قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والثلاثون

(سوار غانم الرافعي، هل ستبقيني على الباب أكثر؟)
ساد الصمت ثقيلا بينهما، بينما راقبت سوار اتساع عيني المرأة أمامها حد الهلع، فظلت واقفة بصبر و هي تنتظر منها أن تفتح الباب، و حين طالت بها الصدمة، تابعت سوار بصوت بارد ثقيل
(يمكنك ادخالي دون قلق، فلن آخذ من وقتك الكثير)
الا أن عيني سوار انخفضت الى أصابع المرأة التي تصلبت فوق حافة الباب حتى ابيضت مفاصلها بشدة...

فعادت و رفعتهما الى عيني المرأة و قالت بهدوء ساخر
(يمكنك تفتيشي قبل أن تسمحي لي بالدخول إن أحببت، لكن أنصحك بسماع ما أريد قوله، لأنه هام، لذا لا تتسرعي بصرفي من هنا)
ظلت المرأة متشبثة بالباب، و كأنها تحولت الى تمثال حجري لا ينطق و لا يسمح، حينها قالت سوار مجددا بهدوء آمر
(افتحي الباب و لا تخافي، أعطيتك الأمان، و سوار الرافعي لن تغدر مطلقا).

رمشت المرأة بعينيها مرة، فأدركت سوار بأن كلماتها قد بدأت تتسلل الى ذهنها المرتعب أخيرا، الى أن تراجعت خطوة و هي تزيح الباب بتردد، مصدرا صوت صرير مزعج زاد من توتر الجو بينهما...
انتظرت سوار مرتفعة الرأس بإباء، حتى فتح الباب أمامها بأقصى اتساعه، ثم همست المرأة أخيرا بصوت ضائع
(تفضلي)
رفعت سوار حافة عبائتها، ثم خطت الى داخل الدار...

بنظرة واحدة كانت قد ألمت بالمكان المحيط بها، دار بسيطة التأثيث، متواضعة أكثر و تعبر عن ضيق الحال...
الا انها نظيفة و مرتبة...
توقفت نظرات سوار على طاولة صغيرة عليها عدد من الكتب و الدفاتر المفتوحة، خاصة بطفل في مرحلة دراسية مبكرة على ما يبدو...
ثم عادت لتدور بوجهها الى أن رأت طفلا صغيرا عند ممر داخلي يتعثر في خطاه!

تصلبت عينا سوار عليه للحظة، كان طفل جميل أسمر الملامح، لا يتعدى عمره العام، يترتدي جلباب صغير زاد من قربه للقلب لكل من يراه للنظرة الأولى...
مرت لحظتين و هي شاردة النظر في الطفل الصغير مما جعل أمه تنتفض و هي تندفع اليه معمية القلب، تحمله بين ذراعيها لتترفعه عن الأرض و تضمه الى صدرها بكل قوة و كأنها تخشى عليه منها...

ضيقت سوار عينيها و هي تنظر الى المرأة ذات العينين الواسعتين المذعورتين، و هي تضم الطفل بشدة تكاد أن تخنقه و تضيق عليه أنفاسه، فبدأ يتململ منها، غير مستوعب لتقييدها له بهذه الطريقة...
الا أنها لم تتركه و لم تخفف من ضغطها عليه...
فقالت سوار بصوت صلب جامد و هي تشير بسطوة بذقنها الى الطفل
(كم عمره؟)
ازداد الهلع في عيني المرأة و هي تضم طفلها أكثر و اكثر قائلة برعب
(لماذا تسألين؟).

ارتفع حاجبي سوار بسخرية و هي تقول ببرود
(الا تعرفين طريقة الرد بتهذيب قليلا؟، على الأقل احتراما لكوني ضيفة في دارك)
ابتلعت المرأة ريقها بصعوبة، ثم قالت باختناق
(لقد أعطيتني الامان)
تصلبت عيني سوار أكثر حتى باتت أشبه بالرخام العسلي الخام البارد، قبل أن تقول بصرامة
(سبق و أخبرتك بذلك، و لن أتنازل و أكرر ما وعدتك به، فهلا أجبتني).

ترددت المرأة و بدت على وشك الإصابة بالإغماء من شدة شحوب وجهها، لكنها أطرقت برأسها تدس أنفها في عنق طفلها و هي تهمس بصوت مرتعش
(عام)
ظلت سوار على نفس الملامح المترفعة الجامدة و هي تنظر الى المرأة دون تعاطف، ثم قالت أخيرا بصوت خافت غريب
(و أنا أيضا كنت أحمل طفلا، منذ أشهر، ربما بعد ولادتك بشهر أو شهرين).

سحبت المرأة نفسا حادا سريعا و هي تنظر تلقائيا الى بطن سوار، و كأنها تفكر، لكن سوار تطوعت و تابعت بصوت أكثر جمودا...
(كان هذا قبل زواجي من ليث الهلالي، من زوجي الأول رحمه الله، سليم الرافعي، أسمعت عنه من قبل؟)
ازداد اتساع عيني المرأة و تراجعت خطوتين حتى التصقت بالجدار خلفها، فاغرة الفم و كأنها فقدت صوتها، لا تملك سوى النظر الى سوار بعجز و هي تضم طفلها اليها بشدة...

أما سوار، فتنهدت و هي تتحرك في بهو الدار ببطىء، شاردة العينين، تنظر حولها بلا اهتمام، ثم تابعت بهدوء
(الا أنني فقدته، من شدة حزني على والده)
توقفت للحظة و ظهرها للمرأة، و مدت يدها تمسك دمية على شكل حصان صغير مصنوع من القماش و الجلد، أخذت تلامسها بأصابعها بشرود، قبل أن تقول بصوت فاتر
(مكتوب أن يلحق بوالده كي لا يحيا يتيما).

شعرت المرأة خلف سوار بأنها، على وشك فقد آخر أنفاسها، قبل أن تهمس بتوسل و نحيب صامت بلا دموع، فقد كانت أكثر خوفا حتى من أن تبكي...
(ياللهي)
ثم حاولت الجري الى باب الدار في حركة غبية، غير محسوبة، الا أن سوار استدارت اليها حين شعرت بحركتها، فقالت بصوت حازم آمر ذو سطوة
(توقفي مكانك).

تسمرت المرأة مكانها و هي تنتفض بوضوح و قد تصبب العرق البارد من جبينها، قبل ان تستدير الى سوار مرتعشة، حينها ابتسمت سوار بسخرية و هي تفتح ذراعيها و هي تقول ببرود
(يمكنك تفتيشي كي يطمئن قلبك، فأنا لا أحمل سلاحا)
انحنى حاجبي المرأة بتوسل و هي تنظر الى سوار بذعر، قبل أن تستجمع شجاعتها لتقول بصوت مرتعش مختنق
(ماذا تريدين مني و من أطفالي سيدة سوار؟).

لم تهتز حدقتي سوار و هي تنظر الى الطفل الأسمر الصغير بين ذراعي المرأة، ثم سألتها بهدوء دون أن تجيب سؤالها
(كم طفلا لديك؟)
افلتت شهقة بكاء و ذعر من بين شفتي المرأة و هي تغمض عينيها، فقالت سوار بنفاذ صبر رغم هدوء صوتها
(لماذا تبكين الآن؟، ما فعلت سوى أن سألتك سؤالا بسيطا!)
الا أن المرأة لم تتوقف عن البكاء و الخافت، قبل أن تجيب بصوت مختنق
(أربعة أطفال، أكبرهم في الرابعة عشر، و أصغرهم عوض عمره عام واحد).

نظرت سوار الى عيني الطفل الكحيلتين، ثم سألتها بهدوء آمر دون مقدمات
(أين زوجك؟)
بهت وجه المرأة أكثر حتى بدا كوجوه الأموات، و توقفت دموعها فجأة و كأن منابعها جفت من شدة الخوف قبل أن تسأل بصوت أجوف كالصدى
(لماذا تسألين عنه؟، ماذا تريدين منه؟)
نظرت اليها سوار بثبات لعدة لحظات، قبل أن تجيبها بمنتهى الهدوء
(القصاص)
صرخت المرأة بهلع و هي تضم طفلها الى صدرها بهلع
(ياللهي لاااااااا).

لم تتحرك سوار من مكانها و لم تفقد هدوء نظراتها، ثم قالت بثقة
(لا تخافي، لا أطلب القصاص من اطفالك، في صغرهم أو كبرهم كما كان الثأر و لا زال في قوانين بلدنا، أنا يحكمني الشرع، و القصاص عندي من زوجك فقط، أما أطفالك في أمان)
أغمضت المرأة عينيها بشدة و هي تهتف همسا برعب
(ياللهي، ياللهي، ياللهي)
لكن سوار لم تتعاطف معها و هي ترى حالتها المنهارة...

لماذا تتعاطف معها؟ من تعاطف معها هي حين قتلو سليم، أنقى و اطهر قلب فيهم، و أجبروها على أن تتناسى و تبدأ حياة جديدة، بينما الحريق لا يزال في صدرها حيا...
مرت عدة لحظات قبل أن تفتح المرأة عينيها الحمراوين الدامعتين، لكن الغريب، أن نظرة شراسة كانت تلمع بهما عن بعد، نظرة دفاع عن الحياة، حتى ولو لآخر لحظة...
فقالت بخشونة مختنقة و هي ترتعش و تنتفض.

(لقد انتهى الأمر بالصلح، و تزوجت من السيد ليث، لا يمكنك خرق اتفاق كبار البلد)
لم تهتز حدقتي سوار، و لم تنتفض فيها عضلة واحدة و هي تنظر الى المرأة بهدوء ساخر قبل أن تقول بتأني مهيب
(أتظنين أن امرأة فقدت زوجها و طفلها قبل أن يرى النور، ستحفل كثيرا باتفاق الكبار؟)
اتسعت عينا المرأة بهلع، و تسارع ارتفاع و انخفاض صدرها، الا أنها هتفت بقوة رغم ارتعاش صوتها.

(سأخبرهم، سأخبر الجميع بزيارتك و سيقفون أمامك، لن يسمحوا لك بفتح باب الدم من جديد)
ارتفع حاجب سوار و قالت بهدوء مبتسمة
(سأنكر، ترى من سيصدقون؟ فأنا تزوجت ليث و أتتمت واجبي من هذا الإتفاق عن طيب خاطر)
تأوهت المرأة برعب أكبر الا أنها هتفت مجددا بيأس و في محاولة جديدة.

(لن يرضى السيد ليث بهذا، لن يرضى، هو يرعانا منذ أن غاب فواز، و لم يغفل ليوم واحد عن مطالبنا، لن يأتي الآن و يسمح لك بالإقدام على ما تنوينه)
قست عينا سوار للحظة، و اشتدت شفتاها في خط حاد، الا أنها سرعان ما استعادت قناع هدوءها قبل أن تقول بصوت بارد ناعم كسطح أملس قاسي
(ربما لن يعرف السيد ليث بذلك، يمكنك اخباره و لنرى من سيصدق هو الآخر، زوجته؟ أم زوجة قاتل صديق عمره).

كان صوت تنفس المرأة عال جدا، كمضخة عنيفة، الا أنها لم تتوقف عن التشبث بحياتها حتى آخر رمق، فهتفت مجددا بوحشية
(لن تستطيع امرأة الأخذ بثأرها، لن تستطيعي بمفردك)
اذن أنت لا تعرفين سوار الرافعي جيدا،
هذا هو ما فكرت به سوار، الا أنها لم تنطق به، بل ابتسمت بسخرية ذات ثقة قاتلة، قبل أن ترفع حاجبها و تقول بنعومة
(و من قال لك أنني بمفردي؟).

اتسعت عينا المرأة أكثر و فغرت فمها بحماقة قبل أن تهمس بصوت و كأنها تهذي
(من معك؟)
ازدادت ابتسامة سوار جميلة، ثم قالت بصوت هادىء متمايل و كأنها تخشى أن تشي بسر كبير
(لنقل أن لدي جناح سري، افراده يرفضون الصلح و يطلبون القصاص، لكنهم ينتظرون الفرصة المناسبة...
شهقت المرأة فجأة بنحيب مكتوم و هي تطبق جفنيها بشدة هاتفة من بين بكائها بيأس
(توقفي عن هذا، أرجوك، الا ترين أنك تقتليني بدم بارد).

اختفت ابتسامة سوار و ظهر الوجه الحقيقي لروحها الجامحة دون سخرية أو مكر و هي تقول آمرة بنبرة ذات سطوة
(الى أين هرب زوجك؟)
فتحت المرأة عينيها المتورمتين و نظرت الى سوار بيأس الا أنها هتفت بقساوة
(لا أعلم، حتى و إن كنت أعلم مكانه، ما الذي يجعلك تظنين أنني سأسلم لك عنق زوجي هكذا و بكل بساطة؟)
رفعت سوار وجهها و قالت بثبات و بنبرة قاطعة.

(لأن لدي عرض أخير، قد يكون فيه بعض الأمل لزوجك، لأنه حتى الآن هالك في نظري لا محالة)
تداخلت شهقاتها الخافتة الخائفة، و رفعت كفها لتمسح دموعها بطرف وشاحها قبل أن تهمس بصوت مختنق
(أي عرض؟)
قالت سوار دون مقدمات
(مستعدة للتنازل أنا و من معي عن الثأر حقنا للدماء، على أن يسلم نفسه للشرطة)
فغرت المرأة فمها واسعا، قبل أن تضحك ضحكة عالية عصبية أبعد ما تكون عن المرح، بل كانت صيحة احتضار ساخرة...

ثم هتفت بعدها بجنون
(أي أنك تخيرينه بين الموت بسلاحكم، أو الموت على حبل المشنقة! ماذا سيستفيد اذن؟)
أظلمت عينا سوار بقسوة و هي تقول بصوت جامد
(لن يتم اعدامه، على الأرجح سيقضي وقتا طويلا في السجن)
عادت المرأة لتضحك بأسى و عذاب، ثم قالت باختناق
(أي سيموت بعد وقت طويل في السجن، كوالده تماما، لقد انتظره طويلا، لكن القدر لم يمهله فمات قبل خروجه مباشرة، أي ظلم يجعلك الآن تأمرين له بنفس حياة والده!).

كانت سوار تستمع اليها بصمت صلب، لا يحمل أثرا للتعاطف أو الرحمة، الا أنها كانت مهتمة بمعرفة كل معلومة عن فواز الهلالي، فقالت بصوت ميت
(والده الذي كان صاحب الدم الأخير، قبل الصلح، اليس كذلك؟، ذلك الصلح الذي تزوجت فيه وهدة الهلالي من غانم الرافعي ايقافا لسيل الدم!)
أومأت المرأة بصمت و دموعها تجري على وجنتيها، قبل أن تهمس بصعوبة.

(نعم هو، لقد هرب لفترة، ثم تم القبض عليه و قضي عليه بالسجن المؤبد، و قد تشرد أولاده بعد سجنه، لقد ذاق فواز الأمرين كي يساعد أمه و أسرته، عرف معنى الجوع و الشقاء، لم يهتم أحد بهم و نسوهم تماما بعد ان تم الصلح، فعاش وحيدا لا يعرف معنى الطفولة أو الراحة، حين علم أن والده قد توفي بعد خمسة و عشرين عاما، ظننت أنه لن يهتم، و ربما أرجع ذلك الى تقدم عمر والده، لكنني صدمت بمدى انهياره، و كأن سنوات الشقاء قد تجمعت كلها في لحظة واحدة و تفجرت بداخله كي يستسلم للتعب و الإحساس بالظلم اخيرا).

صمتت أخيرا و هي تنخطر في بكاء خافت متعب، بينما سوار تتابعها بصمت، تستمع اليها باهتمام جامد ميت المشاعر، ثم قالت أخيرا بفتور
(كان يمككني التعاطف معه، لو لم يقدم على قتل زوجي)
خفت صوت سوار في كلمتها الأخيرة، و هي تشعر بغصة مؤلمة مريرة حادة...
التقطتت نفسا عميقا كي تستعيد هدوءها، ثم قالت بنفس النبرة الميتة
(هل كنت تعرفين من هو سليم الرافعي؟).

ظلت المرأة تبكي بصمت و هي توميء برأسها دون كلام، فسألتها سوار بهدوء
(هل سبق و رأيته؟)
أومأت المرأة برأسها مجددا و هي تبكي و تنتحب بصمت، قبل ان تهمس بصوت مختنق
(كان زين شباب عائلة الرافعي، معروف بابتسامته ذات النور الداخلي، تفرح من يراها، البلد كلها كانت تحكي و تتحاكي عن طيب أخلاقه وطهارة روحه)
غطت غلالة من الدموع الباردة حدقتي سوار، رفضت أن تذرفها، لكنها أومأت برأسها و هي تهمس بخفوت.

(نعم، كان كذلك و أكثر، هكذا تتكلمين عنه و أنت انسانة غريبة عنه، فماذا تتوقعين أن يكون شعوري أنا؟، زوجته التي فقدت تلك الروح الطيبة النقية للأبد)
رفعت المرأة وجهها المتورم الى سوار، قبل أن تندفع اليها لترمي نفسها ارضا عند قدميها ممسكة بكفها محاولة تقبيلها و هي تهتف متوسلة.

(أرجوك يا سيدة سوار، أتوسل اليك، أعفي و اغفري، اقنعي من معك أن يتركوا فواز لحاله، الا يكفي أنه سيظل مطاردا طوال عمره! انظري الى حال أطفاله من بعده، انظري الى حالي بعد أن صفا بي الحال وحيدة أنا و كوم اللحم و الأفواه المفتوحة كل ليلة، والله لولا عطف السيد ليث علينا لكنا ذقنا الويل، أرجوك اقنعيهم، الرحمة ارجوك. )
كانت سوار قد نزعت كفها من يد زوجة فواز، ثم تراجعت خطوة لتقول بخفوت.

(و أنا من يقنعني؟، من يقنعني أن أتناسى زوجي و حبيبي؟، من يقنعني أن أنسى طفلي الذي فقدته من شدة حزني على والده؟، تريدين مني الإبقاء على حياة زوجك كي يبقى لك و لأطفاله، بعد ان سلبني زوجي و طفلي! اي عدل و رحمة تلك التي تطلبينها بوقاحة؟)
انخفض وجه المرأة و استمرت في بكائها و هي تضم طفلها الى صدرها بقوة، بينما اتجهت سوار الى باب البيت ببطىء قبل أن تستدير اليها قائلة ببرود.

(بلغي زوجك الرسالة، فليسلم نفسه و حينها فقط سنتنازل عن ارسال من يبحث عنه و يريق دمه)
لم تستطع زوجته الرد، و لم تنتظر سوار الرد من الأساس، بل فتحت باب الدار و خرجت، لتغلقه خلفها بهدوء...
حينها فقط، رفعت وجهها الى الهواء النقي و أغمضت عينيها، تاركة الدموع الحبيسة تنساب على وجنتيها بصمت بعد أن حبستها طويلا...

بينما ارتفع كفها الى قلبها النازف ليرتاح عليه، تربت على ألمها الحي، و لسانها يهمس دون أن يتجاوز الصوت شفتيها
يا حبيبي يا سليم، آه يا حبيبي،
كانت تود الصراخ، تتمناه، حتى ينضب الألم مع آخر أنفاسها مرافقة لآخر صرخة، علها ترتاح أخيرا...
مرت بضعة لحظات كانت تحاول خلالها أن تتعامل مع ألمها كي تستطيع متابعة طريقها، ثم فتحت عينيها أخيرا و هي تاخذ نفسا عميقا، تغطي وجهها بطرف وشاحها باحكام...

لكن و ما أن خطت خطوة تبتعد عن باب دار فواز الهلالي حتى أجفلها صهيل فرس قريب منها، رفعت سوار وجهها و هي تظلل عينيها من أشعة الشمس حي تتحقق ممن يقف أمامها، حينها فقط تسمرت وهي ترى ليث أمامها على ظهر جواده، ينظر اليها بعينين غامضتين، تحملان مشاعرا غريبة متناقضة، بالتأكيد الغضب احداها...
همست سوار بصوت متداعي
(ليث!).

لم يرد عليها ليث على الفور، بل ظل مكانه ينظر اليها بصمت و خيبة أمل قبل أن ينزل عن ظهر فرسه ليقترب منها ببطىء ممسكا بلجام الفرس. الى أن وصل اليها ووقف أمامها فارتبكت نظراتها للحظة، الا انه قال بصوت خافت له نبرة غريبة
(ماذا تفعلين هنا؟، )
رفعت جفنيها تنظر الى عينيه، ثم قالت بثبات، رغم سرعة نبضات قلبها
(هل تراقبني يا ليث؟).

رأت عضلة في فكه تشتد و تضطرب و كأنه يحاول السيطرة على انفعالاته، ثم قال أخيرا بنفس النبرة الخافتة الآمرة
(سألتك سؤالا و أريد جوابا في الحال)
ظلت سوار تنظر اليه مرفوعة الرأس بصمت دون أن ترمش بحدقتيها و كأنها تواجهه بهما فهما سلاحها الوحيد في تلك اللحظة، الى ان قالت أخيرا بصوت هادىء
(أتيت أتفقد الأسرة التي ترعاها، ربما احتاجوا شيئا).

أظلمت عينا ليث، و تعمقت بشكل مقلق، الا أنه شد من ظهره و سوى كتفيه ليقول بصوت خافت شديد النبرة
(لن نتابع حديثنا هنا يا حرمي، هيا، تعالي معي)
قالت سوار بنبرة متوترة قليلا...
(رجاءا لا تشغل نفسك بي، تابع طريقك و أنا سأذهب الى عبد الكريم، انه ينتظرني اول الطريق)
رفعت حاجبها، و قالت عن قصد
(هذا ان كنت متجها الى مكان معين من الأساس، أم أنك خرجت خصيصا كي تراقبني فقط؟).

زم ليث شفتيه بقسوة، الا أنه لم يفقد أعصابه، بل قال من بين أسنانه
(لقد صرفت عبد الكريم، و أخبرته أنني سأقلك للبيت بنفسي)
لمعت عينا سوار ببريق رافض لهذه السيطرة، الا أنها قالت بحدة
(من المفترض أن أذهب لزيارة جدي، هل غيرت رأيك و تراجعت عن الكرم الصباحي؟)
مالت شفتي ليث بسخرية قاسية، الا أنه قال ببرود و بصوت بدأ يرتجف من شدة الغضب الذي يشعر به في تلك اللحظة.

(نعم، نعم كان من المفترض أن تذهبي لزيارة جدك كما أخبرتني اليوم صباحا، لا أن تأتين الى هنا تحديدا، و نعم لقد غيرت رأيي و تراجعت عن كرمي الصباحي، و الآن تقدمي أمامي)
كانت سوار على وشك الرفض بتمرد و هي غير قابلة بتلك المعاملة، الا أنها آثرت عدم التمادي، فنظرت اليه بثبات و قالت آمرة
(حسنا امتطي فرسك و أنا سأسير على قدمي حتى البيت).

لم يبدو على ليث أنه قد سمعها من الأساس وهو يتقدم خطوة اليها ليلتقط كفها يسحبها خلفه بهدوء قبل أن تشعر بكفيه على خصرها ثابتتين قويتين و دافئتين، فرفعت وجهها اليه و هي تقول بذهول
(ما الذي تفعله؟)
الا أن سؤالها تطاير في الهواء، و هي تشعر بقدميها ترتفعان عن الأرض فجأة، و قوة ما تحملها لأعلى الى أن حطت على ظهر الفرس فنظرت حولها بذهول، قبل أن تعيد عينيها الغاضبتين الى عيني ليث و قالت بذهول.

(أنزلني يا ليث، ما الذي تفعله؟)
الا أنه لم يرد عليها، بل تحرك فجأة، و شعرت بضغطة على الحصان، قبل أن تراه يرتفع، ليمتطيه جالسا خلفها، اتسعت عينا سوار و التفتت اليه و هي تقول بقلق
(انزل يا ليث، أو أنزلني، لا يمكننا الذهاب الى الدار بهذا الشكل أمام أهل البلد، سنصبح حكاية يتناقلونها)
أمسك ليث باللجام من حولها و بدأ يحث الفرس على التحرك، ثم قال ببرود قاسي.

(كان عليك الإهتمام بهذا قبل تهورك في المجيء الى هنا)
قالت سوار بحدة
(لم يعرفني أحد و أنا أغطي وجههي، لكن الآن الجميع تعرفوا إلى و أنت تجلس خلفي على ظهر الفرس بما لا يدع الشك لأي بشر، أنزلني يا ليث، سأعود للدار بنفسي)
الا أن ليث همس في أذنها بصوت أجش
(تشبثي باللجام جيدا، فأنا لدي ما أريد قوله لك، و لن يكون هذا في الدار)
قالت سوار برفض و توتر
(لا، لن أذهب الى أي مكان بهذا الشكل، أنزلني يا ليث).

لكنه بالفعل كان قد انطلق بالفرس، فتشبثت بلجامها بقوة و هي تشعر بنفسها تطير على بساط من الأساطير...
كان يجري بها و هي أمامه، شاعرة بدفء صدره على ظهرها رغم برودة النسيم الملامس لوجهها...
ذراعاه تحيطان بها، تحتضانها و تبقيانها ملاصقة له، و كأنه ينوي الهرب بها من هذا العالم الى عالم لهما وحدهما، لا يشاركهما به مخلوق...

الا أن الواقع كان يصر على اقتحام تلك اللحظة، فكلما فتفحت عينيها، رأت بعضا من سكان البلدة ينظرون اليهما بذهول كلما مرا بمجموعة منهم، و أصواتهم تصل الى أذنيها في لحظة خاطفة...
ليث الهلالي و زوجته، ليث الهلالي و زوجته، أهذه هي ابنة الرافعية؟،
أغمضت سوار عينيها أمام الأنظار الفضولية لمن ينظران اليهما، و صمت أذنيها عن هتافهم، فقد شعرت في قرارة نفسها برغبة في الإستمتاع بتلك اللحظات المسروقة من الزمن...

مرت بهما الدقائق وهو يجري بها فوق الطريق الرملية الضيقة، الى أن وصل الى جرف واسع، خال من البشر، يطل على منحنى، يرى الأراضي الممتدة و النخيل الزاهية، و الجبل الشامخ من بعيد...
حينها فقط فتحت سوار عينيها لتنظر الى المكان من حولها و هي تشعر بليث يتوقف بالفرس، قبل أن يقفز من فوقه، ثم انحنى ليثبت لجامه جيدا قبل أن يبتعد الى حافة الجرف...

راقبته سوار وهو يقف على حافته، يديه في خصره وهو يوليها ظهره ناظرا الى الأراضي المنخفضة و الممتدة أمامه...
لطالما عشق سحر هذه الأرض، هذا هو ما أخبرها به لسنوات طويلة وهو يدربها على حمل السلاح...
لأجل هذه الأرض يا سوار خسر رجال أرواحهم، و ارتوى ترابها بدمهم و عرقهم، خسائرها قد تكون كثيرة و مؤلمة، الا أن خيرها أكثر، منذ أجيال و أجيال،.

لا تزال كل كلمة كان يتفوه بها ترن في أذنيها كلحن قديم، فقد كان كلامه بالنسبة اليها كتاب جميل، تتفنن في قرائته و التهام كلماته بجذل...
قفزت سوار من على ظهر الفرس، ثم تحركت اليه عدة خطوات الى ان وقفت خلفه، تتأمل كتفيه المثقلتين بالهموم، ثم قالت أخيرا بهدوء و بصوت خافت و كأنها خافت من أن توتر السكون المهيب من حولهما
(ها نحن قد أتينا الى المكان الذي أردته، لما أنت صامت الآن؟).

ساد الصمت لعدة لحظات، قبل أن يقول ليث بصوت أجش خافت...
(كنت أتذكر تلك الأيام التي علمتك فيها حمل السلاح)
ابتسمت سوار رغما عنها ابتسامة صغيرة، الا أنها قالت بثبات
(كانت أياما جميلة، كنت معلمي الأول في كل شيء تقريبا)
قال ليث بصوت أجوف بعيد
(ليت هذا كان حقيقة، لو كنت معلمك في كل شيء، لما كنت الآن تبحثين عن الدم معمية البصيرة)
اجفلت سوار و تراجعت خطوة و هي تنظر اليه، تتحقق مما سمعته للتو، فقالت بتوتر.

(ماذا تقصد؟)
اندفع ليث يستدير اليها، ليمسك بكتفيها فجأة يهزها حتى ارتمى رأسها للخلف ووقع الغطاء عن وجهها، فتجلت ملامحها البهية أمام عينيه الغاضبتين، العاشقتين...
بعينيها الواسعتين كبحرين من العسل الصافي، الا أن كل جمالها لم يفلح في تهدئة غضبه، بل في الواقع زاده، زاده وهو يشعر بأنه قد يخسر هذا الجمال، الذي لا يعادل ذرة من جمال روحها بكل عنفوانها و أصالتها...

تأوه في داخله خوفا، نعم خوفا، و قد تكون المرة الأولى التي شعر فيها بالخوف، الخوف من فقد أغلى من يملك بعد سكن اليه، و بات بين يديه أخيرا،
خوفه من فقدها قديما، لا يقارن بخوفه الآن،
رغم سنوات عمره التي تقارب الأربعين، الا ان خوفه بات أقوى و أفظع، سيموت قلبه لو خسرها مجددا
والله لن يسمح بهذا، حتى لو حاربها بكل قوته...
هدر بها فجأة بصوت صادم، لفح وجهها بنفس ساخن...
(كيف تتخيلين أن تركك؟، كيف؟).

رمشت سوار بعينيها أمام صوته الجهوري الذي بدا و كأنه يخترق كيانها كله، فقالت بخفوت متردد
(لا، لا أفهم، أنا فقط كنت أطمئن على)
هدر بها ليث مجددا وهو يهزها بقوة
(كاذبة، كاذبة و غبية، لم أعهدك غبية يا سوار، قبل)
حاولت سوار الكلام، الا أن صوتها اختنق في حلقها تماما...
حاولت و حاولت، لكن الكلمات لم تغادر شفتيها، و بقت عيناها تنظران الى عينيه الغاضبتين بعذاب مضني...

زفر ليث نفسا مشتعلا لامس وجهها وهو يتابع بهمس أجش، من أعماق صدره وهو يشدد من قبضتيه على كفيها
(غبية حين تظنين أنني لا أستطيع قراءة ما تفكرين به، مسطورا في عينيك الشفافتين، غبية جدا، حين تتخيلين أنني لم ألحظ شرارات الإنتقام و هي تبرق في عينيك كلما سمعت كلمة بالصدفة تخص فواز الهلالي)
صرخت سوار فجأة و دون أن تستطيع منع نفسها
(اسمه قصاص، و ليس انتقام).

تسمر ليث مكانه بعد أن أجفلته صرختها المعترفة للمرة الأولى، فظل ينظر اليها فاغر الفم لعدة لحظات و كأنه كان لا يزال يمتلك بعض الأمل في أن تنكر، و حينها كان سيحاول تصديقها...
سيخدع نفسه، كي يطمئن قلبه الخائف...
تركها ليث فجأة وهو يستدير عنها هاتفا بقوة
(يا الله!)
ظلت سوار تنظر الى ظهره لاهثة و هي لا تصدق أنها قد اعترفت أمامه الآن في لحظة جنون، و اعترافها هذا في حد ذاته كفيلا بأن يفسد كل شيء...

فعلا غبية كما قال...
أغمضت سوار عينيها و أطرقت برأسها و هي تحاول تهدئة نفسها و مشاعرها المضطربة...
واقفة خلفه و عبائتها السوداء الحريرية تتطاير قليلا، بينما الأرض ممتدة أمامهما، تغرقهما بسحرها...
الا أن سحرها في تلك اللحظة تحديدا بدا سحرا حزينا، لا يعد بالكثير...
رفعت سوار وجهها و نظرت اليه مجددا، ثم قالت بهدوء
(نعم القصاص يا ليث، فيما أجرمت حين طلبته؟)
رفع ليث رأسه الى السماء وهو يهدر عاليا
(يالله).

نظرت اليه سوار بحزن، و هي تراه خارجا عن حدود سيطرته للمرة الأولى، كمن ينازع شيئا أكبر منه...
فقالت بخفوت
(نصحتك الا تتورط معي، لقد أغلقت حياتي أبوابها من بعد موت سليم رحمه الله)
أغمض ليث عينيه وهو يحاول الصمود امام قسوة كلماتها، الا أنها تابعت تقول بخفوت و هي تقترب منه قائلة.

(ليتني وافقت على الزواج منك يا ليث يوم طلبته مني منذ سنوات طويلة، لكنه قدر و مكتوب، حتى لو وافقت لما وافق جدي، نحن مسيرون في هذه الحياة، لا مخيرون)
صمتت للحظة و هي تطرق بوجهها تتلاعب بقدمها بين الحصوات و الرمال الترابية، ترسم خطوطا مستقيمة، ثم تابعت همسا.

(أنت رجل رائع، تستحق من هي أفضل مني، أما أنا فلم أستطع يوما التأقلم سوى مع سليم رحمه الله، كان يفهمني، يدرك ما أريد دون أن أنطق، ضحى من أجلي بأشياء أنت لا تعرفها، مهما بلغت صداقتك بسليم، الا أنك لم تعرفه كما عرفته أنا، لقد منحني كل شيء يمكنك أن تتخيله دون شرط أو قيد، كان على أن أعرف أن انسان مثله، لا يناسب هذه الدنيا بقتامة لونها، كان أنقى منها، كان انسانا غريبا، لم و لن أعرف مثله).

تأوه ليث بصوت خافت، قبل أن يهمس من بين أسنانه بصوت رجل يتعذب
(كفى، كفاك قسوة يا ذات القلب الحجري)
نظرت اليه بحزن ثم قالت بخفوت
(هل تغار يا ليث؟، أعرف أنني أؤلمك، لكنك تفكر و تشعر كرجل عاشق، يحب و يغار، أما أنا فلا، أنا لا أشعر الا كامرأة فقدت الانسان الذي وقف بجوارها و منحها اكثر من اي شخص اخر في هذه الحياة)
اطرقت بوجهها و هي تلتقط انفاسها المتحشرجة المختنقة، ثم همست ناظرة الى الأرض باختناق.

(من المفترض بي الآن، أنا أحيا كعروس سعيدة، تبدل لك الأثواب الحريرية و تضع الزينة، متناسية الزوج الراحل بكل نقاء روحه و جمالها، بعد كان حل دمه، بصفقة زواج، و هرب الجاني فلم يحاول احدا حتى البحث عنه)
صمتت للحظة، ثم رفعت وجهها و صرخت عاليا
(أتظنونني حجرا؟).

لم يرد ليث، و لم يستدير اليها، فلم تتبين ملامحه، الا أنها كانت تدرك بأن ما ستراه لن يعجبها، و سيؤلمها، لذا كانت ممتنة انه ظل يوليها ظهره، رافضا النظر اليها...
كانت تلهث بصعوبة و هي تنظر الى الأرض الممتدة من فوق كتفه، ثم تابعت بصوت مختنق
(أصعب شيء في هذه الحياة، أن يسلبوك ما تملك، ثم يجبروك على تقبل ما يملونه هم كبديل).

ساد صمت قاتم بينهما، لم يسمع به سوى صوت الريح الخافتة، قبل أن يستدير ليث اليها ببطىء...
كانت مطرقة الرأس تنظر الى الأرض، لكن كل ذرة في جسدها أخبرتها أنه واجهها...
عيناه بدت كسلاح ضوئي حارق، فلم تتجرأ على رفع وجهها اليه،
تكلم ليث أخيرا، قائلا بصوت غريب، لا يشبه صوته
(بديل يا سوار؟)
أغمضت عينيها بألم و رفعت كفها دون أن تشعر لتضعها على صدرها، ثم همست بألم.

(العيب مني أنا، ليس منك، الصفقة التي وضعوني بها جعلتك بديلا و جعلت مني قربانا، آسفة، إن كنت تتألم قيراطا، فأنا أتألم أفدنة تجري فيها الخيول دون أن تدرك مداها)
صمت ليث للحظة قبل أن يقول بصوت واه
(غبية، غبية حين لا تدركين مبلغ ألمي)
رفعت سوار وجهها اليه فواجت عينيه، صدمتها النظرة الغريبة فيهما، ففغرت شفتيها قليلا مذهولة من عمق الألم في عمقهما...
تابع ليث بصوت خافت مجهد.

(ربما كنت بديلا في حياتك يا سوار، الا أنك كنت بالنسبة لي الحياة، و ما سواك بدائل واهية، لم يفلح أي منها)
التقطت سوار أنفاسها و هي تنظر اليه بحسرة ثم همست بعذاب
(ليس بيدي، ليته كان بيدي)
هدر بها ليث بقوة
(بل هو بيدك، بيدك يا سوار لو منحتني الفرصة لأجذبك الى حياتنا معا، فقط فلتتركي الماضي)
صرخت سوار به و هي تلوح بكفيها
(لا أريد، لا أريد ترك الماضي، لا أريد رمي ذكرى سليم من قلبي، كان أكبر من أن أنساه).

هتف بها ليث بعذاب يماثل عذابها
(و أنا لم أطلب منك نسيانه، لكن على الأقل لا تلقي بذكراه في وجههي يا ذات الروح الصخرية)
صرخت سوار بألم
(تلك الروح لم تتحول صخرا الا على أيديكم جميعا، و أنت أولهم)
تراجع رأسه للخلف قليلا قبل أن يقول بخفوت
(صرت أنا أول من آذوك!)
أومأت سوار برأسها دامعة العينين ترفض البكاء، ثم همست بعذاب و بنبرة شرسة.

(نعم أنت يا ليث، أنت، من تتعمد هزيمة حصوني كلها، أنت من اخترقت جسدي و عقلي و لا تكتفي بهذا بل تحاول جاهدا نيل قلبي، أنت من)
أطرقت بوجهها و هي تنظر بعيدا، بينما كان ليث ينظر اليها بصمت، لا تعبير على وجهه سوى الألم الذي يحفر نظراته، ثم قال اخيرا بهدوء خافت
(تابعي، أنا ماذا بعد؟)
استدارت اليه بعنف و هي تشير باصبعها و كأنها تشير الى دار فواز الهلالي.

(أنت تساعد أسرته، تتولاهم و تعتني بهم، بينما أنا فقدت زوجي و طفلي)
صمتت للحظة تلتقط نفسا مختنقا قبل أن تصرخ و كأنها تكلم نفسها
(أعلم، أعلم، أن لا ذنب لهم، و لا عائل بعد هروب فواز، و لا يمكنني لومك ولو للحظة)
عادت لتصمت، ثم نظرت اليه و هتفت بيأس و هي تشير الى قلبها باصبع مرتعش.

(الا أنني أشعر بالغضب منك و لا أملك أن أمنع هذا الشعور، بداخلي بعض الشر و الحقد لا أستطيع السيطرة عليه، الأمر خارج عن ارادتي، لذا أنا غاضبة منك و بشدة)
كانت تصرخ كلماتها الأخيرة، و هي تضرب الأرض بقدميها، و دون أن تدرك ما تقوم به كانت قد انحنت و التقطت حصاة من الأرض ثم استقامت و قذفتها به دون تفكير!
لم يتحرك ليث من مكانه بعد أن ضربت الحصاة صدره القوي ثم سقطت أرضا بصوت خافت...

أما سوار فوقفت تنظر الى ما فعلت بذهول و كأنها قد استعادت وعيها فجأة...
فاغرة شفتيها لا تصدق أنها قد تصرفت هكذا للتو، بينما وقف ليث أمامها بثبات كتمثال حجري قوي...
همست بصوت غريب ميت
(آسفة، لقد بالغت قليلا)
انسابت دمعة خائنة من عينها فمسحتها بقسوة ثم استدارت عنه كي لا يراها...

ساد الصمت لعدة لحظات، لم يرد عليها ليث، الى ان سمعت وقع خطواته على الحصوات من خلفها، الى ان شعرت بدفئه وهو يضمها إلى صدره برفق دون ان يديرها اليه و كأنه يمنحها خصوصية الدموع و التي يعرف جيدا أنها تعد هزيمة لسوار الرافعي في حال رآها أحد تبكي، حتى هو...

تصلب جسد سوار لعدة لحظات الا أنها عادت و ارخته متعبة من سيل المشاعر التي مرت بها خلال هذا النهار، أطبق ليث ذراعيه من حولها بقوة حتى بات هروبها منه مستحيلا...
فأطرقت وجهها و هي تبكي بخفوت، كانت المرة الأولى التي تبكي فيها بحرية تماما أمامه دون أن تحاول المقاومة، همس ليث أخيرا في أذنها
(أعرف، اعرف أنك غاضبة مني، والله اعرف، لكن ماذا بيدي سوى الا أكون كما تمنيت).

ظلت سوار تبكي دون صوت، بينما تابع هامسا بصوت أجش متألم...
(تقبلتك بكل ما تؤلميني به، الا يمكنك أن تتقبليني بكل ما لم تتمنيه في؟)
شهقت سوار بنفس صلب و هي تحاول السيطرة على بكائها فرفعت وجهها تنظر الى البعيد، ثم قالت بخفوت جامد...
(لا أستطيع، زواجنا لن يفلح يا ليث، و هذا ما حاولت افهامك اياه)
استدارت ببطىء حتى واجهته، بين ذراعيه و رفعت وجهها المحمر تنظر اليه بحزن قائلة بنفس النبرة الباهتة...

(أنت تريد الحب و الحياة و الأطفال، تريد كل جميل، أما أنا، فلا أريد سوى القصاص، الدم، و حين يحل الليل لا تبارحني ذكرى سليم رحمه الله، ذكراه خيانة لك، و نسيانه خيانة له، لذا فزواجنا لن يفلح)
رفع ليث كفيه فجأة يطبق على جانبيه وجهها بقوة وهو يرفعه اليه، و استمر في النظر الى عينيها
ثم قال مشددا من بين أسنانه كي تستوعب كل حرف ولو تطلبه ذلك العمر كله.

(زواجنا سيفلح لآخر يوم في عمري، يوم يومان، شهر، سنوات، سيفلح خلالها، و أنا لن أسمح لك بافساده مطلقا، سأمنعك و أحاربك، و بكل قسوة لو تطلب الأمر، لن تقتلي يا غبية، لن تضيعي مني للمرة الثانية، خلف القضبان، ستبقين زوجتي و تحملين أطفالي)
صرخت سوار بعنفوان و غضب و عيناها تلمعان بشدة من تحت الدموع
(سيحدث، حتى لو منعتموني كلكم، سآخذ بقصاص زوجي).

ساد الصمت بينهما و تراجع رأس ليث للخلف قليلا بينما تصلبت ملامحه بشدة، أما سوار فقد أخفضت وجهها و هي تعدل من كلامها بصوت خافت
(قصاص سليم رحمه الله)
رفع ليث ذقنه بكفه فاسبلت جفنيها رافضة النظر اليه...
(لو اقتضى الأمر سأساعده على الهرب اذن)
عندئذ ارتفع جفناها و اتسعت عيناها بذهول و هي تقول بصوت خافت
(ألهذه الدرجة أنت أناني؟)
لم تهتز عضلة في وجه ليث وهو يقول بكل شدة و دون تردد
(و لأقصى درجة).

تلوت سوار من بين ذراعيهحتى تحررت منه و تراجعت للخلف و هي تنظر اليه مرفوعة الرأس، ثم قالت بصوت ذو بأس و دون روح
(أرجوك عد الى الدار و سألحق بك، أريد البقاء وحدي قليلا)
هز ليث رأسه رفضا بثبات وهو يقول بصوت صارم قوي
(بل ستعودين معي، و لن أغلف عنك منذ اليوم، حتى لو اقتضى الأمر أن تسكني مع ميسرة في دار واحد).

اتسعت عيناها أكثر و أكثر بذهول و كأنها لم تستوعب بعد هذه السطوة التي يظهرها حين يقتضي الأمر، فقالت بصوت خافت غير مصدق
(لن تفعل)
ابتسم ليث بسخرية لا تعرف المرح أو المزاح وهو يقول بصلابة
(أنت طلبت ذلك بنفسك، و أنا لن أسمح بالمجازفة)
تركها ليذهب الى الفرس، فنحنى ليفك رباطه قبل أن يستقيم و ينظر اليها قائلا بصوت آمر...
(تعالي)
الا أن سوار بقت مكانها و هي تنظر اليه بصدمة، ثم قالت أخيرا بصوت أشد صلابة.

(لن أركب أمامك على الفرس في مثل هذا المشهد العلني المثير للشقفة مجددا، والله لن أفعل، و لنرى كيف يمكنك أن تسقط قسمي)
ظل ليث واقفا مكانه ينظر اليها بملامح باردة، ثم قال أخيرا بهدوء قاطع
(اذن سنعود سيرا على الأقدام، المسافة طويلة و ستتورم قدماك، لكنك تستحقين هذا، هيا)
زمت سوار شفتيها و رفعت طرف عبائتها بعنف قبل أن تبدأ الطريق تتجاوزه مرفوعة الرأس، الا أن ليث سار بجوارها خطوتين قبل أن يقول بصوت آمر...

(غطي وجهك).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة