قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والستون

(تفضلي، ادخلي)
قالها قاصي وهو يقف أمام باب شقته المفتوح، حاملا حقيبتها في يده، ينظر بحدة الى رأسها المنخفض...
بدت مترددة في الدخول و كأنه ليس زوجها، و كأنه يريد بها تنفيذ نية دنيئة!
في الواقع هي من تريد تنفيذ نية دنيئة تجاهه، تحمل بطفله ثم تهرب به! ليس هناك ما هو أكثر دناءة من طلبها، و لولا تقديره للحالة النفسية التي تمر بها لكان له معها تصرف آخر...

حين ظلت على وقفتها صامتة مترددة، ابتسم بسخرية قائلا
(لا تخبريني أنك غيرت رأيك الآن! على الأقل كنت أخبريني بهذا قبل أن أحمل حقيبتك صعودا على السلم الى هنا)
رفعت تيماء وجهها تنظر اليه بنظرة عميقة، نظرة تحوي الكثير
تحوي آلاف القصص و المخاوف، تحوي الحزن، الحزن هو اللون الأكثر سيادة في نظرتها
فبهتت ابتسامته بينما هو يبادلها النظر بصمت، الى أن رفعت ذقنها أكثر و قالت بهدوء و ثبات.

(بدخولي الى هذا المكان، موقنة أنا بأن هناك ألم آخر ينتظرني، لكنني لم أغير رأيي، فما أريده يستحق الألم، فألم فقدانه كان أفظع)
أسبل قاصي جفنيه دون أن يرد، بينما تصلبت ملامحه بالكامل و توترت شفتيه في خط مشتد، الى أن قال في النهاية بخشونة
(ادخلي اذن، لقد تخدرت يدي من حمل حقيبتك)
لكن و قبل أن تتحرك خطوة واحدة، كان قد ألقى الحقيبة من يده أرضا و قال بصوت مستهين.

(أو احمليها أنت، فأنا لست خادمك الخاص يا ابنة سالم الرافعي)
و دون أن ينتظر منها ردا، دخل و تركها مجفلة أمام الباب المفتوح و بجوار حقيبتها الملقاة أرضا...
وقفت تيماء مكانها بضعة لحظات، تفكر في أخذ حقيبتها و الهروب من هنا سريعا...

الا أنها ما أن أخفضت عينيها حتى نظرت الى حيث كان يقبع طفلها بين أحشائها، فأفلت نفس مرتجف طويل من بين شفتيها، ثم انحنت لتلتقط حقيبتها بأصابع متجمدة و دخلت ببطىء قبل ان تغلق باب الشقة خلفها بخفوت...
نظرت الى داخل الشقة تنظر الى ظهره العريض في مواجهتها حيث كان واقفا مكانه لا يتحرك، واضعا يديه في خصره و كأنه يفكر في أمر وجودها...

الى أن استدار ينظر اليها فجأة عاقدا حاجبيه بنظرة جعلتها ترتد للخلف خطوة متعثرة، الا أنها توقفت بثبات و شجعاة بينما هو يرمقها بهاتين العينين الغاضبتين، الحادتي النظر و المشاعر، ثم قال أخيرا من بين أسنانه
(سأكون واضحا معك، إن كنت تودين لهذا الأمر بأن يتم بأسرع وقت ممكن، يجدر بك أن تتوقفي عن تذكيري بمدى ألمك كل لحظة، فهل يمكنك هذا؟).

ظلت تيماء صامتة قليلا و هي تنظر اليه بعينين واسعتين، ثم لم تلبث أن أومأت برأسها ببطىء جعل قلبه ينتفض تفاعلا مع رضوخها المفاجىء...
أخذ نفسا عميقا، محاولا تغليف هذا القلب بقناع صلب، ثم قال بصوت أجش
(جيد، اذن اتبعيني، لتضعين أغراضك)
و سار أمامها متجها الى غرفة النوم، تاركا اياها تتبعه في صمت و هي تختلس النظر اليه الى دخل الغرفة، ثم استدار اليها و مد كفه قائلا بصوت أجش خافت.

(تفضلي، هي غرفتك، لا تتظاهري بأنك ضيفة)
تحركت تيماء و تجاوزته مخفضة الرأس دون رد...
هذه الغرفة لم تكن غرفتها أبدا، لكنها آثرت الصمت و دخلت لتضع حقيبتها على السرير و بدأت بفتحها دون أن تنتظر منه أي دعوى...
وقف قاصي عند الباب، مستندا الى اطاره وهو يراقبها مكتفا ذراعيه...
كانت ثابتة العزم، دقيقة الذقن و الأنف، و شاردة العينين...
كانت تبدو جميلة...

و يمكنه أن يقف مكانه ليراقبها لساعات طويلة دون ملل، ككائن خرافي برز من أسطورة قديمة...
كجني صغير ذو شعر متوهج أجعد كأشعة الشمس...
و كأنها قرأت أفكاره، فتركت حقيبتها للحظة و هي تتجه الى طاولة الزينة الصغيرة الموجودة في الغرفة، ثم وقفت أمامها لتخلع حجابها بأصابع بطيئة...
اخفض قاصي ذراعيه و تحرك دون أن يدري حتى وقف خلفها عن بعد وهو ينظر اليها بتركيز و دون حرج...

كانت تجمع شعرها في كتلة متشابكة مجعدة خلف رأسها، و بعض من أسلاكه اللولبية تتطاير حول وجهها...
مما جعلتها بالفعل تبدو كجنية لذيذة، خلعت قلبه منذ قرون...
رفعت تيماء عينيها فجأة فضبته وهو يراقبها بتلك النظرات التي كان ينظر بها اليها عقب زواجهما مباشرة...
فتوردت وجنتاها قليلا و تكورت أصابع أقدامها تحتها منتظرة، يبدو أنها لن تنتظر طويلا على أية حال...

ما أن أدرك قاصي أنها ضبطته بالجرم المشهود، حتى عقد حاجبيه بشدة و قال فجأة بجفاء
(لن يكون رد فعل سالم هادئا ما ان يكتشف خروجك من بيته دون اذن منه)
ارتفع حاجبي تيماء و هي ترمش بعينيها و كأنما أخرجها تعليقه الفظ المفاجىء من غمرة أفكارها الشاردة...
بينما عض هو على لسانه وهو يغمض عينيه للحظة...
لقد استخدم اسم سالم الرافعي كي يحرره من تأثيرها المضني عليه، فنطق بأول ما خطر على باله...

فتح عينيه بيأس الا أنه أجفل بشدة وهو يراها قد اقتربت منه دون صوت و اصبحت واقفة أمامه مباشرة...
ترفع وجهها ناظرة اليه، ثم قالت بهدوء
(و هل هذا مهم بالنسبة لك؟)
بدا قاصي مترددا متوجسا من نبرتها الهادئة و اقترابها، و أكثر نظرة عينيها الثابتة على عينيه، الا أنه قال بجفاء
(لا يهمني بمثقال ذرة)
أومأت برأسها و هي تجيبه
(جيد، لماذا تفكر في الأمر اذن؟)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بصوت خشن متحشرج.

(لا أفكر في الأمر)
ابتسمت له ابتسامة جميلة الا أنها كانت ابتسامة خالية الروح، و قالت ببساطة مجددا
(جيد)
حاولت الإقتراب منه خطوة أخرى الا أنه تراجع وهو يدفن أصابعه في خصلات شعره بقوة قائلا
(أنت جائعة على الارجح، لما لا أعد لك بعض الطعام ثم)
اقتربت تيماء منه تلك الخطوة الأخيرة و عيناها لا تحيدان عن عينيه، ثم قالت تقاطعه بخفوت مصرة
(لست جائعة)
الا أنه هرب منها وهو يقول بتوتر.

(و مع ذلك ستأكلين، إن كنت تريدين طفلا سليما، فعليك الإهتمام بصحتك أولا)
لم يدرك أنه نطق اسم طفله بعفوية، فغامت عيناها و تركت محاولة مطاردته و هي تشرد بروحها بعيدا...
فأخذ نفسا عميقا، و قال بجفاء...
(حضري، حضري أغراضك، و الحقي بي الى المطبخ).

ظلت تيماء على صمتها و رأسها المنخفض، بينما بدا هو غير راغبا في الخروج من الغرفة و تركها، كان يتأملها بروحه، لا بعينيه، متراجعا بظهره الى ان ارتطم بالحائط فانتبه لنفسه و استدار ليخرج وهو يزفر نفسا كاد أن يطبق على رئتيه...
سار قاصي في الرواق القصير متجهم الملامح، تملأه الرغبة تجاهها، بينما بدت الإبتسامة تظهر ببطىء على شفتيه القاسيتين بالتدريج، حتى غدت عريضة، و شملت وجهه كله...

تيماء هنا، في غرفتهما، و عما قريب، سيكون طفلهما الثالث...
حتى إن لم يحدث هذا، يكفيه أنها هنا، لطالما مثلا وطنا كاملا من فردين فقط، رحب، رحب، اراضيه ممتدة الى نهاية البصر...

أنهت تيماء تعليق ملابسها في الدولاب الصغير الذي تعرفه جيدا...
و أخرجت كتب دراستها لترصها بجوار جانبها من السرير، هذا هو جانبها؟، اليس كذلك؟
في الحقيقة، في المرات القليلة التي قضت فيها لياليها في هذه الشقة، كانت كل مرة تنام في جانب مختلف...
هذا إن عرفا النوم من الأساس، فقد كان شغفه بها، يمنعها من النوم لساعات طويلة...
لكن على ما يبدو أن هذا الشغف قد تغير الآن...
رفعت تيماء وجهها و هي تتنهد...

ثم همست لنفسها بهدوء
(لا بأس، لم آت الى هنا طلبا لشغفه)
حتى و هي تنطق بهذه الكلمات، لم تستطع منع نفسها من جلب بعض ذكريات تقاربهما الأخير الى ذهنها...
كان مختلفا، مختلفا بدرجة، لم تستطع منعها، و منع نفسها من الإستسلام لها، لأمواج أشواقهما التي جرفتهما بعيدا...
هزت رأسها قليلا و حاولت استعادة انتباهها و تركيزها على حياتها...

ثم التقطتت هاتفها لتتصل بثريا، منذ آخر اتصال لهما و الذي قطعته ثريا باكية، و هي غير قادرة على الإتصال بها من جديد، أو بالأصح، غير راغبة في هذا...
هي لا تزال تحبها، لكن...
جلست تيماء على حافة الفراش و هي ممسكة بالهاتف بقنوط...
إن كانت لا ترغب في الإتصال بها، سماعها، أو حتى البقاء معها...
فما هو المتبقي من هذا الحب؟
إنها تمر بمرحلة تصفية، تقوم فيها بإخراج كل من هو عبء على حياتها دون رحمة...

لم تعد هي نفسها تيماء القديمة القادرة على احتواء كل من يحتاج اليها، خاصة أمها...
وضعت تيماء الهاتف على أذنها و انتظرت بملامح لا تحمل أي تعبير، الى أن وصلها صوت ثريا أخيرا تقول بإختناق
لماذا تتصلين الآن؟، ماذا تريدين مني بعد إنهائك الإتصال المرة الماضية بكل صفاقة؟
أخذت تيماء نفسا عميقا و هي تحاول ضبط أعصابها ثم قالت بفتور
أنت من أغلقت الخط يا ثريا، هتفت ثريا بصوت مختنق مأسوي.

(هذا لأنني لم أجد منك ما يستحق السماع، لا أصدق، لا أصدق بعد كل تعبي في تربيتك بمفردي و تضحيتي بكل شبابي، بعد أن تركك والدك بين ذراعي صغيرة وحيدة في هذه الحياة و رحل، الآن تختارين البقاء معه، عوضا عن الحضور الي، الى أمك و التي تحتاجك)
لجمت تيماء كلمات أوشكت على الخروج من بين شفتيها غير مراعية لحدود الأدب أو حقوق أمومتها...
ثم قالت بجمود.

(على ما يبدو أنك نسيت يا أمي، أو تتناسين، كنت ركنا أساسيا في هذه الصفقة، و كنت موافقة تماما، بل كانت كل رغبتك هي أن أعيد التواصل مع سالم كي يعيد إنفاقه علينا، الا يصلك المال كما تطلبين؟، إن كان هذا لا يحدث فقط أخبريني و أنا سأفهم الأمر منه، على أنني لا أملك الآن ما أقايضه به)
ردت ثريا بإختناق.

(نعم كنت أريده أن ينفق علينا من جديد، هذا حقنا بعد كل ما اقترفه، لكن لم يكن ابتعادك عني و بقائك معه بندا من هذه الإتفاقية، لماذا تبتعدين عني يا تيماء؟، لماذا تعاقبينني؟)
اغمضت تيماء عينيها بنفاذ صبر، ثم قالت بصلابة
(أنا لا أعاقبك يا أمي، ماذا فعلت كي أعاقبك عليه؟)
ساد صمت مختنق بأصوات تنفس ثريا المتحشرجة، ثم همست أخيرا
(أنت غاضبة مني لأنني، لأنني لم أكن بجوارك بعد، بعد وفاة طفلك).

ساد صمت طويل بينهما، لم تجرؤ أي منهما على قطعه، الى أن قالت تيماء أخيرا بخفوت
(هل سبق و ذكرت أنني مستاءة من هذا؟)
همست ثريا بصوت أكثر اختناقا
(لست في حاجة للكلام، أعرف أنك غاضبة مني، لكن، لكن، ما الذي كان بإمكاني تقديمه لك؟، أقصد، أنني لم، بيتي كان مفتوحا لك و أنت من ترفضين المجيء، فماذا كان بإمكاني أن أفعل أكثر؟)
ظلت تيماء تنظر الى بعيد بنظرات جامدة، صلبة، ثم قالت أخيرا بصوت لا يحمل أي عاطفة خاصة...

(لم يكن بإمكانك تقديم شيء يا أمي، أدرك ذلك و أنا لم أحاول اتهامك بشيء)
بدت ثريا أكثر توترا و ظهر هذا في صوت تنفسها الغير ثابت، ثم قالت أخيرا بصوت أكثر اختناقا...
(لكن أنا أحتاجك يا تيماء، أنا أحتاجك بشدة، لم أدرك مدى احتياجي لك و اعتمادي عليك كما أفعل الآن، أنا، أنا أظن أن زوجي يخونني)
ساد صمت غريب بينهما، صمت ثقيل، طويل، متعب...
و ظلت تيماء صامتة تماما دون رد، الى أن همست أمها بقلق.

(تيماء، هل سمعتني؟)
فتحت تيماء شفتيها لتجيب بهدوء
(سمعتك)
حينها هتفت ثريا بإنفعال
(اذن لماذا لا تردين؟، اخبرتك أنني أظن بأن زوجي يخونني)
رفعت تيماء حاجبيها قليلا بينما وضعت يدها على بطنها دون أن تدري، ثم قالت بفتور
(سمعتك، لكن ما الذي يمكنني مساعدتك به؟)
صمتت ثريا و قد ارتسمت ملامح الصدمة عليها، قبل أن تقول مصعوقة.

(بهذه البساطة تسألين؟، ما الذي حدث لك؟، أنا هنا أموت من شدة الفكر و التوتر، بينما أنت تسألينني بمنتهى البرود عما يمكنك مساعدتي به؟)
اشتدت عينا تيماء ظلمة، ثم قالت أخيرا ببساطة.

(أنا مندهشة من صدمتك يا أمي، بالتأكيد سيخونك، أنا مندهشة أكثر لأنك استغرقت كل هذا الوقت في اكتشاف الأمر، ربما كنت تحاولين اغماض عينيك عن الحقيقة، هل حقا كنت تظنين أنه تزوجك لأنه يحبك مثلا؟، أو أن شابا مثله سيكتفي بك كامرأة؟، ظننتك أكثر نضجا من هذا يا أمي! زواجك بإختصار كان عقد احتياج بين طرفين، كل منهما يمنح الآخر ما يحتاجه لفترة من الزمن، فلا تحاولي اضفاء صورة عاطفية عليه، كي لا ترهقين قلبك، إنه يقترب من عمر ابن لك).

أغمضت تيماء عينيها بعد أن أنهت كلماتها، بينما بدأت أصوات شهقات باكية مصدومة شديدة الخفوت تصل الى أذنها و قلبها المغلق...
فمنحتها بعض الوقت، ثم قالت بجدية
(عليك اتخاذ قرارك يا أمي، إما أن تنفصلي عنه، و حينها سأتكفل بك تماما، لا حاجة بك للقلق، أو تغمضين عينيك و تصمين أذنيك و تتقبلين بما يجود به عليك، دون توقع الأكثر، فما هو قرارك؟).

ظل الصمت من الجهة المقابلة طويلا، ثقيلا، الى أن سمعت فجأة صوت انهاء المكالمة!
أبعدت تيماء الهاتف عن أذنها تنظر اليه بصمت، ثم مدت يدها تضعه بجوار كتبها و بقت مكانها جالسة...
ملامحها ثابتة، غير متعاطفة، بينما يدها لا تزال على بطنها، تربت عليها برفق...

حين خرجت من الغرفة، ملأت رئتيها رائحة طعام شهية كادت أن تطيح بتوازنها...
تلك الرائحة أخبرتها بوضوح كم هي جائعة، بل تتضور جوعا...
فتبعتها بقدمين حافيتين بطيئتين الى أن وصلت لباب المطبخ، فوقفت تنظر اليه، حيث كان يقف أمام الموقد، يعد طعاما مطهوا بمنتهى المهارة...
بينما لف حول خصره ميدعة جعلته أكثر انسانية، و طرافة...

راقبته تيماء بصمت، لطالما شعرت و هي تراقبه أنها تنظر الى غلاف احدى المجلات الأمريكية القديمة...
كان يحب هذا الطراز و يحاول تقليده في بداية شبابه، و الآن لا يزال بنفس النمط دون قصد...
كان شرقي بروح غربية نوعا ما، و كأنه يرفض مد أي جذور له...
كان حلمه القديم هو أن يسافر للخارج هربا، و يبتعد عن البلد هنا بكل ما فيها من اتهامات له...

و هي كانت تستمع اليه متفهمة، تدرك جيدا ما الذي يمكن للغرب أن يقدمه له و لم يجده هنا في موطنه...
و الواقع أنه لم يشعر أبدا بأن له وطن هنا...
لكن كان هذا قبل أن تدرك مؤخرا بأنه لن يهرب الا بعد تنفيذ مخططا انتقاميا من عمران و ربما من ابنه كذلك...
و هي التي كانت تظن أنها تعرف عنه كل شيء، لكن ثبت لها مع الوقت و مع كل صدمة جديدة، أنها لم تكن تعرف عنه شيئا أبدا...

تكلم قاصي فجأة قائلا بصوت قوي ثابت دون أن يستدير اليها...
(بما أنك تقفين عندك منذ خمس دقائق دون فائدة تذكر منك، اشغلي نفسك قليلا و تعالي لتأخذي هذا الطبق و أخرجيه ارضا أمام باب الشقة)
أجفلت تيماء بقوة من صوته، لم تدرك أنه كان يشعر بوجودها و مراقبتها له...
فرمشت بعينيها و قالت بخفوت
(عفوا! هل قلت أخرجه على الطاولة في الخارج، أم خارج باب الشقة كما سمعت؟)
ابتسم قاصي دون أن يستدير اليها و قال بسعادة.

(تبدين لطيفة للغاية و أنت مهذبة بهذا الشكل، من يسمعك قد يخدع بك، قلت ما سمعته، أخرجي الطبق و ضعيه أرضا أمام باب الشقة، فهذا موعد طعام قطتي، كي تتمكن اطعام قطيطاتها)
ضمت تيماء ذراعيها و هي تتأمل ظهره مليا، منتظرة أن يضحك، الا أنه كان جادا كما يبدو...
فقالت بتردد...
(السيدة امتثال تشكو من القطط، ليس عليك أن تضايقها بهذا الشكل)
رد قاصي بلامبالاة...

(متى توقفت امتثال عن الشكوى؟، حتى و ان رضخت لرغبتها، ستجد شيئا آخر لتشكو منه، لذا و بما أن الأمر مفروغ منه دعينا نطعم تلك الأرواح الصغيرة التي لا حول لها و لا قوة)
لا تعلم لماذا كانت غاضبة منه...
ملامحها هادئة تماما و لا تحمل أي انفعال، لكن بداخلها كان هناك نوعا من الغضب تجاهه...
غضب كامن، تحت سطح خادع بارد...
ترى هل السبب فيه هو مماطلته لها فيما تطلب منه؟

أم مجرد عطفه الزائد على القطة و قطيطاتها يثير غضبها بشكل أحمق منافي للمنطق...
لكن أيا كان السبب، فقد نجحت في إخماده، ربما كانت رافضة لإستثارته غضب السيدة امتثال، الا أنه طالما طبق الطعام الخاص بالقطط معدا فهي لن تقف أمام أرزاقها، فلتطعمهم الآن و ليتحدثوا في الأمر لاحقا...
اتجهت تيماء بحذر الى الطبق الموضوع على يمين ذراعه، فأخذته بين كفيها دون كلام...

بينما اختلس قاصي اليها نظرة جانبية، و ما كاد أن يفعل حتى تسمر مكانه و نسي الطعام على الموقد تماما...
حتى أنه نسي فمه مفتوحا قليلا...
كانت ترتدي، لا شيء...
ارتفع حاجبيه وهو ينظر اليها ببلاهة، حتى توقفت عيناه على بنطال ساخن قصير جدا. أطول من الملابس الداخلية بالقليل الذي لا يذكر...
و قميص قطني دون أكمام، يظهر معدتها الصغيرة، و المستديرة قليلا عقب الحمل و الولادة...

كان ينظر اليها بنفس النظرة البلهاء و هي تتحرك مبتعدة عنه، وهو يستدير معها ملاحقا كعقرب الساعة...
الى أن وجد صوته أخيرا و هي عند باب المطبخ فهتف بقوة
(هاي، هاي، أنت، أنت يا سيدة توقفي هنا، الى أين تظنين نفسك ذاهبة؟)
استدارت تنظر اليه بدهشة، ثم قالت بهدوء
(ذاهبة لأضع طعام القطط!)
ارتفع حاجبي قاصي أكثر ثم قال بإرتياب و كأنه يتحدث الى مختلة عقليا...
(هل لاحظت أنك لازلت بملابسك الداخلية؟).

كان هذا دورها لترفع حاجبيها قبل أن تنظر الى نفسها، ثم نظرت اليه و قالت بدهشة
(هذه ملابس بيتية، لا داخلية)
استدار قاصي اليها بالكامل وهو يقول عاقدا حاجبيه بحدة...
(بلى، داخلية)
أطرقت تيماء برأسها تنظر الى نفسها، ثم رفعت إحدى يديها و جذبت مقدمة القميص القطني لتنظر تحته و قالت ببساطة
(لا، ها هي الداخلية تحتها، أتود التأكد؟).

ابتلع قاصي ريقه بتشنج وهو ينظر اليها، يريد التأكد من باب العلم بالشيء، الا أنه سارع بهز رأسه بقوة و هتف غاضبا
(لا، لا أريد التأكد، كيف ستفتحين الباب بهذا الشكل؟)
هزت تيماء كتفها و قالت دون اهتمام
(تبعا لآخر معلوماتي فالشقة أمامك لا تزال مهجورة، و كذلك الطابق الذي يعلوك، و لا فرصة لمرور أحد بابك حاليا)
اتسعت عينا قاصي وهو يهتف بقوة و انفعال
(م، ما، ما الذي، كيف ت).

أغمض عينيه و عض على أسنانه حين وجد أنه غير قادر على استجماع كلمة مفهومة...
ثم قال أخيرا من بين أسنانه وهو يشير الى باب المطبخ بالمعلقة الخشبية في يده...
(اذهبي و غطي نفسك بشيء)
مطت تيماء شفتيها و هي ترمقه بنظرة شملته كله، و توقفت على الميدعة التي تحمل رسوما كارتونية، ثم خرجت دون مزيد من الكلام...
و ما أن اختفت من أمامه حتى أغمض عينيه مجددا و أفلت من بين شفتيه نفسا طويلا، ثم همس بخفوت.

مهلكة، م، هلكة، أخذ نفسا عميقا عوضا عن الذي أخرجه، ثم استدار ينظر الى الطعام الذي يعده، فانتبه اليه و هتف بحدة وهو يغلق الموقد بسرعة
(تبا، لقد التصق أكثر من اللازم)
أخذ يشتم هامسا وهو يعيد تقليبه بعيدا عن النار، ثم توقف قليلا و زفر هامسا لنفسه بعناء.

(لقد بدأت في شن حملتها بأسرع مما أظن، تصرفها ليس عفويا أو بريئا، أبدا، لن تخدعني تلك القصيرة سلكية الشعر أبدا، لقد ربيتها على يدي و اعرفها أكثر من نفسها).

وضعت تيماء الطبق على الطاولة في غرفتها قبل أن تستدير لتلتقط اسدال الصلاة الذي كانت ترتديه للتو...
فدسته فوق رأسها مجددا و هي لا تزال ماطة شفتيها قائلة بإمتعاض
(الأحمق، صدق أنني سأخرج بهذا الشكل!)
استدارت الى المرآة و أخذت تضبط شعرها داخل غطاء الرأس، ثم نظرت الى عينيها الكبيرتين، و ابتسمت، بخبث...
ثم قالت بخفوت
(هذا الطفل حقي، أنا لا أطلب الكثير، أستحقه بعد كل ما تحملت).

اسبلت جفنيها قليلا و هي تربت على بطنها و قد ضاعت ابتسامتها تماما، ثم تابعت بصوت أكثر خفوتا
(على عيني استبدالك يا حبيبي، لا تظن أمك قد جن عقلها، كنت صديقي الوحيد، لا مجرد جنين لأعوضه، لكن ألم فراقك صعب جدا، كم حلمنا سويا، و كم تخيلتك، سامحني إن أردت طفلا جديدا، عسى أن يجمعني الله بك و أراك مجددا)
أغمضت عينيها قليلا، ثم خرجت من الغرفة و معها الطبق...

كان قد انتهى من تحضير طاولة المطبخ، فوقف ناظرا اليها مبتسما برضا...
لقد قام بتحضير وجبة ملوكية لها، و من هنا و حتى أن تلين رأسها سيقوم بتدليلها كما يجب...
أومأ برأسه وهو يهمس بصوت غير واثق تماما
(أستطيع القيام بهذا، لن يتطلب الأمر اهتماما أكبر من إهتمامي بالقطط)
صمت قليلا وهو يزم شفتيه، ثم رفع يده ليحك جبهته وهو يقول بنفاذ صبر من بين أسنانه.

(من كان يصدق أن يأتي اليوم الذي أتوسل فيه القصيرة المجنونة كي تبقى معي، بعد أن كانت تلحقني كالعلقة في كل مكان)
ابتسم ابتسامة باهتة قليلا وهو يعدل من وضع الملاعق، ثم همس بخفوت
(لا بأس، فالمهلكة تستحق، علها تكون المرة الأخيرة، و لم يحرمني منها شيء مجددا)
صمت وهو ينظر الى باب المطبخ حين طال صمتها، فشعر بالقلق وهمس.

(ترى ماذا قررت أن تخلع هذه المرة؟، يجدر بي الذهاب للبحث عنها، قبل أن تتهور أكثر، و نحن لازلنا في اليوم الأول).

خرج من المطبخ وهو ينظر يمينا و يسارا بحثا عنها، الى أن وجد باب الشقة مفتوحا، خاليا...
شعر قاصي فجأة بقلبه يهوى بين أضلاعه وهو يظن بأنها قد هربت في لحظة تردد...
فصرخ باسمها عاليا
(تيمااااااااء)
الا أن صوتها وصله و هي تجيب بحيرة
(ماذا؟، لماذا تصرخ بهذا الشكل؟، أفزعتني!).

عقد حاجبيه وهو يستطيل برأسه فوق الأريكة التي كانت تخفي نصف الباب السفلي، فوجدها متربعة أرضا أمام الباب المفتوح، ترتدي اسدال صلاتها...
تراقب قطته و هي تأكل من الطبق، بينما تملس لها شعر مؤخرة عنقها شاردة تماما...
و القطيطات الصغيرة تجري من حولها...
ابتسم قاصي وهو يتنهد ارتياحا، بينما وقف قليلا يراقب طرافة منظرها، خاصة بعد أن التقطت احدى القطيطات و رفعتها الى صدرها بكف واحدة، ثم همست لها بمودة...

(مرحبا يا صغيرة، تبدين أجملهن، لكن لا تخبري اخواتك كي لا تغرن منك)
اقترب منها قاصي ببطىء الى أن جثا بجوارها على عقبيه، ثم مد يده يداعب القطة الأم وهو يقول مبتسما
(أرى أنك قد وقعت في حبهن!)
ابتسمت تيماء و قالت بخفوت دون أن تنظر اليه...
(و من لا يفعل! خاصة الصغيرات)
نظر قاصي الى الصغيرة التي تضمها الى صدرها، كانت بلون المشمش، و عيناها فيروزية...
فقال بخفوت
(لقد اخترت اقربهن شبها بك).

رفعت تيماء وجهها تنظر اليه مندهشة مما قال، بينما أطبقت يده على يدها التي تلامس شعر القطة الأم...
و تابع قائلا وهو ينظر الى عينيها...
(ليس لأن عينيها تشبه لون عينيك، لكن لان تلك الصغيرة تحديدا، وقعت في غرامي، و كل يوم تصعد الى بابي و تظل باقية الى أن أفتح لها و آخذها بين أحضاني كما تفعلين الآن)
ارتفع حاجبي تيماء بدهشة أكبر، ثم لم تلبث أن ضحكت دون مرح و قالت.

(أنت تبالغ، أنت تظن أن كل الإناث يقعن في غرامك، كنت تطبق هذا على البشر، لكنني لم أتوقع أن يمتد ظنك مع السنوات الى عالم الحيوانات كذلك)
رد قاصي بجدية دون أن يحرر يدها
(لا تهمني سوى أنثى واحدة)
بهتت ابتسامتها، الى أن اختفت تماما، و بقى وجهها صلبا جامدا، ثم نظرت اليه و قالت ببرود
(هذه الأنثى هي أنا على ما أعتقد!)
عقد قاصي حاجبيه، الا أنه قال مؤكدا
(نعم).

ابتسمت ابتسامة واهية، لم تلبث أن تساقطت قبل أن تتشكل تماما، ثم قالت بخفوت
(لا أظن أنني كنت همك مطلقا)
أمسك قاصي بكفها بقوة يبعدها عن القطة التي فزعت من حركته، بينما قال هو بحدة
(كيف لك أن تنطقين بهذا؟، بعد كل ما كان بيننا؟)
رفعت تيماء عينيها الى عينيه و قالت بهدوء ميت
(بعد ما كان مني، لا ما كان بيننا)
استدارت اليه قليلا و رفعت ذقنها لتقول بجمود
(لقد اكتشفت أنك كنت لي كل شيء، بينما لم أكن أنا لك شيئا).

أظلمت عينا قاصي وهو ينظر اليها، بينما انقبضت كفه فوق أصابعها، حتى شعرت بها على وشك أن تتهشم
لكنها لم تبالي، بل ظلت تنظر اليه، بثبات، الى أن قال أخيرا بعد فترة طويلة...
(لا فائدة من الكلام الآن على ما أظن)
شعرت فجأة بشيء يشبه خيبة الأمل في داخلها، الا أنها قالت بلطف خالي من الإحساس
(نعم، أعتذر لأنني فتحت أبوابا اتفقنا على غلقها للأبد، لم يعد هذا مهما الآن)
دفع قاصي يدها ثم استقام واقفا ليقول بجفاء.

(اغلقي الباب و تعالي لتأكلي، لقد جهز الطعام)
راقبته تيماء وهو يبتعد، فنهضت لتغلق الباب بحرص بعد أن أنزلت القطيطة الصغيرة الى الأرض بجوار أمها...
ثم تبعته و هي تقول بعفوية
(سيتعين على غسله الآن)
استدار اليها ليرى ما تقصد، لكنه تسمر مكانه وهو يراها ترفع عبائتها فوق رأسها ببطىء، فطافت عيناه عليها بانشداه، الى أن انتهت ووضعتها على ظهر الأريكة ثم وقفت لتنظر اليه مبتسمة و قالت بهدوء
(لماذا تقف هكذا؟).

فتح قاصي شفتيه قليلا، ثم لعق شفتيه ليقول بخفوت و عدم تركيز
(أنتظرك)
اتسعت ابتسامتها قليلا، و همست
(أنا جاهزة)
ارتجفت شفتاه قليلا وهو يمر بعينيه عليها، الى أن أغمضهما أخيرا و قال بجمود
(جيد، فأنا، أتضور جوعا)
و دون أن ينتظر منها ردا مستفزا آخر تحرك الى المطبخ وهو يسمع صوت خطواتها خلفه، لكنه تجاهلها تماما و سحب كرسيا ليجلس دون تهذيب...
وقفت تيماء عند باب المطبخ تنظر اليه للحظة، بملامح جامدة، مظلمة...

الا أنها رسمت الإبتسامة من جديد و اقتربت منه لتسحب كرسيا و جلست عليه...
نظر اليها قاصي بطرف عينيه، فالكرسي الذي سحبته، قامت بتقريبه منه للغاية...
لا يعلم إن كان هذا مقصودا منها أم حدث بعفوية...
أغمض قاصي عينيه وهو يستنشق عطرها الأخاذ، لم تأت بهذا العطر، فهل وضعته في الغرفة؟
فتح عينيه أخيرا ليجد بأنها تنظر اليه بنفس الإبتسامة...

ابتسامة عذبة، لم يرى في جمالها من قبل، لكن ما أقلقه أن تلك الإبتسامة لا ظل لها في عينيها مطلقا...
أين العشق الذي كان يستطيع قرائته بهما بمنتهى السهولة؟
كانتا صافيتان، جامدتان، لا تحديان عن عينيه و كأنها مستمتعة بالنظر الى عذابه...
قال أخيرا بصوت حاد، أقرب الى الإنفعال
(لماذا تنظرين إلى بهذا الشكل؟، هل ستأكلين أن تنوين التقاط صورة لي أولا؟)
أجابته تيماء بصوت خافت جاد و هي تنظر الى عينيه.

(لماذا تبدو منفعلا؟)
صرخ قاصي فجأة وهو يضرب سطح الطاولة بقبضته بكل عنف
(و لماذا تبدين حمقاء، غبية، جامدة كال)
صمت فجأة وهو يلعن الغباء الذي يجعله غير قادرا على التحكم في نفسه لساعة واحدة على الأقل...
كانت تيماء تنظر اليه بصمت، ثم نهضت و هي تقول بهدوء
(من الأفضل أن ابتعد عنك الآن، طالما أن رفقتي تمثل لك مثل هذا الضيق).

حاولت الإبتعاد، الا أنه سارع بإمساك يدها، فنظرت اليه بطرف عينيها دون أن تتكلم، بينما بقى هو صامتا بضع لحظات قبل أن ينظر اليها، ثم قالت بخفوت أجش
(اجلسي يا تيماء)
ظلت تيماء مترددة قليلا، ثم عادت لتجلس و هي تنظر اليه، بينما هو يحارب وحشا بداخله، كان يترك له قيوده من قبل...
أما الآن، فهذا الكائن الوديع الذي هو مجبر على تقمص شخصه، يجعله على حافة الإنفجار في أية لحظة...
لم يكن هكذا معها مطلقا...

كان يتعامل مع الجميع بطريقة، تفرضها عليه عوامل كثيرة...
الا هي، كان يترك نفسه معها على سجيته، و كأنه عاد الى بيته، ليأخذ راحته و يرتدي منامته المريحة...
و تيماء كانت هي منامته المريحة المهترئة، التي يظهر أمامها بشخصه الحقيقي، بكل مساوئه و عقده، و ظلام روحه...
أما الآن، فهو مضطر الى ارتداء حلة و رباط عنق، كي يستعيدها...
رفع قاصي عينيه المرهقتين لينظر الى عينيها الشاخصتين اليه، ثم قال بخفوت.

(لا تنظرين إلى هكذا)
الا أن تيماء لم تمتثل لأوامره، بل ظلت تنظر اليه بإصرار، ثم قالت فجأة بهدوء جليدي
(أتدري ما هي المشكلة؟)
علم أنها ستتابع بما يسيء اليه، لكنه أجبر نفسه على التحمل، فقال بجفاء منتظرا سماع الدرر منها...
(انتظر متشوقا لسماع المشكلة منك يا قصيرة، تفضلي و لا تدعي في نفسك شيئا الا و نطق به لسانك السام)
ابتسمت ببرود، ثم قالت بقساوة.

(المشكلة أنك تريد رسم دورا عاطفيا حول ما أطلبه منك، كي تحسن من الصورة الختامية، )
كان مخطئا، لم تنطق بما يسيء اليه، بل نطقت بما لكم فكه بضراوة...
بينما تابعت تيماء تقول بخفوت
(لكن الختام هو النهاية، لا فارق إن كان مجملا أو موجزا مختصرا)
أطبق قاصي شفتيه في خط مستقيم، وهو يحرك أصابعه على باطن معصمها دون أن يجد القدرة على الكلام، فقالت هي متابعة.

(أنا سأرحل يا قاصي في كل الأحوال، سواء تمت المهمة أو لم تكن مشيئة الله، و بضع ذكريات نحاول فيها رسم ابتسامة عاطفية ساذجة على وجهينا، لن تفيد)
ارتفع حاجبي قاصي وهو ينظر الى كفها الصغير الذي يعبث به شاردا، ثم قال أخيرا وهو ينظر اليها ببرود مماثل
(كلام منمق و منطقي جدا، لكن اعذريني، كان هذا شرطي كي أتمكن من اجابة طلبك، و بدون لا أجد نفسي قادرا على)
ارتفع حاجبيها و هي تقول ضاحكة فجأة بدهشة.

(غير قادرا؟، لقد كدت أن تخدعني المرة السابقة، أما الآن فمن تظن أنك تخدع يا قاصي؟، أنت لم تخفض عينيك عني، و لم تستطع اخفاء الشهوة بهما، لما التأجيل اذن؟، لمجرد أن تحصل على صورة عاطفية جميلة تغلف برود ما يحدث؟)
احتدت عينا قاصي للحظات وهو ينظر الى عينيها المتحديتين، ثم أخفضهما ببطىء و تمهل على عنقها، نزولا الى صدرها، ثم استقرت نظراته هناك بوقاحة...

ابتسمت تيماء بإنتصار على الرغم من احمرار الإرتباك الذي داهم وجنتيها قليلا رغما عنها...
و طال بهما الصمت الى أن تململت بحرج، لكنها صدمت حين رأت كفه ترتفع لتقترب من صدرها فسحبت نفسا عميقا حادا، لكن هذا النفس توقف ما أن امسكت يده بقلادتها...
اتسعت عينا تيماء و هي تخفضهما لتظر الى يده الممسكة بالقلادة التي أهداها لها يوم ميلادها السابع عشر...
اليوم الذي اعترفت له بحبها، و باتت ملكا حصريا له...

قلب قاصي القلادة ليقرأ الكلمات المحفورة عليها، ثم قال دون أن ينظر اليها
(لا زلت تضعينها رغم كل ما حدث! لاحظت هذا منذ سفري اليك، كانت معك دائما، فلماذا لم تخلعيها؟)
نظرت اليه تيماء بجمود للحظة ثم قالت بخفوت
(لطالما احتفظت بها، حتى في فراقنا الأول لسنوات، احتفظت بها على الرغم من أنني لم أتخيل مطلقا أن يعود ما بيننا)
ابتسم قاصي قليلا، وهو يقلب القلادة بين أصابعه ثم قال بخفوت.

(و ماذا بعد أن يتم المراد؟، هل ستحتفظين بها بعد حصولك على الطفل و السفر بعيدا، أم ستلقين بها كما ستلقين بي؟)
غامت عينا تيماء و هي تنظر اليه بألم، ثم قالت بعد صمت طويل
(إنها غالية عندي يا قاصي، كطفلك الذي رحل سريعا، و طفلك القادم، كل ما يخصك له مكانة عندي لن ينتزعها مخلوق، فهل هذا هو ما تريد سماعه؟).

ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيه قبل أن يرفع عينيه اليها، حينها أجفلت بشدة و فغرت شفتيها من هول النظرة البادية بهما...
عميقة قادرة على جرفها بعديا عن العالم بأسره، ثم قال أخيرا بصوت أجش خافت
(هذا تماما ما أريد سماعه، و هذا هو ما سيقربني اليك من جديد)
هزت رأسها بينما انحنى حاجبها ألما و هي تهمس
(ما سيقربني لك من جديد؟، ألهذه الدرجة تحتاج الى جهد؟)
أومأ برأسه و قال دون تردد.

(نعم، لهذه الدرجة أحتاج الى جهد، تحمليني قليلا، فأنا أيضا لا أطلب الكثير، و طفل منك يستحق الإنتظار، اليس كذلك؟)
أطرقت تيماء بوجهها بينما رمقها قاصي بحنان و هي تبدو مجروحة الكبرياء...
كان قلبه يهفو اليها، و جسده يسبق هذا القلب بتهور، و ليس هناك أسهل من اجابة طلبها...
لكن لا أصعب من الإحتفاظ بها بعدها...
قال قاصي أخيرا بهدوء.

(ألن تتناولي طعامك؟، لقد تعبت في تحضيره لك يا قصيرة، و ربما أعددت لك فنجان قهوة بعده إن أردت الدراسة لفترة)
نظرة اليه باستنكار و هتفت
(دراسة!)
بادلها النظر ببراءة، ثم قال مندهشا...
(ظننت أن لديك دراسة متأخرة، و الا فما فائدة الكتب المتراصة و التي وجدتها في الغرفة؟)
زمت تيماء شفتيها بجمود بينما ترمقه بنظرات قاتلة، أما هو فقد ملأ ملعقته و بدأ في الأكل ببساطة...
و رضا رغم نار الهوى و الإشتياق...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة