قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والثلاثون

خائنة، خائنة، نظر اليه الشاب الذي يجلس بجواره، فضحك بعصبية وهو يقول متوترا
(اهتدي بالله يا رجل، من هي تلك الخائنة؟، هيا بنا لننهي أمر بيع السيارة، و دع عنك من تراقبها تلك)
نظر اليه قاصي بصمت، قبل أن يعاود النظر اليهما وهو يتنفس بسرعة و خطورة...
كانت تبتسم بين كلمة و أخرى و هي تنظر اليه...
بينما كان هو ينظر اليها بطريقة!

كان يبتسم بتلاعب، عيناه تلمعان، بامكانه رؤية اللمعان في عينيه رغم المسافة التي تبعدهما عنه...
رآها تحاول الإبتعاد، الا أن راجح تجاوزها و اعترض طريقها ليمس ذراعها!
عند هذه اللحظة لم يستطع السيطرة على النار المتقدة بداخله أكثر...
فلم يدري بنفسه الا وهو يفتح الباب و يخرج من السيارة يصفقه خلفه بعنف...
خرج الشاب الذي كان يرافقه من السيارة وهو يناديه بدهشة...
(الى أين يا رجل؟، الشاري ينتظرنا لننهي البيعة).

الا أن قاصي كان أصم الأذنين عن صوته، و صوت العالم المحيط به، وهو يسرع الخطا بينما عيناه لا تبصران سوى الإثنين الواقفين من بعيد...
لقد جذبت ذراعها من كف راجح و هي تعقد حاجبيها. تتكلم بسرعة و حدة على ما يبدو و كأنها غاضبة...
لقد مسها، لقد لمس زوجته...
سيكسر له كل عظمة صغيرة في كفه و ساعده و ذراعه...
لكن...
و بينما هو يسرع الخطى أكثر، ألم يكن من المفترض أن تبتعد بعد أن عنفته على لمسه لها؟

لكنها لا تزال واقفة تتحدث!
وقف قاصي للحظة في منتصف الطريق الذي قطعه رغبة منه في الوصول اليها على الجانب الآخر...
وقف ينظر اليها بملامح غريبة...
وهو يراها لا تزال واقفة تتكلم، الثواني تمر و هي لم تبتعد بعد أن لمسها!
في هذا الطريق الطويل، كان واقفا متسمرا، بشعره الطويل و ذقنه الغير حليقة، و عينيه اللتين لا تريا الا ما يصوره له عقله المعذب فقط...

صوت بوق عالي و صرير قوي جعله ينتبه من شروده القاتم، فالتفت خلفه وهو ينظر بجمود الى سائق السيارة اللذي أخذ يشتم و يلعن، بعد أن كاد يدهسه في وقفته الغريبة بمنتصف الطريق...
لكن قاصي لم يحاول الرد حتى، بل عاد و استدار ليتابع عبور الطريق وصولا اليهما، لكنه كان بطيء الخطى هذه المرة...
يقتربان منه، أو هو من يقترب منهما ببطىء، و عيناه مسلطتتان عليهما...

الى أن أصبح خلفها مباشرة، ووصله صوتها و هي تقول متنهدة بتعب
(أنا يجب أن أغادر الآن)
ثم استدارت منهكة، الا أنها تسمرت مكانها و تراجعت خطوة حتى كادت أن تلتصق براجح و هي ترى قاصي بشحمه و لحمه، واقفا أمامها بطلته الغريبة...
بشعره الطويل الملفت للنظر و الغريب على البصر، و ذقنه باتت أطول و اخفت معظم وجهه، لكنها جعلته أقسى مظهرا...

كانت تتأمله و هي فاغرة شفتيها، و اسمه على وشك الخروج من بينهما، الا أنه سبقها و ابتسم...
ابتسم ابتسامة لم ترى أكثر منها قسوة و سخرية من قبل، وهو يميل اليها ليقول بصوت خافت
(لما العجلة؟)
زمت تيماء شفتيها و هي تدير عينيها لتنظر حولها بصمت، محاولة تسجيل من تعرفه و يوجد بالقرب و سيكون شاهدا على الفضيحة التي ستحدث الآن...
بينما تابع قاصي بصوته الخافت البريء ظاهريا و الذي يبدو في رقة الشفرة الباترة.

(ألم تؤلمك قدماك من تلك الوقفة الطويلة؟، لما لم تجلسا في مقهى الكلية قليلا؟)
تنفست تيماء بصوت خافت و هي تبعد عينيها عنه ناظرة الى البعيد، تنتظر أن ينتهي بجمود. فهي لم تعد تأبه لشيء، فقدت كل مشاعرها و انتهى الأمر...
انتهز راجح فرصة صمتها فقال ضاحكا وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله
(ياللإجتماع العائلي الرائع، و كأننا على موعد لم يتم الإتفاق عليه).

صمت للحظة، قبل أن يتابع مبتسما متأكدا من وصول كل كلمة الى أذن قاصي و، ادراكه...
(أنا و ابنة عمي و، و أنت)
ارتفعت عينا قاصي الى عيني راجح ببطىء دون أن يرد، الا أن راجح تابع ببسخرية أكثر شراسة
(أحاول أن أجد لك وصفا، الا أنني لا أستطيع، فإن كنت زوجها فهي ستطلب منك الطلاق قريبا، و إن كنت أخي فأنت مجرد)
التفتت تيماء اليه فجأة و هي تقول بصرامة و من بين أسنانها
(اصمت، هذا يكفي، غادر الآن، ).

ضحكة قاصي من خلفها جعلت رعشة تسري في جسدها، بينما قال بصوته الخفيض الغير مطمئن
(لم أعرف أن الصداقة بينكما تطورت الى هذا الحد الذي يجعلك تتدخلين و تنصحين بل و تأمرينه بالصمت)
أخذت تيماء نفسا قويا قبل ان تعاود الالتفات اليه، ثم قالت بجمود
(هلا تابعنا كلامنا الظريف هذا في مكان آخر، نحن نقف أمام كليتي إن لم تلحظا)
ارتفع حاجبي قاصي و ازدادت ابتسامته دهشة زائفة و قساوة مخيفة، وهو يقول
(و تجمعينني به أيضا!).

أغمضت تيماء عينيها للحظة، قبل أن تفتحهما و تقول بصوت خافت لا حياة به
(كفى رجاءا)
الا أن راجح هو من تكلم خلفها و قال بصوته المقيت
(الم ترى الصورة بعد؟، الى متى ستظل خادعا لنفسك؟، ألا ترى أنه لا مكان لك في هذه العائلة التي تحاول منذ سنوات الدخول اليها من أي شق كثعبان أرقط!).

أفلت نفس ساخنا من بين شفتي تيماء و هي تطرق بوجهها بينما صدرها يغلي بألم على قاصي، غير قادرة على الدفاع عنه، لأن أي كلمة ستنطق بها في تلك اللحظة ستزيد من خطورته، لذا التزمت الصمت بينما تابع راجح قائلا ببرود وهو يعدد.

(حاولت التذلل الى عمي سالم لسنوات طويلة، و رضيت أن تكون خادما له و لابنتيه ظنا منك و لشدة غبائك أنه قد يساعدك ضد والدي، و حين فقدت الأمل به، أدرت الدفة على ابنته، فتملقتها و جعلت سرقة قلبها هي شغلك الشاغل، لكنك بزواجك منها اكتشفت أنك لم تتسلل الى العائلة، بل أخرجتها هي و تسببت في طردها منها، لذا لم تحقق اليك ما كنت تصبو اليه، فبت تعاملها و كأنها زوجة من الدرجة الثانية لديك، حتى ابني، حتى ابني لم يسلم منك، فأخذته و أنت تحاول غصبا أن تجعله ابنك، متخيلا أنه يحمل اسمك و أنك بالتبعية تحمل اسم عائلة الرافعي، وزاد جنونك فتزوجت من أمه، أي أنك تلتقط ما ارميه أنا من مخلفات).

كانت تيماء تتنفس بسرعة و تشنج و هي تنظر الى الأرض، لا تصدق أن قاصي كان صامتا يستمع الى كل كلمة مسممة ينطق بها راجح، لو كان الأمر بيدها لاستدارت و صفعته بكل قوتها، الا أنها لا تضمن ما سيفعله قاصي لو لامست وجه راجح بكفها، حتى و إن كانت تلك اللمسة عبارة عن صفعة لتوقفه...
رفعت وجهها تتحقق من ملامح قاصي بحذر، الا أن منظر ملامحهه كان فظيع...

لم يفقد قسوته، لكن الألم كان مسطورا في عينيه، لا تعلم إن كان راجح يستطيع رؤية هذا الألم، ام أنها هي وحدها من تمتلك خاصية قرائته، لأنها تيماء وهو قاصي...
دعت الله من كل قلبها، الا يتشفى به راجح و الا يمكنه من ايلامه أكثر...
الا أن راجح تابع بصوت أكثر عملية وهو يرفع كفيه مسلما...

(حسنا، حدث ما حدث و استمتعت بدور والد أحد أطفال الرافعية، و استمتعت بمعاشرة أمه، التي كانت زوجتي يوما ما، ليست مرة واحدة بل لمرتين، كنت أحاول التخلص منها، الا أنها تعود و تترجاني و أنا بقلبي الضعيف أقبل رجائها، الى أن سئمت رخصها، لكن لكل شيء نهاية، عليك أن تتوقف عن اللعبة الآن و تسلمني ابني و أنا سأدفع لك كل قرش أنفقته عليه، و مكافأة رعاية أيضا، و هينئا لك بأمه، أشبع بها).

عاد ليصمت و كل منهما يواجه الآخر بنظرات كفيلة بأن تردي خصمه قتيلا، ثم أردف بصوت أكثر جدية و قسوة
(هذا أقصى ما أستطيع عرضه عليك، ابني و ابنة عمي سيخرجان من نطاق سيطرتك و الى الأبد، و هذه رغبتنا جميعا، فتحلا ببعض الكرامة و ارحل)
كم من مرة نعتها بعديمة الكرامة حين كانت تحاول التقرب الى والدها...
كم مرة آلمها بهذا اللقب و اوجعها عن قصد كي يبعدها عنه...

لكن كل أوجاعها لم تماثل ذرة من وجعها الآن و هي تسمع راجح يقذفه بنفس التهمة، حينها فقط استدارت على عقبيها بسرعة و همست بشراسة من بين أسنانها
(هذا يكفي، أبتعد من عنا أو سأستدعي لك حرس الجامعة، ليلقون بك خارجا)
ابتسم راجح بسخرية وهو يخفض وجهه ناظرا اليها بقصر قامتها، ثم قال بلطف و كأنه يحادث طفلا صغيرا عابثا
(حرس الجامعة خاصتك، لا يملكون مسي بكلمة يا صغيرة، لكن حاولي لو أردت).

لمعت عينا تيماء أكثر و اوشكت على استدعائهم فعلا، الا أنها تعلم أن خلفها الآن بركان على وشك الإنفجار في أي لحظة، و إن فعل، فسيمسكون به هو و يتركون راجح، و هذا هو ما يريده...
لذا قالت بصوت آمر صلب
(أبتعد من هنا يا راجح، ابتعد بقبح كلامك، لا رغبة لي في سماعه، و قطعا لن اسمح لك بالتكلم بلساني)
ابتسم راجح ابتسامة خبيثة وهو يخفض عينيه الى شفتيها عن قصد، ثم رفع حاجبيه وهو يقول بخفوت.

(كم سيكون هذا رائعا، إن سمحت لي بالتكلم بلسانك، فأنا قادر على الدفاع عنك أمامه)
فتحت تيماء شفتيها و هي تنوي الصراخ فيه، غير آبهة بالمكان بعد أن نفذ صبرها، الا أن الكلمات تجمدت في شهقة صامتة و هي تشعر بقبضة من حديد و أصابع كالمخالب نشبت في لحم خصرها، قبل ان يجذبها قاصي خلفه بفظاظة، فصار مواجها لراجح، مرفوع الذقن و مخيف الملامح...
ثم تكلم أخيرا بصوت خافت مهتز قليلا.

(ألم تتعلم بعد الا تتعدى على ما يخص غيرك؟، لا تزال أصابعي تاركة آثارها على وهجهك، ألم تكتفي؟)
ابتسم راجح وهو يضع قبضتيه في خصره مما جعل السترة التي يرتديها تتراجع للخلف فقال مشيرا بذقنه
(سأكون ممتنا لو حاولت، فأنا أحمل سلاحا مرخصا، و سأكون سعيدا بتفريغ رصاصاته في صدرك دفاعا عن نفسي و حينها سنتخلص منك جميعا و نرتاح).

اتسعت عينا تيماء برعب و هي تطال برأسها من خلف ذراع قاصي لتتحقق من الأمر و بالفعل لمحت السلاح المثبت في حزام بنطاله، مما جعلها تشهق برعب و هي تهتف بهمس لنفسها
لا، فليمسك حرس الجامعة بقاصي، أفضل من موته،
و لم تفكر مرتين، بل رفعت ذقنها و هي تصرخ عاليا
(الأمن، الأمن، فليستدعي أحد حرس الجامعة بسرعة).

سمعها الكثير من الطلاب و الاساتذة و سارع بعضهم في الإتجاه الى مكتب حرس الجامعة بالفعل، بينما أمسكت تيماء بذراع قاصي بكل قوتها، لكنها لم تكن بالسرعة المطلوبة، فقد قال قاصي بتوحش منتقم
(سأجازف)
و قبل ان ينهي حروف كلمته، كان قد رفع ذراعه يهبط بكامل قبضته على عين راجح...

صرخت تيماء بهلع و هي تراه يترنح للخلف، الا أنها كانت مسمرة النظرات على يده التي اندفعت تنوي الوصول للسلاح، لكن قاصي أمسك بمعصمه بقوة قبل أن يصل اليه و انحنى به بكل قوته حتى أسقطه أرضا وهو يقول من بين أسنانه.

(إنها المرة الثانية التي أسقطك فيها أرضا، لقد ثقل جسدك و ترهلت عضلاتك من حقد قلبك و ركضك خلف نزواتك، و قد كنت أتمنى أن تكون أقوى من هذا لأتلذذ بتلك اللحظة التي أسحق فيها عظام كفك، لكن لا بأس، سأفعل على أي حال، كي تفكر ألف مرة قبل أن تلامس زوجتي أو حتى تنظر اليها)
حاول راجح الوصول الى سلاحه بيده اليسرى، الا أن قاصي كان أسرع منه مجددا وهو يضحك بقسوة ممسكا بمعصمه الآخر قائلا.

(عليك أن تكون أسرع من هذا، او تفكر ألف مرة قبل أن تواجه مروض خيول)
و قبل أن يرد راجح، كان قاصي قد لكمه بقوة، ثم قبض على ذقنه وهو يقول من بين أسنانه مقتربا من وجه راجح
(انظر الى الجرح الذي خلفه سكينك بين عيناي، لقد تركتك ترسمه عن قصد رغم ثقلك حركتك، كي يكون حافزا لي، كلما نظرت في المرآة، أتذكرك و أتذكر اي قذر على الحذر منه)
رمت تيماء بنفسها على ظهر قاصي و هي تتشبث بكلتا ذراعيه صارخة.

(ابتعد عنه يا قاصي، أرجوك، فليساعدني أحد)
نفضها قاصي وهو يصرخ عاليا
(ابتعدي)
و من قوة دفعته ارتمت تيماء على ظهرها أرضا، فتأوهت بصوت عال و هي تصرخ
(احذر، طفلي)
تسمر قاصي مكانه، قبل أن يستدير اليها بسرعة على ركبتيه، فاتسعت عيناه وهو يراها ملقاة على ظهرها غير قادرة على النهوض، فأمسك بيدها ودس ذراعه تحت ظهرها ليرفعها الى صدره هاتفا بخوف
(هل أنت بخير؟).

كان راجح قد استقام من خلفهما، فصرخت تيماء برعب و هي تحيط عنق قاصي بذراعيها محاولة أن تحميه من سلاح راجح
(لا، لا، قاصي لا)
و كانت تلك هي الكلمات الأخيرة التي سمعتها أذناها قبل أن تسقط في شباك ثقيلة سوداء أحاطت بوعيها...
و جذبتها بعيدا عن هذا الجنون المحيط بها، لكن ظل قلبها العاشق يصرخ برعب
سأموت إن أصابك مكروه، سأقتل نفسي إن أصابك مكروه.

لم تعلم إن كانت قد نطقت بهذه الكلمات بصوت عال أم أنه صوت نبضات قلبها المرتعبة التي كانت ترفض فقدان الوعي في تلك اللحظة و ترك قاصي وحيدا يواجه مصيره دون أن تدافع عنه و تفديه بحياتها...
لكن للأسف، كانت أضعف من أن تقاومة الموجة القاتمة التي أخذت تجذبها للقاع أكثر فأكثر حتى تلاشى الوجود من حولها تماما...

(تيماء، تيماء، أفيقي أنت بخير)
كان الصوت الرجولي الأجش يحاول اختراق سكينتها بكل تسلط و، توسل...
رغم خشونته الا انه كان يحمل نبرة من الخوف أضعفت قلبها...
فعقدت حاجبيها بألم فسألها الصوت و نبرة الخوف تتضح به أكثر و أكثر
(هل تتألمين؟).

فتحت فمها و هي تحاول الكلام، كان لديها الكثير من الكلام تريد قوله، الا أنها لم تستطع، بدت الكلمات واقفة على حافة شفتيها غير قادرة على تجاوزها، فحاولت أكثر، وبكل قوتها، الا أنها لم تستطع سوى الهمس ردا بكلمة واحدة فقط
(جدا)
كانت تتألم و بشدة، و كأن هناك جرح يقطع قلبها، و يذر الملح عليه فيوجعه أكثر...
فحاولت أن تنام علها تتغاضى عنه، عل قلبها يستريح قليلا، لكن الصوت قال بحزم قوي، قلق و غاضب.

(سأخرج بها من هنا، إنها تتألم)
كانت هناك جلبة و همهمات و صوت يخبره أنها بخير، لم تفهم الكثير من الكلمات، لكنها كانت منزعجة، ففتحت عينيها ببطىء و هي ترمش بهما كي تستيقظ تماما...
للحظات لم تفهم ما هو المكان المحيط بها، جدران كئيبة اللون، و خزنة ملفات ورقية...
لوحة ميدانية، المكان ليس غريبا عليها...
إنه احدى مكاتب الكلية، لماذا تنام في مكتب الكلية عوضا عن نومها في سريرها؟

و في لحظة واحدة كانت قد استعادت كل ما مر بها قبل أن تفقد وعيها، و آخر ما تتذكره هو أنها رأت راجح و هو يمد يده ليمسك بسلاحه من خلف قاصي المنحني عليها، يهتف باسمها بقلق...
عند هذه الذكرى اتسعت عيناها على أقصاهما و استقامت صارخة برعب
(قاصي)
الا أن كفين ثابتين أمسكا بكتفيها جعلاها ترفع رأسها لتراه يطل عليها بعد أن عاد اليها مسرعا، و جلس بجوارها على حافة الأريكة الصغيرة المستلقية عليها...

كانت عيناه متوهجتان بخوف لا يحسد عليه، و أصابعه تحفر في كتفيها دون أن يدرك بأنه يؤلمها،
و هي أيضا لم تشعر بألم من أصابعه، فرؤيته حيا يرزق كان أقصى ما تمنته في تلك اللحظة...
و دون تفكير هجمت عليه و هي تطبق على عنقه بذراعيها، بكل قوتها هامسة بعذاب
(ظننته قتلك، ظننته)
كان قاصي يضمها الى صدره بقوة و يداه تضغطان ظهرها بينما أغمض عينيه يدس أنفه بالقرب من فكها...

هو الآخر يتأكد من أنها بخير، قوتها التي كادت أن تزهق أنفاسه من شدة اطباقها على عنقه لم تفلح في طمأنته...
لم يكن يريد سوى أن يشم تلك الرائحة ذات العبير البري للابد، لطالما شعر بالأمان كلما تخللت رئتيه...
كانت أصابع كل منهما تتحسس ظهر الآخر بارتجاف و كأنه يتأكد من أن شريك روحه بخير، كل نفس تتحسسه تلك الأصابع ينتقل من صدر للآخر...

و كان بإمكانها أن يظلا هكذا للأبد، الى أن سمعا صوت تنحنح أجش ينبههما الى وضعهما، فسارعت تيماء الى الإبتعاد عنه و هي تستوعب تماما من معهما...
و أدركت بهلع أنها في مكتب العميدة، و هي تقف في نهاية الغرفة تراقبهما بصمت، فنقلت تيماء عينيها بينها و بين عيني قاصي المتجهمتين الصامتتين قبل أن تقول بخفوت و هي تصلح من وضع ملابسها و ووشاحها بأصابع واهنة...
(ماذا حدث؟).

أجابتها العميدة بصوت حازم و هي تتجه الى مكتبها
(هل أنت بخير أولا؟، أعتقد أنه من الأفضل أن تتجهي الى مشفى للإطئنان على طفلك)
استقامت تيماء و بينما ابتعد قاصي عنها يوليها ظهره بصمت و كأن تلك اللحظة السابقة بينهما لم تكن...
نظرت اليه لعدة لحظات ثم أعادت عينيها الى العميدة و قالت بخفوت و هي تنهض مترنحة قليلا تتحسس جسدها و بطنها
(أنا بخير على ما أظن، لا أشعر باي ألم أو شيء غير طبيعي).

وضعت العميدة نظارتها و قالت تسألها بحسم
(هل أنت متأكدة؟)
أومأت تيماء برأسها، و هي تتجه الى أن جلست بضعف على الكرسي المقابل لمكتبها ثم قالت ببطىء
(متأكدة تماما، أرجوك أخبريني بما حدث)
شبكت العميدة أصابعها على سطح المكتب و رفعت وجهها لتقول بغضب.

(ربما عليك أنت أن تشرحي لي ما يحدث، إنها المرة الثانية التي يتسبب فيها زوجك بمشكلة علنية، و تشابك بالأيدي، لكن هذه المرة كان الوضع أفظع، فقد اشتبك مع آخر من خارج الحرم الجامعي يحمل سلاحا)
صمتت للحظة قبل أن تطرق بيدها على سطح المكتب و هي تقول بصرامة
(أي عبث هذا يا تيماء؟، أي عبث هذا يحدث داخل الحرم الجامعي، ماذا لو كان أصيب أحد الطلاب أو أردي قتيلا!).

نظرت تيماء الى ظهر قاصي بملامح شاحبة. ، الا أنه لم يستدر، بدا مستقيم الظهر، صلب الجسد و يداه في خصره، و كأنه لا يأبه لشيء، أي شيء...
فابتلعت الغصة في حلقها ثم نظرت الى العميدة من جديد و قالت بصوت مهتز
(أرجوك طمئنيني، ماذا حدث؟، لا أتذكر شيء)
تنهدت العميدة قبل أن تقول بصرامة
(لحسن حظك أنني كنت موجودة، و سمعت بما حدث، فطلبت نقلك الى هنا و معك زوجك، و تم التحفظ على الشخص الآخر صاحب السلاح).

ابتلعت تيماء ريقها و قالت بصوت واه
(إنه، إنه ابن عمي الآخر، و سلاحه مرخص، هو لم يأت لإرتكاب جريمة، بل يحمل سلاحه دائما للدفاع عن نفسه)
عند هذه الكلمات الخافتة التي كانت تحاول اقناع العميدة بها، استدار قاصي اليها بعنف و هو ينظر اليها بعينين تستعران و كأن لهيبهما قد لفحها فنظرت اليه بصمت...

لكن عينيه أظلمتا و بدتا أكثر قتامة، و كل منهما ينظر الى الآخر باتهام واضح، لكن العميدة قاطعت هذا التواصل فهتفت بغضب
(و هل هذا عذر يا تيماء؟)
استدارت تيماء لتنظر اليها، ثم قالت بارتباك خافت
(لا، ليس عذر مطلقا، لكن أرجوك أتمنى لو احتوينا الموقف و أعدك بأن)
هتفت العميدة بغضب متصاعد أكثر
(أي وعد، أي وعد في تشابك بالأسلحة في الحرم الجامعي، لولا اغمائك لكان تم التحفظ على زوجك مع ابن عمك الآخر).

أغمضت تيماء عينيها و هي تشعر بالإمتنان لهذا الإغماء...
لم تتمنى يوما أن يكون هناك منقذا بمثل هذه الروعة، فقد حدث في الوقت المناسب تماما، من يعلم غن لم يغمي عليها، لربما كان أصيب قاصي أو قتل في نزوة غضب عمياء بينه و بين أخيه...
فتحت عينيها و هي تلتقط انفاسها لتقول بخفوت
(زوجي ليس له دخل، وهو لا يمتلك اي سلاح، لم يفعل شيئا صدقيني)
رفعت العميدة ذقنها و هي تقول بصرامة.

(أنت أكثر وعيا يا تيماء من أن تظني بأن أمرا خطيرا كهذا سيتم احتواءه بتطييب الخاطر او الرجاء)
صمتت للحظة ثم أردفت بصوت أكثر قسوة
(لقد تم فتح محضر بالحالة، و سيتم استدعاء زوجك الآن، أما أنت)
أخفضت نظرها قليلا، ثم قالت بحسم
(للأسف يا تيماء، ستحالين للتحقيق هذه المرة، و لن يمكنني مساعدتك مطلقا)
كان آخر همها هو التحقيق...
بالنسبة الى كل ما تخوضه في حياتها من أهوال، يعد التحقيق المهني كهزل أطفال...

لذا أخذت نفسا مرتجفا و قالت بخفوت
(مستعدة للتحقيق، و راضية به، لكن أريد لزوجي أن يرحل أرجوك، فأنا)
قاطعها فجأة صوت قاصي بعد أن قرر التنازل و الكلام أخيرا، فقال بنبرة باترة، فظة
(زوجك قادرا على الدفاع عن نفسه، لم يطلبك كمحامية، فلتتفرغي للدفاع عمن يحتاج لدفاعك)
أغمضت تيماء عينيها دون أن تلتفت اليه، بينما تنهدت العميدة بعدم رضا، ثم قالت بخفوت أخيرا و بعد فترة صمت.

(مشاكلك تزداد كل يوم يا تيماء و هذا يؤسفني بشكل خاص، فأنت من الأشخاص المثابرين اللذين لا يوقفهم شيء عن طموحهم و طريقهم المهني و الدراسي، لكنك تسمحين لحياتك الخاصة بأن تؤثر عليك، لا أقول أنها توقفك، لكنها تؤخرك، كان من الممكن أن تسرعي أكثر و تصبحي من أصغر من نالو درجة الدكتوراة عمرا، فلماذا ترضين بالمستوى العادي طالما امكانياتك الشخصية تؤهلك أن تكوني من المميزين).

أطرقت تيماء برأسها و هي تنظر الى أصابعها المتشابكة في حجرها، تتلاعب بها برقة، بينما قاصي يراقبها من بعيد بنظراته الصامتة بلون الفحم، فمه يكاد أن يرسم خطا للحزن مرافقا لخط القسوة...
تكلمت أخيرا و قالت بهدوء
(أشكر لك اهتمامك سيدتي، أنا أعدك بأن كل ما أتسبب فيه من مشاكل سينتهي في أقرب مما تظنين، فأنا سأقدم على طلب أجازة و أسافر لمتابعة دراستي في الخارج على نفقتي الخاصة).

رفع قاصي وجهه فجأة و بدت ملامحه مجفلة شاحبة، لكنها كانت جامدة بلا تعبير...
بدا كميت مصفوع، لا تضره الصفعة، لكنها غادرة، منفرة، سادية...
قالت العميدة بصوت هادىء
(أتمنى لك كل الخير يا تيماء، و آسفة إن كنت لم أستطع مساعدتك في مشكلة اليوم)
نقلت عينيها بينهما، ثم قالت بصوت حازم و هي تنهض من مكتبها
(سأترككما بمفردكما لبضعة لحظات، قبل أن يتم استدعاء زوجك).

اتجهت الى الباب بوقار، لكنها التفتت الى قاصي و قالت آمرة
(لا أريد المزيد من المشاكل رجاءا)
لم ينظر اليها قاصي، بل كان كل نظره منصبا على تيماء الجالسة في كرسيها شاحبة الوجه، تنظر الى أصابعها المتشابكة، حيث بدت كمراهقة لا تتعدى السابعة عشر...
لقد فقدت الكثير من الوزن و بدا وجهها صغيرا جدا في طيات وشاحها الكث...

حتى كتفاها كانتا أصغر حجما، بدت كالنسمة الضئيلة التي تمر على وجه حار، فتجعله يشتاق لها أكثر و لا يرتوي منها فور مرورها...
أغلقت العميدة الباب خلفها، بينما استمر كل منهما على وضعه
هي تأبى النظر اليه، بينما هو لا يحررها من عينيه المقتنصتين...
ساد الصمت الثقيل بينهما طويلا، و كأنه يخبرهما عن مدى اتساع المسافة بينهما، الى أن تكلم قاصي أخيرا و قال بصوت جامد، عديم المشاعر
(ستسافرين!).

رفعت تيماء وجهها تنظر اليه ببطىء، قبل أن تنهض واقفة تواجهه بصمت و عينين واسعتين، فقدتا بريقهما المتوهج، لتقول بعد فترة بهدوء
(نعم هذا ما أريده، لكن و بما أنك عرفت فستقف في طريقي و تنتهز الفرص كي تمنعني من السفر، فقد سبق و فعلتها)
لم يرد عليها قاصي على الفور، بل كانت حرب النظرات بينهما أقوى و أعنف أثرا، الى أن قال اخيرا بنفس الجفاء.

(سمعتك تقولين أن السفر سيكون على نفقتك الخاصة، أي أنه ليس منحة، لا داعي لأسأل من أين لك بالمال، اليس كذلك؟)
رفعت تيماء ذقنها و استمرت في النظر اليه، قبل أن تقول بخفوت
(ما دمت قد رأيت أنه لا داعي للسؤال، فلا تسأل)
ضحك قاصي ضحكة تعرفها، و تكرهها من كل قلبها...
ضحكة سوداء إن كان لها لونا توصف به...

ضحكة هي سلاحه ليدافع به ضد الألم، وهو يتألم الآن و هي تعرف، لكنها لا تعرف إن كانت راضية عن ألمه أم تكره نفسها أكثر لأنها السبب في هذا الألم...
انتظرته الى أن انتهى من ضحكته السوداء، ثم رفع وجهه القاتم لينظر اليها نظرة مقت قبل أن يقول بشراسة خافتة
(و مع ذلك أريد سماعها منك، سأتلذذ بصوتك و أنت تنطقينها أمامي لو امتلكت الجرأة).

ظلت تيماء صامتة، باردة الملامح و هي تنظر اليه بصمت، الى أن فقد قاصي قناعه الساخر وهدر بعنف وهو يضرب الحائط بقبضته
(انطقيها، من أين لك بالمال؟)
رفعت ذقنها أكثر و كتفت ذراعيها لتقول ببطىء و برود
(من أبي، من سالم الرافعي، إن كان هذا هو ما تريد سماعه بكل هذه الرغبة و الهوس)
هز رأسه في حركة غير مفهومة، و كأنه يسألها، و كأنه يسأل نفسه...

بينما راقبت عيناها شفتيه وهما تتحركان بعجز تريدان الكلام، الى أن زمهما بقسوة، ووقف أمامها شامخا صامتا، يرمقها بنظرة كانت أقسى من صفعته...
الا أنها قاومت ألمها و هي ترفع حاجبيها، تجبر نفسها على القول ببرود
(هيا، أنا أنتظرها منك، كلمتك التي حفظتها عن ظهر قلب، يا عديمة الكرامة، لماذا أنت صامت، قلها مجددا).

التوت شفتي قاصي في ابتسامة واهية، لم تحمل أثرا للسخرية هذه المرة، بل كانت غريبة ميتة، ثم قال أخيرا بصوت خافت
(لا داعي لتكرارها، فمن الواضح أنها لم تجدي نفعا معك)
عضت تيماء على زاوية شفتها بصمت و هي تطرق بوجهها المتألم، بينما كانت سرعة أنفاسها تتزايد، بصمت، و غضب...
فرفعت وجهها فجأة اليه و قالت من بين أنفاسها
(زد من قسوتك يا قاصي، فلم أعد أبالي، لم أعد أشعر بشيء)
كاذبة...

صرخ بها قلبها بقسوة، الا أنها كتمت صرخته بكل ما تبقى لها من قوة، فقالت ببرود
(كرر فعلتك و اصفعني، هيا، لقد فعلتها مرة، و لن أمانع في أن تعيدها، حقا لن أمانع)
للحظة توترت ملامحه، و تراجع رأسه للخلف، بدا شاحب الملامح و فكه يتوتر و كأنه غير قادر على السيطرة عليه...

استمر الصمت بينهما طويلا و كل منهما ينظر إلى الآخر بعنف و توتر، الى ان تحرك من مكانه كحيوان هائج فجأة، مندفعا تجاهها، فقبض على كتفيها بكل قوته و ادارها وهو يتراجع بها الى ان الصقها بالجدار فتأوهت بصمت، الا أنه رفع قبضته ليقبض على ذقنها يرفع وجهها اليه بقوة...
ثم همس أمامه بنبرة ترتجف كصوت شيطان أعمى
(كم مرة قابلته؟)
هتفت تيماء بصعوبة من ضغض قبضته على وجنتيها
(من تقصد؟).

هز وجهها بقوة وهو يهمس أمامها بنبرة مخيفة ترتجف
(راجح، كم مرة قابلته؟، كم مرة حاول اقناعك بهجري، و متى عرف بنيتك في طلب ال، الطلاق؟، متى استطاع اقناعك بمساعدته في سلب عمرو مني؟، أم أنها كانت الحجة التي ستتحججين بها حين تطلبين الطلاق؟، لأنني رفضت شرطك الكاذب! كانت مجرد حجة، اليس كذلك؟)
صمت للحظة و انفاسه ترتجف فوق بشرة وجهها، ثم همس مبتسما و كأنه يقنع نفسه بالقوة.

(كانت حجة، اليس كذلك يا تيماء؟، حجة بزغت لك فجأة كي تحاولين الفكاك مني بأسلوب أنيق، أكون أنا المخطيء فيه)
هتفت تيماء من بين قبضته و أصابعه بكل قوتها
(صدق ما تشاء، لن أحاول تبرئة نفسي أمامك)
الا أن قاصي صرخ بها
(كم مرة تقابلتما؟، أجيبيني)
ضربته تيماء بكلتا قبضتيها في صدره بعنف و هي تصرخ
(أخرس يا عديم الثقة. ، يا مشوه التفكير، من تظن نفسك كي تتهمني أنا، بعد كل ما قدمته لك).

ضحك قاصي عاليا، ضحكة مجنونة غير مسيطر عليها، ثم قال يسألها بعنف ساخر مهووس
(هذا هو ما تريدين الإقتناع به، اليس كذلك؟، أنني مشوه التفكير و لا أصلح لك)
هتفت به و هي تحاول دفعه عنها عبثا...
(لا أحتاج الى اقناع نفسي، لأنني مقتنعة بالفعل، ابتعد عني)
الا انه لم يبتعد، بل رفع كلتا قبضتيه و أمسك بجانبي وجهها و قال بعنف من بين أنفاسه المتهدجة.

(إنهم يعبثون بك، يحاولون ايهامك بأنهم يساعدونك لتنالين حياة أفضل، الا أنهم يتسللون اليك كدود عفن، و قد بدأوا بأحقر طريقة قد يلجأون اليها، سيضعونه في طريقك، وسيحاول اغوائك، بينما أنت عمياء، انت لا تفهمين فيما يفكرون، إنه لا يحاول مساعدتك، بل يحاول اغوائك، يحاول اغوائك، افهمي هذا)
صرخت تيماء بقوة و هي تضربه للمرة الأخيرة
(احترم نفسك، و اخرس، اخرس).

فتح قاصي فمه ينوي الكلام، الا أنها صرخت به بجنون و هي تعاود ضرب صدره
(قلت اخرس)
صمت قاصي وهو يلهث بعنف، بينما كانت تلهث هي الأخرى بوجه أحمر، قبل أن تهتف من بين لهاثها المجهد
(كان يجب أن اعرف أنك تفكر مثلهم، لأنني تجاوزت معك منذ بداية مراهقتي، اخطأت و انزلقت، فسأظل محل اتهام طوال حياتي، بل وصل بك الأمر أن تتهمني بأخيك أيها القذر).

صمتت للحظة و هي تحاول السيطرة على نفسها قبل أن تنهار تماما، ثم تابعت بقهر
(أقسم يا قاصي أن ضرب والدي لي بسببك كله، كله، لم يؤلمني قدر صفعتك لي، أعلم لماذا؟، لأنها كانت صفعة انعدام ثقة، لقد انهارت الثقة بيننا تماما، و هذا معناه أن حياتنا معا انهارت، هذا إن كانت هناك حياة قبلا من الاساس)
كان يلهث بصعوبة، كالمجذوب بشعره و لحيته و غليان المشاعر في عينيه، عينيه كان بهما ذهول و جنون و، نفس الألم...

الا أنه قال بصعوبة و بصوت غاضب خافت
(أنا لا أتهمك، بل ألعن غبائك، افهمي، أنا لا أستطيع الثقة، لا أملكها، أنا)
الا أنها رفعت وجهها و قالت بخفوت تقاطعه
(أنا تعبت، أنا تعبت و طفلي تعب قبل أن يأتي الى النور، و هذه ليست الحياة التي اتمناها له، سأسافر يا قاصي، و إن أردت ايذائي أكثر فافعل، لكنك لن تربح الكثير بما تفعل).

ابتعد عنها قاصي خطوة، و اخذ ينظر اليها، بنفس النظرات، قبل أن يصرخ فجأة وهو يرفع قبضته عاليا مما جعل تيماء تشهق خوفا و هي ترفع كلتا قبضتيها دفاعا عن وجهها...
الا أن قبضة قاصي حطت فوق زجاج خزنة الملفات، فهشمت واجهته تماما بدوي مزعج...
مرت عدة لحظات قبل أن تبعد تيماء قبضتيها عن وجهها ببطىء و هي ترتجف، ناظرة الى ما حدث، فاتسعت عيناها و هي تنظر الى الخزنة المحطمة، ثم نظرت الى قاصي بسرعة و هلع...

ترى إن كان قد جرح نفسه، الا أنه كان يوليها ظهره واقفا على بعد...
و قبل ان تتكلم، سمعت صوت باب المكتب يفتح، ثم دخلت العميدة الى الكلية قائلة بهدوء
(الحرس يريدون زوجك يا تيماء)
نظرت اليها تيماء برجاء، ثم نظرت الى قاصي، كانت تهز رأسها نفيا، لا تعرف تحديدا ما الذي تنكره أو تنفيه...
ربما كانت تنفي ما يحدث...

تتمنى لو أغمضت عينيها، لتفتحهما و تجد أن كل ما يحدث ما كان الا مجرد كابوس من احدى كوابيسها التي اعتادتها لسنوات طويلة، و ترى نفسها بعد استيقظاها بين ذراعيه، يضمها الى صدره و يربت على ظهرها هامسا في أذنها بصوته الأجش الناعس
لا بأس، كان، مجرد كابوسا، أنا هنا، و لن أتركك،
لكنها كانت تعلم أن أمنيتها لن تتحقق هذه المرة، و أن هذا لن يحدث، لن تضمها ذراعاه مجددا و تشعر بالأمان بينهما...

تكلمت العميدة و هي تنظر اليهما بعدم راحة.
(تيماء!)
فنظرت اليها تيماء عاجزة عن الكلام، تريد لxxxxب الساعة أن تتوقف عند هذه اللحظة...
لكنها لم تتوقف مع الأسف، فقد تكلم قاصي و قال بصوت أجش بطيء
(سافري يا تيماء، لن أمنعك)
تسمرت مكانها، و هي تشعر بأنها لم تسمع ما قاله فعلا، فهمست بإعياء
(ماذا؟)
التفت اليها ببطىء و كم أوجعتها عيناه في تلك اللحظة، بكل ما فيهما من ألم و عذاب، كطفل يفقد أمه للمرة الثانية...

لكن ملامحه كانت صلبة، جامدة بشكل لا يعرف حياة أو مشاعر.
ثم تكلم مجددا بنفس النبرة وهو ينظر الى عينيها
(ابتعدي عن هنا تماما، و أنا لن أمنعك، لكن بشرط، لا تحاولي طلب الطلاق لأنني سأدفع عمري قبل أن تحصلي عليه)
فغرت تيماء شفتيها المرتعشتين و هي تهز رأسها نفيا مجددا...
لكنه أخفض رأسه وهو يتابع بخفوت
(بلغيهم هذا في صفقتك معهم، طلاقك سيكون بنزع لحمي عن جسدي، و هذا ثمنه أغلى).

خرج تأوه خافت غير مسموع من بين شفتيها، الا أن أي منهما لم يسمعه وهو يرفع وجهه للعميدة قائلا بصوت أجش صلب
(أنا ذاهب معهم)
لكن و ما أن تحرك الى الباب حتى هتفت تيماء بقوة
(مجيئك اليوم لم يكن صدفة، اليس كذلك؟، كنت تأتي كل يوم و لم تتحرك الا برؤية راجح، أجبني اليس كذلك؟)
ظل قاصي واقفا مكانه بصمت، ثم تكلم أخيرا قائلا بتهديد خافت
(حافظي على الطفل بحياتك، و اعتبريه تهديدا آخر).

خرج قاصي أمام عينيها الخائفتين، بينما عضت على شفتيها بقسوة و هي تمنع نفسها عن المزيد و المزيد من الصراخ...
أما العميدة فقد دخلت الى المكتب و هي تنظر الى الخزنة بذهول، ثم قالت بعدم تصديق
(هل كسر خزنتي؟، هل كسر زجاج خزنتي؟)
نظرت اليها تيماء بصمت و دموعها تغرق وجهها، و كل ما استطاعت نطقه من بين شهقاتها،
(أرجوك لا تضيفي هذا الى شجارهما، أنا من كسرتها).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة