قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والثلاثون

لاح دارهما من بعيد...
بعد صمت دام لحوالي عشرين دقيقة، كلا منهما يفكر في عالم آخر...
حرب شعواء صامتة تدور بينهما، حرب العشق و الدم...
سيطرة كل منهما على حافة الإنهيار، و ما يفصل بينهما أكثر مما جمعهما، على الأقل بالنسبة لها، بينما هو يأبى الإعتراف...
تعثرت سوار في حجر ناتىء، فسارع ليث لإسنادها حتى وقفت تماما، فقال لها بصوت خافت أجش
(هل أنت بخير؟).

رفعت اليها وجهها المخفي، لا يظهر منه سوى عيناها، الا أنه و على الرغم من ذلك بدا احمرار الإرهاق باديا عليها، خاصة بعد الإنفعال الذي عاشته...
عيناها العسليتان تسبحان في احمرار خجول خلفه بكائها السابق، لم يعلم وقتها هل يشعر بالشفقة عليها أم يرى السحر في اندماج لون العسل بالإحمرار الذائب فيهما...
أجابت سوار بصوت فاتر خافت
(أنا بخير، أستطيع السير أميالا)
تركها ليث ببطىء ثم قال بنفس الفتور...

(لا تكابري، المسافة كانت طويلة جدا، أستطيع حملك حتى الدار، لن يرانا أحد، فبدئا من هنا يعتبر هذا طريقا خاصا في أرضي)
رفعت سوار وجهها و قالت بقوة
(لا أريد أن تحملني مجددا، لا صباحا او مساءا، و لا في أي وقت، أستطيع السير بكفاءة)
اندفع ذراعه ليحيط بخصرها فجأة قبل أن يجذبها اليه، ثم انحنى برأسه ليهمس في أذنها بصوت أجش
(سأحملك كما أريد، وقتما أريد، لن يوقفني سوى التقدم في العمر، لو كتب الله لي).

قاومته سوار بقوة و عنف حتى أبعدت ذراعه ثم قالت ببرود
(كفى هراءا)
ثم سارت أمامه بصلابة و كبرياء، الا أن ساقاها كانتا تترنحان تحتها بارهاق، راقبها ليث واقفا عدة لحظات بعينين عميقتين، عنيفتي المشاعر بينما صدره يموج بالقلق و المخاوف...
لكنه زفر بخفوت ثم تبعها ببطىء ساحبا الفرس خلفه...

وصلا الى الدار اخيرا، فسارعت سوار لاهثة تصعد السلالم القصيرة أمامها و هي تتمنى لو تغمر قدميها في الماء الساخن ثم تأخذ حماما، تريح به جسدها المرهق و ذهنها المشتت...
لكن ما ان دقت جرس الباب، حتى سارعت ام مبروك الى فتحه و كأنها كانت تقف خلفه مباشرة...
عقدت سوار حاجبيها و هي تنظر الى ملامح ام مبروك...
كانت المرأة تنظر الى سوار بهلع، صامتة فاغرة فمها دون ان تنطق، فقالت سوار بعد عدة لحظات.

(ماذا بك يا أم مبروك؟، هل أنت مريضة؟)
ابتلعت أم مبروك ريقها و هي تهز رأسها نفيا دون أن تجيب، و دون أن تختفي ملامح هلعها، فازداد انعقاد حاجبي سوار و هي تراقبها بارتياب، ثم قالت بهدوء مرهق
(اذن، هلا فتحت الباب قليلا كي أمر؟)
كان ليث قد سلم الفرس الى احد العاملين بالاسطبل و لحق بها، فصعد كل درجتين معا الى ان وصل بجوارها ينقل عينيه بينهما في وقفتهما الغريبة. ثم قال بصوت أجش
(ما الأمر؟).

انتفضت أم مبروك من صوت ليث على الرغم من هدوءه، ثم قالت بصوت متعثر متردد
(جاء ضيوف لزيارتك سيد ليث، اثنان من أعمامك و أحد كبار البلد، هما في المضيفة ينتظرونك)
ارتفع حاجبي ليث قليلا حائرا من تلك الزيارة الصباحية المبكرة، فهو لم يكد يصل من سفره سوى منذ بضعة ساعات، الا أنه قال بهدوء
(حسنا أنا داخل اليهما مباشرة).

لكن أم مبروك ظلت على حالها ممسكة الباب و تقف في شقه بملامحها الشاحبة الغريبة، فعقد ليث حاجبيه وهو يقول
(ابتعدي قليلا يا أم مبروك)
راقبتها سوار بعدم ارتياح، بينما انعقد حاجبي ليث، الى ان استجابت أم مبروك أخيرا و ابعدت الباب باستسلام و هي تزفر بصوت مرتجف...
نظر ليث الى سوار ثم مد يده يقول بخفوت فاتر
(تفضلي).

التقت نظراتهما للحظة، قبل أن تشيح بوجهها عنه، ثم استدارت لتدخل البيت، بينما لحقها ليث متجها الى المضيفة من فوره...
كانت سوار على وشك الصعود الى غرفتها، الا أنها شعرت بالعطش الشديد فاتجهت الى المطبخ أولا...
لكن ما أن دخلته حتى توقفت مكانها على منظر نسيم...
كانت واقفة في احد الأركان شاحبة الوجه، تبدو مذعورة و هي تضرب وجنتيها ببطىء...

الآن تأكدت سوار من أن في الأمر سوءا، خاصة بعد أن دخلت أم مبروك وجلست على احدى كراسي المطبخ و هي ترفع كفيها الى قمة رأسها هامسة
(الستر يا رب، الستر يا رب)
نقلت سوار عينيها بينهما قبل أن تقول بصوت خافت، هامس
(من مات؟)
الا أن أيا منهما لم تجبها، بل تجنبا النظر اليها، أما نسيم فشعرت فجأة أن قدماها أصبحتا غير قادرتين على حملها، فانحنت حتى وقعت جالسة أرضا و هي لا تزال تضرب وجنتيها ببطىء...

عيناها واسعتان بهلع، و كأنها على وشك التقدم للإعدام...
التفتت سوار تنظر الى حيث باب المضيفة المغلق البعيد، ثم ودون ان تدري استدارت و جرت اليه و عبائتها ترفل خلفها...
أما نسيم، فظلت تضرب وجنتيها و هي تهمس دون صوت بفزع
(ما اللذي فعلته بنفسي! سيعرف السيد ليث بما نقلته، و حينها سيدفنني دون أن يعرف أحد عني شيئا، لقد كتبت نهايتي بيدي، كتبت نهايتي بيدي).

وصلت سوار الى باب المضيفة المغلق، الا أنها و قبل أن تصله تماما و على بعد خطوتين، انتفضت متسمرة مكانها على صرخة ليث بعنف ووحشية
(ما تقولانه تطير له الرقاب، و من يتجرأ على مس سمعة زوجتي فليواجهنا لأقطع من لحمه و انتزع قلبه بقبضتي)
ارتجفت سوار بعنف و هي تسمع تلك الصرخة المتوحشة و التي لم تسمع كنبرتها من ليث سابقا ابدا...

فغرت سوار شفتيها المرتعشتين بذهول، قبل أن تجر قدميها جرا حتى التصقت بالباب مرهفة السمع...
لكنها لم تكن في حاجة الى ذلك، فصوت عمه كان يماثل صوت ليث وحشية وهو يهدر قائلا.

(تمزق من؟ أو من؟، البلد كلها تتكلم عن سمعة زوجتك التي أصبحت في الوحل، و علاقتها المحرمة بابن عمها، لقد ضبتها عائلتها معه بعد أن فرا سويا في احدى الليالي، و عوضا عن تطهير شرفهم بدمها، قاموا ببالإسراع في تزويجها لك و نحن من كنا نتسائل عن السبب، لكن أنت، أنت، كيف كنت بمثل هذا الغباء و العته، فلم تشم الرائحة القذرة في رغبتهم في التعجيل من الزواج؟، هل أنت فتى غر أم تنقصك الخبرة؟).

ضربت سوار وجنتيها برعب، بينما قفزت من مكانها على صوت صرخة اخرى من ليث وهو يهدر بجنون
(قسما بالله لو لم تكن عمي، لأطبقت على عنقك بقبضتي حتى أزهقت روحك)
هدر عمه هو الآخر بذهول
(تأدب يا عديم النخوة)
حينها بدأت جلبة و أصوات، ثم سمعت سوار صوت عمه الآخر يهتف بعنف
(اترك عمك يا ليث، أترك عمك، هل جننت؟)
صرخ ليث وهو في حالة عقلية غير سليمة
(يخوض في عرضي و شرفي و تريد مني أن أحترم القرابة؟)
صرخ عمه يقول بغضب.

(ليس وحده يا ليث، البلد كلها في الجانب الشرقي منها لا قصة لديهم سوى قصة ضبط زوجتك مع)
صمت فجأة وهو يهتف مختنقا...
(اتركني يا ليث، اتركني يا ولد ستخنقني)
أما عمه الآخر فصرخ هادرا
(هل أخبرتك أنها حامل؟، طبعا و أنت كال)
لم يستطع المتابعة، فقد تأوه فجأة على صوت لكمة سمعتها سوار بوضوح، مما جعلها تشهق بصوت عال و هي تلطم نفسها بعنف...
اما عمه فصرخ بجنون
(هل تضرب عمك يا مجنون، أتركه، أتركه).

الا أن ليث هدر قائلا دون رحمه
(فليحمد الله أنني لم أقتله)
هنا تكلم رجل ثالث، هو أحد الكبار على ما يبدو، فقال هاتفا بقوة كي يسمعه الجميع...

(اسمعني يا ليث، قبل أن تزيد من جنونك أكثر، لو كانت زوجتك قد ارتكبت خطيئة أثناء زواجك منها، لكان أعمامك الزموك الآن بدمها، لكن و بما أنها فعلت ما فعلت قبل زواجكما، و قامت بخداعك هي و أسرتها فأكبر عقاب لهم هو أن تعود الى بيت عائلتها ليعرف الجميع بما أقدمت عليه عائلة الرافعي، و سيعيشون في ذل الى الأبد)
همست سوار و هي تكاد أن تسقط أرضا
(ياللهي! ياللهي!)
الا ن صرخة ليث المذهولة دوت في أرجاء الدار بجنون.

(هل أنت مجنون؟، الا تتقون الله فيما تدعون؟ أين شهودكم؟، أين أدلتكم قبل أن تقومو بقصف زوجتي، سوار ابنة وهدة الهلالي، هل هي غريبة عنكم أم أنكم نسيتم من تكون؟)
قال عمه الآخر بعنف
(لم ننسى، لكن على مايبدو أن أشيائا كثيرة قد تغيرت على مدى السنوات)
صرخ ليث بنفس الصوت المتوحش.

(اخرجوا، اخرجوا جميعا من داري، و حين تعلمون أي ذنب اقترفتم، تعالوا و ابكوا بندم على خوضكم في عرض ابنتكم، دون بينة أو برهان، أقسم بالله لن أسامحكم على عدم ردكم لغيبتي، بل و مساندة من كان السبب في نشر تلك الشائعة)
قال الرجل الثالث بتوتر و قد بدأوا يستشعرون تسرعهم و جريهم خلف الشائعة التي انتشرت دون دليل.

(اسمع يا ليث، الضرر قد حدث و انتهى الأمر، و أنت لن تستطيع العيش مرفوع الرأس مجددا في البلد وهي لا تزال على ذمتك، طلقها يا ولدي و أعدها الى بيت أهلها. )
صرخ ليث بقوة
(الى الخارج، جميعكم الى الخارج، هيا)
فتح باب المضيفة فجأة و اندفعوا يخرجون متوعدين بغضب، الا أن ثلاثتهم توقفوا وهم يرون سوار تقف في مواجهتهم مرفوعة الرأس قاسية العينين، صلبة الملامح...
تكلم عم ليث قائلا بازدراء وهو يحك فكه.

(و تملكين الجرأة على مواجهتنا دون خجل أو خزي؟)
علا صوت سوار و هي تتكلم بثبات رج ارجاء البهو
(بل و أملك الجرأة على مواجهة بلدين كتلك البلد، و ليأتي من يدعي على شرفي باطلا و يواجهني، أنا سوار غانم الرافعي، ابنة وهدة الهلالي، لا عاش و لا كان من يتجرأ على الخوض في عرضي)
تبادلوا النظر فيما بينهم بغضب و صمت، الى أن قال العم الآخر بصرامة.

(المصيبة حدثت و الله أعلم بالحق، و الأفضل لك هو رجوعك الى دار أهلك، لكن زوجك يرفض و أنتما من ستتحملان العواقب، لكن اعلمي يا بنت وهدة، لو امتلكنا الدليل أو حتى شاهدا واحدا على ما انتشر، حينها لن يرحمك منا مخلوق)
هدر ليث من خلفهم بقسوة
(اخرجوا حالا قبل أن أتهور و أرفع سلاحي عليكم).

اندفعوا خارجين غاضبين و الجنون يعلو ملامحهم، بينما أغمضت سوار عينيها على وجع انتشر في روحها الجامحة يوشك أن يهزمها الا أنها تقاومه حتى الرمق الأخير...
فتحت عينيها فاصطدمتا بعيني ليث الحمراوين العنيفتين كرجل يوشك على القتل كسفاح، انها المرة الأولى التي تراه على هذا الحال، لكن من يلومه، لقد مس شرفه و تدنست سمعته بسببها...
همست سوار بصوت خائف.

(لقد حدث ما كنت أخشاه يا ليث، يجب أن أتركك و أذهب، أنت لا ذنب لك في)
الا أنها صمتت فجأة و هي تنظر اليه بقلق قبل أن تهتف
(ليث، ماذا بك؟، هل أنت بخير؟)
رأته يترنح قليلا بجسده الضخم مغمضا عينيه، بينما تحول لون شفتيه الى لون رمادي غريب و قال فجأة بخفوت مادا يده لها
(اسنديني يا سوار)
هتفت سوار بقوة و هي تندفع ممسكة كفه بيد بينما تحيط خصره بذراعها، تسنده بكل قوتها
(ليث، ليث).

تراجعت به للخلف عدة خطوات و هي تحاول أن تتلقى وزنه الضخم كله حتى أجلسته على احدى المقاعد الوثيرة، ثم التفتت تصرخ بقوة
(أم مبروك، هاتي ماءا للسيد ليث بسرعة، بسرعة يا أم مبروك)
ثم عادت لتنظر اليه برعب، لتجد وجهه الصلب قد فقد ألوانه، و عيناه لا تزالان مغمضتين، فهمست و هي تجس جبهته
(ليث، أفق، أفق يا حبيبي، ماذا حدث لك؟).

فتح ليث عينيه ببطىء لينظر مباشرة الى عينيها المرتعبتين، بينما وصلت أم مبروك في تلك اللحظة مهرولة و هي تحمل كوب الماء هاتفة برعب
(سلامتك، سلامتك يا غالي يا ابن الغالي، حسبي الله و نعم الوكيل، حسبي الله، اللهم انتقم ممن كان السبب).

خطفت سوار الكوب من يد ام مبروك، ثم اسندت مؤخرة رأس ليث بذراعها ترفعه قليلا و هي تقرب الكوب من فمه، حتى ارتشف منه القليل قبل أن يبعده، فسكبت منه على كفها و اخذت تمسح به وجهه و عنقه و جبهته و هي تهتف بحزم
(اتصلي بطبيب البلد يا أم مبروك، ليحضر الى هنا حالا، هيا أسرعي)
سارعت أم مبروك لتنفذ أمر سوار، بينما قامت باسناده بكل قوتها و هي تقول
(سأساعدك حتى تصل الى فراشك، استند علي، لن أسمح لك بالوقوع).

انتهى الطيبيب من تجميع أدواته وهو يقول بهدوء
(لقد علا ضغطك جدا يا ليث، و هذا مؤشر غير جيد)
كانت سوار تقف على بعد منهما تراقبهما بصمت و قلق، ثم قالت بثبات
(و ماذا عن وجع صدره؟، كان يشكو منه منذ قليل، الا يتعين علينا اجراء فحوصات في المشفى)
قال الطبيب وهو يومىء برأسه
(بالفعل، سأسجل لك ما ستقومان به من فحوص و أشعات و تحاليل فقط لنطمئن، لكن بالمعاينة، لا شيء مخيف سوى الضغط).

ابتلعت سوار ريقها، ثم قالت بتوتر و هي تتشبث بطرف وشاحها...
(لقد تعرض لضغط عصبي مفاجىء، اوشك على فقدان الوعي بعدها مباشرة)
استدار اليها الطبيب ليقول بهدوء
(هذا هو السبب، لكل سن ما يناسبه و عليه الآن تجنب تلك الضغوط السريعة)
ارتجفت شفتيها قليلا، ثم رفعت وجهها و قالت بقلق
(كما أنه يحمل، أحمالا ثقيلة كل ليلة، لا تتناسب مع سنه، هل أثر ذلك على قلبه؟ بعيد الشر عنه)
ابتسم الطبيب وهو يقول.

(ليس الى هذه الدرجة، لا تقلقي، عليه فقط أن يقوم بالفحوص المطلوبة و نهتم بضغطه، لكن لا تخافي على القلب، ان شاء الله حديد)
ابتسمت سوار ابتسامة قصيرة قلقة، ثم همست و هي ترافقه الى الباب...
(شكرا، شكرا لك، سأتابعك معك حالته في كل خطوة)
عادت سوار خلال لحظات حتى وصلت اليه و جلست على حافة السرير بجواره و هي تمس صدره برفق بينما هو مستلق مغمض العينين
راقبته لعدة لحظات قبل أن تهمس بخفوت
(هل أنت بخير الآن؟).

رفع ليث يده ببطىء حتى أطبق على كفها و أبقاها على صدره قائلا بخفوت دون أن يفتح عينيه...
(سأكون، لو أبقيت يدك على صدري، لا تبعديها)
أطرقت سوار بوجهها و ظلت صامتة لبضعة لحظات دون أن تبعد كفها كما طلب، ثم قالت بخفوت
(ظننتك لا ترغب في رؤية وجهي)
فتح عينيه ببطىء وهو ينظر الى ملامحها، كل ذرة منها، قبل أن يقول بصوت أجش خافت
(من ذا الذي لا يرغب في رؤية الشمس لحظة شروقها)
رفعت سوار عينيها اليه و قالت بصدمة.

(هل أنت واع لما تقول؟، لقد دمرت سمعتي و طالك الضرر بسببي، بينما أنت تتغزل في جمالي؟)
لم يبتسم ليث، بل ظل ينظر اليها بجدية مجهدة، و اصابعه تتحسس ظاهر كفها، الى أن قال أخيرا
(لأن رؤية وجهك هي ما سأحمله معي و أنا أواجه الطوفان القريب)
قالت سوار بتوسل و قوة
(دعني أعد الى دار أهلي يا ليث، لا ذنب لك فيما طالك)
شدد ليث يده على قبضتها وهو يقول من بين أسنانه مناقضا الشحوب في وجهه
(أبدا).

فتحت سوار فمها لترد محاولة اثناءه عما يريد، الا أن صوت طرق عال على باب غرفتهما جعلها تعقد حاجبيها و تتنهد بنفاذ صبر، ثم نادت بقوة
(ادخلي يا أم مبروك)
فتحت أم مبروك الباب و دخلت مهرولة حتى كادت أن تتعثر و تسقط أرضا، فأغمضت سوار عينيها بيأس و هي تدرك من ملامحها أن وراءها مصيبة جديدة...
هتفت أم مبروك بالفعل...
(مصيبة، مصيبة يا سيدة سوار)
انعقد حاجبي سوار و تصلبت ملامحها بقسوة و هي اقول بصوت ذو بأس و قوة.

(اصمتي يا امرأة)
ثم حاولت نزع يدها عن صدر ليث كي تخرج و تعرف ما حدث بعيدا عن مسامعه، الا أنه شدد على قبضتها أكثر حتى بات من المستحيل عليها نزع يدها، ثم قصف صوته مهيبا وهو يقول بصلابة
(تكلمي في وجودي يا أم مبروك)
اتسعت عينا سوار و هي تنظر الى أم مبروك، محاولة افهامها بلغة الإشارة الا تفعل...
الا أن أم مبروك لم تستطع مقاومة نبرة ليث السلطوية، فقالت بخوف.

(عرفت الآن أن بعض أعمام السيدة سوار و ابن عمها السيد زاهر، أتوا الى دار عمك الأكبر، يحملون معهم السلاح و لا ينون خيرا)
سحبت سوار نفسا مرتجفا و أغمضت عينيها و هي تهمس
(يالله، يالله ساعدني و كن في عوني)
التفتت الى ليث و قالت بصرامة و صوت مرتفع
(اتركني يا ليث، اتركني اذهب لأمنع الكارثة قبل حدوثها).

لكن عيني ليث كانتا قد تحولتا الى عيني أسد أدرك أن هناك من يحاول تهديد مملكته، فقال بصوت هادىء دون أن يفقد أعصابه هذه المرة و بدا مسيطرا، مخيفا في ذات الوقت...
(بل سنذهب معا، ساعديني لأبدل ملابسي يا سوار)
هتفت سوار بقلق
(لا، لن أسمح لك، صحتك لا تحتمل هذه المواجهة، لن أسمح لك)
التقت عيناه بعينيها لعدة لحظات، اربكتها، وترت القوة بداخلها و خلخلتها...

فأسبلت جفنيها قليلا أمام تلك النظرة النافذة من عينيه، الى أن قال أخيرا بصوته العميق...
(سانديني، و كفى).

كانت المضيفة في دار عم ليث الهلالي الأكبر، وهو يعد كبير عائلة الهلالي ليخلفه ليث مباشرة، وفقا لاختيار الجميع، كساحة حرب شعواء...
حتى ان الجميع كانوا واقفين و قد ارتفعت الأسلحة، بينما الأصوات تتعالى، ما بين هجوم و آخر...
و الخوف كل الخوف من عيار واحد يطلق...
حينها ستفرغ كل هذه الأسلحة خزائنها في صدور كبار العائلتين...
هدر زاهر بقوة وهو يتشبث بسلاحه.

(ما وصلنا من كلام عن عرض ابنة عمنا لن نسكت عنه و لن نخرج بدونها، سلمناها لكم أمانة بعد أن قتل أحدكم، سليم الرافعي، و كنا نظن أن تحملون هذا الجميل بعرفان، لا أن تتجرأوا على التطاول على شرف أسيادكم)
صرخ أحد أعمام ليث بقوة
(أسياد من أيها ال)
دوى صوت ليث فجأة ليوقف الجميع
(كفى)
كانت صيحته أعلا و اوضح و أكثر سطوة من الجميع، فالتفتوا اليه ما بين غاضبين و ذاهلين...

فقد دخل الى المضيفة بكامل هيبته و أناقة ملابسه العصرية، تعلوها العباءة الصوفية على كتفيه...
ملامح وجهه ثابتة هادئة، و عيناه لا تهتزان أو ترمشان، بل ينظر الى الجميع بثبات يحسد عليه...
لكن الأكثر عجبا أنه لم يكن وحيدا، بل كان ممسكا بكف سوار الرافعي...
مرفوعة الذقن، تستمد الثقة منه و هي تقف بجواره، لا خلفه...
يلصقها به، متحديا أكبرهم الى أقواهم أن يأتي أمامه و يواجهه...

صفقت مسك الباب بقوة بعد رحيل قاصي، و هي تهتف بغضب و انفعال
(تبا لك مجنون و أحمق)
ثم استدارت الى تيماء تنظر اليها بعدم تصديق لما حدث للتو...
كانت تيماء هادئة الملامح، تتحرك ببطىء الى أن وقفت أمام مرآة مؤطرة و معلقة للزينة...
فأبعدت كفها عن وجنتها تتأمل الإحمرار المنتشر بها، دون تعبير أو حتى اجفال...
اقتربت منها مسك لتقول
(لماذا قلت ما قلته؟، أعلم جيدا أنك لم تتواصلي مع راجح بأي طريقة من الطرق).

ظلت تيماء على حالها تنظر الى نفسها بطريقة هادئة غريبة، ثم قالت بصوت بارد، متباعد، شارد و كأنها تحادث نفسها
(كيف لك أن تكوني واثقة بهذا الشكل؟، كم مرة تقابلنا كي تعرفينني و تثقين بي؟، بل و تعرفين متي أقول الصدق من عدمه!)
عقدت مسك حاجبيها و هي تقول بعدم فهم
(لا أحتاج الى عمر كامل كي أعرفك، و أعرف أنك تكذبين، أنت لم تخوني قاصي و لم تتواصلي مع راجح).

نظرت تيماء الى نفسها مرة أخيرة قبل أن تستدير لتنظر الى مسك بهدوء، بعينيها الجامدتين، لا تحملان أي تعبير، ثم قالت أخيرا بصوت خافت ميت
(اذن فقد أجبت على سؤالك بنفسك)
عقدت مسك حاجبيها و هي تنظر الى تيماء، ثم قالت بخفوت مضطرب
(حسنا صحيح أنني نصحتك كثيرا بضرورة الابتعاد عنه، لكن العناد بغباء، أنا لا أطيقه)
هزت تيماء رأسها قليلا قبل أن تقول بخفوت
(لا، ليس عنادا، لقد انتهى الأمر عند هذا الحد).

ابتسمت قليلا و هي تهز كتفها باستسلام قائلة بمرح زائف
(ماذا أقول؟، أنا أغبى قليلا من باقي البشر، أحتاج الى وقت أطول كي أستوعب الدرس، الا أنني أستوعبه في النهاية، مهما طال الزمن، كما فعلت مع ابي و استوعبت درسي)
عقدت مسك حاجبيها اكثر، و هي تقترب منها ببطىء، الى أن وصلت اليها و مست كتفها برفق و هي تقول بحذر
(تيماء، هل أنت بخير؟)
ضحكت تيماء ضحكة لطيفة و هي تقول
(بالطبع، أنا لست هشة كما تظنين).

كانت مسك تنظر اليها بشك و ارتياب، و كأنها تنظر الى انسانة غير سوية، ثم ردت بعدم ارتياح
(لا أظن أنك بخير أبدا، لما لا تأتين معي لأضع بعض مكعبات الثلج على وجنتك)
رفعت تيماء تلمس الكدمة المحمرة و هي تضحك مجددا بسخرية قائلة
(ثلج! لصفعة كهذه؟، أنا لم أشعر بها حتى)
تنهدت مسك و هي تنظر اليها بصمت، ثم قالت أخيرا بهدوء حازم.

(على الأغلب ستتحول الى لون أزرق غدا، و أنت لديك عمل وكلية، لا ينبغي أن يراك طلابك بهذه الصورة)
لعقت تيماء شفتها و هي تقول ببساطة
(لا تشغلي بالك، أنا سأكون بخير، )
أخذت نفسا عميقا، ثم قالت بهدوء مبتسمة
(و بمناسبة العمل و الكلية، أنا يجب أن أخرج الآن كي أعود الى حياتي، فلقد تغيبت ليومين حتى الآن دون سبب)
قالت مسك بصرامة و هي تمسك بذراعها قائلة
(لن أسمح لك بالسفر مطلقا و أنت في هذه الحالة).

ردت تيماء باصرار و هي تبتسم ابتسامة عريضة...
(أخبرتك أنني بخير، لكنني يجب أن أسافر اليوم، عملي ينتظرني)
عقدت مسك حاجبيها و هي تراقب تيماء لتقول بخفوت أجش
(قد أفهم ما تقولين، لو كنت أنا مكانك، فأنا أذهب لعملي متحدية أي ألم يهدد بهزيمتي)
صمتت للحظة قبل أن تتابع بصوت صلب
(لكنك لست أنا، لذا لا، أنا لا أصدق أنك بخير فلا تحاولي خداعي)
قالت تيماء بهدوء دون أن تفقد ابتسامتها.

(ربما أنا و انت نحمل نفس الموروثات رغم كل شيء، أنت نشأت في مكان و مع عائلة، بينما أنا في مكان آخر و مع عائلة أخرى، و بالرغم من ذلك، يظل هناك تشابه بيني و بينك، تشابه خفي لا يظهر الا في المواقف الصعبة)
خفت صوتها في النهاية و صمتت تماما، فهزت كتفها مبتسمة و كأنها تقنع مسك...
ثم تابعت بصوت واه خافت ممازحة
(هذا مجال دراستي فلا تجادليني).

الا أن مسك كانت تنظر اليها مكتفة ذراعيها، رافعة حاجب واحد و هي تراقب تيماء كجهاز كشف الكذب...
ثم قالت أخيرا بجمود دون ان تهتز لها شعرة
(لست مقتنعة)
ضحكت تيماء، ضحكة غريبة، عالية قليلا و أكثر مرحا من اللازم، ثم استدارت و هي تقول بسرعة
(ثم أنني يجب أن أغادر قبل وصول والدك، فربما كان).

لم تكد تتابع كلامها حتى سمعا صوت المفتاح في باب الشقة، مما جعل كل منهما تتسمر مكانها لتنظر الى الأخرى بصدمة، ثم تكلمت تيماء بصوت خافت مصدوم
(لقد تأخرت، اليس كذلك؟، تبا)
نظرتا الى سالم الرافعي وهو يدخل من باب الشقة، ثم يغلقه خلفه، قبل ان يستدير وهو يقول بصوت مجهد
(صباح الخير يا)
صمت فجأة و هو يرى تيماء واقفة بجوار مسك، ترتدي منامة و مطلقة شعرها بأريحية، بينما قدميها حافيتين...

كانت شفتاها فاغرتان و هي تنظر اليه بصمت، متوقعة الطرد في لحظة، الا أنه بادلها النظر بصمت متجهم، قبل ان يقول بجمود
(يبدو أن لدينا ضيوف اليوم، أو على الأصح منذ أمس)
تراجعت تيماء خطوة قبل أن تبادر بالتوضيح بحزم رغم الحرج الذي تشعر به و هي تشتم غباء تأخرها في المغادرة...
(كنت راحلة على الفور)
استدارت كي تجري الى الغرفة و ترتدي ملابسها و تفر من هنا، الا أن صوت سالم أوقفها وهو يناديها صارما
(انتظري).

توقفت تيماء مكانها و هي ترفع عينيها الى السماء مفكرة
ها هي مزيد من الإهانة قادمة،
لكنها أخذت نفسا طويلا قبل أن تستدير ناظرة اليها بهدوء و هي تقول بصوت عملي باهت
(تحت أمرك)...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة