قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والخمسون

وضعت مسك هاتفها فور انتهائها من مكالمة قاصي المجنونة...
أو على الاصح بعد أن أغلق الخط في وجهها...
لقد استيقظت من دقائق، و لم تكن قد أفاقت تماما بعد، لكن ما أخبرها به ساهم في صفعها من بداية الصباح...
و ياللها من بداية!
كانت تعلم منذ فترة أن تيماء بحالة نفسية، تؤهلها للتصرف بطريقة متهورة...
و ها هي قد فعلت...
حين لم تحتمل الألم أكثر، اتخذت أكثر القرارات حماقة و جبنا...

أطرقت مسك برأسها و هي تمد يدها لتبعد شعرها عن وجهها البارد، شاردة العينين تماما، الى أن همست لنفسها بصوت خافت بارد
(اعترفي أن ما فعلته تيماء لم يكن هو ما آلمك بهذه الصورة، بل ما قاله قاصي كي يثبت وجهة نظره)
ألم تفكري في نفسك فقط أنت أيضا!
لم يدرك الأحمق اي وجع قذفها به و بمنتهى القسوة في خضم حربه مع تيماء...

(هل تحدثين نفسك؟، هكذا بسرعة؟ على الأقل انتظري لفترة مناسبة قبل أن يصيبك زواجك مني بالجنون و الرغبة في اقتلاع شعر رأسك)
رفعت مسك وجهها الخالي من الزينة لترى أمجد يدخل الى الغرفة، حاملا معه صينية تحوي، الفطور على ما تظن!
اضطربت قليلا و تململت في جلستها النصف مستلقية في سريرهما، الى أن وصل اليها و جلس بجوارها على حافة السرير، ثم نظر اليها مبتسما وهو يقول ببشاشة...

(هل ستنظرين إلى هكذا طويلا؟، اخفضي ساقيك)
انتبهت مسك الى أنها في شرودها العميق كانت قد رفعت ساقيها الى صدرها كما تفعل دائما أثناء تفكيرها العميق...
فأخفضتهما بارتباك و شدت الغطاء تفرشه جيدا على ساقيها على الرغم من أن قميص نومها الأرجواني كان طويلا و أنثويا في نفس الوقت...
وضع أمجد الصينية فوق ساقيها فنظرت اليها رافعة حاجبيها و هي تسأله بحذر
(ما هذا تحديدا؟).

عقد أمجد وهو ينظر الى الصينية ثم الى وجهها وهو يقول محتارا
(ما الذي تظنينه؟، خضرة محشو و باذنجانات كي تقومين بتحضيرها للغذاء)
مطت مسك شفتيها و قالت بإمتعاض
(هلا توقفت عن اسلوبك الفظ هذا قليلا، صدقني ستكون أخف شخصية، )
ضحك أمجد وهو ينظر الى جمالها الشاحب دون نقطة لون اضافية، ثم قال ببساطة
(حسنا دون سخرية، بما أنك سميكة العقل، فهذا فطور معد خصيصا لحضرتك إن لم تكوني قد لاحظت).

أخذت مسك نفسا قصيرا و هي تنظر الى صينية الفطور مبتسمة بإتزان...
حيث كانت الصينية، تحتوي على طبق من خبز التوست الساخن و زبد و عصير، و هناك مزهرية صغيرة بيضاء تحتوي على وردة حمراء جميلة...
رفعت مسك وجهها اليه و قالت رافعة حاجبها ممازحة
(فطور في السرير! أنت قديم جدا بالمناسبة، لقد انتهى هذا الطراز منذ أيام الافلام الأبيض و الأسود).

قال أمجد بهدوء دون أن يسمح لها بإستفزازه، وهو يتناول شريحة خبز أخذ يدهنها لها بالزبد
(نعم أنا قديم، هل لديك مانع؟)
ثم مد الخبز الى شفتيها قائلا برقة
(افتحي فمك)
ارتفع حاجبيها قليلا، الا أنها ضحكت ضحكة صغيرة قبل أن تفتح فمها و تقضم قطعة و هي تختلس اليه النظر بطرف عينيها و كأنها تنظر الى ثعلب...

أمسكت مسك بالمزهرية البيضاء الصغيرة، ثم رفعتها بين اصبعيها و نظرت اليها و هي تمضغ طعامها، قبل أن تعيد عينيها اليه و هي تقول ساخرة
(ووردة؟، ألم أقل لك أنك قديم جدا)
ابتسم أمجد دون أن يرد، مقربا الخبز من فمها مجددا، فأخذت قضمة أخرى و هي تقول بهدوء
(من أين لك بالمزهرية الصغيرة؟، أعتقد أنها انتاج السبعينات!)
قال أمجد بهدوء وهو يناولها كوب العصير.

(أخذتها من دولاب أم أمجد، وجدتها مثالية للوردة كي تبقى واقفة أثناء تناولك للفطور)
ضحكت مسك و هي تضع المزهرية مكانها بحرص، ثم ارتشفت من كوب العصير، و هي تنظر اليه من فوق حافته، ثم قالت بنبرة ذات مغزى
(أنت تبالغ)
رفع عينيه اليها ثم قال مبتسما بسعادة
(أنا أحب المبالغة، فلا تتدخلي فيما لا يعنيك)
قالت بغيظ
(أنا من يقع عليها فعل المبالغة، أنا المفعول به، لذا لا أفضل أن).

قطعت كلامها حين دس قطعة الخبز في فمها بالقوة، فمضغتها متجهمة و هي تحدجه بنظراتها...
الى أن نظر اليها قائلا برقة و بصوت خافت، وهو يمرر أصابعه من كتفها نزولا على ذراعها بنعومة...
(ما هو الذي لا تفضلينه؟)
تنهدت مسك بصمت و هي تنظر الى حركة أصابعه التي تشبه وردته في نعومتها...
ثم رفعت عينيها اليه و قالت بخفوت
(لا أفضل تناول الطعام في السرير، لأن الفتات يجلب الحشرات).

ارتفع حاجبي أمجد وهو ينظر اليها مطولا نظرة شعرت و كأنها قد اخترقت كيانها بأكمله...
ثم قال بهدوء
(أتعلمين يا ألماس، بت أفهمك أكثر من نفسك، حين تلقين بكلمة مفاجئة في فظاظتها و انعدام احساسها، أعلم وقتها أنك تدافعين عن نفسك عن طريق الهجوم، ناثرة أشواكك في وجه العدو، مما يجعلني أتوقع أن هناك ما قد حدث للتو و أزعجك، مع من كنت تتحدثين في الهاتف؟).

فغرت مسك شفتيها و هي تستمع الى تحليله المبسط و الصائب جدا...
صحيح أنها لم تستفزه بسبب ما قاله قاصي، لكنها لا اراديا شعرت بالحاجة الى صد اهتمامه المبالغ فيه ما أن دخل الى الغرفة، و كل هذا لأنها كانت متحفزة من الأساس...
لكنها رفضت أن تعترف، فلجأت الى الهجوم مجددا و هي تقول بنبرة جادة
(هل أفهم من سؤالك أنك تريد معرفة مكالماتي مستقبلا، و فحوى كلا منها؟)
مط أمجد شفتيه وهو يقول بهدوء
(هل لديك أسرار؟).

أجابته مسك قاطعة
(لا، ليس لدي أسرار، لكن ماذا لو فضلت الا أتكلم؟)
هز أمجد كتفيه وهو يقول دون اهتمام
(كما تشائين، كنت أبدي بعض الإهتمام اللائق فحسب)
لا تعرف لماذا استفزتها عبارته أكثر، حقا لا تعلم، لقد توقعت منه أن يصر في المعرفة...
لكنه بدا لامباليا فعلا، خاصة وهو يدهن شريحة خبز أخرى بالزبد...
فوجدت نفسها ترفع أنفها لتقول بأنفة
(عامة كان هذا قاصي).

ارتفع حاجب أمجد قليلا دون أن يرفع عينيه اليها، مكثفا اهتمامه على ما يفعل، ثم قال بهدوء
(و هل أخبرك بما ضايقك؟)
نظرت مسك اليه بصمت، ثم قالت أخيرا بصوت بارد
(تقريبا، عامة الأمر لا يخصني)
رفع أمجد وجهه اليها و ابتسم، ثم قرب شريحة الخبز من فمها وهو يقول
(و هكذا ظننت، لذا لا تسمحي لأحد بأن يعكر ساعة من ساعات شهر العسل، يا عسل)
أبعدت مسك يده بالخبز و هي تقول بفتور.

(أكثر من شريحة واحدة بالزبد كل صباح ستجعلني كالدرفيل)
ضحك أمجد وهو يقول بخبث
(و هل هناك أجمل أو ألطف من الدرافيل؟، على الأقل تضحك المسكينة لتسعد الناس، و لا تلوي فمها من بداية الصباح كبعضهم)
لمعت عينا مسك بغضب و هي تقول
(من تقصد ببعضهم؟)
قال أمجد ببراءة
(لماذا تأخذين الكلام بمأخذ شخصي دائما يا ألمظ؟، هل أنت الزوجة الوحيدة ذات الفم الملتوي صباحا! صدقيني هناك غيرك كثيرات)
تأففت مسك و هي تقول بنفاذ صبر.

(أتعلم ماذا، بدأت أظن أن حركاتك العاطفية المبالغ بها، ما هي الا وسيلة لتداري بها رغبتك السادية في اغضابي و إثارة أعصابي)
ابتسم أمجد على الرغم من الجدية التي شابت ملامحه، ثم قال بخفوت
(ربما، فأنت تبدين جميلة للغاية و أنت مستفزة بفتح الفاء)
نظرت مسك اليه بصمت قليلا، ثم سألته فجأة بهدوء مترفع
(الا زالت لديك نفس الرغبة القديمة في ايلامي حتى البكاء؟).

لم تتوقع أن يرد عليها بمنتهى الثبات و دون أن تحيد عيناه عن عينيها
(أكثر من أي وقت مضى)
ارتفع حاجباها بدهشة حقيقية و هي تسمع التأكيد البسيط في صوته الهادىء، و ساد الصمت بينهما طويلا و كل منهما ينظر الى الآخر، الى أن قالت أخيرا بصوت متحدي
(يؤسفني اذن أن أخيب ظنك، لست أنا هذا الشخص)
ابتسم أمجد دون مرح، ثم قال أخيرا برقة
(سنرى)
تململت مسك و هي تحاول زحزحة الصينية قائلة.

(هلا أبعدت هذه من فضلك، أريد النهوض، و شكرا لك على الفطور الشهي)
أبعد الصينية عنها بحذر الى أن وضعها على الطاولة الجانبية، لكن ما أن استقامت واقفة حتى لحق بها و رفعها بين ذراعيه بقوة جعلتها تشهق، الى أن استقرت الرؤية أمام عينيها فقالت من بين أسنانها و هي تتشبث به
(أنزلني)
لمعت عيناه ببريق باتت تعرفه جيدا و تغضب منه بشدة دون أن تعلم سببا لغضبها...
قال أمجد بابتسامة خبيثة، (بكل سرور).

و قبل أن تستوعب موافقته السريعة، كان قد أسقطها على السرير بكل قوة، نهضت مسك من مكانها و هي تزفر بغضب، هاتفة
(توقف عن لعبك بي يا حسيني، والله أنا لا أصدق أن رجل في مثل عمرك، يلعب بزوجته بتلك الطريقة، احترم سنك و مكانتك)
زفرت الشعر المتساقط على وجهها الا أن شفتاه سبقتا نسيم زفرتها...
فمال اليها ببطىء يرجعها الى سريرهما وهو يهمس بصوت أجش من بين قبلاته المترفقة المتسارعة...

(أنت أكثر زوجة متزمتة في العالم، لكنني لن أعترض أمامنا العمر كله كي نحل هذا التزمت تدريجيا)
ترى هل لديهما العمر كله بالفعل؟
شردت عينا مسك في هذا السؤال المفاجىء الذي داهمها من حيث لا تدري...
عمرها أم أعمره؟
حتى و إن شاء القدر أن تفلت من مداهمة المرض مجددا، ماذا عنه هو؟
هل بالفعل سيقضي عمره مع أرض بور مثلها؟
أم أنها كانت تخدع نفسها فحسب؟

كان أمجد هائما في مشاعره تجاهها وهو ينهل من مدى رقتها الممتزجة بقوة في خليط يأسر الحجر...
الى أن رفع وجهه المشتعل عنها وهو ينظر الى ملامحها مليا، ليقول هامسا بصوت أجش
(ما سر هذه الملامح بالله عليك أخبريني؟، كيف لها أن تكون مقروءة بلغة سرية، كلما أوشك المرء على فهمها طارت من على حافة شفتيه، لا أكاد أشبع من تأمل وجهك أبدا).

رفعت عينيها تنظر اليه بصمت، و لم تحاول الكلام، كان بداخلها شعور باهت منذ اتصال قاصي...
يتزايد و يملأها...
هل تصرفت بأنانيه تجاه أمجد؟، و هل سيكون مخلصا لها؟
ما بين السؤالين سؤال ثالث...
من منهما سيكون الظالم؟..
حين تعمقت قبلته و ازدادت حدة امتلاكه لها، شعرت أن السؤال أصعب من أن تحاول ايجاد اجابة له حاليا...
لذا، فلتترك الأمور كما هي، محاولة التظاهر بأنها لم تعي ضرورة وجود ظالم...

لأن الحياة، ليست بسيطة الى هذه الدرجة و لقد تعلمت الدرس بأقسى الطرق...

(لماذا أنت صامت يا سالم، تكلم؟، ابنتك تزوجت من خارج العائلة أم لا؟)
هدر والد زاهر بهذا السؤال في وجه شقيقه المنخفض، بين جمع من الأشقاء...
جميعهم ملتفون حول سرير سليمان الرافعي، في محاكمة ظالمة...
بينما كان سليمان صامتا تماما وهو يستمع اليهم مراقبا...
ظل سالم على صمته غير قادرا على الرد، فتطوع زاهر يهتف بغضب وهو يهز ساقه بسرعة و عصبية.

(ماذا لديه ليقول يا حاج؟، إنه يشعر بالخزي بعد اكتشافنا لزواج ابنته في السر بتلك الطريقة الرخيصة و كأنها تتستر على)
هنا نهض سالم من مكانه فجأة ليهدر بصوت عال
(احترم نفسك يا ولد، أنت تخاطب عمك)
هتف به زاهر في غضب
(عمي، فقد احترامه حين فضل الغريب على ابن اخيه، و زوجه ابنته سرا و كأنه)
صرخ به سالم مجددا
(قلت اخرس و الا والله ستجد صفعة تحط على وجهك)
صمت لحظة وهو ينقل عينيه بينهم جميعا ثم هتف بعنف.

(نعم زوجت ابنتي، من منكم شريك لي؟، ما دخلكم؟)
هتف به والد زاهر يقول
(أوتجرؤ على الصراخ بهذا؟، دون أي حرج)
هتف سالم يجيبه بقوة
(نعم أجرؤ فهي ابنتي، الا يكفيها مصابها؟، الا يكفيها أنها خاضت رحلة المرض المضنية و هي لا تزال عروس شابة، قبل أن تسعد في حياتها؟، أين كنتم حين غدر بها أشرف و تركها ليتزوج من هي أقل و ادنى مرتبة)
أخفض والد أشرف وجهه بصمت، لكن سالم لم يرحمه، بل صرخ به.

(أجبني يا أبا أشرف، أين كنت؟، لماذا لم تعاتب ابنك و تعلمه الأصول؟، لقد تخلى عنها في أحلك أوقات حياتها، و لم نعترض فهذا حقه رغم دناءة ما فعل)
استدار سالم لينظر الى وجه زاهر المكفهر، ثم هدر به قائلا بعنف
(و انت يا زاهر، يا ابن الأصول، ألم تتزوج؟ ما الذي تريده من ابنتي بعد؟، لماذا أتيت الى بيتي في غيابي؟، لتحاول اقناعها بأن تكون مجرد تحفة في بيت تخصصه لها و تزوه كل حين!).

ارتبك زاهر قليلا، الا أن والده صرخ في وجه شقيقه
(لا تعيبه الرغبة في الزواج مجددا، كان عليك أن تكون شاكرا له، تمسكه بابنتك رغم علتها)
ساد صمت غريب بين الجميع، بينما كان سالم يتنفس بصعوبة، ثم قال أخيرا بصوت غريب
(لماذا على أن أكون شاكرا؟، لمجرد زواجه منها؟، لقد تزوجت من من هو أفضل من ابنك، رجل يريدها رغم. علتها، بل و أقر على نفسه الا يذلها بزواج ثان).

نظر سالم اليهم واحدا واحد، ثم قال بنبرة مجهدة، الا أنها حادة مشتدة
(اسمعوا جميعا، لقد خط القدر كلمته. ، أنا لم أحصل يوما على ابن، كما أنني لن أحصل على حفيد، فما الذي سأخسره؟، لقد خسرت من يرث أرضي و مالي و به يستمر اسمي من بعدي، لذا ليس هناك ما سأخسره أكثر، لذا على الأقل سأمنح ابنتي قسطها من السعادة في حياتها، تستحقها بعد المحنة التي أصابتها)
صمت قليلا بنفس متسارع، ثم صرخ مجددا.

(اشغلوا أنفسكم بأبنائكم و دعوا ابنتاي لحالهما)
ساد صمت متوتر بين الجميع، الى أن هتف والد زاهر وهو يخاطب سليمان
(هل ستسكت عن هذا يا حاج سليمان؟)
ظل سليمان صامتا قليلا، لا ينظر الى أي منهم، الى أن قال أخيرا بصوت حازم رغم ارتعاشة الإجهاد به
(أريد سالم فقط، اخرجوا جميعا)
نظر الأشقاء الى بعضهم، بينما قال والد زاهر باستياء
(لكن يا حاج)
قاطعه سليمان بنبرة أكثر حدة...
(اريد ابني سالم وحده).

خرج الجميع في صمت بينما بقي سالم مخفض الوجه، مرتبك الملامح...
ثم قال أخيرا
(أعلم أنك غاضب يا حاج، ليست المرة الأولى، لكن هذه المرة مختلفة، انها ابنتي، لقد ضعفت أمام فرصتها الوحيدة في الحياة و السعادة)
قال سليمان بهدوء
(هل زوجها رجل يستحقها؟)
رد عليه سالم بقنوط.

(والله يا حاج أنا لم أكن راضيا عن تلك الزيجة لسبب واحد فقط وهو أنه غريب، لكن فيما بعد خجلت من رفض فرصتها الأخيرة، أنا أب في النهاية، و ما تعرضت له ابنتي ليس هينا أبدا، يكفيني أنني فقدت أمها بنفس المرض بعد أن ظلمتها معي)
ساد صمت طويل بعد أن اختفى صوت سالم المتحشرج في نهاية كلماته...
تكلم سليمان أخيرا ليقول بهدوء
(أنا موافق على زواجها، و سأمنحها نصيب من الأرض في حياتي كما فعلت مع أختها).

تسمر سالم مكانه وهو ينظر الى والده بعدم فهم، ثم قال بصدمة
(تقصد تيماء؟، ماذا منحتها؟)
رد سليمان يقول بصوت متعب
(أرضنا لا تخرج للأغراب، لذا و بما أن حالة تيماء و مسك مختلفة، فأنا سأمنحهما نصيبا من نصيبي الذي يحق لي التصرف به، خارج مقدار الميراث)
انعقد لسان سالم. وهو يقول بإختناق
(ادام الله عليك الصحة يا حاج)
قال سليمان متابعا بهدوء
(و أنت، سأمنحك ما يفوق نصيبك قليلا، لكن بشرط)
قال سالم بعدم فهم.

(ما هو الشرط يا حاج؟)
رد سليمان بنبرة قاطعة
(أن تمضي على شهادة بالحق)
ازدادت الحيرة على وجه سالم، فاقترب من والده و انحنى اليه ليقول بصوت خافت
(ما الذي تقصده يا حاج، أوضح)
رد سليمان بنبرة متعبة
(ستشهد على سماعك إعتراف أخيك عمران بإرتكاب جريمته في حق والدة قاصي، و أنه قاصي هو ابنه لكن غصبا و أن أمه لم تفرط في شرفها طوعا)
بهتت ملامح سالم بشدة و اتسعت عيناه، بينما تابع سليمان.

(أريد هذه الشهادة موقعة، و ستعلن في حينها، أمام الجميع، و أقصد بالجميع، . الجميع ليس فقط داخل جدران هذه الدار).

(افتحي يا سوار، لا تتصرفي بهذه الطريقة، أنت تغضبين ربك، لم أعهدك بهذه الطباع قبلا!)
واقفا على باب غرفتها، وهو يطرقه بقوة، بينما هي ترفض حتى أن تمنحه ردا...
زفر ليث وهو يطرق بوجهه غاضبا...
منذ أيام و هي تمنع نفسها عنه، مغلقة الباب كل ليلة، و لقد أبت كرامته أن يفرض نفسه عليها...
لكن الليلة تحديدا لم يصدق أن تكون قاسية القلب الى هذه الدرجة و تبعده عنها...

فمنذ الصباح الباكر سيسافر الى البلدة، كما سبق و أخبرها...
من يوم مولدها حين أتته صباحا الى عمله و أخربها عن نيته في السفر الى ميسرة، و هي تبيت في غرفة بمفردها كل ليلة...
و قد تركها الى أن تهدأ دون أن يفرض نفسه عليها...
لكن الليلة التي تسبق سفره! هل هي منيعة تجاهه الى تلك الدرجة؟
تكلم ليث قائلا بصوت هادىء، خالي من داعبته المعتادة...
(أنت تسرفين في استغلال مكانتك لدي، و تعلمين هذا).

كانت سوار على الجانب الآخر مستندة الى ظهر الباب، مرجعة رأسها الى الخلف...
و الدموع تنساب على وجهها بصمت، غزيرة...
نعم، لم تكن هي، لم تكن لتغضب ربها بتلك الصورة الفجة دون ندم...
أغمضت سوار عينيها على دموع انسابت أكثر، الا انها هتفت بقوة يتحكم بها شيطانها
(سافر الى زوجتك يا ليث و لا تأبه بي، لا أظنك نهما الى تلك الدرجة التي تجعلك راغبا بي قبل ساعات من السفر الى زوجتك الأولى).

صمت ليث وهو يسمع صوتها القوي يعلو جهوريا من الغرفة التي تتعمد حجز نفسها بها...
علي الرغم من قوة صوتها الا أنه استطاع أن يشعر بنبرة الإنكسار به...
سوار الرافعي، ليست هي من تنتظر زوجها الى أن يعود اليها بعد سفره الى زوجته الأولى...
كانت طوال عمرها معززة و متفردة، لذلك من المؤكد أن الوضع الذي تحياه الآن ليس هينا عليها...

أغمض ليث عينيه وهو يأخذ نفسا عميقا، ثم قال بهدوء به من الحنان ما تمنى أن يصل الى قلبها الذي أقسم الا يعرف الراحة يوما...
(أنت تصورين الأمر بطريقة فظة يا مليحة، هل هذه هي صورتي في نظرك؟، أنا لا أريد سوى أن تنامي في أحضاني الليلة التي تسبق سفري، و لن أفرض عليك ما لا تريدين)
انهمرت الدموع من عيني سوار أكثر غزارة دون أن تجد الجرأة على اظهار صوت دموعها...

كانت تتنفس بسرعة، بينما أظافرها تحفر في خشب الباب على جانبي جسدها بقسوة...
تنهد ليث وهو يقول بعد يأسه من أن يحصل على رد منها
(أعرف يا سوار أنك كنت دائما الوحيدة، لك مكانة خاصة، و أعرف كم يؤلمك الآن تبدل الحال، لكن هكذا هي الحياة يا حبيبتي، هل تحمليني الذنب في زواجي قبلك يا سوار؟)
صرخت سوار بصوت أكثر علوا، أجشا و صادما
(أحملك ذنب إبقائك على تلك الحية، لن تلمسني، بينما يداك مدنستان بلمسها قبلي).

أغمض ليث عينيه وهو يزفر بصمت، بينما قبضته تضرب على الباب في ايقاع خافت رتيب و كأنما يحاول أن يهدىء من نفسه...
ثم قال أخيرا بصوت صلب
(أعرف أنها ليست الشخصية المثالية تماما، لكن هذا لا يجعلني راضيا و أنا أسمع عنها كلاما يسوءها في غيابها، لا تعيدي ما قلت يا مليحة)
انتابتها فجأة موجة أشد عنفا من القهر و الجنون، هل يدافع عن تلك الحية التي لوثت شرفها و أخرجتها من البلدة بفضيحة؟

لم تشعر سوار الا بنفسها و هي تستدير لتفتح الباب بعنف حتى واجهته بوجهها المحمر و عينيها المحتقنتين...
بينما الدموع تغرق ملامحها...
كانت همجية الشكل و الغضب، همجية الإحساس بالقهر، مما جعل ليث ينظر اليها مجفلا من منظرها المخيف، فهمس بإسمها وهو يحاول الإقتراب منها، الا أنها ابتعدت عن مرمى يديه وهي تهتف بقوة
(هل تطلب مني الا أعيدها؟، أرني ما ستفعل اذن و أنا أصرخ بأنها حية، حية سامة، قذرة).

اتسعت عينا ليث أكثر وهو يهدر قائلا
(كفى يا سوار، تعقلي و تمالكي نفسك)
الا أنها صرخت بقوة
(لن أفعل، تلك الحية هي السبب، هي من فضحتني و لوثت شرفي، هي من أشاعت عني انني خاطئة)
تسمر ليث مكانه وهو ينظر اليها بذهول، محاولا استيعاب ما نطقت به للتو...
بينما هتفت متابعة و هي تشهق باكية بقهر
(و من المفترض مني بعد ما كان منها أن أنتظرك هنا الى أن تذهب اليها، تقربها و تعاشرها، ثم تعود الي).

أخذت نفسا مرتجفا قبل أن تصرخ في وجهه بعنف
(المرة السابقة كدت أن أتقيأ ما أن لمستني بعد عودتك من سفرتك اليها)
لم تكن تبكي ضعفا، بل قهرا، كانت دموعها تزيدها قوة و حقا...
بينما ليث ينظر اليها مصدوما، الى أن قال أخيرا بصوت غريب
(هل لديك دليل على ما تقولين؟، كيف لها أن تنشر شيئا لم تعرف عنه قبلا؟)
صمتت سوار و هي تنظر اليه بتعب، ثم قالت بصوت باهت قاسي.

(هل تطلب مني دليل يا ليث؟، أخبرك أنها هي من أشاعت عني ما أفسد شرفي و أنت تطلب مني دليلا؟)
أجابها ليث بكل قوة و بنبرة مخيفة
(بالتأكيد أطلب دليلا، فالعاقبة الوخيمة لها إن صح هذا، تستلزم دليلا في البداية)
نظرت سوار اليه نظرة قاتمة من بين احمرار عينيها، ثم قالت أخيرا بصوت ميت
(لا أدلة لدي يا ليث، اذهب، اذهب الى زوجتك و لا تعد الي، لأنني لن أتحمل هذه المرة).

اتسعت عيناه للحظة، قبل أن يندفع اليها فجأة، ثم أمسك بذراعيها وهو يقول من بين أسنانه
(ماذا تقصدين بألا أعود اليك؟، هل تظنين الأمر مجرد لعبة؟، لقد خسرت عائلتي و تركت بلدي لأجلك)
رفعت سوار وجهها الجامد اليه، بملامح فاقدة الروح، لكنها صلبة أبية...
(لم أعد قادرة على دفع ثمن تضحيتك، التي أنا شاكرة جدا لها، لكن الثمن فوق قدرتي على التحمل).

شدد ليث من قبضتيه على ذراعيها حتى حفرت أصابعه بهما، لكنها شددت على أسنانها كي لا تتأوه ألما، وواجهته بكل قوة و تحدي...
بينما كان ليث ينظر اليها بطريقة غريبة و كأن أحدهم قد تجرأ على دخول عرين الأسد...
تكلم أخيرا قائلا دون أن يرفع صوته، و دون أن يحررها
(لآخر مرة سأسألك، هل لديك دليل على ما تقولين يا سوار؟، هات الدليل و سترين ما سأفعل).

حاولت تحرير ذراعيها من قبضتيه بالقوة، لكن مهما بلغت قوتها لم تكن لتماثل قوته وهو متمسكا بها...
فهتفت بقوة و غضب
(ابتعد عني يا ليث، لا أملك دليل، و ليس ذنبي أنك أعمى)
هدر ليث فيها بقوة فجأة
(اخرسي يا سوار)
أجفلت سوار اثر صرخته الجهورية، فصمتت للحظات مصعوقة الملامح
هي سوار الرافعي، تعامل بهذا الشكل؟
صرخت به فجأة
(أنا أخرس يا ليث؟، لو كان سليم رحمه الله حيا لما كنت).

مد يده فجأة ليقبض على فكها بقوة، فصمتت، و ساد الصمت بينهما و كل منهما ينظر الى الآخر...
تكلم ليث أخيرا ليقول بصوت جامد، خالي من المشاعر التي اعتادتها منه
(لم تحصلي على مكانتك قديما لأنك كنت زوجة سليم رحمه الله، بل لأنك سوار الرافعي، اسم كان يفرض مكانته على كل من يسمعه، أما الآن فأنا لم أعد أعرف من تكونين).

حاولت سوار الرد، الا أنها لم تستطع، بل ظلت أسيرة النظرة في عينيه، تلك النظرة القوية الثابتة، لكنها كانت تفتقد الحنان الذي كانت تستمده منه دائما...
ثم ترك ذقنها ببطىء ليبتعد عنها خطوة، ثم قال بهدوء
(اذهبي الى غرفتك و نامي يا سوار، لن أضايقك الليلة)
و دون أن ينتظر ردها، استدار ليبتعد عنها، بينما وقفت هي تنظر الى ابتعاده...

و ملامحها تتعقد أكثر في نشيج باك مختنق، ثم استدارت هي الأخرى كي تعود الى غرفتها و تصفق بابها بعنف، لكن دون أن توصده بالمفتاح، فقد كانت متأكدة من أنه لن يعود الليلة...
تلك الليلة قضتها سوار و هي وحيدة تحدق في سقف الغرفة المظلم...
كانت تفكر في كلام ليث مليا...
منذ أن وصلت الى هنا و هي تتحول الى شخص لا يشبهها، لا يمت الى سوار الرافعي بصلة...
لا يقارن بسوار بنت وهدة الهلالي...

لقد قبلت أن ترافقهما ميسرة منذ البداية، فلماذا تحترق نارا الآن كلما سافر اليها؟
حل عليها الصباح و كانت جاهزة تماما، بكامل ملابسها حين سمعت طرقا على الباب...
التفتت سوار بسرعة و هي تقول بصوت مختصر
(ادخل)
فتح ليث الباب و دخل، فنظرت اليه من تحت أجفانها، بينما كان هو مستعدا مثلها بكامل هيئته الرجولية ذات الهيبة...
للحظة شعرت سوار بخسارة موجعة، و تمنت فقط لو كانت نامت بين ذراعيه لا أكثر...

ستشتاق اليه، هذا هو ما توصلت اليه بعد ليلة طويلة لم تذق خلالها طعم النوم مطلقا...
تكلم ليث دون مقدمات
(هل أنت مستعدة؟)
أوجعها جفائه، الا أنها رفضت أن تظهر هذا، فقالت بهدوء بعد أن استنفذت ليلة أمس كل قواها
(نعم، لقد حضرت حقيبة صغيرة)
استدارت لتضع بعض أغراضها في الحقيبة، ثم أغلقت سحابها متجنبة النظر اليه، بينما اقترب هو منها ليأخذ الحقيبة قائلا بصوت خافت
(فريد في انتظارنا، ستكونين في أمان تام معه).

ردت سوار بإختصار
(جيد)
استقام ليث ينظر اليها، ثم قال بصوت حازم
(سوار، إن أردت تغيير رأيك و مرافقتي، يمكنني تدبيرالأمر)
استدارت اليه سوار تنظر اليه دون رد للحظات، ثم قالت أخيرا بصوت باهت
(و أنتظرك عند جدي الى أن تنتهي من لقائك مع، زوجتك، هل تدرك كم هذا مهين بالنسبة لي؟)
قال ليث بصوت جاف
(أنت فقط من تنظرين اليها كإهانة)
ابتسمت سوار ابتسامة ساخرة قصيرة، ثم قالت أخيرا بصوت جامد.

(لا داعي للكلام الآن يا ليث، لقد اتخذت قرارك، لذا، اذهب، لا تشغل بالك بي)
تنهد ليث تنهيدة قوية، لكنه لم يتحرك من مكانه، بل ظل واقفا ينظر اليها...
كانت تتمنى لو ضمها الى صدره، بقوة...
فهذه هي الفرصة الأخيرة لهما كي يودعها على إنفراد...
واقفة أمامه بكل شموخ، بعد ليلة صرخت خلالها أنها لا تتحمل لمسة منه، لكن ها هي تتمنى لو ضمها الى صدره، كي لا يسافر وهما على نفس الجفاء...
قال ليث بصوت هادىء.

(يمكنك الذهاب الى عملي)
ارتفع حاجبي سوار فجأة و هي تسمع صوته الثابت الذي قاطع أفكارها، فسألته بحيرة
(أذهب الى أين؟)
رد عليها ليث مؤكدا
(يمكنك الذهاب الى مكان عملي، اجلسي بمكتبي و اشغلي وقتك بالتصاميم و تعلمي طريقة سير العمل بنفسك)
اتسعت عينا سوار قليلا، بدهشة حقيقية، الا أنها لم تلبث أن هزت رأسها قائلة بجمود
(لن أفعل هذا بالتأكيد، ما الذي جعلك تقترح هذا؟)
أجابها ليث بنبرة جادة.

(لا أريدك أن تظلي حبيسة هذه الجدران، ستقلك السيارة الى المكتب، و سأعمل على أن تكوني في أمان تام، و هناك يمكنك التعلم بنفسك)
بدت الفكرة مشوقة لها، الخروج، النزول الى محل عمله حتى و إن كانت لن تعمل حقيقة...
الا أنها قالت أخيرا مستنكرة
(بالطبع لن يكون هذا مناسبا، ليس هذا مجال دراستي و سيتضايق من يعملون معك)
قال ليث بنبرة قاطعة
(لن تشكلي أي عائق في عملهم، تفقدي مكتبي بما يحتويه و ستفهمين الكثير).

أسبلت سوار جفنيها قليلا و قد بدا عليها التفكير و، التشوق
فقال ليث متابعا...
(سأترك لك رقم السائق، سيقلك إن اتخذت قرارك و ستكونين في أمان تام، كما أنني سبق و تركت ملاحظتي في محل العمل عن احتمال ذهاب الى هناك و بقائك في مكتبي لساعات قليلة كل يوم، هذا إن رغبت)
رفعت سوار عينيها اليه، ثم سألته بصوت خافت يحمل اهتماما لم تشأ أن تظهره في تلك اللحظة
(كم يوما ستبقى؟).

لم يرد ليث على الفور، بل طال به النظر الى عينيها العسليتين...
كانتا محمرتين بشدة، الا أن الصلابة و الجفاء بهما لا يمكن انكارهما أبدا...
تكلم أخيرا قائلا بصوت خفيض
(أربعة أيام على الأكثر)
أبعدت سوار عينيها عنه و هي توليه ظهرها ثم قالت دون أن تعقب على جوابه
(أنا جاهزة)
سمعته يقترب منها خطوة فأطبقت جفنيها بشدة و عطره يملأ أنفها، الى أن وقف خلفها مباشرة، ثم قال بخفوت
(اعتني بنفسك، مفهوم؟).

عضت سوار على شفتيها و هي تشعر بالدموع الحارقة على وشك خيانتها مجددا، الا أنها تماسكت بقوة و هي ترفع رأسها كي لا تبكي، ثم قالت
(في أمان الله يا ليث)
ساد صمت قصير بينهما، الى أن قال أخيرا بصوت جاف
(لا أظنها من قلبك يا سوار)
لم يفتها أنه توقف عن مناداتها بالمليحة، فآلم ذلك قلبها، لذا قالت بصوت خافت
(أترك قلبي لحاله يا ليث، لكن تأكد من أنني لا أتمنى لك سوى السلامة).

سمعت صوت تنهيدة حارة منه، ثم لم يلبث أن قال بعد فترة صمت
(هيا بنا اذن)
استدار ليحمل حقيبتها و خرج، بينما صرخ قلبها خسارة، على ضمة الى صدر هو واحة لم تعرفها الا مؤخرا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة