قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع عشر

كان يعلم أنها هنا...
ملجأها الخاص الذي تهرب اليه كل يوم، لكن فاتها أن هذا الملجأ تطل عليه نافذة مكتبه...
لذا فهو فعليا يقضي معها فترتها الخاصة كل يوم دون أن تدري...
وقف على بعدٍ ينظر اليها عدة لحظات مستغلا فرصة انها لم تنتبه الى وجوده، و كأنه لم يكتفي من اللحظات التي راقبها بها من نافذة مكتبه...

كل يوم تأتي الى هنا، في هذا الجزء من حديقة الشركة، حيث يوجد مقعد وحيد، يطل على الجزء الأخضر من المكان...
تخرج شطيرة أنيقة و شهية مثلها، من عدة مكونات صحية يغلب عليها اللون الأخضر الورقي...
تضع ساقا فوق أخرى، و تأكل بهدوء و صمت، لتراقب الأشجار الخضراء أمامها بشرود...

هي لا تعلم أنه اعتاد شرب القهوة يوميا على منظرها و هي جالسة في هذا المقعد، لا يمل و لا يغادر النافذة الا بعد أن تنصرف هي، و كأنهما يتشاركان هذا الوقت الخاص بوسيلة روحية...
لكن اليوم، لم يستطع المقاومة...
لذا قرر الهجوم، و مشاركتها فترتها الخاصة بكل قلة ذوق و تطفل، سيجبرها على ذلك لو تطلب الأمر..
اقترب منها على مهل و عينيه تتأملان ذيل الحصان القصير المقوس من شدة نعومته وهو يتطاير مع النسيم...

الى أن وصل اليها و غطى ظله عينيها فرفعت وجهها مجفلة قبل أن تقول بترقب
(نعم؟)
ابتسم أمجد ابتسامة صغيرة، و اقترب ليجلس بجوارها على المقعد المستعرض ببساطة، بينما هي تنظر اليه بدهشة، ثم قال بهدوء
(أنت لا تعرفين شيئا عن فن الترحيب)
نظرت مسك الى جلوسه النهائي بما لا يدع الشك، ثم قالت
(و أنت بالتأكيد لا تعرف شيئا عن فن احترام خصوصية الآخرين)
عقد أمجد حاجبيه وهو ينظر حوله، ثم اعاد عينيه اليها ليقول بشك.

(هل اشتريتِ هذا المقعد و سجلته باسمك؟)
زفرت مسك بضيق و تجاهلته تماما و هي ترفع شطيرتها الى فمها لتأكلها بصمت، بينما هو يراقبها مبتسما، لكن الإبتسامة لا تصل الى عينيه، عينيه كانتا عميقتين و متألمتين، لكنه عبثا كان يحاول اخفاء هذا الشعور بداخله عبر بعض السماجة و المزاح الثقيل كي لا تستشعر ذرة من تعاطف فتوجعها أكثر...
قال أمجد بعد أن طال الصمت...
(انزلي ساقك).

نظرت اليه مسك بعدم فهم، فقال لها ببساطة وهو يشير بذقنه الى ساقها
(انزلي ساقك من على الأخرى، بنطالي سيتسخ من حذائك)
ارتفع حاجبيها أكثر و هي تنظر الى حذائها المتأرجح في الهواء، ثم قالت بتحفز
(لم ألمس ساقك، و لم أقترب منها من الأساس)
قال أمجد مصرا
(لكنني لا أشعر بالراحة في الجلوس متوجسا من أن يلامس كعب حذائك بنطالي)
قالت مسك بفظاظة.

(كنت جالسا على أرض المكتب تتناول شطيرة تحتوي على مخ كائن حي، و الآن تخشى على بنطالك من كعب حذائي الذي لا يتجاوز قطره عشرة ملليمترات؟)
عقد أمجد حاجبيه وهو يقول
(أولا كنت جالسا على احدى دفاتر الشركة، ثانيا كان ذاك بنطال الجلسة الحلوة و الصحبة الطيبة، أما هذا فهو بنطال الإجتماعات، لأن لدينا اجتماع خلال دقائق إن كنت قد نسيتِ)
كانت مسك تنظر اليه بوجوم وهو يتكلم بجدية، ثم قالت بنفس الوجوم.

(بنطال الجلسة الحلوة و الصحبة الطيبة؟، لقد اشتريت من كافة العلامات التجارية الشهيرة، الا أنني لم أحظى يوما ببنطال من نوع الجلسة الحلوة و الصحبة الطيبة)
قال أمجد بفخر
(أنا سجلته بهذا الإسم، كي تتعرفه الحاجة والدتي و هي ترسله الى التنظيف)
ابتسمت مسك ببرود و هي تقول.

(دعني أخمن، ذاك البنطال ترسله الى مصبغة الأمل التي تقع عند تقاطع سوق الخضراوات مع شريط القطار، و التي تستخدم في تنظيفها الصودا الكاوية على ما أظن)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول
(أتعرفين مصبغة الأمل؟، لقد تقدمتِ جدا، اسبوع آخر لكِ هنا و تأتين الى العمل بخف الحمام)
ابتسمت مسك بسماجة و هي تنزل ساقها أخيرا قائلة
(لطيف جدا، اسمع، ما رأيك أن نعقد صفقة؟)
كتف أمجد ذراعيه و قال باهتمام.

(أنا أحب الصفقات جدا، هاتي ما عندك)
ردت عليه مسك ببساطة
(أتتذكر المقعد الذي تفضله في غرفة الإجتماعات لأن المكيف لا يصله فلا يؤلمك ظهرهك، و الذي أدخل أنا مبكرا كي آخذه قبلك)
مط أمجد شفتيه بامتعاض قائلا
(نعم، أتذكر)
ردت مسك بجدية
(لما لا نعقد صفقة، سأترك لك ذاك المقعد على أن تترك لي هذا المقعد اللذي نجلس عليه الآن لأنه يخصني)
تظاهر أمجد بالتفكير وهو يضيق عينيه ناظرا الى السماء، ثم هز رأسه قائلا.

(أممممم، لا أظن، أفضل الجلوس هنا، المكان رائع و مهدىء للأعصاب، يمكنك الإحتفاظ بمقعد غرفة الإجتماعات)
زفرت مسك بنفاذ صبر و هي تلتهم شطيرتها بعنف ناظرة أمامها، بينما أمجد ينظر اليها مبتسما، ثم قال أخيرا بعد فترة من الصمت
(كنتِ رائعة مع راشد، لقد بلغني أنكِ سويتِ الأمر مع الإدارة، الا أنني كنت أنوي كسر يده لتهجمه عليكِ)
قالت مسك و هي تنظر أمامها بلا تعبير معين
(لم أكن لأسمح له بأن يضربني).

قال أمجد بخفوت غاضب قليلا
(يكفي أنه حاول)
ردت عليه مسك و هي تنظر بعيدا ملتهمة شطيرتها بلا شهية
(الضغط يولد الإنفجار أحيانا، لكن للضعفاء فقط)
قال أمجد بهدوء
(ربما كان الانفجار صحي في بعض الأحيان)
قالت مسك متأوهة بنفاذ صبر
(لا تبدأ أرجوك)
صمت أمجد وهو يراقبها و هي تتناول شطيرتها بكل هذا القدر من الأناقة، تمسح زاوية فمها بطرف اصبعها من شيء وهمي، فتلك الشفاه لا تعرف التلوث مثل باقي البشر...
ثم سألها أخيرا.

(كيف حال والدك؟)
لم ترد مسك على الفور، ثم قالت بصوت لا تعبير به
(سافر للبلد ليلة أمس، كي يفسر الأمر لجدي و يحاول استرضاء عمي و زاهر)
عقد أمجد حاجبيه وهو ينظر اليها بصمت، بينما هي شاردة تماما، الى أن قالت فجأة
(ربما تماديت فعلا)
ضاقت عينا أمجد وهو يسمع هذا الإعتراف الهادىء المفكر منها، فقال يشاركها بصوت خافت.

(ربما لم يكن عليك تقديم هذا العرض العلني، لكن في كل الأحوال هذا الرجل لم يكن يصلح كزوج لكِ، انه بمثابة دمج شركتنا مع شركة استيراد فوانيس الأطفال)
نظرت مسك اليه بتفكير عميق، ثم قالت بهدوء
(كان ينوي الزواج مسبقا، كان يحضر لزيجة اخرى و حفل زفاف ضخم في البلد، فأردت معاقبته، أتراني تماديت؟)
اتسعت عينا أمجد بذهول و قبل أن يستطيع منع نفسه أطلق شتيمة غاضبة وهو يقول مصدوما.

(ينوي الزواج مسبقا؟، هل هي صفقة نساء بالجملة.؟)
اطرقت مسك بوجهها و هي تفكر بعمق، ثم قالت ببساطة
(لكنني تماديت، والدي ليس له ذنب)
قال أمجد بهدوء بينما جسده كله تحول الى طاقة من التحفز، و الغضب...
(سيتجاوز الأمر، هذه هي وظيفة الآباء، التجاوز عما يفعله الأبناء)
نظرت اليه مسك مجفلة من نفسها...
لماذا تتكلم معه في ادق تفاصيل حياتها؟، كيف تسمح له و لنفسها بذلك؟

كيف سمحت له باختراق مساحة خصوصيتها بهذه الجرأة؟، و كأنها تعبت من الوحدة...
و كأنها أرهقت من قوة خوضها حرب حياتها بمفردها، دون سند...
أخذت نفسا عميقا و قالت بهدوء جليدي
(سأضطر الى المغادرة الآن، على مراجعة العرض التقديمي الذي سوف أقدمه في الإجتماع)
ارتفع حاجبي أمجد و همس بخفوت
(العرض التقديمي؟)
قالت مسك ببساطة
(نعم و الخاص بالمشروع الجديد، سهرت عليه ليلة أمس و أنهيته).

كان ينظر اليها بنظرات غريبة لم تفهمها، . ثم قال أخيرا بخفوت
(المرأة الحديدية مجددا، و التي أبت أن تنال ليلة واحدة لنفسها، تبكي، تصرخ، أو حتى تشاهد فيلما لتبكي عليه أثناء التهامها للكثير من المثلجات، لن تتحملي طويلا يا مسك)
زمت مسك شفتيها و هي تقول ببرود
(ها قد عدنا)
نظر اليها أمجد طويلا، ثم قال أخيرا بهدوء خافت
(إنها المرة الأولى التي تجمعين بها شعرك على هذا النحو في العمل).

استدارت تنظر اليه عاقدة حاجبيها باستياء و هي تقول
(هل لديك اعتراض؟)
ابتسم أمجد بشرود و همس
(بل أظنه رائعا، يليق بكِ جدا)
ارتبكت مسك و أعادت وجهها لتنظر بعيدا دون أن تسارع للنهوض كما كانت تعتزم...
تبا له، انها لا تزال تحتاج لبعض الوقت في منطقتها الخاصة، ملجأها السري...
لكنه يمنعها بوجوده المتطفل...
قال أمجد ليقطع الصمت بينهما و ليؤخرها عن الهرب الى دوامة العمل من جديد...
(الشعر القصير خلق لكِ).

احمرت وجنتيها قليلا، و ازداد ارتباكها
ماذا يحدث؟، انه يغازلها غزلا صريحا! لكن الأفظع هو أنها ليست مستاءة تماما...
رباه، الهذه الدرجة تعاني من الحرمان العاطفي، لدرجة أن تشعر بالرضا لمجرد سماعها لعبارة تافهة من رجل غريب؟
عليها أن توقفه عند حده، ستعلمه الأدب و تجعله يفكر الف مرة قبل أن يتجاوز حدوده معها...
لكن و قبل أن تنفجر فيه، وجدت نفسها تقول ببساطة.

(لطالما كان شعري طويلا من قبل، لم أقصه لسنواتٍ طويلة)
تبا، ما اللذي نطقت به للتو!أين الحزم و الصرامة وماذا عن الزامه الأدب؟، .
رد عليها أمجد بصوت هامس بدا و كأنه، مختنقا، أو متحشرجا
(حقا؟، لا أتخيلك بشعرٍ طويل أبدا)
ظلت مكانها جالسة باتزان، و هي تأمر نفسها
توقفي، توقفي، لا تكوني كمراهقة غبية...
الا أن أصابعها خانتها و تحركت ضد ارادتها لتتناول محفظتها الأنيقة التي تضعها بجوارها فوق المقعد...

ثم فتحتها ببساطة لتخرج منها صورة اكبر من الحجم الشخصي قليلا، ناولتها له و هي تقول بلا مبالاة
(لا داعي للتخيل)
أمسك أمجد الصورة بين اصبعيه لينظر اليها طويلا، و مضت اللحظات ببطىء فغامرت مسك و نظرت اليه...
كان ينظر الى الصورة دون تعبير معين و إن كانت تنتظر منه الإنبهار بصورتها فقد خاب ظنها...
ماذا كانت تتوقع؟، ان يهيم سحرا بالصورة التي لا تزال تحتفظ بها فخرا و ألما!

تنهدت مسك بدون صوت و هي تنظر للبعيد، ملتهمة قطعة من شطيرتها بلا شهية...
أما أمجد كان ينظر الى حورية من الحوريات، فتاة في مقتبل العمر، عيناها تلمعان بشقاوة ووعيد...
شفتان تبتسمان بمكر أنوثة العالم كله، بينما موجات شعرها الأسود تنطلق غزيرة حولها حتى خصرها و هي تقف ممسكة بلجام فرس أصيل...
شعرها كان جميلا، بل غاية في الجمال، أما ملامحها فقد كانت تنطق بأن تلك الفتاة عاشقة حتى النخاع.

حين طال تأمله للصورة، نظرت اليه مسك مجددا و قالت ساخرة
(ربما تود الإحتفاظ بها؟)
رفع أمجد عينيه عن الصورة لينظر الى الأصل بنظرة أخرى، نظرة مختلفة كليا...
أكثر عمقا، و دفئا، زادت من ارتباكها أكثر...
ثم ناولها الصورة وهو يقول بجدية
(لا، لا حاجة لي بها، فأنا لا أعرف تلك الفتاة التي التُقِطت لها الصورة)
قالت مسك تسأله باهتمام و بصوت خافت
(و ما رأيك بها؟)
ابتسم أمجد ابتسامة لطيفة وهو يقول.

(فتاة شقية محبة للحياة، تظن أن العالم كله ملك لها، لكنها صغيرة و لا تترك أثرا في النفس)
ارتفع حاجبي مسك بدهشة، و ظلت تنظر اليه طويلا، ثم قالت بخفوت أكبر
(و ما رأيك بشعري؟)
طالت عيناه لتنظران الى شعرها القصير، ثم قال بصوت خافت عميق
(أخبرتك، أنه خلاب و يليق بكِ)
رفعت مسك أصابعها لتلامس ذيل الحصان القصير بشرود و هي تهمس
(لم أكن أقصد).

رمشت بعينيها و ادركت مدى جرأة السؤال و خطورته، فسارعت تقول بسخرية لتتجاوز تلك الحالة الغريبة...
(أشكرك على الفقرة النسائية، لم أتحدث عن صيحات الشعر منذ دهور)
قال امجد بخفوت وهو يراقبها
(الازلتِ تركبين الخيل؟)
ابتسمت مسك و نظرت اليه تقول
(غدا سأفعل بعد انقطاع دام طويلا، سأخوض سباقا وديا في النادي، أتود الحضور؟).

ارتفع حاجبي أمجد وهو يتخيلها على ظهر الفرس، كان التخيل أكبر من مقاومته، فما بال الحقيقة، الا أنه قال في النهاية ببساطة
(لن أفوته أبدا، لكن لا تنسي أعطائي دعوة لأنني لست عضوا به، )
اجفلت مسك و اتسعت عيناها فنظرت أمامها بذهول و هي تفكر
أهو لاجىء في كل مكان؟، متطفل على الأعراس، حاضر للسباقات، يفض خلافات، و يأكل من طعام العمال...
قالت مسك بفتور و هي تبعد خصلة شعر ناعمة متمردة الى خلف أذنها.

(سأترك خبرا لدى بوابة النادي، السباق سيبدأ في الخامسة)
نهضت من مكانها و هي تقول برزانة
(اعذرني، الآن يجب أن أذهب فعلا، فهذا العرض هام جدا، و أنا أضع كل آمالي في المشروع الجديد و ربما نلت رئاسته كما أتمنى)
ابتسم أمجد بشرود وهو يتأملها، ثم قال أخيرا بهدوء
(تستحقينها يا مسك)
ابتسمت تلقائيا و هي تقول
(حقا؟)
أومأ برأسه، ثم قال بلهجة حنونة
(أنت تجتهدين في عملك بشكل يفوق الوصف، و نحن محظوظون بوجودك معنا).

ابتسمت مسك بامتنان و قالت
(العمل هو السبب الذي يجعلني أستيقظ و أنا أعلم أن هناك من ينتظرني، حتى و ان كان عملا و ليس بشرا، الآن اعذرني، )
أشار اليها أمجد بكفه أن تتفضل و لا تجعله يؤخرها، الا أنها قالت ببساطة و هي تسرع الخطا
(ألن تاتي؟)
طال به الصمت مجددا وهو يتأمل عينيها قبل أن يقول بخفوت
(سألحق بكِ، دائما ككل مرة).

ابتسمت له مسك، ثم غادرت، بينما ظل أمجد جالسا في ملجأها، مرجعا ذراعيه خلف رأسه وهو يتأمل الخضار المحيط به بعينين شاردتين تماما، لا تجدان الحل لمعضلة لم يظن أن تواجهه يوما...
لم يدرك أمجد أثناء جلوسه الشارد، أن هناك عينان أخرتان تراقبان ما يحدث بطاقة غريبة من الحقد الأعمى...
عيني غدير...

تلك الليلة...
كان مستلقيا في فراشه وهو لا يزال شاردا بها، و كأنها أصبحت شغله الشاغل هذه الأيام...
و المعضلة تتعقد و تتعقد، و الحلول تنفذ أمامه...
سمع أمجد صوت خطوات والدته المتثاقلة، تمشي مستعينة بعصاها الى أن وصلت لباب غرفته، فاستقام بسرعة وهو يراها تفتح الباب لتدخل بتمهل...
قالت أم أمجد بصوت خافت
(هل أنت نائم يا حبيبي؟)
نهض اليها امجد حتى امسك بكفها قائلا.

(مستيقظ حبيبتي، ما الذي أنهضك من فراشك، لماذا لم تناديني؟)
قالت امه بضيق
(تعبت من الإستلقاء يا ولدي، أردت تحريك قدمي قليلا)
أجلسها أمجد على الفراش و قال بحنان
(الغرفة أنارت بوجودك يا أجمل النساء)
ضحكت أم أمجد و هي تقول بمحبة
(والله أشعر أنني فعلا أجمل النساء لمجرد انني سمعتها منك يا حبيبي)
ابتسم امجد وهو يربت على ساقها قائلا
(أنت فعلا كذلك، لأنني صادق، هكذا اراكِ، و كما كان يراكِ والدي رحمه الله).

تنهدت أمه و هي تقول برقة
(رحمه الله، طيفه موجود بصوتك و حنانك و روحك يا حبيبي)
ربت أمجد مبتسما على كفها، فبدت مترددة قليلا، قال أمجد بقلق وهو يرى علامات التردد على وجهها
(ماذا بكِ يا أمي؟، هل هناك ما يشغلك؟)
بدت أكثر ترددا ثم قالت بخفوت
(هناك أمر أردت عرضه عليك، هو طلب في الواقع، )
قال أمجد باهتمام وهو يوليها كل تركيزه
(قولي حبيبتي، اخبريني بما تريدين و أمرك نافذ).

ابتسمت امه و رفعت كفها حتى لامست وجنته لتربت على لحيته برفق، و هي تقول بحنان
(لا يأمر عليك ظالم يا حبيب أمك)
ارتبكت قليلا و هي تقول بتردد
(الحقيقة أن عشمي بالله، ثم بطيبة قلبك الا تخيب رجائي يا حبيبي، لقد اتصلت بي وفاء، تخبرني عن، ابنة خالة زميلة لها، شابة جميلة تعمل مدرسة علوم في ال)
قاطعها أمجد وهو يغرس أصابعه في خصلات شعره نافذ الصبر
(آآآآه يا أمي ليس مجددا، لا أصدق أنكِ تفتحين الموضوع مجددا).

قالت أمه بتوسل و جدية
(و لماذا لا افتحه يا حبيبي؟، هل صرفت نظر عن الزواج؟)
قال أمجد بيأس
(لم أصرف نظر عن الزواج بالطبع يا أمي، لكن تلك الطريقة باتت تضايقني، )
قالت أمه محاولة اقناعه
(و لماذا تضايقك يا حبيبي؟، معظم الناس يتزوجون بتلك الطريقة، و انت نفسك كنت موافقا الى أن قابلت زميلتك في العمل و لم يتم النصيب، فما الذي غير رأيك؟)
بدا أمجد مترددا، غاضبا، يائسا، لا يعرف بماذا يرد...

الا أن أمه ردت نيابة عنه بتعاطف و هي تضغط على كفه برفق
(أنا أعرف، أنت كنت تميل لزميلتك، لا يمكنك أن تخفي بريق صوتك و أنت تتحدث عنها أمام أمك حبيبتك التي تعرفك أكثر من نفسك، و أنا والله كنت أتمناها لك من مدى احساسي بلهفتك اليها، لكن يا حبيبي كل شيء نصيب، و هي ليست نصيبك، فما العمل؟، هل تُضيع السنوات و أنت تفكر في سعادة كانت لو تزوجت بها؟، هذا تفكير غير منطقي أبدا يا حبيبي).

صمتت قليلا محاولة أن تنتقي كلماتها، ثم تابعت بحنان حزين
(يا ولدي أنا إن عشت لك اليوم فلن أعيش غدا، و أنا)
ضغط أمجد على يدها وهو يقول متأوها
(بالله عليكِ يا أمي لا تقولي هذا، أيهون عليكِ أن تؤلميني بتلك الطريقة؟)
قالت أمه برفق و هي تشدد على قبضتيه
(يا حبيبي هذه سنة الحياة، طريق نسير به، و أنا كل ما أتمناه في هذه الدنيا أن أحمل طفلك قبل أن أموت، فهل تبخل علي بهذه الأمنية؟).

سكنت ملامح أمجد تماما وهو ينظر الى والدته بشرود، و قد بدت عيناه غير مقروئتين...
قال أخيرا بخفوت
(أنا لا أبخل عليكِ بحياتي، لكن الأطفال أمر بيد الله فقط يا أمي، ماذا لو تزوجت كما طلبتِ و لم يرزقني الله بطفل، من منا يضمن هذا؟)
هتفت أمه بفزع.

(لا اله الا الله، لماذا يا حبيبي تتوقع البلاء قبل وقوعه؟، أنت شاب من عليك الله بالصحة و لا ينقصك سوى الزوجة الصالحة التي ستنجب لك الأطفال، فما الذي يجعلك تفكر في تلك الأفكار السوداء؟)
أغمض أمجد عينيه لعدة لحظات، فقالت أمه متوسلة
(فقط قابلها، لن ألزمك بشيء، فقط قابلها و قد يكتب الله لك القبول تجاهها)
تنهد أمجد بقوة، ثم لم يلبث أن فتح عينيه ينظر الى وجه أمه الحبيب طويلا قبل أن يقول بهدوء و بطىء.

(أم أمجد يا حبيبتي، والله لو طلبت عيوني لا أبخل عليكِ بها، لكن الأمر يختلف، أنا حاليا أشعر بالنفور من الفكرة، لذا لا يمكنني الذهاب و معاينة بنات الناس بينما أنا رافض للفكرة في داخلي، أنا لست ضد الزواج بتلك الطريقة، لكن شرط لها أن يكون الرجل راغبا في الزواج فعلا، مستعدا و متحمسا، لا أن يأخذ على مضض منه، يراها و يتردد، ثم يطلب رؤيتها مجددا ليتأكد، يا أمي ما لا أرضاه لأختى لا أقبل به لبنات الناس، المرة السابقة كان بداخلي بعض الحماس، لكن الآن).

صمت أمجد وهو لا يجد ما يتابع به كلامه، فأطرق بوجهه مفكرا، بينما رفعت أمه يدها حتى لامست أعلى شعره و هي تهمس بخفوت حزين
(لا بأس يا حبيب أمك، لا تضغط على نفسك لأجلي، لا بأس، سأدعو الله أن يفتح لك قلبك للزواج و ييسر لك أمرك)
رفع أمجد كف أمه الى فمه ليقبلها مبتسما وهو يهمس
(عسى الله الا يحرمني من دعائك لي ابدا يا غالية)
و على الرغم من الإبتسامة، كانت المعضلة في عينيه تزداد بؤسا...

في نادي الفروسية...
كانت عيناه تتطلعان ترقبا لظهورها في أي لحظة...
كان السبق عبارة عن خروج متسابقا تلو الآخر، ليقفز بالفرس من على الحواجز...
و مضت فترة و توالى المتسابقون و هي لم تظهر بعد، هل تراجعت؟
بعد رؤيته لمناقشتها أثناء العرض التقديمي للمشروع الذي تطمح لرائسته، بات يشك في أنها قادرة على التراجع عن أي أمر تريده...
مسك الرافعي، امرأة ليست من حديد، إنما من ماسٍ يضوي...

سمع اسمها أخيرا في مكبرات الصوت، فتنبهت حواسه كلها وهو يستقيم في جلسته متحفزا و متلهفا لرؤياها...
و بالفعل رآها...
رآها كما لم يرها من قبل، كانت ترتدي زي الفروسية ببنطاله الضيق الذي أثار استفزازه و جعله يعقد حاجبيه بضيق، بينما ذيل الحصان القصير الذي لازمها منذ أمس يتراقص بحيوية أسفل قبعة الفروسية الخاصة، و سترة محكمة على خصرها جعلته يزداد ضيقا...
لكن و على الرغم من الضيق الذي يشعر به، بدا مبهورا...

كانت تجلس فوق فرسٍ أقرب للون الذهبي، تتهادى به لدى دخولها المبهر، منتصبة الظهر كقوس مشتد برشاقة...
ذقنها مرتفعة، و كبريائها مذهل...
لكن عيناها كانت تبحثان عن شيء ما، عن شخص ربما...
الى أن التقت أعينهما، فتوقفت بالفرس للحظة و هي ترفع كفها تلوح له بحركة ثابتة و هي تبتسم بثقة...
بادلها الإبتسام وهو يلوح لها بينما عيناه ترسمان جمال تفاصيلها...

حسنا ليس فقط الشعر القصير هو ما خلق لها، بل الفروسية صممت في لوحة هي بطلتها...
بدأ سباقها، فأخذت تزيد من سرعة فرسها لتقفز من فوق الحاجز الأول، فنهض أمجد من مكانه قلقا وهو يعقد حاجبيه، بينما التصفيق يتعالى من حوله...
زادت مسك من سرعتها فقفزت الحاجز الثاني و هي تميل على عنق الفرس، تزايد التصفيق الأنيق بينما أمجد لا يزال واقفا مكانه و صدره يتحرك بقلق...

سرعتها الآن تتزايد أكثر و أكثر استعدادا لقفز الحاجز الأعلى و بالفعل قفزت الفرس على قائمتيها الخلفيتين...
لكن الحاجز وقع بعد أن تعثرت به، و لم تكن الفرس وحدها هي من تعثرت، بل مسك أيضا و التي اختل توازنها فسقطت على ظهرها أرضا...
اتسعت عينا أمجد برعب قبل أن ينطلق جاريا اليها بين الشهقات التي زات من خوفه و جريه، حتى وصل اليها...

كانت مسك مستلقية أرضا على ظهرها و قد تجمع من حولها بعض الأعضاء، بينما هي تلهث، ناظرة الى السماء بعينين واسعتين ووجهٍ احمر متعرق...
وصل امجد اليها متجاوزا الأعضاء وهو يدفعهم الى أن انحنى اليها فانتابه الرعب من منظر عينيها الواسعتين، فمد اصبعيه يتحسس نبضها وهو يناديها برعب لم يسبق ان شعر بمثله
(مسك، هل تسمعيني؟، مسك)
لم ترد عليه، بل ظلت تنظر الى السماء بصمت الى ان ربت على وجنتها بقوة وهو يصرخ.

(بالله عليكِ أجيبيني)
تحركت حدقتاها لتنظر الى عينيه ثم قالت بخفوت
(لقد فشلت، انها المرة الأولى التي أسقط فيها من على ظهر فرس)
زفر أمجد بنفس مرتجف وهو يغمض عينيه ارتياحا للحظة، ثم فتحهما و قال بصرامة
(لا تتحركي، فربما أصيب عمودك الفقري، ستأتي ناقلة طبية اليكِ حالا لتنقلك الى عيادة النادي، و منها سنخرج على أقرب مشفى).

رفعت مسك أصابعها تحاول خلع القبعة، فساعدها أمجد و رماها بعيدا، لكنه تسمر مكانه ما أن أعاد عينيه اليها ليجد أن خطين من الدموع ينزلقان على وجنتيها بصمت...
حينها مد يده ليمسك بذقنها و قال بنبرة مشتعلة آمرة من حيث لا يعلم
(تزوجيني يا مسك).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة