قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث

استلقت سوار على سريرها الواسع و هي تحدق في السقف بملامح جامدة...
محاولة التأقلم مع هذا المكان...
التعود على هذا السقف الغريب عنها...
أين غرفتها، و أين سريرها مع سليم؟..
أين سقف غرفتها الذي اعتادت للنظر اليه، ترسم عليه ذكرياتها مع والدتها، و من بعدها ذكرى وجه سليم...
أين هي؟، اين سوار الرافعي؟..
و من تلك التي تحركت كالدمية من بيتها الى آخر غريب بأمر من كبار العائلتين...

إن كانت قد وافقت، فلها أسبابها...
لكن روحها المتمردة تشعر بالرفض، ترفض كل سيطرة و تكبيل لها هنا في هذه العائلة...
ترى هل كان هذا هو نفس شعور والدتها حين تزوجت قسرا من أبيها؟
هل امضت أياما بمفردها في غرفة غريبة عليها بدار الرافعية، تحدق في سقف غريب عنها، متسائلة متى سيدخل اليها زوجها المفترض و الذي لا تعرف عنه شيئا...
أظلمت عينا سوار و هي تفكر في ليث لعدة لحظات...
ليث ليس غريبا...

ليث كان معلمها الأول طوال سنوات عمرها...
منذ أن بدأت تعي لهذا العالم، و وجه ليث كان مرافقا لها دائما...
كان يحدثها في كل شيء، يعلمها كل ما يستطيع، حتى أنه كان يجعل منها رجلا أكثر منها فتاة...
يقص عليها ما يقرأ و يسألها عما قرات...
يستفيض في الكلام معها في أمور تفوق عمرها، دون أن ينظر اليها...
كان دائما ينظر الى الامام وهو يتكلم معها...
حتى تعودت على شكل وجهه الجانبي و هو يحكي عن أرضه و عائلة أمها...

تاريخ هذه البلد...
حتى وهو يعلمها مسك السلاح و التصويب به، كانت ملامحه الجانبية شديدة البأس وهو ينظر دائما الى هدفه...
تعودت أن تنظر اليه وهو يتكلم مسحورة، تراه وهو يصوب مفتونة بتلك القوة...
لكن كان هذا منذ سنوات طويلة...
الآن، عليها أن تراه كشخص آخر، كزوجها!
أغمضت سوار عينيها و هي تشعر بغصة مؤلمة في حلقها تكاد أن تشطره، ثم همست بألم
(أنا آسفة يا سليم، أنا آسفة يا حبيبي).

انتفضت سوار و هي تسمع طرقة هادئة على باب غرفتها، قبل أن يفتح و يطل منه من كان يحتل افكارها منذ لحظات...
استقامت جالسة و هي تنظر اليه مرفوعة الوجه، بينما بادلها النظر للحظة ثم قال بخفوت
(لقد جاء فريد لزيارتك، وهو معي خارج الغرفة، فضلت أن يصعد اليك هنا كي لا تتحدثا في الطابق السفلي)
قفزت سوار من السرير و هي تهتف بلهفة و لوع
(فريد هنا!)
رمقها ليث بنظرة أخرى وهو يرى اللهفة على وجهها، ثم ابتعد ليقول بهدوء.

(تفضل يا فريد، ادخل)
دخل فريد الى الغرفة وهو يقول مبتسما...
(البيت يبدو كمغارة على بابا، لولا وجود ليث أمامي لضللت طريقي في الوصول اليك و اتجهت للمطبخ مباشرة)
تأوهت سوار بصوت عال و هتفت من أعمق اعماقها، رامية كل دروعها الحديدية للحظة...
(فريييييييد)
ثم جرت اليه لتحتضنه بكل قوتها محيطة عنقه بذراعيها، سعل فريد وهو يقول باختناق.

(ياللهي، كنت قد نسيت مبلغ قوتك، الضرب و العناق لديك لهما نفس التأثير، تصلب في مؤخرة العنق)
الا أن سوار لم تضحك، كانت فقط تشدد من عناقه أكثر...
فأحاطها بذراعيه ليهمس لها برفق
(سوار، هل أنت بخير؟)
دفنت وجهها في عنقه و تحول عناقها الى بكاء ناعم، سمعه بوضوح فرفع يده الى قمة مؤخرة رأسها و أخذ يمسح عليها برفق هامسا
(لا بأس حبيبتي، أنا هنا الآن).

كان ليث واقفا مكانه ينظر اليهما بملامح متجهمة، أما عيناه فكانتا قصة أخرى...
كان ينظر الى ملكة عرش قلبه الأبية، تبكي في حضن أخيها كطفلة ضائعة...
أما بأحضانه فتتحول الى نمرة شرسة، تقاومه بكل قوتها و كأنه عدوها...
همس في داخله بصوت يفيض بالعشق
آه يا ملكة الفؤاد لو تعرفين العرش الذي رفعتك اليه و لم تسبقك اليه أخرى، لما تدللت و زدت من عنادك، الا ترأفين بحالي!
تنهد بنفس مشتعل، قبل أن يقول بخفوت أجش.

(سأترككما يا فريد، لكن لا تتكلما بتفاصيل)
نظر اليه فريد و أومأ برأسه دون أن يجيبه، بل أخفض وجهه و أراح ذقنه على رأس سوار، وهو يهمس لها
(أنا هنا)
نظر ليث اليهما مرة أخيرة بصمت متجهم، قبل أن يخرج و يغلق الباب خلفه بهدوء...
أما فريد فتابع بخفوت
(ليست سوار الرافعي هي من تنهار باكية مهما حدث لها، لقد تعلمت القوة منك).

لكنها لم تتوقف، لم تكن تبكي بصوت، لكن كتفاها تهتزان بقوة و هي تحاول جاهدة السيطرة على دموعها...
لكن دموعها بللت كتف قميص فريد، فرفع وجهها بكفيه بقوة ليقول ناظرا الى عينيها الحمراوين
(لقد رحل، انظري الى عيني و اسمعيني جيدا، لقد رحل من البلد الى الأبد، و لقد تأكدت من ذلك بنفسي)
كانت تتنفس بعنف، مطبقة الأسنان و الدموع تتدفق من عينيها بغزارة...
كانت كخصم شرس، يتم تحفيزه لحرب عنيفة دون رحمة...

بينما أعاد فريد على مسامعها ببطىء كي تستوعب
(لقد رحل، طلق زوجته و رحل للأبد)
همست سوار من بين أسنانها و هي تتنفس بقوة
(لست راضية، لست راضية)
قال فريد بوضوح وهو ينظر اليها
(أعرف، و لن ينتهي الامر عند هذا الحد، أعدك بذلك)
أومأت سوار بحركة لا ارادية و هي تتنفس بعنف، الا أن فريد لم يصمت بل قال
(أتتذكرين اليوم الذي صفعني فيه حين كنا صغارا؟، أتتذكرين ماذا فعلت به يومها؟).

أومأت سوار بنفس الحركة المندفعة اللاارادية، فتابع فريد بخفوت أمام عينيها
(لقد قفزت فوقه و أسقطته أرضا، و قبل أن يستوعب ما يحدث كنت قد أمسكت بأقرب حجر طالته يدك و ضربت رأسه به، لقد أوشكت على قتله، و أنا لم أتهاون معه، أتتذكرين؟)
أومأت سوار بوجهها مجددا، فقال فريد بخفوت
(التقطتت خنفساء من الأرض و وضعتها في فمه)
ابتسمت سوار رغم عنها، ثم لم تلبث أن ضحكت من بين دموعها الغزيرة...

أما فريد فلم يترك وجهها، بل ابتسم وهو يقول بخفوت و حنان
(هذا أفضل، لن نتركه، أعدك)
همست سوار بخفوت و هي تومىء برأسها...
(لن نترك الكثيرين يا فريد)
ضيق فريد عينيه وهو يقول بخفوت
(ماذا تقصدين؟)
لكن سوار لم تجبه، بل نظرت الى وجهه للمرة الأولى منذ أن دخل الى الغرفة، فشهقت عاليا و هي تحيط وجهه بكفيها هاتفة
(ياللهي، ماذا فعل بك؟، وجهك مكدوم و مصاب يا قلب أختك)
همس فريد.

(هشششش أخفضي صوتك، لا داعي لأن تذيعي خبر ضربي بين عائلة الهلالي بأسرها)
عقدت سوار حاجبيها و همست بشراسة
(و هل سمحت له بضربك؟)
ابتسم فريد و همس لها
(لم أحتاج الى مساعدتك هذه المرة، و ان اردت بعض التفاصيل، فلقد جلدته بحزامي الى أن ارتويت)
برقت عينا سوار و همست بحذر
(حقا فعلت؟)
أومأ فريد برأسه و همس لها...

(نعم، تحولت لمجرم بفضلك، و قد أعجبني الحال، أفكر في تكرار الأمر مع كل من يضايقك، لنخرج كبتنا و نسحق الأعداء)
ابتسمت سوار بعطف و همست له...
(سنفعل)
قال فريد بجدية
(كفى كلاما، فقد تلقيت اكثر من تحذير من ليث كي لا نتابع الأمر هنا)
عقدت سوار حاجبيها و تلبدت ملامحها و هي تقول بجمود
(انظر الى ما آل اليه حالي يا فريد، أنا محددة الإقامة، محددة الكلام، محددة الغضب، هل تصدق ان من أمامك هي أختك فعلا!).

تنهد فريد ثم قال بخفوت
(آخر ما كنت أتمناه يا سوار هو أن تتزوجي بتلك الطريقة، لكن الوضع كان)
صمت وهو يميل بوجه، يخفضه قليلا، بينما ابتسمت سوار بسخرية حزينة لتهمس
(سمعة أختك، أختك التي لم يتجرأ أحد من قبل على لمس طرف عبائتها)
همس فريد وهو ينظر اليها
(هششششش)
صرخت سوار فجأة و هي تدور حول نفسها بعنف
(ياللهي، لا أريد، لا أريد)
فتح باب غرفتها فجأة، و دخل ليث ليقول بخفوت آمر
(سأتولى الأمر من هنا يا فريد).

عادت سوار لتدول حول نفسها بعنف و هي تصرخ
(تتولى ماذا؟، لم أنهي كلامي معه بعد)
قال ليث كلمة واحدة آمرة
(كفى)
ارتد وجهها للخلف، و اتقدت عيناها، أما فريد فقال
(اهدأ يا ليث، لا داعي لأن)
قاطعه ليث قائلا بهدوء
(لا تقلق يا فريد، أنا أستطيع التعامل مع أختك).

فغرت سوار شفتيها بجنون ثم لم تلبث أن ضحكت بعصبية، لكنها صمتت و هي تحاول التعامل مع حقيقة أن هذا ليث أصبح زوجها، لن تستطيع مجابهته بكلمات وقحة، فرغم كل شيء...
لم ترى أمها يوما ما قد قللت من احترام والدها حتى في لحظات خصامهما التي لم تتعدى حيز اللحظات أبدا...
ضيقت عينيها فجأة و استدارت بعيدا عنهما و هي تشعر بالصدمة من نفسها...
هل تقارن علاقتة الحب التي جمعت بين والديها، بعلاقتها مع، ليث!

قال ليث أخيرا وهو يربت على كتف فريد
(سافر أنت يا فريد، و ثق أنني سأعتني بسوار كما لو كنت أنت من يراعاها و أكثر)
استدارت سوار مندفعة و هي تهتف
(هل ستسافر؟، بهذه السرعة؟)
نظر اليها فريد و قال بخفوت
(يتحتم على العودة، لكنني سأكون معك باستمرار، سأقسم وقتي بين هنا و هناك)
لم تجب سوار، بل أطرقت بوجهها بحزن، فتقدم منها فريد ليقول بخفوت
(سوار، لا أريد أن أرحل و أتركك و أنت بهذه الحال).

رفعت وجهها اليه، و مسحت المتبقي من الدموع على وجهها، ثم قالت بهدوء و قوة
(أنا بخير، كانت لحظة مشحونة لا غير)
فتح فريد شفتيه ليتكلم، الا انه عاد و أغلقهما وهو ينظر اليها مفكرا طويلا ثم قال أخيرا بخفوت
(هل أنت واثقة؟)
ابتسمت سوار و هي تبتلع ألمها، فاقترب منها ليقبل وجنتها ثم همس لها
(اعتني بزوجك أنت أيضا)
عقدت سوار حاجبيها و امالت وجهها تنظر اليه ثم همست بتشنج متحفزة
(لماذا؟)
ارتفع حاجبي فريد، و قال بقنوط.

(افعلي الخير و ألقي به في البحر، ما هذا السؤال الغبي بالله عليك)
زمت سوار شفتيها و هي تهز رأسها قليلا، فعلا ما هذا السؤال الغبي!
لكن ليث يتعمد اثارة أعصابها، و يجبرها على التفكير في علاقتهما الجديدة في كل لحظة دون أن يسمح لها بالتهرب أو الرفض...
ترى هل سيجبرها الليلة على مطالبه!
و حتى إن انتظر، الى متى؟
لا تتخيل أن تفعلها...
عقلها غير مستوعب و جسدها في حداد...

(مع من يا أمي؟)
صرخ أمين بهذا السؤال و قد طارت البشاشة من وجهه ما أن سمع جواب أمه المتردد العفوي...
تنهدت أمه مستشعرة قدوم المزيد من المشاكل الى هذا البيت و كل هذا بسبب ابنتها نورا...
لا تنكر أنها قد تدللت كثيرا و أصبحت صعبة المراس، و منذ بداية مراهقتها و هي تتمرد على شقيقها الوحيد و تتعمد كسر أوامره...
و هي لا تقوى على رفض طلب لها رغم كل شيء، فهي ابنتها الوحيدة...

جميلة و يليق بها الدلال، لكن في نفس الوقت يضايقها غضب أمين
هو رجل البيت و على أخته أن تنفذ اوامره...
ردت أمه قائلة بخفوت و ندم
(نزلت لتجلس قليلا مع، جارتنا ياسمين)
لوح أمين بذراعيه بغضب وهو يهتف ناظرا للسقف بغضب
(مجددا!، مجددا!)
ثم اعاد نظره الى أمه التي ابتعدت عن مجال غضبه خطوتين للوراء، بينما هتف بها.

(كم مرة أمرتها الا تذهب الى تلك المرأة يا أمي؟، كم مرة و هي تكسر كلمتي و تذهب اليها مجددا دون علمي لأكتشف بعدها بمحض الصدفة!)
رفعت أمه يديها محاولة تهدئته قليلا و هي تقول مترجية
(اهدأ قليلا يا حبيبي، الأمر لا يستحق كل هذا الغضب، و ما المشكلة لو تصادقت مع جراتنا و تزاورت معها لتفرج قليلا عن نفسها، هي لا تخرج مثل باقي صديقاتها في الجامعة)
كان أمين ينظر الى أمه مذهولا من تخاذلها، فهتف ما أن انتهت.

(تلك الخرافات، هي من أقنعتك بها، نورا لا ينقصها شيء و أنت تعلمين أنني أسمح لها بالخروج مع صديقاتها طالما أنها تعود في وقت مبكر، لكن ابنتك لا تكتفي و تدعي الإحتجاز و القهر لمجرد أنها لا تستطيع الخروج معهن ليلا)
قالت امه مجددا محاولة استعطافه
(حسنا، معك حق، هي ليست مظلومة، لكن ما المشكلة لو اكتسبت صديقة من الجيران و تزاورت معها؟)
هدر أمين بصوت عال.

(ما المشكلة؟، تسألين ما المشكلة مجددا؟، هل ألصق لكم الأسباب على الحائط كي تحفظوها بدلا من التكرار؟، أولا أنا لا أسمح بزيارات البيوت لأنني لا أضمن ما خلف الأبواب المغلقة، ثانيا وهو الأهم، هل يمكنك أخباري عن نوع الصداقة التي تجمع بين ابنتك طالبة الجامعة، و امرأة تكبرها بما لا يقل عن ثمان سنوات، و مطلقة و تسكن في شقة بمفردها؟، اي نوع من الصداقة المشتركة قد يجمع بينهما، و ما أدرانا بها و بأخلاقها و سبب طلاقها و سكنها في شقة بمفردها عرضة للأقاويل و المضايقات!، الصداقة معها شبهة في حد ذاتها).

قالت أمه بصوت متضعضع...
(لا يا ابني لا تظلمها منذ ان انتقلت الى البناية لم نسمع عنها ما يسيء، أنت لديك أخت فلا تظلم بنات الناس)
هتف أمين و قد نفذ صبره
(أنا لا أفتري عليها يا أمي و لا أدعي شيئا، لكن صداقة ابنتك مع امرأة مطلقة لا نعلم عنها شيئا و تسكن بمفردها أنا أرفضها تماما، هل كلامي مفهوم أم أعيده للمرة الألف؟)
أومأت أمه باستسلام و هي تقول.

(نعم، نعم مفهوم يا حبيبي، لكن هدىء أعصابك و لا تجعل شيء يعكر دمك)
زفر أمين بقوة و هو يضع يده في خصره، ثم لم يلبث أن هدأ من غضبه و قال
(حسنا، اتصلي بها و اطلبي منها أن تأتي حالا)
بدت أمه أكثر ارتباكا و تلجلجت و هي تقول
(لقد، لقد اتصلت بها ثلاث مرات، و كل مرة تخبرني أنها ستبقى معها دقائق فقط و تأتي)
زم أمين شفتيه وهو يرفع ذقنه ليقول بصوت صلب
(هكذا اذن، حسنا، أنا سأحضرها بنفسي).

اندفع الى الباب، بينما أمه تسرع خلفه هاتفة بقلق
(انتظر، انتظر يا أمين و اهتدي بالله، دقائق فقط و ستجدها آتية بنفسها، لا تحرجها أمام صديقتها)
الا أن أمين كان قد وصل للمصعد و ضرب أزراره بقوة ووقف منتظرا...
هتفت أمه بهمس
(تعال يا ابني، سأتصل بها مجددا)
الا أن المصعد كان قد وصل و فتح أبوابه فقال أمين بخشونة
(لا داعي يا أمي، أنا سأتصرف معها)
دخل الى المصعد و أغلق أبوابه بضربة من يده...

وصل الى باب شقتها، لكن و قبل أن يدق جرس الباب، سمع صخبا و صوت أغاني عالية...
بينما أصوات ضحكاتهما أعلى!
زم أمين شفتيه بغضب مكبوت أخذ يتزايد ثم دق الجرس، و انتظر...
مرت لحظات فلم يسمعه أحد مما جعله يشتم بغضب أكبر، فدقه مجددا دون أن يرفع اصبعه...
الى أن توقفت أصوات الموسيقى، و تعالى صوتها من الداخل تقول
(حاضر، لحظة، لحظة، آتية)
سمع أصوات أقدامها تقترب جريا، قبل أن تفتح الباب و هي تتشبث به لاهثة...

ثم لم تلبث أن اعتدلت و ابتسمت برقة، بينما شاب وجنتيها احمرار زادها رقة...
قالت ياسمين بتهذيب
(أهلا استاذ أيمن، خطوة عزيزة)
استدار أيمن عنها قليلا، بملامحه المتجهمة ثم قال بتحفظ دون أن يرد تحيتها
(أريد نورا من فضلك)
اتسعت ابتسامتها قليلا ثم قالت بأسف
(هل تريدها في أمر و تتركها أم أتيت الى اصطحابها، من فضلك دعها تجلس معي، لقد أعددنا العشاء للتو)
قال أمين بصوت جاف ليس ودودا اطلاقا.

(أتيت الى اصطحابها، اخبريها رجاءا)
بهتت ابتسامتها و نظرت اليه للحظة، ثم قالت بصوت منخفض و هي تطرق بوجهها
(لا بأس، لحظة واحدة)
ابتعدت عن الباب المفتوح بينما وقف أمين وهو يتذمر بنفاذ صبر، سبحان من ألهمه قوة السيطرة فلم يهينها أو يتهور في الكلام...
عامة كلامه مع أخته و ليس معها...

مرت عدة لحظات قبل أن تأتي نورا الى الباب و هي تلف حجابها على مضض تتبعها ياسمين الناظرة اليهما بصمت و قد اختفت ملامح الإبتسامة من وجهها...
همست نورا من بين أسنانها
(أخبرت أمي أنني سأصعد من فوري، لم يكن هناك داع للقبض على بهذه الطريقة)
برقت عينا أمين بغضب، الا أنه تمالك نفسه و قال بهدوء خطير
(كلامنا لن يكون هنا، كلامنا حين نصعد للبيت، هيا تقدميني).

رمقته نورا بنظرة لا تناسب فارق العمر بينهما، الا أنها لم تكن من الغباء بحيث تجادله علنا، فهي تعلم أمين حين ينفعل و يفقد أعصابه
اتق شر الحليم اذا غضب...
لذا زفرت بقوة و ابتعدت متجهة الى المصعد، و ما أن تحرك خلفها دون أي اهتمام بياسمين الواقفة في الباب...
حتى نادته بصوت رقيق
(أستاذ أمين)
توقف مكانه متصلبا، ثم استدارينظر اليها نظرة شملتها كلها للمرة الأولى...

كان يعرف شكلها، الا أنه لم يدقق النظر بها من قبل...
كانت بريئة الملامح جدا، ملامح هادئة لا تعرف الإنفعالات، دائمة الإبتسام...
و عينين تختلسان النظر بصورة مستمرة...
قال أمين بجفاء
(نعم)
ارتبكت ياسمين من صوته الجاف المهين، الا أنها ابتلعت اهانتها و قالت بخفوت.

(أرجوك لا تعاقب نورا بسبب تأخرها عندي، لم يكن ذنبها، أنا من كانت تتمسك بها كلما حاولت أن تخرج، بصراحة سكنها معي في نفس البناية كان فرصة ممتعة جدا لي، لم أتخيل أن نتصادق بمثل هذه السرعة، لقد ملأت أوقات فراغي بروحها الحلوة المشاغبة)
استدار اليها أمين بكليته الآن، ثم رمقها بنظرة ألجمتها تماما قبل أن يقول بهدوء.

(بما أنك تكلمت في هذا الموضوع من تلقاء نفسك، اذن اسمحي لي يا سيدة أن أنقل اليك وجهة نظري، أنا غير راض تماما عن صداقتك باختي نورا)
أجفلت ياسمين بشدة و ارتد وجهها و هي تسمع تصريحه المفاجىء الصادم، لكنها سيطرت على نفسها سريعا رغم كم الإهانة التي شعرت بها، و قالت بخفوت هادىء
(هلا تكرمت و أخبرتني عن السبب؟)
رفع أمين اصابعه ليعدد عليها دون اضطراب.

(أولا أنت أكبر منها بكثير، امرأة عاملة و لديك ما يشغل وقتك و حياتك، أما المتبقي منها فهو وقت فراغ بعكس نورا التي تحتاج لكل دقيقة في الدراسة للتفوق، ثانيا أنا أرفض الزيارات تماما، ثالثا وهو الأهم أنت امرأة متزوجة أي أن اهتماماتك مختلفة عن اهتماماتها)
ارتفع حاجبي ياسمين و هي تنظر اليه بصمت عنيف بعد تلك القائمة التي ألقاها على مسامعها للتو، بينما تجمدت ملامحها تماما...
ثم قالت أخيرا بجمود.

(أنا لست متزوجة)
رفع أمين وجهه ينظر اليها مقيما، ثم قال أخيرا بهدوء
(مطلقة اذن، لقد تجنبت ذكرها كي لا أجرحك)
ابتسمت ياسمين ابتسامة لم تصل الى عينيها المنكسرتين قليلا قبل أن تقول بنبرة ساخرة قليلا
(بك الخير، شكرا لمشاعرك الطيبة)
صمتت للحظة و هي تلتقط أنفاسها لتتحمل شدة احراج هذا الموقف، ثم قالت أخيرا بهدوء خافت.

(اذن اختصارا لكل ما عددته على مسامعي، انت ترفض صداقتي لها لمجرد أنني مطلقة، اليس هذا هو الأصح؟)
قال أمين بلا حرج و دون تردد
(نعم، هذا هو السبب دون تجريح أو اهانة)
ابتسمت ياسمين مجددا و هي تبتلع غصة في حلقها ثم قالت بخفوت ساخر
(ألم أقل لك أن بك الخير!، لكن ما مشكلة المطلقة في وجهة نظرك؟، أليست انسانة تحتاج الى الصداقة و الضحك و المرح مثل باقي البشر؟)
قال أمين بنفاذ صبر.

(من فضلك اعفيني من محاضرة حقوق المرأة، لست هنا بصدد المناقشة و الحوار و الجدال الذي لا طائل له، أنا هنا لأضع النقاط عل الأحرف و انهي هذا الأمر)
قالت ياسمين بصوت مهتز منفعل قليلا.

(تقصد لتنهي هذه الصداقة، الا ترى أنك تبالغ في حماية أختك!، فتاة في مثل عمرها لم تعد طفلة و تستطيع التمييز بين العلاقات النافعة و العلاقات الخطيرة، لا أصدق أن رجلا بمثل ثقافتك و تهذيبك يمكنه تقرير نوعية الصديقات المسموح بها لأخته!)
قال أيمن ببرود صارم
(صدقي أذن، من فضلك اقتصري في علاقتك بها على التحية فقط و لا تتداخلا أكثر).

و دون أن يسمح لها بالمزيد من الجدال تركها و اتجه الى المصعد، الا أنها نادته أخيرا، لتقول بهدوء
(على فكرة، أنا لست من المتشدقات بحقوق المرأة في كل مناسبة، و لست حتى من مناصارت المساواة بين الرجل و المرأة، أنا أؤمن تماما أن الرجل رجل و المرأة مراة، هو أقوى، له حق طاعته وواجب حمايتها).

استدار لينظر اليها نظرة متفحصة، فارتبكت و احمر وجهها الرقيق حتى أنها أخفضته و هي تتشبث بباب شقتها، لكن أمين قال في النهاية ببرود
(جيد لك، حافظي على افكارك اذن لنفسك و ابتعدي عن أختي)
امتقع وجه ياسمين بشدة، بينما وقفت مكانها و هي تراه يستقل المصعد و يغلق أبوابه أمام وجهها...
فغرت شفتيها تريد الصراخ...

لماذا صمتت؟، لماذا لم ترد عليه بما يستحقه؟، بل ما سبب جملتها المجنونة الأخيرة؟ ما الذي كانت تريد اثباته له؟، دخلت ياسمين الى شقتها و صفقت الباب، و هي تصرخ عاليا
(غبية، غبية، غبية).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة