قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني

(ثبتي ذراعك، لكن لا تصلبي جسدك، يكاد توترك يصلني من هذا البعد)
رفعت سوار عينيها عن مؤخرة السلاح و هي تنظر الى ليث الواقف على بعد عشرة أمتار...
بجوار قطعة من الخشب، أوقفها على صندوقين كي تصوب عليها...
هادئا هو بعينين واثقتين صلبتين نافذتين، بينما كانت لا تزال هي على غضبها الداخلي منه و من اجباره لها على نزع غطاء وجهها...
كانت تريد التدريب و هي تضعه...

ففي المرة التي ستسخدم فيها السلاح أمام هدف بشري، ستكون مغطاة الوجه، لا يظهر منها سوى عينيها...
حين يأذن الله بذلك...
لكن غضبها كان لو سبب آخر اضافي، وهو هذا التوتر الذي تخلفه نظراته المتفحصة لها دون حياء...
هو يربكها و يعلم بذلك، و يعلم أن هذا يضايقها، لكنه لا يتراجع، بل تزداد عيناه ثقة و استفزازا...
ليست تلك هي الطريقة المناسبة في النظر اليها و هي تتعامل مع سلاح محشو و معد للإطلاق...

حين طال شرودها و انعقد حاجبيها، أجفلت فجأة على صوت ليث يدوي ليشق الصمت مناديا
(سوار، لا تشردي، و أطلقي النار الآن، إياك و الشرود، بينما اصابعك على الزناد، هل نسيت التعليمات الأساسية؟)
رفعت عينيها مجددا لتنظر اليها بغضب داخلي، الا أن ملامحها كانت ساكنة و هادئة كبركة صافية...
فنادت بنبرة آمرة...
(ابتعد اذن عن مرمى نظري)
ارتفع احدى حاجبي ليث وهو ينظر اليها بثبات، بينما لم يتحرك من مكانه ثم قال بهدوء.

(لماذا؟)
قالت سوار بنفاذ صبر
(كي لا أصيبك، أي سؤال هذا؟)
أيضا لم يتحرك من مكانه، فزاد الغيظ بداخلها حتى عضت على شفتها السفلية، بينما قال ليث ببساطة أقرب الى الإستفزاز
(هل أمني نفسي بأنك تخافين على حياتي مثلا؟)
ارتفع وجهها كله الآن عن السلاح، و نظرت اليه متحدية بهدوء و ثقة، قبل أن تقول
(اصابتك بطلق طائش ليس من برنامج يومي الأول كعروس في دار الهلالية)
التوت شفتي ليث في ابتسامة ساخرة، ثم قال ببساطة.

(أنا أثق بك، أطلقي النار)
ارتبكت ملامحها للحظة، و طالت نظراتها اليه وهو يقف بعنفوان و هيبة بالقرب من هدف التصويب، و كأنه يتحدى الطلق الناري أن ينحرف في حضوره المهيب...
رفعت سوار ذقنها و قالت بصلابة و هي تخفض سلاحها أرضا
(أشكرك على ثقتك، لكن تلميذتك لم تمسك بالسلاح منذ فترة طويلة، فلا تكن هادئا الى تلك الدرجة، هلا ابتعدت رجاءا).

تبادلا النظرات للحظات طويلة، ظنت فيها أنه سيطيل في استفزازها، الا أنه تحرك في النهاية الى اليمين عشر خطوات واسعة، ثم توقف ناظرا اليها وهو يفتح ذراعيه باستسلام قائلا ببساطة
(هل هذا البعد مناسب لك كي لا تصيبين زوجك في مقتل؟)
زمت سوار شفتيها و هي تلمح تشديده الخفي على كلمة زوجك، لكنها تجاهلتها و أعادت رفع السلاح، ربما لم تتمرن منذ فترة، لكنها ليست عمياء إلى تلك الدرجة...

فأغمضت عينا و حاولت التركيز على الهدف الذي أعده لها، تمتمت باسم الله، ثم أطلقت النار و جسدها كله يرتجف من فرط انفعالها و هي تتخيل هدفها البشري...
لكن تلك الطلقة انطلقت في الهواء مخطئة مسارها تماما، بدت طائشة و انفعالية و بعيدة الهدف...
اندفعت الطيور من مخابئها في فزع، و تعالت أصوات نباح الكلاب من البعيد...
لكن سوار لم تسمع سوى صوت الطلقة الطائشة، فرفعت وجهها و اخفضت سلاحها بعنف و هي تهتف غاضبة
(تبا).

كان قلبها ينبض بغضب و أسى، بينما ليث يراقبها بصمت و لم يبد على ملامحه أي انفعال...
و مضت الثواني بطيئة وهو يترك لها الوقت كي تتعامل مع هذا الإنفعال الذي أفلت منها دون ارادتها...
فأخذت نفسا عميقا، ثم قالت بصوت متصلب لتشق جدار الصمت
(ألم أحذرك!، لقد تراخت عضلاتي و زاغت حدة بصري)
ساد الصمت لعدة لحظات قبل أن يقول ليث بهدوء مسيطر
(كلميني عن فتاة أخرى لم أعلمها بنفسي، و تدربت على يدي منذ طفولتها).

أفلتت منها ضحكة استهزاء مستاءة، بينما دفعت شعرها الكثيف الى الخلف بعصبية، ثم لم تلبث ان هتفت بغضب
(هذا الشعر اللعين يعيقني، لا أريد اسداله بهذا الشكل، أريد التركيز على الهدف وهو لا يسهل مهمتي)
لم تلحظ أثناء نوبة الغضب العارم التي انتابتها أن ليث كلن يقترب منها ببطىء و عيناه ثابتتين عليها...
الى أن أجفلت و هي تراه أمامها مباشرة، فتراجعت خطوة متعثرة و هي تقول بعصبية...

(لماذا تركت مكانك؟، لم ننتهي بعد، أظننتي سأيأس لمجرد أنني أخطأت بأول تصويب؟)
اقترب منها خطوة دون أن يرفع عيناه عن عينيها، و كانت نظرة عينيه مخيفة و كأنه قادرا على قراءة كل أفكارها بوضوح تام، مما زادها ارتباكا و توترا، فازداد غضبها من تأثيره على ثباتها بتلك الصورة الغير متوقعة...
تكلم ليث أخيرا بصوت واثق هادىء
(ارفعي سلاحك)
عقدت سوار حاجبيها قليلا و هي تقول بخفوت مضطرب
(ماذا؟)
رد عليها ليث بصوت جاد.

(ارفعي سلاحك لتعيدي التصويب)
اضطربت أكثر، لكنها أعادت رفع سلاحها، و اغمضت عينها و هي تقول بخفوت
(حسنا اذن، ابتعد قليلا)
الا أن ليث لم يبتعد، بل على العكس، اقترب منها حتى صار خلفها تماما، يكاد أن يكون ملامسا لها...
كان جسدها قد استشعر حرارته بوضوح، الى أن رأت كفه تمتد لتمسك بمرفقها المرفوع بحذر...

بينما التفت ذراعه الأخرى حول ذراعها الممسكة بالسلاح، فحاوطها تماما و كأنه يحتضنها، حتى أنها وجدت ظهرها ملاصقا لصدره...
هتفت سوار بتوتر
(ماذا تفعل؟)
رد عليها ليث بنبرة آمرة خافتة، حركت بعض الشعريات الناعمة على جانب صدغها...
(اهدىء، جسدك متوتر كفرس متحفزة، ارخي عضلاتك، لكن ثبتي ذراعك الحاملة للسلاح)
قالت سوار معترضة و هي تحاول الإبتعاد عنه
(لن أصوب و أنت تمسكني هكذا، ابتعد عني يا ليث).

و على الرغم من أنه لم يشدد من قبضتيه عليها، الا أنها لم تستطع الإبتعاد، كانت لمسات أصابعه من حولها ذات سلطة مهينة، خاصة وهو يقول بخفوت ملامسا صدغها بشفتيه
(اجعلي سلاحك جزءا من جسدك، و كأنه امتدادا لذراعك، و ابعدي التوتر عن أعصابك، لا تركزي على أي شيء آخر سوى الهدف أمامك، و كأن العالم من حولك قد اختفى و لم يعد هناك ما تبصره عيناك سواه).

وهو يتكلم بخفوت، كانت ذراعاه تحيطان بها أكثر، و التحدي في امتلاكهما يزيد، و كأنه يتحداها أن ترفض سطوتهما...
أرادت الرفض و الإعتراض، الا أنها لم تستطع...
شعرت بالغضب أكثر من فرض تلك السيطرة عليها، الا أنها لم تسمح لغضبها أن يثير انفعالها...
لذا زمت شفتيها، و رفعت ذقنها قبل أن تغمض احدى عينيها و تركز على الهدف أمامها محاولة بكل جهدها أن تتجاهل وجود ليث، ثم تناست كل شيء و أطلقت النار وهو ممسك بها...

جاءت الطلقة قريبة جدا جدا، من الهدف...
لم تسقطه أرضا، الا أنها كادت أن تلامسه...
زفرت سوار بغضب و هي تصرخ فجأة مخفضة سلاحها بانفعال
(تبا)
ثم حاولت الإبتعاد عن ليث، الا أنها شعرت حينها بالطوق الحديدي الذي يحيط بها، و الذي أدارها فجأة اليه بكل قوة حتى ارتطمت بصدره...
رفعت سوار وجهها المتصلب لتنظر اليه، كانت عيناه غامضتين و قويتين بشكل غير محتمل...
فزاد ارتباكها و قالت بقوة
(اتركني يا ليث).

الا أنه قال بصوت قوي
(ليس لأنك أخطأت هدفك، يتعين على أنا أيضا أن أفلت هدفي)
تلوت بين ذراعيه و هي تقول بحدة
(اتركني يا ليث، لا تستغل الموقف هكذا)
لمعت عيناه فجأة ببريق من الغضب للمرة الأولى، فأمسك بسلاحها يختطفه منها، ليبعده عنها و يسنده بعيدا، ثم أحاط خصرها بذراعيه يمنعها من الحركة تماما و نظر الى عينيها بسلطة غاضبة طويلا قبل أن يتكلم بهدوء حذر.

(أستغل الموقف؟، اسمعي هذا جيدا يا سوار، لست في حاجة لإستغلال أي مواقف لأنال حقي بك...
أستطيع نيله الآن لو أردت و لن تملكي القوة لمقاومتي)
تلوت سوار بين ذراعيه بقوة فرس غير مروضة، الا أنها كانت تحارب قوة تفوق قوتها بمراحل
فقالت من بين أسنانها
(كان على أن أدرك بأنك قد اشتريتني بموقفك النبيل للأبد، و أن هناك ثمن له يتوجب على دفعه).

الآن شعرت بقوة قبضتيه على جسدها، حتى تأوهت بصمت و اتسعت عيناها و هي تنظر اليه بدهشة...
و صدمتها أكثر ملامحه المتصلبة، و عيناه الخطيرتان...
قبل أن يقول أخيرا بصوت خافت، اكثر خطرا
(يبدو أنه ليست عضلاتك فقط من ارتخت، بل عقلك أيضا، لكنني لن أحاسبك على ما تفوهت به للتو، و سأعمل حسابا لما مررت به، لكن أحذرك يا سوار، أنني لن أقبل بالمزيد من الحماقات).

انتفضت بعنفوان لتبتعد عنه أخيرا ما أن سمح لها، و بدت متوهجة الوجه، عيناها تبرقان بأنفة، و نفسها مضطرب اباءا، ثم قالت أخيرا بصوت محتد
(هل تهددني؟)
قال ليث بخفوت و عيناه تحاصران عينيها بلا هوادة
(لنقل أنني أحذرك فحسب، زوجة ليث الهلالي عليها أن ترتقي عن التفوه بمثل تلك الحماقات، أنت لم تعودي مراهقة مندفعة، بل امرأة عليها أن تصون لسانها و كرامتها و كرامة زوجها).

كان الغضب يتلاعب بأعماقها بتهور، فتملكتها رغبة عاتية في ايذاءه فقالت ساخرة بهدوء مفاجىء
(و هل هذه الصفات تنطبق على زوجتك الأولى مثلا؟)
ضاقت عينا ليث وهو يراقبها بصمت، بينما شعرت بأنها تمادت كثيرا، لكنها لم تخفض وجهها و لم تتهرب بعينيها من سطوة عينيها كي لا يظن بها الخوف أو التراجع...
ثم قال أخيرا بهدوء جليدي
(ربما تمنيت لو ضربتها مثلا أمامك؟)
ارتفع حاجبيها و هزت كتفيها و هي تقول ببساطة.

(ما الذي يجعلني أتمنى هذا؟)
قال ليث بنفس الهدوء الجاف
(تصرفاتها أمامك، في صباحية زواجنا)
ارتسمت على شفتيها ابتسامة ناعمة، سلبت عيناه عن عينيها للحظات قبل أن تقول بثقة
(اها، هذه أفعال نساء، أستطيع مجابهتها دون أن يرف لي جفن، المرأة الضعيفة فقط هي من تحتاج الى رجل كي يضرب لها امرأة أخرى تزعجها)
سألها ليث مباشرة و هو ينظر الى عمق عينيها باهتمام
(و هل فعلت؟، هل أزعجتك؟).

لم تشعر بالراحة من السؤال، لكنها عات لتهز كتفيها و قالت ببرود
(لا يمكنني انكار مدى جرأتها الأقرب الى الوقاحة)
اقترب منها ليث خطوة أخرى ثم قال بهدوء غريب
(ألم تشعري بالغيرة مثلا؟)
ارتفع حاجبي سوار بدهشة حقيقية و هي تنظر الى عينيه، ثم لم تلبث أن أفلتت من بين شفتيها ضحكة ساخرة و هي تقول بتعجب
(أغار منها؟، و لما أغار؟)
قال ليث دون أن تحيد عيناه عن عينيها.

(ربما لأنها المشاعر الطبيعية لأي امرأة تجاه زوجها و هي ترى غيرها تقبله)
التوت ابتسامتها و تلاعبت أصابعها بخصلة من شعرها فأعادتها خلف أذنها لتقول ببرود
(آآه، لكنني لست أي امرأة، و المرأة التي تغار من تصرف أحمق كهذا تنقصها الثقة في نفسها)
ابتسمت شفتاه ابتسامة باردة وهو ينظر اليها، ثم قال أخيرا بهدوء
(صحيح، لست أي امرأة، ربما لم تعودي امرأة من الأساس)
كتفت ذراعيها و رفعت ذقتها لتواجهه قائلة.

(و ماذا بعد؟، ما هو الإتهام التالي و المفترض به أن يثير استفزازي فأضعف و أحاول تملقك جسديا بطريقة مثيرة للشفقة كما فعلت زوجتك!)
قال ليث فجأة بقوة و نفور
(أي شخصية تحولت اليها!)
رفعت سوار وجهها و هتفت بعنف مماثل.

(لم أتحول الى أي شخصية، هذه أنا سوار نفسها، المرأة التي لم تعرفها من قبل، و التي لم تعد مراهقة مندفعة ومتوهجة العينين تعترف لها بحبك، أنت تحاول احياء ذكرى بعيدة جدا يا ليث، ذكرى لن تنفعك بشيء، لأن تلك الفتاة التي علمتها بنفسك و اعترفت لها بحبك لم يعد لها وجود...
و التي تقف أمامك امرأة فقدت زوجها ليزوجوها بعده في صفقة تصالح، و كأن من مات شخص من السهل أن ينسى).

كان ليث يستمع اليها بوجه قاتم، و ملامح متجهمة، بينما كانت عيناه غاضبتين بشدة، صدره يغلي بنار محرقة، كل كلمة تنطق بها بتهور ما هي الا سهم طائش يضرب صدره...
لكنه كان واقفا أمامها ثابتا، قويا، و ما أن انتهت حتى سألها مباشرة
(هل أجبرك أحد على الزواج مني؟، أم أنك واقفت بمحض ارادتك؟)
نظرت الى عينيه طويلا و قد أجفلها السؤال المباشر...
لكنها قالت بخفوت جامد
(و هل أملك الإعتراض على زواج صلح بين العائلتين؟).

قال ليث بعنف كي لا تتهرب من سؤاله
(أي أنهم أجبروك، أريد سماعها منك، هيا قوليها، قولي لقد أجبروني على الزواج منك يا ليث)
ابعدت وجهها عنه و تتنفس بسرعة، لكنه لم يسمح لها، فمد يده يقبض على ذقنها معيدا وجهها اليه بقوة و هدر امام عينيها البراقتين
(انطقي بها، لقد أجبروني على الزواج منك يا ليث)
زفرت نفسا غاضبا لفح كفه الممسكة بذقنها، لكنها نظرت إلى عينيه و قالت فجأة
(لا يستطيع احد اجباري على شيء).

ارتفع حاجبي ليث و قال باستهزاء
(اذن كنت تملكين القوة على الإعتراض، فلماذا اذن ادعاء دور الضحية؟)
ارادت الابتعاد عنه، لكن ذراعه الأخرى احاطت خصرها و منعتها من الهرب، و شدت كفه على ذقنها ليقول بصرامة...
(انظري الي، قلت انظري الي)
رفعت عيناها الى عينيه على مضض، فصدمتها النظرة بهما قبل ان يسألها بصوت آمر
(لماذا وافقت على الزواج بي؟، انطقي)
ساد صمت مضطرب بينهما، الى ان قالت سوار بغضب
(لأركز على هدفي).

ضاقت عينا ليث وهو يقول دون ان يحررها و كأنه يقرأ أفكارها
(أي هدف؟)
رمشت بعينيها و أدركت بأنها قد تفوهت بالكثير في غمرة غضبها منه، لذا أخذت نفسا عميقا ثم قالت بخفوت مبعدة وجهها عنه مغيرة الموضوع ببراعة...
(اتركني لأركز على هدفي، أريد أن أعيد المحاولة)
كان صوتها خافتا، ناعما، و جفنيها مسبلين أمامه بأهدابهما الطويلة...
و كم شعر في تلك اللحظة بالرغبة في ضربها، ثم اغراقها بين أحضانه...

لذا إن كان رافضا للضرب، فلن يمنعه أحد الآن من أخذها في أحضانه و بكل قوة، حتى هي لم تعد تملك الحق في منعه...
انتفضت سوار و هي تراه يمسك بمعصميها بكل قوته ليرفعهما خلف عنقه...
فهمست بتوتر
(ما اللذي؟)
الا أنه أعاد لف ذراعيه حول خصرها بقوة دافنا وجهه في صدغها الناعم حتى انصهر جسديهما في كيان واحد...
لم يحاول حتى أن يقبلها، لكنه كان يحتضنها بقوة لا تقبل الجدل في أحقيتها...

وقفا طويلا وهما في أحضان بعضهما، أو بمعنى أصح، كانت تغرق ببطىء في هذا العناق القوى. و الذي لا يطلب شيئا أكثر من الإعتراف بسلطته...
كانت تريد الإبتعاد عنه، الا أنها شعرت بتلك القوة التي تستمدها منه رغما عنها...
أغمضت سوار عينيها مضطربة و هي تشعر بأصابعه تسافر في خصلات شعرها بدئا من قمة رأسها و حتى أسفل خصرها...
رغما عنها تنهدت بصمت و هي تستسلم الى تلك الراحة المرفوضة بالنسبة لها...

حين تكلم ليث أخيرا، همس في أذنها بصوت أجش
(أنت تريدين الصراخ عاليا، تتألمين في أعماقك داخل تلك القشرة القوية الغير قابلة للكسر)
أبعدت سوار وجهها عنه و حاولت المقاومة، الا أنه شدد عليها و نظر إلى عينيها قائلا بقوة و غضب
رافعا احدى قبضتيها ليضعها في منتصف صدره.

(ما حدث لم يكن هينا على أنا أيضا، موت سليم، و ما حدث بعده، نهاية بما حدث قبل زواجنا مباشرة، أن تتعرضين لكل هذا و أنا بعيد عنك غير قادر حتى على الدفاع عنك)
ترك خصرها ليحيط بوجهها بكلتا كفيه و تابعا بصوت أكثر حدة أمام عينيها الواسعتين
(لكنك الآن بت تحملين اسمي، أخيرا، سأحميك بحياتي، و لن يستطيع مخلوق مناقشة حقي بك، حتى أنت).

فغرت سوار شفتيها و حاولت الرفض بذهول، الا أن قبضتيه كادتا أن تسحقا عظام فكها الرقيق وهو يتابع بصوت أكثر سطوة
(خاصة أنت، هل كلامي مفهوم؟)
لكنه لم ينتظر منها ردا، بل رمقها بنظرة سوداء عميقة كادت أن تبتلعها حية، ثم لم يلبث أن دفعها قليلا ليتناول سلاحها و يرفعه على مستوى ذراعه قبل أن يغمض عينا و يصوب الهدف، و دون لحظة تفكير أطلق النار فأصاب الهدف من أول مرة فرماه بعيدا بصوت عال...

استدار ينظر اليها بصمت وهو يخفض السلاح، قبل أن يقول بصوت غامض
(هكذا يكون التركيز على هدفك، تقتنصيه دون لحظة تفكير، لا تترددي أو تطيلي التفكير، لكن عليك أولا التأكد من أنه هدفك فعلا)
افلت نفس مرتجف من بين شفتي سوار، و تسائلت إن كان قد قرأ افكارها بسهولة، لكن طريقة كلامه أثارت أعصابها بطريقة غير مستحبة...
ابتعد ليث عنها أخيرا وهو يقول بهدوء
(يكفي هذا لليوم، فأعصابك تحتاج الى الراحة قليلا).

رأته يبتعد آخذا سلاحها معه، بينما ظلت هي واقفة مكانها ترتعش من قمة رأسها و حتى أصابع قدميها...
زفرت سوار بقوة و هي تستدير حول نفسها رافعة أصابعها، لتغرسها في مقدمة شعرها، ثم لم تلبث أن همست من بين أسنانها
(ما بالك!، لن يفقدك رجل هدوء أعصابك، إنه مجرد ابن خالك، ليث لا غيره، الذي تربيت على يديه، لم يكن وجوده أبدا مثيرا لأعصابك بتلك الطريقة قبلا).

أطرقت بوجهها و هي تضع يديها في خصرها، كانت تتنفس بسرعة و عدم ثبات...
ثم لم تلبث أن همست بنفاذ صبر
(ركزي، فقط ركزي)
رفعت وجهها للسماء الصافية من فوقها، ثم أخذت نفسا عميقا و رفعت يدها الى صدرها و هي تهمس
(ساعدني يا رب أن أنال القصاص لزوجي، لن أرضى بغيره، ساعدني تجاه كل من يحاول منعي من تحقيق شرعك).

حين دخلت سوار الى الدار كانت عيناها تبحثان عن ليث بحذر، الا أنها لم تجده مما جعلها ترتاح قليلا...
حتى الآن لم تقتنع بأنه قد أصبح زوجها...
لا تصدق ما يريده، و روحها و جسدها يرفضان هذا تماما...
حين رأت الطريق خاليا أمامها، اتجهت الى المطبخ مباشرة، فوجدت ام مبروك قد عكفت على اعداد الطعام، و هناك فتاة اخرى شابة واقفة في زاوية المطبخ...
راقبتهما سوار باهتمام قبل ان ترفع صوتها قائلة بهدوء
(صباح الخير).

تركت كل منهما ما بيدها وهما ترفعان وجهيهما اليها، ثم اسرعا في الرد عليها بتهذيب...
فقالت سوار مبتسمة بعفوية
(تابعا عملكما، لا تتوقفا لوجودي، لقد أردت فقط التعرف اليكما)
قالت أم مبروك بسرعة.

(أنا ام مبروك يا سيدة سوار، زوجي رحمه الله كان يعمل سائس للخيول لدى الحاج الكبير، منذ سنوات و قد احضرني السيد ليث الى هنا بالأمس، كان قد أخبرني أن أستعد منذ فترة، لكنه طلب مني الحضور من فوري ما أن تم التعجيل بزواجكما)
أومأت سوار برأسها متفهمة بينما عينيها ترمقان الفتاة الأخرى باهتمام، ثم لم تلبث أن سألتها بهدوء آمر
(و أنت؟).

انتفضت الفتاة التي كانت تراقب سوار خلسة، فتركت ما بيدها و استدارت اليها لتقول بصوت خفيض
(خادمتك نسيم يا سيدة سوار)
أمالت سوار وجهها و هي تنظر الى الخادمة الشابة، قبل أن تقول بخفوت
(اسمك جميل مثلك يا نسيم)
قالت نسيم و هي تمط شفتيها قليلا...
(لكنه ذكوري)
قالت سوار ببساطة
(بل على العكس، انه يناسب الفتيات الجميلات اكثر، ابنة من أنت يا نسيم؟)
بدت الفتاة مرتبكة قليلا، فردت أم مبروك بدلا عنها.

(هي ليست من البلد يا سيدة سوار، أصلها من عائلة من الغجر أتت الى البلد قبل مولدها، و قد توفت أمها أثناء ولادتها، و تربت هي بين البيوت الخيرة، فقد عرفت العمل منذ طفولتها)
كانت سوار تراقب الفتاة ثم قالت بهدوء
(و كيف اختارها السيد ليث لتأتي الى هنا؟)
ردت أم مبروك.

(لقد طلب مني أن أحضر فتاة معي لتساعدني، تكن من عائلتي و قد اخترت صباح ابنة اخي، لكنها و الفأل الحسن عندك يا سيدة سوار، علمت بحملها و كانت على استعداد للعمل حتى موعد ولادتها، الا أن السيد ليث رفض، و أعطاها الكثير، زاد الله من رزقه، حينها لم أجد أمامي سوى نسيم التي جائت تطلب عملا، لكنها ليست بغريبة، لقد عملت في كل بيوت الهلالية تقريبا، سيعجبك عملها سيدتي، أنا أضمنها).

أومأت سوار و هي تراقبهما، ثم لم تلبث أن سحبت كرسيا خشبيا و جلست عليه واضعة ساقا فوق أخرى ثم قالت
(حسنا، هلا اخبرتني احداكما كيف حدث أن وجدت رأس قطة ميتة في دولابي اليوم صباحا؟)
تركت أم مبروك السكين من يدها و هتفت برجاء
(الله وكيلك يا سيدة سوار لا نعرف عنها شيئا، لقد كان السيد ليث هنا منذ دقائق و قد قلب المكان علينا من شدة غضبه، و طلب منا الرحيل و هددنا أن يأتي بغيرنا إن لم يعرف كيف حدث هذا).

أسبلت سوار جفنيها و هي تتظاهر بالتفكير، ثم قالت
(اذن كيف وصلت الى هنا، في رأيك؟)
ضيقت أم مبروك عينيها و حاولت الكلام الا أنها ترددت، ثم لم تلبث أن قالت بحذر
(ما هذا الا فعل سحر يا سيدة سوار، لا جواب له الا هذا)
داعبت سوار ذقنها ثم قالت بهدوء
(و من يريد السحر لي؟)
قالت أم مبروك بصوت هامس
(الكثيرون يا سيدة سوار، لا تنسي زواجك من السيد ليث و أسبابه، و الخصومة التي لم تهدأ أبدا بين العائلتين).

أومأت سوار بذقنها بصمت، ثم قالت بهدوء عفوي
(أتعرفين فواز الهلالي يا أم مبروك؟)
اتسعت عينا أم مبروك و ارتبكت من فورها، لكنها أجابت بحذر
(آآآآ، طبعا يا سيدة سوار)
كانت سوار تراقب ملامحها بعين ثاقبة، ثم قالت بهدوء
(أنا لا أتذكره، لا أعرفه، أين بيته، هل هو متزوج و لديه أطفال؟)
بدت أم مبرووك أكثر ارتباكا، الا أنها قالت بخفوت.

(بيته في الجهة الشرقية، متزوج منذ سنوات و لديه ثلاث أطفال، لقد توفي والده قبل أيام في السجن، كان مقدرا له أن يخرج بعد حكم بالمؤبد عليه، الا أن القدر لم يمهله، فمات قبل خروجه بايام)
ضاقت عينا سوار و قالت بهدوء
(ما كانت جريمة والده؟)
اضطربت أم مبروك ثم قالت
(ثأر، كان الثأر الأخير بين عائلة الهلالي و عائلة الرافعي، قبل أن يقوم فواز ب).

جمدت ملامح سوار، و تحولت عيناها الى بركتين من الجليد القاسي، بينما اندفع الألم في صدرها أفظع من سابقه...
فأغمضت عينيها لفترة و هي تطرق بوجهها، مستمعة الى ام مبروك التي قالت بصوت اكثر خفوتا...
(كان والده قد هرب لعدة سنوات، ثم تم القبض عليه و تلقى حكما بالسجن المؤبد)
ظلت سوار على حالها مطرقة الوجه، مغمضة العينين، ثم فتحتهما أخيرا و نظرت الى أم مبروك تسألها بصوت ميت
(و ماذا عن فواز؟، اين هو حاليا؟).

عقدت أم مبروك حاجبيها و استدارت قليلا و هي مضطربة، ثم قالت بخفوت
(بعد، بعد الذي حدث، اختفى، سمعت أنه سافر للعاصمة و بعض آخر يقولون أنه سافر الى الوجه البحري، لا أحد يعلم تماما)
رفعت سوار ذقنها و قالت بصوت صلب باتر
(الا يخفيه أحد كبار العائلة مثلا هنا؟)
هزت أم مبروك رأسها نفيا و قالت بخفوت متوتر
(حسب علمي لا أحد يعلم له طريق، حتى زوجته المسكينة التي تدور بحثا عنه في كل مكان).

زمت سوار شفتيها، و اتقدت عيناها ببريق اكثر قسوة، و نيران الثأر التي كانت تسمع عنها مسبقا بقلب لا مبالي، استعرت الآن في صدرها، تأمرها و توجهها...
نار، لا ترى أمامها سوى النار، و لا تشعر في صدرها الا حريقها...
ألم تلك النار لا يساعدها على التهدئة منها، بل يزيد اتقادها و تغذيتها مهددة بحرق كل من يقف في طريقها...
ابتسمت سوار ابتسامة متزنة، ثم نهضت من مكانها بأناقة و هي تقول.

(سعدت بالكلام معكما هذه الفترة، لا أريد أرهاقكما أكثر بالثرثرة، تابعا عملكما مشكورتين)
استدارت سوار و أولتهما ظهرها، لتختفي ابتسامتها و تتحول ملامحها الى كتلة قاسية، لا تعرف الرأفة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة