قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والثلاثون

صفق سالم الباب خلفه بعنف، قبل أن يدخل الغرفة قائلا بصوت غاضب آمر
(ما الذي جعلك تسافر الى تيماء و تذهب الى كليتها؟)
كان قد عاد للتو من السفر بعد أن انتهى المحضر الذي تم فتحه، و الذي لم يستغرق معه كراجح الرافعي الكثير...
أخذ نفسا طويلا من سيجارته، ثم نفثها في الهواء بلا مبالاة، ثم نظر الى عمه قائلا بسخرية
(هل اتصلت بك شاكية بهذه السرعة؟، أنا للتو فقط وصلت)
هتف به سالم وهو يقترب منه.

(بالطبع اتصلت بي، كيف تفعل هذا و تتسبب لها بمثل هذه الفضيحة علنا؟، لقد ظنت أنني أنا من أرسلتك اليها)
رفع راجح وجهه الساخر ينظر الى عمه و أخذ نفسا آخر من سيجارته، قبل أن يقول ببرود
(لا تخبرني أنك بدأت تهتم بها و تعتبرها ابنتك فعلا يا عمي!)
جلس سالم على الكرسي المقابل له، وهو يميل مستندا الى ركبتيه بمرفقيه هاتفا من بين أسنانه.

(احترم نفسك يا ولد و تعلم كيف تتكلم مع من هم أكبر منك في العائلة، فيما كنت تفكر و أنت توشك على قتل أخيك بسلاحك الخاص، و أمام كلية ابنتي تحديدا و في وجودها! أخبرني يا ولد، هل تتعاطى شيئا يجعلك مجنونا خطيرا الى هذه الدرجة؟)
رفع راجح وجهه مباشرة ينظر الى سالم بعينين كريهتين من شدة الحقد بهما وهو يقول بنبرة خطيرة
(كلمة أخيك كفيلة بأن تجعل مني مجرما، فلا تستفزني أكثر يا عمي سالم).

هتف به سالم بغضب و استياء
(ألم تصبح مجرما بعد؟، أنت مجرم بالفطرة و منذ مولدك، فيما كنت تفكر و ماذا تريد من تيماء؟)
ضحك راجح عاليا رغم البريق الغاضب الشرس الذي لا يزال ظاهرا في عينيه بحقد...
ثم لم يلبث أن قال ببرود
(ما هذا الدور يا عمي؟، ألم تعدني بمحاولة الحصول على مساعدتها في قضية ضم عمرو إلى حضانتي؟)
هتف سالم مؤكدا.

(نعم وعدتك، على أن أفعل أنا هذا، انا من سيقنعها و يتفاهم معها، لماذا ذهبت اليها و ماذا تريد منها؟)
ارتفع حاجبي راجح ببراءة وهو يقول نافثا دخان سيجارته
(هل تخاف على ابنتك مني؟، هل نسيت أنها ابنة عمي في نفس الوقت، من حقي أن أراها و أتعرف عليها!)
هدر سالم فجأة غاضبا
(ألم تكن سوار ابنة عمك أيضا، و تجرأت على فعلتك السوداء تجاههها، و تسألني إن كنت أخاف على بناتي منك!).

رمى راجح سيجارته أرضا وهو يسحقها بحذائه بكل قوة، بينما أظلمت عيناه بمشاعر سوداء ما أن سمع اسم سوار، فشردتا الى عالم مجهول في أعمق زوايا روحه، لم يزره غيره، و لا يوجد به سواها، سوار...
نظر راجح الى عمه طويلا، ثم قال بصوت بعيد
(بمن تقارنها يا عمي!)
أغمض عينيه للحظة، قبل أن يضحك فجأة بصوت عال مما جعل ملامح سالم تتوتر من تقلب مشاعره بهذه السرعة المتهورة، ثم قال ببساطة وهو يتراجع للخلف.

(صحيح أن سوار ملكة، لكن هذا لا يمنع أن ابنتك البعيدة جذابة بطريقة خاصة يا عمي، إنها لطيفة و مضحكة)
صرخ به سالم بعنف
(اخرس يا ولد و احترم نفسك، انها ابنة عمك، ابنتي، و لن أسمح لك ب)
رفع راجح كفيه بدهشة وهو يقول بتعجب
(و ماذا قلت؟، لم أقل سوى أنها لطيفة، ابنة عمي الصغيرة لطيفة)
نهض سالم من مكانه وهو يقول باستياء يدور حول نفسه.

(هل حقا كنت ناويا على قتله؟، اسمع يا ولد ان كنت تريد التصرف بجنونك المعتاد، فافعل ذلك بعيدا عني و عن بناتي)
ابتسم راجح بقسوة، الا أنه أشعل سيجارة أخرى ليقول ببرود
(هو استفزني بوجوده، و قد حذرته أن سلاحي معي فلم يرتدع، لم أشعر بنفسي الا و قبضتي تمتد اليه، لولا الأحمق الذي كان يرافقه على الأرجح و الذي لم أراه يتبعه، هجم على من الخلف و أمسك بمعصمي قبل الوصول اليه لكنا ارتحنا منه جميعا).

صرخ به سالم بذهول
(قتل لا، قتل لا يا معتوه، و فوق كل هذا أمام ابنتي التي تحمل طفله، و تريد أن تزجنا معك في تلك الجريمة!)
عاد راجح ليضحك وهو يرفع رأسه للخلف ناظرا الى السقف بعينيه قائلا بشرود
(لقد أصبحت رقيق القلب على غير العادة يا عمي، ترى أهو تأثير دخول ابنتك اللطيفة حديثا الى حياتك؟)
هتف به سالم بغضب...

(هذه ليست رقة قلب يا احمق، انه تحكيم عقل، ليس هناك اكثر مني رغبة في اراقة دم الحقير الذي تجرأ و تزوج ابنتي رغم ارادتي الا أنني لم أقتله، ماذا سأستفيد من قتله سوى تمضية المتبقي من حياتي خلف القضبان)
نفث راجح دخان سيجارته وهو يقول بصوته المتباعد
(حين يخص الأمر ابن الزنا، فأنا لا أحكم المنطق، بل أفكر في أكثر الطرق التي تؤلمه و تذله، و سأفعل)
هتف سالم ناظرا اليه بعنف.

(غبي، غبي و ستظل هكذا طوال عمرك، لذا ابتعد بغبائك عن بناتي يا راجح و لتجعل كلامك كله معي أنا، هل كلامي واضح؟)
ثم خرج من الغرفة منفعلا، تاركا راجح مرتميا، ناظرا الى السقف وهو يتذكر ما حدث...
يتذكر كيف رمت تيماء بنفسها على صدر قاصي و هي تظن نفسها تحميه من سلاحه دون تردد...
ازداد ظلام عينيه وهو يشعل روحه لا السيجارة...
لقد أوشكت على الموت تضحية بنفسها لأجل من تحب...

نفث دخان السيجارة بصوت خافت من بين شفتيه المغلقتين، بينما تاهت عيناه بحريق آخر، صداه يشعل أحشاؤه، و لسانه يهمس بخفوت
(سوار، و هل هناك من تقارن بسوار!).

خرج قاصي أخيرا من قسم الشرطة بعد أن أرخى الليل أستاره...
يرافقه الشاب الذي بقى معه منذ الصباح، كان كلا منهما مرهق الملامح مجهد الجسد...
لكن قاصي تحديدا كان يبدو ميت الروح...
هيكلا يسير بخواء...
تكلم الشاب أخيرا بصوت متعب وهو ينظر الى ساعة معصمه
(يبدو أن النهار قد انقضى، لا بيع و لا شراء، سأذهب الآن و هاتفني غدا إن كنت لا تزال على قرارك في بيع السيارة).

توقف قاصي مكانه، قبل أن ينظر إلى الشاب طويلا، مما جعله يتوقف هو الآخر ناظرا اليه بتوجس و قلق...
الا أن قاصي أمسك بكتفه فجأة و قال بصوت أجش
(أشكرك على موقفك، لم أظن أن تقحم نفسك في الأمر حد الإمساك به، و تبقى معي حتى هذه الساعة)
ابتسم الشاب باحراج، ثم قال بتردد.

(لا شكر على واجب، انت ضيفا على المدينة، أتيت بغية البيع، و لم أكن لأتركك في شجار وحدك، اسمع، إن لم يكن لديك مكانا للمبيت هنا، تعال معي و انا سأجد لك غرفة)
شردت عينا قاصي قليلا وهو ينظر الى البعيد، قبل أن يقول بصوته الأجش الجامد
(نعم، لم يعد لي مكان هنا، )
أخذ نفس عميق، قبل أن يعاود النظر الى الشاب و قال بصوت ذو عزم.

(لكن لا وقت لدي كي أضيعه، إن كان المشتري جاهزا في هذه الساعة، فلنقم بالأمر و ليأخذ السيارة على الفور)
نظر الشاب الى معصمه مجددا، ثم قال بتردد
(سأتصل به، ليقدم الله ما به الخير، تبدو محتاجا للمال بيأس)
لم يرد قاصي عليه، بل أخرج هاتفه من جيب بنطاله، و طلب رقما، و انتظر للحظات ثم قال ببأس و دون مقدمات
(نعم إنه أنا، المبلغ سيكون جاهزا خلال يومين، و ما أن تصبح نقودي أمامك لا أريد خللا في الامر).

تماما و على بعد خطوتين، انتفضت متسمرة مكانها على صرخة ليث بعنف ووحشية
(ما تقولانه تطير له الرقاب، و من يتجرأ على مس سمعة زوجتي فليواجهنا لأقطع من لحمه و انتزع قلبه بقبضتي)
ارتجفت سوار بعنف و هي تسمع تلك الصرخة المتوحشة و التي لم تسمع كنبرتها من ليث سابقا ابدا...
فغرت سوار شفتيها المرتعشتين بذهول، قبل أن تجر قدميها جرا حتى التصقت بالباب مرهفة السمع...

لكنها لم تكن في حاجة الى ذلك، فصوت عمه كان يماثل صوت ليث وحشية وهو يهدر قائلا.

(تمزق من؟ أو من؟، البلد كلها تتكلم عن سمعة زوجتك التي أصبحت في الوحل، و علاقتها المحرمة بابن عمها، لقد ضبتها عائلتها معه بعد أن فرا سويا في احدى الليالي، و عوضا عن تطهير شرفهم بدمها، قاموا ببالإسراع في تزويجها لك و نحن من كنا نتسائل عن السبب، لكن أنت، أنت، كيف كنت بمثل هذا الغباء و العته، فلم تشم الرائحة القذرة في رغبتهم في التعجيل من الزواج؟، هل أنت فتى غر أم تنقصك الخبرة؟).

ضربت سوار وجنتيها برعب، بينما قفزت من مكانها على صوت صرخة اخرى من ليث وهو يهدر بجنون
(قسما بالله لو لم تكن عمي، لأطبقت على عنقك بقبضتي حتى أزهقت روحك)
هدر عمه هو الآخر بذهول
(تأدب يا عديم النخوة)
حينها بدأت جلبة و أصوات، ثم سمعت سوار صوت عمه الآخر يهتف بعنف
(اترك عمك يا ليث، أترك عمك، هل جننت؟)
صرخ ليث وهو في حالة عقلية غير سليمة
(يخوض في عرضي و شرفي و تريد مني أن أحترم القرابة؟)
صرخ عمه يقول بغضب.

(ليس وحده يا ليث، البلد كلها في الجانب الشرقي منها لا قصة لديهم سوى قصة ضبط زوجتك مع)
صمت فجأة وهو يهتف مختنقا...
(اتركني يا ليث، اتركني يا ولد ستخنقني)
أما عمه الآخر فصرخ هادرا
(هل أخبرتك أنها حامل؟، طبعا و أنت كال)
لم يستطع المتابعة، فقد تأوه فجأة على صوت لكمة سمعتها سوار بوضوح، مما جعلها تشهق بصوت عال و هي تلطم نفسها بعنف...
اما عمه فصرخ بجنون
(هل تضرب عمك يا مجنون، أتركه، أتركه).

الا أن ليث هدر قائلا دون رحمه
(فليحمد الله أنني لم أقتله)
هنا تكلم رجل ثالث، هو أحد الكبار على ما يبدو، فقال هاتفا بقوة كي يسمعه الجميع...

(اسمعني يا ليث، قبل أن تزيد من جنونك أكثر، لو كانت زوجتك قد ارتكبت خطيئة أثناء زواجك منها، لكان أعمامك الزموك الآن بدمها، لكن و بما أنها فعلت ما فعلت قبل زواجكما، و قامت بخداعك هي و أسرتها فأكبر عقاب لهم هو أن تعود الى بيت عائلتها ليعرف الجميع بما أقدمت عليه عائلة الرافعي، و سيعيشون في ذل الى الأبد)
همست سوار و هي تكاد أن تسقط أرضا
(ياللهي! ياللهي!)
الا ن صرخة ليث المذهولة دوت في أرجاء الدار بجنون.

(هل أنت مجنون؟، الا تتقون الله فيما تدعون؟ أين شهودكم؟، أين أدلتكم قبل أن تقومو بقصف زوجتي، سوار ابنة وهدة الهلالي، هل هي غريبة عنكم أم أنكم نسيتم من تكون؟)
قال عمه الآخر بعنف
(لم ننسى، لكن على مايبدو أن أشيائا كثيرة قد تغيرت على مدى السنوات)
صرخ ليث بنفس الصوت المتوحش.

(اخرجوا، اخرجوا جميعا من داري، و حين تعلمون أي ذنب اقترفتم، تعالوا و ابكوا بندم على خوضكم في عرض ابنتكم، دون بينة أو برهان، أقسم بالله لن أسامحكم على عدم ردكم لغيبتي، بل و مساندة من كان السبب في نشر تلك الشائعة)
قال الرجل الثالث بتوتر و قد بدأوا يستشعرون تسرعهم و جريهم خلف الشائعة التي انتشرت دون دليل.

(اسمع يا ليث، الضرر قد حدث و انتهى الأمر، و أنت لن تستطيع العيش مرفوع الرأس مجددا في البلد وهي لا تزال على ذمتك، طلقها يا ولدي و أعدها الى بيت أهلها. )
صرخ ليث بقوة
(الى الخارج، جميعكم الى الخارج، هيا)
فتح باب المضيفة فجأة و اندفعوا يخرجون متوعدين بغضب، الا أن ثلاثتهم توقفوا وهم يرون سوار تقف في مواجهتهم مرفوعة الرأس قاسية العينين، صلبة الملامح...
تكلم عم ليث قائلا بازدراء وهو يحك فكه.

(و تملكين الجرأة على مواجهتنا دون خجل أو خزي؟)
علا صوت سوار و هي تتكلم بثبات رج ارجاء البهو
(بل و أملك الجرأة على مواجهة بلدين كتلك البلد، و ليأتي من يدعي على شرفي باطلا و يواجهني، أنا سوار غانم الرافعي، ابنة وهدة الهلالي، لا عاش و لا كان من يتجرأ على الخوض في عرضي)
تبادلوا النظر فيما بينهم بغضب و صمت، الى أن قال العم الآخر بصرامة.

(المصيبة حدثت و الله أعلم بالحق، و الأفضل لك هو رجوعك الى دار أهلك، لكن زوجك يرفض و أنتما من ستتحملان العواقب، لكن اعلمي يا بنت وهدة، لو امتلكنا الدليل أو حتى شاهدا واحدا على ما انتشر، حينها لن يرحمك منا مخلوق)
هدر ليث من خلفهم بقسوة
(اخرجوا حالا قبل أن أتهور و أرفع سلاحي عليكم)
ابتسم أمجد بحب وهو يراها تجلس بجوار جهاز التسجيل الخاص بها، تستمع الى مسلسل اذاعي في نفس الوقت من كل يوم.

جهاز قديم اشتراه لها والده منذ سنوات طويلة و لا تزال تحتفظ به حتى الآن و لا تسمع الا منه...
بل و كلما تعطل، ارسلته مع أمجد كي يتم اصلاحه...
اشترى لها عدة اجهزة حديثة، فتقبلتها منه منبهرة و مبتسمة، الا انه يكتشف بأنها تهديها لمهجة أخته و تظل هي محتفظة بجاهزها القديم...
اخذ أمجد من وقته بضع دقائق وهو يراقبها مبتسما، مكتفا ذراعيه من باب غرفتها، و هي تجلس على نفس الأريكة الصغيرة منذ سنوات كذلك...

لكنها اليوم لم تكن مبتسمة نفس الإبتسامة البشوشة التي لم تفقدها يوما...
ملامحها كانت حزينة بشكل أوجع قلبه، بشكل لم يتخيله، فبهتت ابتسامته قليلا...
فتحت أمه فمها و هي تتنهد بخفوت، ثم اعتدلت قليلا و هي تقول بصوتها الحنون الهادىء
(هل تظل واقفا عند الباب يا أمجد؟)
ابتسم أمجد مجددا و استقام ليدخل الى غرفتها قائلا بمرح
(لم أضع عطري بعد، فيكف علمت بوجودي يا أم أمجد؟، ألن تفشي لي بعضا من قواك الخارقة بعد؟).

ابتسمت أمه أخيرا كما تمنى و قالت بخفوت
(رائحتك بعد الحمام كالمسك الطيب يا حبيبي)
اختلج قلبه لحظة ما أن ذكرت الإسم عرضا، فابتسم...
الا أنه قال ممازحا
(و مع ذلك لا أصدق أن هذا هو التفسير الوحيد، هيا اعترفي)
ربتت أمه على صدرها و هي تقول
(قلبي يا حبيب قلبي، يوجعني حين أعرف أنك واقفا بالقرب مني تحمل هما يؤلمك و يثقل كاهليك).

وصل اليها و جلس بجوارها على الأريكة الصغيرة، يمسك بكفها المرتاحة على ساقها وهو يهمس بخفوت
(سلامة قلبك يا أم أمجد)
ابتسمت أمه أكثر و هي تقول بحنان
(من خلفه ولده لم يمت، نفس جلسة والدك رحمه الله بجواري، و نفس حركة يده في الإمساك بيدي)
ابتسم أمجد بحزن وهو يشدد على قبضتها بنعومة قائلا
(من أنا كي تقارنينني بأبي و حنانه عليك، كثيرا ما أشعر بالتقصير حين أتذكر كل ما كان يفعله في سبيل اسعادك).

ضمت امه قبضته الى حضنها و هي تقول بخفوت
(يكفيني أن أراك سعيدا، لا أطلب أكثر في هذه الدنيا)
تنهد أمجد دون أن يجيب فتنهدت هي الأخرى صدى لتنهيدته، ثم قالت بحزم و هي تمد يدها تتحسس جهاز التسجيل حتى أغلقته، ثم نظرت الى أمجد و كأنها تبصره
(هيا أخبرني، هناك ما يقلقك و يشغل بالك، و أنت لن تستسلم بهذه السهولة، أنت ابني و أنا أعرفك).

لم يرد أمجد، بدا و كأنه يحاول ايجاد الكلمات المناسبة، فتطوعت أمه و قالت بصوت مهموم مثقل
(إنها زميلتك مجددا، مسك، لا تزال تفكر بها)
رفع أمجد وجهه ينظر الى أمه، ثم قال بهدوء خافت
(أنا غير قادر على التنازل عن رغبتي في الزواج منها يا أم أمجد، لا أريد سواها)
تاوهت أمه بألم و هي تقول بصعوبة
(هذا ما توقعته، أنت مصر على قرارك، و كم هو صعب يا ولدي، أنت لا تدرك قيمة ما تتخلى عنه، و لن تعرف الا بعد فوات الأوان).

قال أمجد باصرار
(بل أعرف، أعرف و أدرك جيدا يا أم أمجد، و أتألم بداخلي لما أنا على وشك فقده، لكن فقدها أصعب)
هتفت أمه بقوة وحاولة اقناعه بشتى الوسائل
(يا ولدي أنت تتوهم، و ما أن تتزوجها و يزول عنك بريق الزواج في بدايته، ستندم، و حينها اما أن تظلمها أو تظلم نفسك)
قال أمجد بمنتهى الهدوء و الثبات.

(لا أظن يا أمي، ألم تخبريني أنك تعرفين ولدك جيدا؟ كم مرة ترددت و ندمت على شيء تمنيته و تعبت حتى نلته، متى أصريت على شيء أنا لست واثقا من أهميته لي)
قالت أمه بأسى
(هذا أمر آخر، الأبوة أمر آخر يا ولدي، السكين تسرقك الآن و ستعض أصابع الندم لاحقا)
تنهد أمجد مجددا، ثم شدد على قبضتها قائلا بهدوء
(ولدك أصبح رجلا يا أمي، وهو قادر على الحكم على الأمر)
صمت للحظة ثم قال ببطىء مشددا على كل حرف.

(أنا أريد هذه المرأة هناك، أريدها بدرجة، أنا غير قادر على تناسيها و المضي في حياتي، و الأكبر من هذا يا أمي وهو أنني، اظن بأنها هي الأخرى تريدني، و لو منحتها الفرصة فسوف تظهر تمسكها بي، و هذا شيء اضافي آخر)
هتفت أمه عاقد حاجبيها فجأة
(و من ترفضك يا حبيبي، هل اختلت الموازين!)
قال أمجد على مهل
(أمي، لا تدعي حبك لإبنك، يجعلك تنظرين لها على أنها أقل من امرأة رائعة بكل ما فيها).

قالت أمه بصوت رافض و هي تنظر بعيدا
(أنا لا أبصر، لذا فأنا لا اراها)
قال أمجد مصرا و بقوة
(بل رأيتها، و أدركت كم هي رائعة و قد تمنيتها لابنك أكثر مما تمنيتها أنا)
قالت أمه بغضب و أسى
(كان هذا قبل أن)
صمتت و هي غير قادرة على المتابعة، الا أن أمجد قال بصراحة
(قبل معرفتك بأنها لن تحقق لك حلمك في الحصول على حفيد)
التفتت أمه اليه و هتفت بقوة.

(أنا لدي أحفاد بالفعل، لكن ينقصني الحفيد منك، ابنك أنت يختلف، ابنك شيء آخر)
قال أمجد بصبر و صلابة
(ابني لن يختلف عن ابناء مهجة يا أمي، لديك اربعة من الأحفاد، و هذا رزق وافر من الله)
صمتت أمه و ازداد شحوب وجهها، و هي تنظر اليه و كأنها تنفذ الى روحه بعينيها الضريرتين مدركة، ثم قالت بصوت واه خافت، مرتعب
(لقد اتخذت قرارك و اتيت كي تخبرني به، لا لتقنعني، . اليس كذلك؟).

أطرق أمجد بوجهه و هو يفكر قليلا، ثم عاد و نظر اليها قائلا بهدوء
(اليوم، تعرضت مسك لظلم فادح، رأيت الألم في عينيها، بل و عرفت أنها على وشك السفر خارج البلاد رغما عنها و بأمر من والدها، حينها لم أجد الوقت كي أضيعه، فطلبت موعدا من والدها، كي أقابله الليلة، على أثنيه عن قراره الغير عادل في حقها)
بهت لون وجهها أكثر و همست غير مصدقة.

(الليلة يا أمجد؟، بهذه البساطة، بعت قلب أمك و رضاها، دون حتى أن تستشيرني؟)
قال أمجد بقوة
(لا عاش و لا كان يا أمي من يبيع رضاك، لكنني لم أملك سوى هذا اليوم، والدها مصر على أن ترحل و حينها ستضيع من يدي للأبد)
هتفت أمه بقوة و توسل
(دعها تضيع، دعها تضيع يا ولدي بالله عليك، قبل فوات الأوان)
قال أمجد بجدية و استعطاف كي تفهمه
(لم أستطع، لم أستطع يا أمي، صدقيني، لم أعهدك من قبل ترضين ليه شقاء القلب).

همست أمه بعجز
(شقاء القلب! ألهذه الدرجة؟)
قال أمجد بصدق لا يقبل الجدل
(و اكثر والله يا أم أمجد)
هزت أمه رأسها بعدم استيعاب، و رأى أمجد الدموع تتجمع في عينيها الضريرتين بعجز، مما جعله يتأوه بصمت فاقترب منها أكثر ليضمها الى صدره، ثم طبع شفتيه على جبهتها بقوة و توسل، مما جعل الدموع الحبيسة في عينيها تنساب على وجنتيها فهمست باختناق من بين شهقات البكاء الخافتة.

(أنت تظلمني يا أمجد، لم يكن هذا عشمي بك يا ولدي)
هتف أمجد قائلا بألم
(أرجوك يا أمي وافقي، أرجوك، لم أحتج يوما الى التوسل اليك لنيل رضاك الى هذا الحد، كنت تفهمين رجائي قبل حتى أن أنطق به)
هتفت أمه و هي تكفف دموعها باختناق.

(لأنك هذه المرة تتصرف ضد مصلحتك و تريد مني المشاركة في الحاق الضرر بك، أي أم تفعل هذا؟، لقد اتخذت قرارك، لدرجة أنك ستذهب الى خطبتها رسميا بمفردك، دون أن تأخذني معك، والله لولا معرفتي بك لظننت أنك تخجل بي أمام والدها)
قال أمجد بصرامة.

(ياللهي، لو تعرفين كم هي الأمور مخالفة لظنك المجحف هذا بحقي، أنا ذاهب بمفردي اليوم، لأنني سأخوض معركة يا أمي، فوالدها سيرفض و أنا أعرف هذا، لكنني مصر على خوض المعركة و لن أسمح لأي حرج أن يمسك أو تخرجين من بيتهم مكسورة الخاطر)
ابتعدت أمه عن صدره و هي تهتف بعينين متسعتين ذاهلتين.

(تذهب و أنت متيقن من رفضه لك؟، لماذا يا ولدي، لماذا كل هذا العناء و عدم تقديرك لنفسك و مركزك؟، من يكون هو كي يرفضك؟، الا يكفي أن)
صمتت قليلا و هي تطرق برأسها هامسة بكبت و ألم
(استغفر الله العظيم، ستجعلني أتفوه بما لا أرضاه)
قال أمجد بحرارة و قوة.

(استحلفك بالله لا تنطقيها يا أمي، لقد سمعتها من قبل في حقها، من عمها الذي كانت على وشك الزواج من ابنه، لقد تلقت الكثير من الأذى يا أمي، و لا تزال مرفوعة الرأس بكبريائها الرائع، و هذا ما يجعلني متمسك بها أكثر)
تنهدت أمه بصمت و هي تبعد وجهها، تمسحه بمنديلها القماشي الأنيق و هي ترفض الكلام...
فقال أمجد بعد فترة يسترضيها
(ألن تهاديني بدعائك و رضاك قبل ذهابي يا أمي؟، هل ترضينها لولدك؟).

ظلت أمه صامتة، مشيحة بوجهها، فتنهد أمجد بصمت مطرقا بوجهه الباهت...
و طال الصمت بينهما، و ما أوشك على النهوض حتى قالت أمه بجفاء
(متى يحين موعدك معهم؟)
رفع أمجد وجهه و قال بخفوت و قنوط
(بعد ثلاث ساعات من الآن)
أومأت دون أن تجيب، ثم قالت بخفوت بعد لحظتين
(عسى الله أن يكتب لك الخير في مسعاك، فليقربه لك إن كان خيرا، و ليبعده عنك و يكفك شره إن لم يكن).

ابتسم أمجد و رفع كفها الى فمه يشبعها تقبيلا بقوة، حتى ابتسمت رغما عنها و من بين دموع الأسى و الحزن، لكنه قال بصوت يتوهج برقة
(حفظك الله لي يا أغلى الناس، و أدام رضاك عني)
ربتت أمه على شعره بحنان، بينما هو يقبل كفها برقة، قبل أن تقول بصوت هامس مختنق
(اذهب لتستعد، هيا حبيبي و اتركني وحدي قليلا)
أمعن أمجد النظر بها، لكنه فضل أن يترك لها بعض الوقت كي تتجاوز مشاعرها، فنهض وهو يقول بهدوء
(سأفعل حبيبتي).

اتجه أمجد الى الباب، الا أن أمه هتفت فجأة بلهفة
(لا تنسى أن تصل صلاة الإستخارة، ربما)
التفت اليها أمجد مبتسما وهو يقول بهدوء
(أؤديها يوميا منذ عزمت على أمر الزواج منها، و من يومها و هي تقترب كل يوم أكثر، هل هناك أكثر من أن أحضر زفافها راضيا بنصيبي، لأجد نفسي الآن ذاهبا لخطبتها!)
زمت أمه شفتيها و هي تشيح بوجهها عنه بصمت، بينما ابتسم أمجد ابتسامة عريضة و هو يقول
(لا تنسي الدعاء يا أم أمجد).

خرج من الغرفة، الا أنه عاد و أدخل رأسه متابعا بحزم
(من قلبك، سأعرف إن لم يكن من قلبك).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة