قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والأربعون

حين دخلت مسك الى المطبخ تتبعها مهجة، كانت مسك قد وضعت ما بيديها لتستدير الى مهجة التي كانت ترمقها بطرف عينيها فأجفلت حين ضبتها مسك...
و توقعت منها أن تخرج من المطبخ سريعا، الا أنها فوجئت بها تستند الى الرف من خلفها و هي ترمقها بترفع ثم قالت أخيرا ببرود
(مهجة، أنت لا ترحبين بقدومي الى هنا، فلماذا تضايقينني كل مرة بنفس التعليقات عن ندرة زياراتي؟)
تسمرت مهجة مكانها و هي ترفع حاجبيها، ثم قالت تنكر.

(أنا أرحب بوجودك طبعا، كيف لك أن تشكي بذلك؟، لقد وقفت اليوم ساعات طويلة، تحضيرا لقدومك)
لم تهتز عضلة في جسد مسك و هي تقول بهدوء
(و مع ذلك، لا ترحبين بوجودي، و لا ترحبين بزواجي بأمجد، لقد مرت أشهر و توقعت أن تتأقلمي مع الوضع، لكن الأمر تزايد أكثر و بات واضحا بشكل مهين)
تراجعت مهجة لتستند الى الرف المقابل مفكرة، قبل أن ترفع وجها متصلبا، تنظر الى مسك ثم قالت بهدوء مماثل.

(هل تقبلين بالصراحة؟، أم سأخذين ما تسمعين مني و تخرجين به جريا باكية الى أمجد، تشكين له؟)
ارتفع حاجب مسك بسخرية، قبل أن تقول بثقة
(أنا لا أبكي، و لا أجري الى أحد كي يساعدني في المواجهة، أنا خير قادرة على الرد بنفسي)
ظلت مهجة صامتة قليلا تتحدى مسك بالنظرات قبل أن تجيب أخيرا دون مقدمات
(كما تشائين، في الواقع يا مسك، و اعذريني لهذا، أنا أظنك غاية في الأنانية).

لم تتحرك مسك من مكانها، و لم تتغير ملامحها و هي تسمع الكلمة التي ضربتها رأسا، ثم قالت أخيرا ببساطة أقرب الى اللامبالاة
(تابعي، من المؤكد لديك سبب مقنع لرمي هذا الإتهام بوجهي)
رفعت مهجة وجهها و بدأت في الكلام بثبات.

(حين أصر أمجد على الزواج بك، لم يستطع أي منا ردعه، و في الواقع لم نبذل الجهد الكافي لنفعل، أتعرفين لماذا؟، لأنه في النهاية رجل، و نحن مهما حاولنا لن نتمكن من تحديد مسار حياته، مهما كان مخطئا في اختياره، لذا تركناه يختار الإنسانة التي يشعر معها بالسعادة و يتمناها، و اعذريني لو أخبرتك أننا كنا نموت قهرا كل لحظة، أنا لا أقصد أن أجرحك، لكنك تعرفين أننا نفعل، لا نريد أن نخدع أنفسنا).

ساد صمت بارد جليدي بينهما، و كل منهما تنظر الى الآخر، بينما تحولت مسك الى تمثال بارد أنيق، هادىء القسمات دون أي تعبير أو شعور، ثم قالت أخيرا
(تابعي، أنا أسمعك)
أخذت مهجة نفسا أعمق، ثم تابعت بصوت مرتجف من الغضب و الحزن معا...
(لكن، ليلة عقد القران، حين أمليت شرطك).

صمتت و أطرقت بوجهها و قد اختنقت الكلمات في حلقها، بينما رفعت مسك وجهها أعلى، أكثر ترفعا و إباءا، منتظرة، الى ان تابعت مهجة بصوت أكثر اختناقا و هي تنظر اليها بعينين يائستين.

(لقد حرمته من الفرصة الوحيدة المتبقية في الحصول على طفل! لقد قدم اليك كل ما يستطيع، و كان عليك تقديم المثل، لكنك بكل أنانية رفضت حتى زواجه بأخرى! كيف يمكنك أن تكوني قاسية القلب الى هذه الدرجة؟، أتعلمين أنه قد فقد بالفعل فرصا كبيرة بعد الزواج منك، من تلك التي ستقبل بالزواج من رجل متزوج لا ينوي تطليق زوجته، و لا يريد الزواج منها الا للحصول على طفل، قليلات هن من ستوافقن على هذا الوضع، أي أن فرصه قد تضائلت بالفعل، ثم قضيت حتى على تلك الفرص المتضائلة، بأي حق تتصرفين بهذا التملك المؤلم؟).

كانت مسك تستمع اليها بصمت هادىء و بنفس الملامح الحجرية دون أن تقاطعها بكلمة، بينما كانت روحها تتلقى الكلمات الطائشة، ضربة بعد ضربة، صفعة تلي صفعة...
و ما أن انتهت مهجة من كلامها، حتى انتظرت مسك بضعة لحظات، ثم قالت بهدوء
(اذن تعترفين أنك كنت تتمنين أن يتزوج أمجد من أخرى بعد فترة من زواجه بي!)
ردت مهجة دون تردد مشددة على كل حرف.

(بالطبع، هل تشكين في ذلك؟، كان هذا هو الأمل الوحيد المتبقي لنا، الى أن نسفتيه أنت)
أظلمت عينا مسك قليلا، دون أن تهتز عضلة في وجهها، الا أنها تمكنت بمهارة من الإبتسام بقسوة و هي تقول
(و على الرغم من ذلك تنكرين حقي في وضع الشرط؟)
أسبلت مهجة جفنيها للحظة، قبل أن تعاود النظر الى مسك و هي تقول بهدوء خافت.

(اسمعيني يا مسك، بكل صدق و أمانة، لو كانت مشيئة الله هي أن أحرم من الأطفال، كنت لأخطب لزوجي بنفسي، و يعلم الله أنني صادقة فيما أقول، هذا ما يطلق عليه ايثار الغير على النفس. )
ساد الصمت بينهما مجددا ثم قالت مسك بهدوء جامد
(يسهل على المرء أن يظن في نفسه حب التضحية، فهذا يرضي النزعة الخيرة بداخله، طالما لم يمر بالتجربة حقا، لكن الإختبار الحقيقي له حكم آخر)
صمتت مسك لحظة، ثم تابعت مرفوعة الوجه بصلابة.

(المثال الذي ضربته مختلفا كل الإختلاف، يمكنك التضحية من أجل زوجك، لأن بينكما عشرة عمر تسمح بذلك، لكن أن تتزوجي و أنت تدركين أن هذا الزوج و عائلته ينظرون اليك كبضاعة معطوبة، و بعد فترة، يزوجون ابنهم من الزوجة الحقيقية التي ستأتيهم بالطفل! هذا تنازل أنا غير مجبرة تقديمه، انا مسك الرافعي، انجابي من عدمه لا يقلل من قيمة هذا الإسم، فمن يريدني، يريد اسمي فقط، أما الأطفال فهم مجرد هدية اضافية، قد يقسم الله بها أو لا، أنا لست بضاعة منقوصة يا مهجة، و لا أقبل أن يعتبرني الغير كذلك).

انعقد حاجبي مهجة بشدة أمام هذا العنفوان الصلب الذي تشهده من مسك، و تسائلت كيف لإمرأة أن تكون بمثل هذه القوة؟
كانت تتوقع منها أن تبكي، و كانت تحمل هم انفجار مسك بالبكاء جراء كلامها القاسي و هي لا تريد جرحها مطلقا...
لكن على ما يبدو أن مسك الرافعي لا تعرف الجرح مطلقا...
كيف لأمجد بكل طاقات العاطفة بداخله أن يتعامل مع تلك المرأة الحجرية؟
تكلمت مسك أخيرا تتابع بصوت أنيق و هي تهز كتفيها مبتسمة.

(و عامة، هذه ليست نهاية العالم يا مهجة، الشرط ينص على الا يتزوج من أخرى و أنا على ذمته، لذا لو أراد أمجد الحصول على طفل يمكنه أن يطلقني بمنتهى البساطة و أنا لن أقف في طريقه، حتى أنني لم أضف مؤخر صداق كما لاحظت، أعتقد أنني بهذا الشكل عادلة جدا معه)
ابتسمت مهجة بسخرية مريرة و هي تقول يائسة.

(أمجد لن يطلقك أبدا، من الواضح أنك لا تعرفينه حق المعرفة، أمجد رجل، تربى على أن يكون رجلا لا يعرف الهرب أو الخيانة، لن يخذلك مطلقا، و فوق هذا، من الواضح للأعمى أنه يحبك بصدق، مما زاد من استحالة تركه لك، أنت لا تعرفين أمجد حين يكون عاشقا)
كلام مهجة اليائس أربك مسك بشدة...
عاشق! لا يقدم رجل على هذه التضحية، الا أن يكون عاشقا!
عاشق لا يخذل، لا يخون، لا يغادر...

هل عادت من جديد الى تلك الأسطورة؟، لا، هي لا تريده عاشقا أبدا...
أخذت مسك نفسا ثابتا قبل أن تجيب بصوت لا يحمل مشاعر...
(اذن، لن أستطيع مساعدتك في شيء يا مهجة، ربما كان عليك اقناع أخيك قبلا، فهو من طلب الزواج مني، بل و ألح، الحاحا كاد في بعض الأحيان أن يخنقني، وهو من عرض على وضع الشرط، و لا أظن أخيك من النوع الذي يستعرض البطولة كذبا)
زمت مهجة شفتيها و قد فقدت القدرة على الرد...

مسك الرافعي، تمتلك من الغرور و الخيلاء، ما يجعل المرء عاجزا عن الكلام أمامها...
تبا لها و لغرورها...
و قبل أن تتكلم أي منهما، دخل أمجد الى المطبخ وهو يقول بمرح
(ما سر غيبابكما كل هذا الوقت؟، افتقدتكما)
و بكل وقاحة اقترب من مسك ليضم خصرها بذراعه قبل أن يحني وجهه و يقبل جبهتها برقة، مما جعل جسدها يتسمر و يتلون و هي تتذكر ما حدث في شقتهما السفلية منذ ساعة...

و فكرت في دفعه، الا أن مهجة تكلمت و قالت بمودة كاذبة
(من الواضح أنك افتقدت مسك، فماذا تريد من اختك المسكينة.؟)
نقل أمجد عينيه بينهما، الا أن مسك سارعت بالرد ضاحكة بعذوبة و هي تستند الى جسد أمجد بصورة لم يعهدها منها من قبل، ثم قالت بدلال راقي
(أمجد يلاحقني من مكان لآخر، من شقتنا الى شقتكم و حتى مطبخكم، هكذا هو دائما و أنا لا أمانع حقا).

لمعت عينا أمجد بعدم تصديق وهو يراها تتصرف بتلك الطريقة، فقال مبهورا
(سألزمك بكلامك هذا لاحقا، فاحذري)
ارتبك كيانها أكثر، الا أنها استطاعت الحفاظ على ابتسامتها بأعجوبة...
فتكلمت مهجة قائلة بصوت خافت حزين، لم تستطع اخفاء مشاعرها به، على العكس من مسك
(لا مكان لي هنا، سأترك لكما بعض الخصوصية)
و دون كلمة اضافية، خرجت من المطبخ، و ما أن فعلت دفعته مسك بقوة و هي تقول من بين أسنانها
(ابتعد عني).

الا أنها أجفلت بشدة و هي تسمع ضحكته العالية، وهو يكبل خصرها بكفيه رافضا تحريرها، ليقول بمرح
(والله كنت أعلم أنك تدعين، للحظة شككت أنك صادقة، فأوشكت على الإصابة بنوبة قلبية)
مطت مسك شفتيها بطريقة سمجة و هي تقول
(سخيف، سخيف جدا، ارفع يديك عني حالا)
برقت عينا أمجد وهو ينظر اليها، غير مباليا بأمرها المتسلط، ثم قال بصوت خافت أجش
(و إن لم أفعل؟).

لم تفكر مسك مرتين وهي تلتقط أول ما طالته يدها، و كانت يد مقلاة، الا أنها لم تتوقف بل رفعتها عاليا و هي على أتم استعداد لضربه، الا أن مهجة عادت في تلك اللحظة حاملة عدة أكواب في كفيها...
فوقفت مكانها و هي تنظر اليهما رافعة حاجبيها بذهول، حيث كانت مسك بين ذراعي أمجد، الا أنها تمسك بمقلاة ترفعها عاليا...
نظر كل من أمجد و مسك الى مهجة التي قالت بإضطراب دون أن تفقد ذهولها بعد.

(عفوا، كنت أتابع رفع الأطباق عن المائدة، هل تحتاجان الى المزيد من الوقت؟)
لم يفقد أمجد هدوؤه وهو ينزع المقلاة عن يد مسك ليضعها مكانها قائلا بإبتسامة
(لا عليك، تصرفي في المطبخ كما تشائين، مسك، تحب اللعب دائما، نحن من سيخرج)
ثم أمسك بكف مسك ليجرها خلفه خارجا من المطبخ، بينما ظلت مهجة تراقب انصرافهما، قبل أن تنظر الى المقلاة الموضوعة على المائدة، ثم همست بخفوت
(تحب اللعب!).

دخل أمجد الى غرفته، تلحقه مسك رغما عنها، ثم أغلق الباب خلفهما...
و ما أن ترك كفها حتى ضربت صدره بكل قوتها و هي تهمس بشراسة من بين أسنانها
(ما الذي تفعله؟، هل جننت اليوم أم أنك تجرب شخصية رجل الكهف؟، أنا لن أقبل بالمزيد من تصرفاتك المهينة مطلقا)
كان أمجد يراقبها بنفس النظرات اللامعة، بينما هي محمرة الوجه من شدة الغضب، الا أنه قال ببراءة.

(تصرفاتي أنا المهينة؟، أنت من كنت تمسكين بمقلاة و تنوين ضربي بها في قلب بيتي! ما هذه البلطجة يا امرأة؟)
هتفت مسك بنفس الشراسة تراعي خفوت صوتها قدر الإمكان
(أنت تعلم جيدا ماذا أقصد، حتى الآن لم نتحاسب على ما بدر منك في الشقة أسفل)
قال أمجد مستفسرا بنفس البراءة
(تقصدين شقتنا؟)
هتفت بقوة
(نعم)
ابتسم أمجد و كأنه نال ما يريد، فأدركت هذا من نظراته، مما جعلها تهمس من بين أنفاسها اللاهبة بجنون.

(يا الله، كم أنت مستفز؟)
اقترب منها أمجد خطوة، فابتعدت الا أنه ضمها اليه بقوة حتى رفعت رأسها و تسمرت مكانها تقول بصوت آمر متسلط
(ابتعد يا أمجد، أنا أحذرك)
الا أنه لم يتحرك، كي يبتعد، بل قال بهدوء وهو ينظر الى عينيها
(كل هذا لأجل قبلة؟، مجرد قبلة واحدة، الا ترين أنك تبالغين كثيرا؟)
هتفت مسك بحدة أعلى
(و إن كانت واحدة! لا أقبلها، و لم أمنحك الإذن كي تفعلها)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول بدهشة.

(اذن! هل يعني هذا أن أطلب منك الإذن كلما أردت تقبيلك؟)
أومأت برأسها و هي تقول بكل تأكيد
(نعم، حاليا على الأقل)
رد أمجد يقول بنفس الدهشة
(و بعد الزفاف؟، أسأل من باب المعرفة ليس أكثر، هل سأقدم لك اذنا كتابيا كل ليلة قبل أن)
صرخت مسك و قد فارت أعصابها و بدأ غضبها يهدد بالإنفلات بشكل خطير
(كف عن هذا، فقط كف عن كل هذا و عد مجددا الى).

صمتت و قد اختنقت الكلمات في حلقها من شدة الغضب، الا أن أمجد تابع يساعدها بنبرة جدية
(أعد الى قوقعة التهذيب الجامدة التي فرضتها علينا)
برقت عيناها بحدة و هي تهمس من بين أسنانها
(أنا لم أفرض شيئا، كل ما أطلبه هو بعض الإحترام لرغبتي، هل أنت مراهق؟)
ارتفع حاجبي أمجد أكثر وهو يقول بصوت خافت خطير
(مراهق! حين أسمع هذا الإتهام منك، أجد نفسي مذهولا، فبتحليل بسيط للأشهر الماضية).

صمت للحظة، قبل أن يزد من ضمها الى صدره حتى منع كل مقاومتها له ثم تابع بصوت خافت مشتد، أكثر خطورة
(سبعة أشهر، ارتضيت بفترة عقد قران امتدت الى سبعة أشهر كاملة و كأننا طلاب في الجامعة ننتظر انهاء دراستنا و تكوين أنفسنا...
سبعة أشهر كاملة، قمت خلالها بتغيير كل قشرة في الشقة، بدئا من الجدران و حتى الأرضيات، حتى الحمامات لم تعتقيها و قمت بنسفها و تغييرها من الأساس...

سبعة أشهر كاملة و أنا أحاول ضبط نفسي، و الزامها الصبر في عدم لمسك، على الرغم من أنك زوجتي و تحلين لي، كل هذا نزولا على رغبتك...
سبعة أشهر كاملة و أنا أقنع نفسي بأن التقارب العقلي أهم في تلك المرحلة، نظرا لقصر الفترة التي تعرافنا خلالها...

سبعة أشهر و أنا أستمع الى كل كلمة تنطقين بها بتركيز يتطلب مجهود يفوق قدرة البشر بينما كل ما أفكر به، هو التساؤل عن إن كانت شفتيك بطعم الخوخ كما تبدو أم أنها أقرب الى الورود في طعمها)
كان يلهث بغضب بينما هي تستمع اليه بعينين متسعتين، فهمست رافعة حاجبها بتوجس
(هل تأكل الورود؟)
الا أنه لم يسمعها، بل تابع بنبرة أكثر هدوءا، لكن عمقها مخيف...

(سبعة أشهر و أنا أدرك في كل يوم منها أنني، أحبك يا ابنة سالم الرافعي)
فغرت مسك شفتيها كي تهمس بصوت منخفض و كأنها تحادث نفسها
أنا لا أريد هذا، لم يسمعها مجددا، بل تابع
(سبعة أشهر و أنا أنتظر هذا اليوم)
همست مسك بعدم فهم
(ما المميز في هذا اليوم؟).

ابتسم أمجد ابتسامة صغيرة، بينما اخترقت عيناه عينيها وهو ينحني بسرعة، لتجد نفسها مرفوعة بين ذراعيه بقوة، حتى أن ساقيها تطايرتا في الهواء مما جعلها تشهق بصوت عال الا أنها رفعت كفها تكتم بها شهقتها كي لا تخرج من الغرفة، و ما أن استعادت أنفاسها حتى همست بشراسة و هي تقاوم كفرس غير مروضة
(أنزلني)
لم يتحرك أمجد من مكانه و لم يحاول إنزالها مطلقا، الا أنه قال ببساطة دون أن يفقد قيد عينيها.

(لم أذكر المميز في اليوم بعد)
الا أن مسك أخذت تضرب صدره و هي تقاوم بشراسة هاتفة
(نيتك ظاهرة في عينيك، أنزلني قبل أن أصرخ و أفضحك، حينها ستعرف كل من أمك و أختك حقيقتك، بعد أن كانتا تظنان العمر كله أنك انسان مهذب متحضر)
قال أمجد ببساطة
(أمي و أختي! هل لديك فكرة إن سمعتا بأنني لم ألمسك منذ سبعة أشهر على الرغم من كونك زوجتي، فكيف ستفكران؟)
هتفت مسك بجنون
(لا فكرة لدي و لا أريد معرفة هذا، أنزلني حالا).

الا أن أمجد قال بجدية
(سامحيني أولا على القبلة الأولى)
هتفت مسك بعنف و كأنها تبصق الكلمة في وجهه
(مطلقا، لن أسامحك مطلقا)
رفع أمجد حاجبه وهو يقول بهدوء
(اذن لن أخسر شيء إن قبلتك مجددا، المثل يقول إن سرقت، اسرق جمل، و إن عشقت فاعشق قمر)
قال الجزء الأخير من المثل بصوت خافت جدا وهو يخفض وجهه اليها، مما جعل عينيها تتسعان بذهول، قبل أن تصرخ
(لا، إياك، أمجد أنا أحذرك)
الا قال بصوت لا يقبل الجدل.

(عديني أولا أنك لن تمرري حياتي لأجل هذه القبلة، فلا العمر أو الصحة يتحملان المزيد من المرار لأجل شيء تافه)
انعقد حاجبي مسك و هي تسمعه يقول عن قبلتهما الأولى أنها
شيء تافه، الا أنها انتهزت الفرصة و قالت بجمود متصلب
(لن أتكلم عنها مجددا، أنزلني)
رفع أمجد حاجبه وهو يتفحص مدى صدقها، فهتفت بقوة
(أعدك، أنزلني).

للحظات ظنت بأنه لن يرضخ لها، الا أنها شعرت بنفسها تنخفض ببطىء حتى لامست الأرض بقدميها، و ما أن فعلت حتى دفعته بقوة و ابتعدت عنه توليه ظهرها، لاهثة، تعدل من كنزتها و شعرها، بينما قالت بحدة
(أنت)
الا أن أمجد قاطعها محذرا
(لقد وعدت)
زفرت مسك بقوة و هي تحاول أن تتمالك نفسها، الا أنها انتفضت و هي تشعر بيد أمجد تمسك بكفها من خلفها فجأة فالتفتت اليه منفعلة، لكنه نظر اليها بهدوء.

(تعالي يا مسك، أريد الكلام معك قليلا)
ترددت مسك قليلا، الا أنها تركته يقودها الى مقعد ثنائي في إحدى زوايا غرفته، فجلس و أجلسها قربه...
كان المقعد ضيقا جدا، مما جعلها تلتصق به بشدة، فبدت متململة غير مرتاحة...
لكنها ظلت مستقيمة الظهر، مشبكة كفيها في حجرها، بينما ظل أمجد يراقبها بعينين مبتسمتين حنونتين...
الى أن قال في النهاية بخفوت
(لم أشأ تكديرك الى هذه الدرجة).

رمقته مسك بنظرة جانبية متحفظة، قبل أن تقول بصوت قاتم
(لا أفضل فرض القوة الجسدية)
مد أمجد أصابعه ليمشط بها شعرها الناعم برقة، قبل أن يقول برقة
(أين كانت القوة الجسدية؟، القوة الجسدية الحقيقية، هي تلك التي فرضتها على نفسي خلال سبعة أشهر كي لا أضايقك)
أطرقت مسك بوجهها و بقت صامتة طويلا، قبل أن تقول بجمود
(أنا لا أظن أن عقد القران يبيح للرجل أن)
رد عليها أمجد بقوة.

(و أنا كذلك، لست الشخص الذي ترضيه بضعة قبلات مسروقة، لذا أرى أن نحدد موعد الزفاف، خاصة و أن الشقة قد شارفت على الإنتهاء، و لا مزيد من الحجج لديك)
بهت وجه مسك و هي تنظر اليه هامسة
(بهذه السرعة؟)
اتسعت عينا أمجد وهو يسمع سؤالها المتوتر، فضرب كف على كف قبل أن يهتف
(أي سرعة يا امرأة! لقد مضى سبعة أشهر، لم يعد في العمر صحة أو طاقة)
ابتسمت مسك رغم عنها و هي تطرق برأسها، فمال اليها أمجد مبتسما وهو يهمس لها.

(ليس لديك أي حجج أخرى، اعترفي بهذا)
بهتت ابتسامة مسك و بدت شاردة، فقال أمجد بجدية و بصوت خافت
(فيما شردت؟)
رفعت مسك وجهها تنظر اليه بضعة لحظات، ثم قالت بصوت أنيق رسمي
(لازلنا على البر، أنت تعلم هذا)
عقد أمجد حاجبيه وهو ينظر اليها، ثم قال ببرود
(هل عدنا الى هذه النغمة من جديد؟)
أخذت مسك نفسا عميقا قبل أن تقول بكل ثبات
(أرى أنه من حقي التأكد، هذه حياتي التي تنوي دخولها بحركة بطولة).

لم يرد أمجد على الفور، بل ظل ينظر اليها طويلا، الى أن التقط كفها بين يديه فترددت و كادت أن تسحبها منه، الا أنها سكنت و استسلمت في النهاية و هي تنظر الى أصابعه التي كانت تلامس بشرة كفها بشرود ثم قال بهدوء أخيرا
(أعرف ما أنا على وشك فقدانه، و لا أنكر أنني أشعر بالأسى)
فغرت مسك شفتيها و هي تستمع الى صراحته الفجة، و التي لا تمت لمراعاة الشعور بصلة، الا أنه تابع بثقة.

(أتعلمين لماذا أشعر بالأسى؟، لأنني مدرك أنها مشيئة الله، هل تعرفين معنا هذا؟، معناه أن قدرك مرتبط بقدري، لا مجال كي أطمئن نفسي بأنه يمكنني الفرار من تلك الزيجة أو تركك فيما بعد، نفس الأسى الذي تشعرين به هو ما أشعر به، و كأنه قدرنا معا، لا فكرة لدي عن هذا البر الذي لا نزال نقف عليه و الذي تتحدثين عنه، لقد أصبحنا في العمق بالفعل، أنا لا أفكر في غيرك يا مسك، و لا أتخيل امرأة أخرى كزوجة لي).

استمعت مسك اليه بصمت، و بملامح هادئة، لا تنم عن شيء، الى أن نظرت أمامها أخيرا و قالت تهز كتفها باستسلام.

(حسنا اذن، طالما تريد هذا، و على الرغم من كل هذا الكلام العاطفي الذي أنا بالتأكيد شاكرة له، الا أن الواقع شيء آخر، لذا يمكنك الحصول على الطلاق ما أن تجد نفسك غير قادرا على الصمود أمام تلك التضحية، و لن أعتب عليك حينها أنك تسببت في جعلي مطلقة بسبب نوبة عاطفية حادة جعلتك تظن بأنك ستتابع هذا الزواج للنهاية)
أظلمت عينا أمجد وهو يبعد وجهه قائلا بجمود دون أن يترك يدها
(أشكرك).

نظرت اليه مسك و قد لاحظت تغير نبرته، فقالت بهدوء رغم تظاهرها بعدم الفهم
(ماذا بك؟، لا تبدو سعيدا)
نظر اليها أمجد وهو يقول ببرود
(أنا سعيد جدا، لا تشغلي بالك بي، اهتمي بحالك)
مطت مسك شفتيها و هي تهز رأسها متنهدة، فقال أمجد بإيجاز بعد فترة
(ألن تخبري عائلتك بعد؟، لقد مرت أشهر طويلة و سيعرفون يوما ما، كيف تمكنت أصلا من اخفاء الأمر عنهم حتى الآن؟)
هزت مسك كتفيها و هي تقول بعدم اهتمام.

(لم أفعل، كل ما في الأمر أنهم اطمأنوا الى صرفي من العمل و يعتقدون أن والدي يحاول اقناعي بالسفر، كما أن أي منهم لم يأتي الى المدينة منذ أشهر، هل يضايقك هذا أو يضايق أسرتك؟)
قال أمجد مشددا
(لا أهتم ذرة بموافقة عائلتك، دون إهانة)
ردت مسك محاولة تغيير الموضوع
(بالمناسبة، كيف حال العمل معك؟)
قال أمجد بصوت قاس
(لا يسر عدو أو حبيب).

ارتفع حاجبي مسك و هي تستدير اليه، بينما لا تزال كفها بين يديه و كأنها قد نستها هناك، ثم قالت بجدية
(لماذا؟، ماذا حدث؟)
قال أمجد وهو ينظر الى أصابعها يضغط عليها برفق
(منذ أن تم صرفك من العمل، و بعد أن هددتهم بتركه، اذا لم يتراجعوا عن قرارهم التعسفي، لكنك أصريت على العكس و أنا لا أطيق كافة أعضاء مجلس الإدارة، و أتعمد استفزازهم، لقد أرغمتني على كسر تهديدي و هذا أضعف من موقفي أمامهم).

هزت مسك رأسها غضبا و هي تقول بانفعال
(لا أصدق ما تفعله يا أمجد! أنت تسمح لإعتبارات عاطفية أن تتحكم بك و تجعلك تتصرف بتهور، هذه المشكلة تخصني، فلماذا تقحم نفسك بها؟)
عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بحدة
(لقد أضروا زوجتي، و تريدين مني الإستسلام بسهولة؟، لقد فكرت في الإنسحاب دون علمك، لولا توقعي لردة فعلك التي أنا متأكد منها)
رفعت مسك اصبعها محذرة و هي تقول.

(اياك، لم أكن زوجتك وقتها و ما حدث حدث بدافع من والدي أي أن الأمر شخصي جدا، و لا يمكنك أن تهين نفسك و تخسر عملك لخلاف بين امرأة ووالدها، حتى لو كانت زوجتك، فكر بعقلك، لا تسمح للعواطف أن تتحكم بك و تسيطر عليك)
هز أمجد رأسه وهو يقول بغضب مكبوت
(هذا هو تحديدا ما توقعت سماعه منك)
صمت للحظة ثم نظر اليها قائلا برفق
(الا تقدم في بحثك عن عمل؟، أنا أيضا أحاول من طرفي)
ابتسمت مسك بسخرية و هي تقول بلامبالاة.

(موضوع صرفي من عمل سابق يسبب عائقا، لقد نلت الوظيفة السابقة بتوصية من والدي على كل حال)
قال أمجد بصدق و تأكيد
(لكنك كنت تستحقين بشهادة الجميع)
هزت مسك كتفها و هي تقول بهدوء
(لم يعد هذا هاما الآن)
قال أمجد وهو يراقبها بتفحص
(أنت تتعاملين مع الأمر بشكل جيد)
رفعت مسك عينيها اليه و قالت مبتسمة برزانة
(لقد مررت في حياتي ما يفوق مجرد خسارتي لوظيفة، و تخطيت كل اختبار، لذا يعد آخرها مجرد مزحة).

لم يرد أمجد على الفور وهو يضغط أصابعها بين كفيه، ثم قال بجدية
(لقد فكرت في ترك العمل و البدء في مشروع خاص بمشاركتك، و حينها سنكون معا في البيت و العمل للأبد. )
رفعت مسك حاجبيها بمرح و هي تقول.

(و من أين لنا برأس المال؟، لقد أنفقت معظم ما تملك ثمنا للشقة و الشبكة و الهدايا، و التشطيب، و أنا عن نفسي، أتخيل منظر والدي حين أطلب منه مبلغا ضخما كي أبدأ به مشروع بمشاركتك بعد ما تسببت فيه من خسارة له، كما أن المتبقي من مدخراتي الخاصة بعد دفع ثمن الأثاث، لا يكفي بالتأكيد)
مط أمجد شفتيه وهو يقول بإمتعاض
(لقد دفعت ثمن الأثاث بالقوة)
قالت مسك مؤكدة.

(ألست عروس مثل أي عروس في بلدنا! لماذا يتعين عليك أخذي بحقيبة ملابسي و كأنني فقيرة لا أمتلك شيئا)
ضيق أمجد عينيه وهو ينظر اليها، ثم قال بجمود
(أنت حقا تبالغين يا مسك و أنا حتى الآن آخذك على قدر عقلك و أعاملك بقفازات من حرير كي ارى آخر الأمر معك، و ليكن في معلومك لم يكن في نيتي أن تشاركيني بالمال في المشروع)
ارتفع حاجبيها ثم ضحكت عاليا و هي تقول.

(متخيلة هذا، و بماذا سأشاركك اذن؟، بالنوايا الطيبة أم الجلسة الحلوة التي لا تعوض، أنت حقا غير عملي اطلاقا، لا أعرف كيف نجحت في عملك على الرغم من شخصيتك التي تقف عائقا أمام هذا النجاح)
ابتسم أمجد دون أن يرد، بينما قالت مسك بتردد بعد لحظات
(هل تقابل غدير في العمل؟)
تصلبت أصابعه فوق كفها فجأة و توترت ملامحه، أما عيناه فقد أطلت منهما نظرة غريبة، غير مريحة وهو يقول بقسوة
(لماذا تسألين؟).

انعقد حاجبيها و هي تراقب تغير مزاجه المفاجىء لدى ذكر اسم غدير، ترى هل لا يزال.!
راقبته مسك باهتمام و هي تقول بهدوء
(من الطبيعي أن أسأل عنها، كانت صديقتي و عشرة عمر لفترة طويلة، على الرغم من كل ما حدث، صحيح أننا لن نعود صديقات مجددا، لكن هذا لا يمنعني من معرفة أخبارها)
لم يرد أمجد، بل نظر اليها بطريقة جعلتها تشعر بأن ما نطقت به للتو ما هو الا مجرد هراء...
ثم قال أخيرا بنفس الصوت.

(لقد فقدت حملها الثالث خلال هذا العام، ألديك فكرة عن الأمر؟)
ارتفع حاجبيها للحظة، قبل أن تخفضهما و هي تقول بفتور
(لا، من أين لي أن أعرف، لكن كيف عرفت أنت بأمر الثلاث مرات؟، هل كانت تفضي لك بالأمر عقب كل مرة؟)
قال أمجد بصوت غير مفهوم
(أعرف حين تطلب أجازة، و في المرة الأخيرة أصابها النزيف في العمل، فنقلناها للمشفى)
قالت مسك بنبرة شبيهة بنبرته تماما
(حقا! هذا لطف منك)
رد أمجد يقول مباشرة.

(لا أظنك تشعرين بالتعاطف معها؟)
لم تكن تعلم إن كان هذا سؤال أم اقرار أمر واقع، لكنها قالت دون مشاعر
(و هل يجدر بي أن أتعاطف معها؟، ليست نهاية الكون إن فقدت حملها مرة أو مرتين، المئات من النساء يتعرضن لهذا، لكن تكون مخطئا إن ظننت أنني أشعر بالتشفي مثلا، فهذا بالتأكيد يحط من ثقتي في نفسي)
أيضا لم يرد أمجد، بل ظل ينظر اليها بنفس النظرة التي لم تعجبها، لذا هزت كتفها و هي تقول بهدوء.

(عامة، فليرزقها الله، أنا حقا لا أتمنى لها الضرر، لقد عانت في حياتها بما يكفي)
قال أمجد بصوته الغريب
(هل تغفرين لها الخيانة؟)
قالت مسك مجفلة من السؤال
(لا أغفرها، و أخبرتك أننا لن نعود صديقتين مجددا، الا أنها ليست الخائنة الحقيقية في حياتي، الغدر الحقيقي جاء ممن سمح لها بهذا)
برقت عينا أمجد بقسوة بينما اشتدت أصابعه على عظام أصابعها بقوة حتى عقدت حاجبيها و هي تنظر اليه مستفهمة، الا أنه قال بقوة.

(الا يزال الأمر مؤلم الذكرى بالنسبة لك؟)
نظرت مسك الى عينيه، ثم قالت تلقي بالكرة في ملعبه
(و ماذا عنك، الا تزال الذكرى تؤلمك؟)
قال أمجد بقساوة وهو يشدد من قبضته على كفها أكثر و اكثر...
(ألم أخبرك منذ قليل؟، أنا أحبك أنت)
رفعت مسك حاجبيها و هي تقول بنبرة مبهمة
(آآآآه، صحيح)
رد أمجد منعقد الحاجبين بشدة
(ما معنى هذا؟)
أجابته مسك بصراحة...

(التصريح بالحب ليس جوابا، الحقيقة أن الحب نفسه ليس ضمانا كافيا لأي شيء و اسألني أنا)
اظلمت عينا أمجد أكثر وهو يبعد وجهه عنها، فشعرت مسك أنها قد زادت جدا من جرعة وقاحتها معه، الا أنه يستفزها جدا بكل ما ينطق به، و كأنه، مراهق...
مراهق صبر سبعة أشهر كاملة قبل أن يقبلها كما قال...
رفعت مسك يدها الحرة لتلامس شفتيها بشرود مفكرة
تلك القبلة، قاطعها أمجد يقول بقوة جعلتها تنتفض.

(كيف حال أختك؟، أظنها على وشك الولادة الآن)
رمشت مسك بعينيها و هي تجفل من السؤال المفاجىء، فقالت بعد لحظة
(إنها، نعم على ما أظن، من المفترض أن تبدأ الشهر الثامن من حملها، خلال هذه الأيام، و هي تتابع دراستها بكل جدية، لقد هاتفتني منذ أسبوعين)
ابتسم أمجد رغم قساوة عينيه و قال بهدوء
(إنها قوية و شجاعة مثلك تماما، لم تنهار بعد الإنفصال عن زوجها، بل تابعت حياتها بقوة)
ارتبكت مسك قليلا و هي تجيب.

(حسنا، وضعها مختلف قليلا، فهي، هي لا تزال تحبه بجنون و غباء و هي تعاني، الا أنها ترفض الإعتراف)
رفع أمجد حاجبيه وهو يقول باهتمام
(الا أمل لهما في العودة؟)
تنهدت مسك و هي تقول بخفوت
(للأسف الفرصة شبه معدومة، على الرغم من أنه يهيم بها عشقا، ألم أخبرك أن الحب ليس ضمانا لأي شيء)
ابتسم أمجد بسخرية باردة، قبل أن يجيب بإيجاز.

(نعم، أنت حتى الآن، لم تخبريني عن زوجها، أنا أعرف أنه أحد أبناء أعمامك، لكن أي عم منهم؟)
نظرت اليه مسك بصمت، ثم قالت بجمود
(أحدهم)
ضيق أمجد عينيه وهو يقول بشك
(هل في الأمر سر؟، أشعر أنكم تريدون اخفاء هذا الإبن تحديدا، لماذا و ما هي مشكلته؟)
زمت مسك شفتيها و هي تقول
(الأمر، معقد، وهو يخصه وحده لذا لا استطيع الإفصاح عنه، لست مخولة لفعل ذلك)
قال أمجد بدهشة.

(لست مخولة بذكر والده الذي يكون أحد أعمامك؟، ما السر الخطير في هذا؟)
ردت مسك متضايقة بنفاذ صبر
(أخبرتك أن الأمر ملح، فلا تضغط علي)
قال أمجد ببساطة
(الا يمكنك اذن تعريفي باسم زوج أختك كاملا؟، أرى أنه ليس من المنطقي لي الا أعرف الإسم حتى الآن)
ضحكت مسك بخفوت و هي تقول يائسة
(أنت مستحيل فعلا، لا تيأس مطلقا)
رد أمجد بثقة وهو ينظر لعينيها
(مطلقا)
نظرت اليه بطرف عينيها، ثم أعادتهما الى كفيها لتقول بإيجاز.

(اسمه قاصي الحكيم، هذا كل ما لدي، كي تعرفه)
عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بحيرة أكبر
(الحكيم! من من أعمامك اسمه الحكيم؟، لم تخبريني عنه)
زفرت مسك بصوت عال و هي تنظر للسقف دون أن ترد، فقال أمجد بشك
(هل هو، هل هو متبنى أو، هل هو، )
نظرت مسك اليه نظرة صاعقة كي يسكت، و بالفعل سكت رافعا حاجبيه وهو يقول
(حقا! لا حول و لا قوة الا بالله)
هتفت مسك بغضب
(أنا لم أنطق بكلمة)
الا أن أمجد قال بدهشة.

(لست في حاجة للقول، فالأمر واضح، بات واضحا الآن، و الآن فقط فهمت لماذا نبذ والدك ابنته خارجا كما كان يريد أن يفعل معك)
نظرت مسك اليه و قالت باهتمام و بخفوت
(هل تقارن نفسك بقاصي؟)
عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بجدية
(هل تتوقين مني الشعور بالتفوق على زوج أختك بسبب وضع لم يكن له ذنب به؟)
فغرت مسك شفتيها قليلا للحظة، ثم قالت بهدوء و هي تنظر الى يدها التي لا تزال بين كفيه.

(هذا، نبل منك، ليت كل من يعرفه يعامله بالمثل، فهو يستحق على الرغم من بعض أخطاؤه، إنه شخص نادر وهو يعد صديقي الوحيد)
قال أمجد بعد فترة بصوت متوتر
(احذري يا مسك، فقد أشعر بالغيرة، هذا إن لم أكن قد شعرت بها بالفعل)
ضحكت مسك و هي تنظر اليه باستفزاز قائلة
(تغار على من زوج أختي؟)
قال أمجد بإيجاز و صراحة
(بل أغار من كونه صديقك الوحيد).

ابتسمت مسك و هي تشعر برضا غريب، و كأنه يتسلل في أوردتها مدغدغا، ثم قالت بهدوء
(كان بجواري طوال فترة مرضي، يمسك بيدي)
عقد أمجد حاجبيه بشدة وهو يقول محتدا
(يمسك بيدك؟، و سمحت له؟، على أساس أنه كأخيك مثلا!)
نظرت مسك اليه بذهول، قبل أن تنفجر ضاحكة و هي تقول
(هل تركت مرضي وظروفه المأساوية كي تسألني عن كيفية سماحه لي بإمساك يدي؟، لا أظنه رغم كل حماقاته قد وصل الى مستواك في التفكير مطلقا).

لم يرد أمجد عليها، بل ظل عابسا وهو ينظر اليها غاضبا، فقالت بلطف
(لا تغضب بهذا الشكل، كنت أمزح فحسب، الحقيقة أنني كنت أحتاج لهذا، انت لا تعرف كيف كانت جلسات العلاج، و كيف شعرت خلال غياب أش)
صمتت مسك على الفور ما أن أدركت نفسها، قبل أن تنطق اسم أشرف، الا أن أمجد أدرك، و عرف ما كانت ستقوله، و انتظرت منه ملحوظة أشد قسوة، و حينها لن تسكت، بل سترد عليه ردا لاذعا وتحتدم الأمور مجددا...

الا أن أمجد فاجأها قائلا بصوت قوي...
(كان من المفترض أن أكون أنا من يمسك بيدك)
ابتسمت مسك قليلا و هي تبعد شعرها خلف أذنها لتقول بخفوت
(لم نكن نعرف بعضنا وقتها)
شدد أمجد على قبضتها وهو يقول بخفوت
(الخسارة خسارتي)
هزت مسك رأسها نفيا و هي تقول بهدوء.

(لا تتكلم عن شيء لا تعرف عنه شيئا، لا أصعب من أن تمسك بيد من تحب و أنت تتوقع في أي لحظة، أن يخطفه الموت منك، لقد عايشت الأمر مع أمي رحمها الله، لدرجة أنني كنت أحيانا، أتظاهر بأنني لا أسمع ندائها من الغرفة الأخرى، و ذلك حين أكون منهارة تماما. و لا أريدها أن ترى انهياري)
قال أمجد بخفوت بطيء
(هل سبق و انهرت؟، أكاد لا أصدق)
أومأت مسك دون أن تفقد ابتسامتها البسيطة، بينما ظلل عينيها لون حزين قاتم، ثم قالت.

(نعم فعلت، انهرت لأجل أمي فقط)
رفع أمجد احدى كفيه ليغطي بها جانب وجهها، فأسبلت جفنيها، و أطرقت برأسها قليلا، مما جعل شعرها يتساقط فوق وجهها، فأبعده وهو يهمس لها بخفوت
(شعرك يثير جنوني)
رفعت جفنيها تنظر اليه بدهشة، قبل أن تضحك عاليا و هي تقول
(مقدرتك على التنقل من حديث لآخر مذهلة)
ابتسم أمجد قليلا وهو يقول بهدوء
(حسنا، بمناسبة تغيير المواضيع، هل لاحظت أن أختك الأصغر منك محجبة؟).

ارتفع حاجبي مسك بدهشة حقيقية، بينما ضاقت عيناها بعدم ارتياح، و هي تقول متظاهرة بالغباء
(لا! معقول؟، هل تتكلم بجدية؟)
أومأ أمجد برأسه وهو يجاريها قائلا بهدوء و دون مرح
(صدقا أتكلم، إنها محجبة على الرغم من كونها الصغرى)
أومأت مسك برأسها و هي تنظر اليه منتظرة، ثم قالت بنفس الدهشة
(و انظر الى الأكثر عجبا، أختك أيضا محجبة!)
اتسعت عينا أمجد وهو يقول بعدم تصديق
(لا! حقا!)
أومأت مسك و هي تقول بتأكيد، تمط شفتيها.

(والله)
قال أمجد وهو يشير برأسه بعلامة استفهام سرية
(اذن)
قالت مسك بنفس البرود
(ماذا؟)
رد أمجد مجددا...
(اذن، كنت كالبدر و أنت ترتدين اسدال الصلاة حين رأيتك به من يومين، اللبيب بالإشارة يفهم)
قالت مسك متنهدة بنفاذ صبر
(أنا جاهلة تماما في علم الإشارات، و مع ذلك سأحاول، هذا الموضوع خاص جدا، وهو يضايقني على نحو خاص)
قال أمجد دون أن يتراجع
(آآآه، لكنني لا أيأس أبدا، و سنتكلم يوما عن هذا، فكوني مستعدة).

زمت مسك شفتيها دون أن ترد، بينما قال أمجد متابعا
(حين أفكر في أختك الصغرى، تحارب عائلتها ووالدها و العالم كله كي تفوز بمن تحبه، و فضلا عن هذا كله محجبة! لا ينقصها سوى أن تكون ماهرة في إعداد المحشو، و حينها سيكون هنئيا لمن يفوز بها حقا)
ارتفع حاجبي مسك و هي تقول بتشدق
(حقا)
رد عليها أمجد وهو يقول مؤكدا
(بمنتهى النزاهة أكلمك).

ضحكت مسك و هي ترفع يدها الى جبهتها يائسة، لكن و قبل أن تفعل، نظرت الى ساعة معصمها فشهقت عاليا و هي تقول
(ياللهي! أتعلم كم الساعة الآن؟، نحن نتكلم منذ الساعة تقريبا!)
لم يترك أمجد كفها وهو يقول متأملا عينيها و شعرها، عائدا الى شفتيها
(خلال الأشهر الماضية، اعتدت أن أنسى الوقت في الكلام معك، و الغريب أن لك القدرة على اغضابي، احباطي، اضحاكي، اشعال النيران بصدري، في جلسة واحدة)
ابتسمت مسك و هي تنهض قائلة.

(جيد، هذا ينبىء بأن الملل لن يزور حياتنا مستقبلا)
لم يترك أمجد يدها وهو يلا يزال جالسا في المقعد مما أجبرها على الإنحناء قليلا، فنظرت اليه مستفهمة...
حينها قال بهدوء
(نتزوج بعد اسبوعين، لا حفل ضخم أو أي عوائق)
بهتت ملامح مسك وهي تنظر اليه بتوتر، ثم قالت بخفوت
(اسبوعين! لكن)
الا أن أمجد قاطعها بهدوء واثق، دون أن يتحرك من مكانه
(إن أطلت الفترة أكثر، حينها سأقبلك كل يوم، سواء شئت أم أبيت).

رمقته مسك بتحدي و عنفوان، رافضة جو السيطرة، الا أن أمجد قال بصرامة
(اسبوعين)
عضت على شفتها السفلى، ثم قالت بخفوت
(سأتكلم مع أبي، و أخبرك بقرارنا، هلا استعدت يدي من فضلك)
لم يتركها أمجد على الفور، بل رفعها الى فمه وهو ينظر الى عينيها بنظرة قوية نافذة، قبل أن يطبع شفتيه فوقها، في نفس القبلة المحترمة، المستفزة، و المحرقة في نفس الوقت...

الشتاء، لطالما كان الشتاء بالنسبة لها يعني الحنين، خاصة في مدينتها، فحين تمتزج رائحة الأمطار بيود البحر، ينتج عنها أكسير مسكر، مثل لها كل طفولتها، بكل أفراحها و أحزانها...
أما الآن، فالشتاء يمثل لها الحنين اليه، قاصي...
كان معظم من حولها يركضون للتريض في هذا الصباح الباكر، أما هي فكانت تسير بتأني، تدس كفيها في جيبي معطفها المبطن بالفراء، و قلنسوته فوق رأسها...

وقفت تيماء قليلا تنظر الى المتنزه الأخضر، بعينين واسعتين، بهما نظرة غريبة...
نظرة من تحاول المقاومة كي تتابع الحياة، نظرة من يحاول النجاة...
أخرجت تيماء يديها من جيبي معطفها و نفخت بهما قبل أن تفركهما بقوة و هي تنظر الى الناس من حولها...
علي الرغم من برودة الجو الا أن الأسر كانت كثيرة العدد...
تاهت نظرتها في أسرة صغيرة من أم تجر عربة طفلها و بجوارها زوجها، و السعادة بادية على وجهيهما...

فابتسمت قليلا و هي تلامس بطنها المنتفخة برفق، ثم همست
(أمك تتحول الى حاقدة حسود كل يوم أكثر من اليوم الذي يسبقه، أعتقد أن نسبة المآسي التي تتعرض لها الأسر السعيدة خلال الأشهر الماضية بسبب عيني أمك الحاسدة لهم)
ضحكت قليلا برقة، قبل أن تبهت ضحكتها، ثم همست بخفوت
(ترى أين هو والدك يا سليم؟، لا أريد سوى معرفة أنه بخير، فقط بخير)
رفعت وجهها للسماء الرمادية ثم أغمضت عينيها هامسة.

(يا رب، أريد فقط أن يكون بخير، لا أكثر من هذا، يا رب احمه ممن حوله، و من نفسه)
أخذت نفسا باردا موجعا قبل أن تفتح عينيها الشاردتين و هي تداعب بطنها برقة، ثم همست بألم
(كيف تمكنت والدتك من فعل هذا بوالدك؟، من أين لها بمثل هذه القسوة؟، ربما لو كانت قد نزلت من الطائرة منذ سبعة أشهر، لكان الآن متراجع عما ارتكبه، لكنها)
صمتت قليلا و هي تتنهد بعذاب، ثم همست متابعة.

(لكنني، لم أكن لأضحي بك، حتى لأجله هو، انتظرت أن يكون فراقنا له دافع كي يحارب أشباحه، الا أنها تربصت به أكثر، ربما كان مقدر له أن يظل تحت رعايتي العمر كله، على الأقل لم يكن مجرما و أنا معه أما الآن)
انحنت عيناها و هي تشعر برجفة برد سرت في جسدها كله، فدلكت ذراعها بكفها الحرة، و همست
(اشتقت لوالدك جدا يا سليم، و ربي اشتقت له)
أغمضت عينيها و هي تهمس ألما بعذاب
(آآآآآه يا قاصي، اشتقت اليك).

كانت تتنفس بسرعة موجعة و هي تسترجع حديثهما الأخير للمرة ال، لقد فقدت حتى القدرة على العد.
كانت تتمنى لو تمكنت من تسجيلها كي تعيد سماعها مرة بعد مرة...
كان مختلفا، كانت نبرته مختلفة، صوته به عشق من نوع آخر...
عشق يائس، شديد الإحتياج لها...
لقد أوشكت على الإستسلام و الخروج من الطائرة بأي طريقة...
لكن ذرة العقل الوحيدة المتبقية بداخلها أمرتها الا تفعل...
لا تزال تتذكر صوته وهو يهتف لها عبر الهاتف.

أنا آسف، سأعتذر و أكررها ألف، إن كانت عودتك تطلب هذا الإعتذار، كفى فراقا، الا يكفي فراقنا الأول، عودي الي، شعرت تيماء بالكلمات تنحر صدرها بقسوة، و همست بإختناق
(كيف استطعت مقاومة هذا الرجاء يا تيماء؟، لقد أقسمت أن ترعيه و لا تتركيه أبدا حتى لو تركه العالم بأكمله، كيف استطعت؟)
كان الهواء البارد يلفح وجهها كالصفعات المؤلمة، توازي نفس الصفعات على قلبها المنهار...
فأخذت تدلك بطنها و هي تهمس بألم مجددا.

(أنا خائفة على والدك جدا يا سليم، بل مرتعبة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة