابعة بصوت مختنق.

(لم أكن أظن أن يأتي اليوم الذي أقف فيه أمامك متذللة لطلب كهذا، اعتبر أنني لم أقل شيئا و لن أزعجك مجددا، لقد استوعبت مسبقا عدم رغبتك في رؤيتي، بعد موت طفلنا، مرة أثناء دفنه و مرة في زفاف مسك، لم يكن على أن أهين نفسي أكثر، سأغادر)
تحركت تيماء لتلتقط كنزتها باصابع خرقاء و هي تحاول ارتدائها بعصبية، بينما أوشكت الدموع التي اغشت عينيها أن تنساب منهما مجددا كي تتضح لها الرؤية...

لذا لم ترى قاصي وهو ينهض من مكانه الا بعد ان شعرت بالكنزة تسحب من بين يديها لتلقى بعيدا قبل أن تحط أرضا، ثم أدارها اليه بقوة، فحاولت ضربه بكل قوة الا أنه سيطر على كل مقاومتها بمنتهى البساطة، الى أن توقفت أخيرا و هي مضطربة بجنون...
رفعت تيماء وجهها المجهد اليه، فرأت القناع الصلب و قد اهتز، و كأنه يتشقق ليظهر من خلفه شخص آخر لا تعرفه...
ارتجفت شفتيها قليلا و هي تنتظر، الى أن قال أخيرا بصوت مختنق غريب.

(هل تريدين هذا الطفل أم لا؟، أريد جوابا واضحا و أحتاج لأن أشعر بمدى وثوقك من هذا القرار)
مضت بضعة لحظات و هي تنظر اليه بصمت، الى أن قالت أخيرا بصوت قوي رغم خفوته، مشددة على كل حرف
(أريد هذا الطفل أكثر من اي شيء آخر)
زم قاصي شفتيه، ثم قال بصوت صلب
(اذن ستقبلين بشروطي)
بدت تيماء مجفلة، ثم قالت بصوت خافت متردد.

(آسفة لن أستطيع، لن أستطيع متابعة حياتنا سويا يا قاصي، قد أموت روحيا بدونك، لكن الموت قد يكون أحيانا أكثر رحمة من الألم المستمر دون جدوى)
صمت قاصي قليلا ثم قال أخيرا بصوت أكثر صلابة
(لم أطلب منك أن نتابع حياتنا سويا إن لم تكن هذه رغبتك)
أسبلت تيماء جفنيها امام هذا الألم الجديد، على الرغم من شعورها بأنه بات يتهرب منها مؤخرا بكل إصرار، الا أنها لم تتخيل يوما أن يمنحها الحرية بمثل هذه البساطة...

و هذه البساطة أوجعتها رغم كل شيء...
قال قاصي بصوت متشنج يقاطع شرودها الحزين...
(سنبقى سويا الى أن أشعر بأنني بت مهيئا نفسيا لطلبك، و بما أنني لا أعلم كم سأحتاج من الوقت تحديدا، اذن ستتابعين حياتك ودراستك بكل اصرار، الفارق الوحيد هو انني سأكون معك خلالها)
هزت رأسها قليلا و هي تنظر اليه غير مستوعبة، ثم قالت بضعف
(كيف ستكون معي؟، لا أفهم، تقصد الى أن يحين موعد سفري؟).

ابتسم ابتسامة لم تلقى ظلا لها في عينيه، ثم قال ببساطة
(بالتأكيد سنظل معا الى أن يحين موعد سفرك، ثم نسافر سويا)
فغرت تيماء فمها و هي تنظر اليه مستنكرة، ثم لم تلبث أن هتفت بعذاب
(لماذا تفعل هذا بي؟، كل ما يتطلبه الأمر هو مرة، مرة واحدة، دون ألم)
ابتسم قاصي ابتسامة ساخرة مؤذية، ثم قال بوقاحة تماثل وقاحتها.

(و ماذا إن لم يحدث الحمل خلال تلك المرة؟، تأتين مرة أخرى، ثم أخرى، و كأنها مجرد عملية تهجين باردة! اعذريني فأنا أفضل أن يتكون طفلي في ظروف أكثر احتراما و شاعرية، و أي اقتراحات أخرى فهي مرفوضة، لاحظي أنني سأمنحك طفلا كهدية خالصة الضرائب مني)
اهتزت حدقتا تيماء و هي تنظر اليه بتوتر، ثم قالت بصوت متعثر
(أشعر، أشعر و كأنك تخدعني)
فتح قاصي ذراعيه وهو يقول ببساطة.

(كيف لي أن أخدعك يا استاذة؟، عيب عليك أن يخدعك رجل بسيط مثلي بينما انت قادرة على كسب انتباه دفعة كاملة من الطلاب ممن هم أطول منك، إن فكرت بشروطي قليلا، ستجدين أنها أكثر منطقية، و صدقا)
أطرقت تيماء بوجهها و هي تشعر بالتردد، بينما قاصي يراقب رأسها المنخفض بنظرات سوداء شديدة العمق، و قلبه يخفق بعنف منتظرا...

لعقت تيماء شفتها فتعلقت عينا قاصي بحركتها وهو يتأوه يائسا، السبب في عدم استقراره الجسدي هو طلبها الوقح في بساطته بعد أسابيع من الحرمان...
تبا لذلك...
رآها و هي تأخذ نفسا عميقا، ثم رفعت عينيها تنظر اليه و قالت في النهاية
(موافقة، و أرجو أن تكون صادقا معي لمرة واحدة، فطاقتي انتهت يا قاصي أتوسل اليك)
لم يتحرك قاصي من مكانه وهو ينظر اليها بنظرات قاتمة غير مفهومة، ثم أومأ برأسه أخيرا و قال ببرود.

(جيد اذن، كل ما عليك فعله هو إحضار أغراضك من بيت سالم، كي تأتي للإقامة معي هنا، و سيكون علينا الإنتظار قبل فصلك الدراسي الجديد، و في تلك الاثناء أرجو أن يتم الحكم سريعا في قضية التزوير الخاصة بي)
رفعت تيماء وجهها الشاحب اليه ما أن نطق بعبارة التزوير بطريقة طبيعية و كأنه يتكلم عن مخالفة مرورية...
فبهت لون شفتيها بشدة، حينها ابتسم قاصي بسخرية وهو يقول بقساوة
(ألن تسألي عن المال أيضا؟).

عقدت تيماء حاجبيها و هي تبعد وجهها عنه قائلة
(لا أريد معرفة شيء)
ابتسم قاصي اكثر قائلا بنبرة عنيفة
(لماذا؟، كي تعفين ضميرك الحي من تخيل نفسك تسعين لإنجاب طفل من رجل و أنت متأكدة من أنه مجرم؟، هل عدم المعرفة أكثر مناسبة و راحة لك؟)
نظرت تيماء بعيدا و هي تقول بخفوت
(لم أعد أملك أي حق في محاكمتك يا قاصي، لقد تنازلت عن هذا الحق بمحض ارادتي، بعد أن يئست).

أفلتت منه ضحكة قصيرة قاسية لا تحمل أي ذرة من مرح، ثم قال بجفاء
(جيد اذن، لكن على تنبيهك الى شرط آخر، )
نظرت اليه تيماء بعدم تصديق و هي تقول ذاهلة بضعف
(لا أصدق أنك تفعل بي كل هذا!)
ضحك مجددا ضحكة أكثر استياءا، ثم قال بإختصار
(صدقي اذن، هذا هو والد طفلك الذي اخترت بمحض ارادتك، لا يمكنني تغييره)
رفعت تيماء وجهها بملامح جافية، ثم قالت بإيجاز
(ماذا تريد بعد؟).

أخذ قاصي نفسا عميقا، ثم قال آمرا بصوت لا يقبل الجدل
(سأكون أنا المسؤول ماديا عن نفقات دراستك)
ابتعدت تيماء عنه بقوة و هي توليه ظهرها
(مستحيل، لا أقبل المال الحرام)
رد عليها قاصي بنبرة جهورية أكثر سطوة
(اذن اخرجي من هنا و لا تريني وجهك مجددا)
استدارت على عقبيها بسرعة و هي تنظر اليه مذهولة
(أتطردني!)
قال قاصي بعنف.

(نعم اخرجي، طالما أنك تدعين الفضيلة و لا تقبلين بي، لكن تريدين طفل مني مغمضة العينين عن أفعالي الغير مشروعة، أم هل تخيلت أيضا أنك أنت من ستعيلينه وحدك؟)
صمتت تيماء و هي ترتجف قليلا دون أن تجد ردا، فابتسم قاصي وهو يقول بقساوة
(لم تصلي بتفكيرك الفذ الى هذه النقطة، اليس كذلك؟)
قالت تيماء بصوت خافت
(لم أحتاج اليك منذ اليوم الذي حملت به في سليم، و أستطيع تكرارها من جديد. ).

تراجع رأس قاصي للخلف و كأنها صفعته بمنتهى الهدوء، و ساد صمت طويل موجع بينهما...
هي تتجنب النظر اليه، الى أن قطعه قاصي قائلا بهدوء
(و تغير الوضع الآن، بت أملك ما أستطيع به اعالتكما معا، فما هو قولك؟ موافقة على شروط الصفقة أم تخرجين من هنا خالية اليدين؟)
ظلت تيماء واقفة مكانها و رغم عنها ارتفعت يدها لتلامس بها بطنها الخالية...

أكثر من أربعين يوم مرت على فقدانها طفلها، و على الرغم من ذلك لم تتوقف عن الكلام معه أبدا...
لقد كان رفيقها الوحيد في السفر، كل أهلها...
كانت تعد الايام بشوق منقطع النفس وصولا الى يوم الولادة حتى تحظى بصديقها الوحيد...
لكم تخيلت أنشطة بينهما سيتشاركان بها معا...
كم وعدته برحلات لا مثيل لها، و أكلات لن يعرفها سواه...
كان يشاركها الأكل و النوم، و الحياة...

حركته بداخلها أكدت لها أنها لم تعد وحيدة، و أن صديقها يحاول ركلها كي يخرج اليها سريعا...
كان هو الامل الوحيد لها في تحمل فراق والده...
لتفاجىء في اليوم الذي انتظرته منذ أشهر طويلة، بفقدانها له، و لوالده من جديد...
كم هذا موجع، لقد ظنت أنها قادرة على تخطي الأمر...
لكن وضعها يزداد سوءا، و نسيانها انه لم يعد موجود بات يتكرر كثيرا...

كل ساعة ترفع رأسها و تهمس بحكم العادة، كم من الوقت متبقي؟، ثم تدرك أنها لم تكن الا تذهي فقط...
الى أن لمع الحل الوحيد بداخلها، لما لا تقم بإعادة الزمن و الحصول على الطفل من جديد...
ثم تسافر و كأن شيء لم يكن...
لم تختلف الظروف كثيرا، لا تزال متشابهة، فلما لا تنال ما فقدته...

أثناء شرودها الطويل، لم تدرك أن قاصي كان واقفا يحترق بنار الجحيم خلفها، كان يراقبها و كأنها على وشك الهروب من أمامه، و يشك في أن يسمح لها...
لكن ماذا بيده أن يفعل إن اختارت الهرب؟
هل بالغ في إملاء شروطه؟، ربما لو تساهل معها قليلا لرضخت، الا أنه موقن بأنه لن ينجح بخلاف هذا...

لذا اقترب منها حتى وقف خلفها مباشرة ووضع كفيه برفق أعلى ذراعيها، فانتفضت تيماء بقوة، الا أنه شدد من امساكه بها دون قوة مفرطة، و ما أن سكنت بعد لحظة مقاومة...
حتى أخفض وجهه اليها و همس في أذنها بصوت خافت
(أنا أرغب في منحك الطفل أكثر من أي شيء آخر في هذه الحياة، فلا تحرميني من المتعة الأخيرة في حياتي، فقط اسمحي لي أن أجعلها تتكون بشكل أقل ضرر له، حين يكبر و يعي و يسأل الكثير).

ارتجفت شفتي تيماء بشدة و هي تنظر أمامها، بينما الدفىء المحيط بها من صدره و ذراعيه أخبرها أنها في أمان مؤقت، حتى و إن كان قصير الأمد...
لذا و قبل أن تمنح عقلها و ضميرها الفرصة كي يمنعانها، فتحت فمها و همست
(موافقة)
فكان أن أغمض عينيه، مرتاحا للحظة، قبل البدء في الطريق الطويل، و الأصعب...
استعادة زوجته، قبل منحها الطفل الذي تريد...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة