قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني عشر

لم تصدق أنها تقف خلفه على الدراجة، رافعة ذراعيها للسماء و هي تصرخ سعيدة
بينما هو ينطلق بها في الطريق السريع الخالي و أنه يحملها على غيمة عالية...
مرت ساعات الى المغيب، فأوقف السيارة أخيرا الى جانب الطريق، قفزت منها تيماء و هي تخلع الخوذة هاتفة
(هذا أسعد يومٍ في حياتي، كنت قد نسيت متعة ركوب لدراجة البخارية).

أما قاصي فقد كان يراقبها مبتسما وهو يخلع خوذته ثم جذبها من خصرها، مقيدا رأسها بكفه قبل أن يوقف جدالها بقبلة مشتاقة...
و ما أن تركها حتى همست بقلب يخفق طربا
(نحن في الطريق، تأدب)
رد قاصي عليها ببساطة
(بعيدا جدا عن كليتك، فلو قبض علينا هنا، لن يتعرف عليكِ أحد)
ابتسمت و قالت بنعومة
(الا تستطيع الإنتظار حتى نصل الى البيت؟)
أجابها بعبث
(البيت لأشياء أخرى).

عضت على شفتها و أزداد توردها، لم يكن تورد الخجل. ، بل توردها حبا...
بينما أفلتت منها ضحكة غبية صغيرة، فضحك لضحكتها، الا أن ضحكته خفتت قليلا وهو يستند الى الدراجة ليحيط خصر تيماء بكفيه مفكرا...
فعلمت أن ما ستسمعه لن يعجبها مطلقا...
قالت تيماء بخفوت
(فقط تكلم، أعتدت الأمر)
رفع قاصي وجهه اليها، ثم قال بخفوت
(علي العودة غدا)
كانت تعلم معنى العودة، العودة الى بيته و ابنه و عمله، و حياته...

ظلت تيماء صامتة، لا تجد ما تجيب به، فجذبها قاصي اليه وهو يقول بخشونة
(لا أستطيع ترك عمرو و عملي أكثر)
ردت تيماء بهدوء دون أن تنظر الى عينيه
(أتفهم هذا)
هتف قاصي بغضب
(تبا لتفهمك، لا أريدك متفهمة)
نظرت اليه طويلا قبل أن تقول بخفوت
(ماللذي أملك تقديمه سوى التفهم؟)
رد قاصي بعنف مكبوت
(لا بد من ايجاد حل، لا يمكننا البقاء مفترقين بهذا الشكل)
رفعت تيماء حاجبيها و قالت
(هل ستقترح أن أترك عملي مثلا؟)
رد قاصي باستياء.

(لم أطلب هذا، فلا تفتعلي المشاكل)
قالت تيماء بفتور
(هل تقترح اذن أن تنتقل أنت و عمرو و، زوجتك الى هنا؟)
بدا قاصي مرتبكا، غاضبا، الا أنه قال بخفوت أجش
(نحن الآن في منتصف العام، لا يمكنني نقل عمرو الى مدرسة جديدة)
ردت تيماء ببساطة
(لا تنقله، يمكنني الإنتظار حتى نهاية العالم)
رفع قاصي عينيه الى عينيها، ثم قال بصوت أجش
(الا تشعرين بالوحدة في غيابي؟)
هزت تيماء كتفيها و قالت بخفوت
(اعتدت الوحدة، لا تهتم).

قال قاصي بغضب
(هذا ضرب تحت الحزام يا تيماء)
تنهدت و هي تبتعد عنه قليلا ثم قالت
(مطلقا، لكنني فعلا اعتدت الوحدة)
قال قاصي وهو يديرها اليه برفق
(لكنك تحملين طفلي الآن، لذا فالوحدة لن تكون كلمة في قاموسك، اطمئني، لن أقبل بهذا التشتت بيننا أكثر)
أومأت برأسها بصمت، و مرت عدة لحظات قبل أن تقول بخفوت.

(قاصي، هناك أمر كنت أرغب في مناقشته معك، الا ترى أنه من حق عمرو أن يعرف من والده الحقيقي، الولد لم يعد صغير، و بات يستوعب التغيير في الإسم)
هدر قاصي فجأة بصوت أجفلها
(لن نناقش هذا الأمر مجددا، اطلاقا)
ابلتعت تيماء ريقها بتوتر، الا أنها لم تستسلم و قالت بصوت خافت محاولة أن تصل اليه
(أنت تؤجل الأمر ليس الا، حقه أن عرف والده، و رغم دناءته فمن حق راجح أن يرى طفله ولو لمرة، ربما شعر بالأبوة تجاهه، ربما).

صرخ قاصي بعنف
(هل جننتِ؟، هل تريدين مني تسليم ابني الى من ألقى به دون شرف أو ضمير؟، هل جننتِ حقا؟)
هتفت تيماء مدافعة
(أنا لم)
الا أن قاصي رفع يده ليقول بقوة
(كفى يا تيماء، هذا الوضوع سيخلق فجوة بيننا، فتحاشيه، الا عمرو، لن أفرط به أبدا)
صمتت تيماء و هي تسحب نفسا حادا، محاولة أن تهدىء من نفسها
ماذا كانت تتخيل؟، أن يهدأ، أن يفكر، أن يسمعها...

ساد صمت مشحون بينهما و قد فسدت الغيمة التي حملها عليها في بداية الرحلة...
أخيرا تكلم قاصي بجمود
(هناك خبر عرفت به اليوم)
نظرت اليه تيماء بوجوم ثم قالت دون اهتمام
(ماذا؟)
رد قاصي متنهدا
(مسك ستتزوج اليوم)
انتفضت تيماء و هتفت بذهول
(مسك ستتزوج؟، و لماذا لم تخبرني؟، أخبرتك و لم تخبرني؟)
قال قاصي بصوت أجش.

(لقد اتصلت بها اليوم كي أراضيها بعد لقائنا الأخير، فعلمت منها أنها ستتزوج اليوم، و أنا لم تستطع دعوتك نظرا لوجود سالم، باختصار، سالم هو من رفض دعوتك طالما أنتِ زوجتي، لكن مسك أكدت الا أخبرك بذلك)
ساد الصمت بينهما، بينما نظرت تيماء للبعيد، و قاصي يراقب الألم الذي ارتسم بعينيها...

لا تزال تتألم لأجله، و كم يشعره هذا بالغضب، معنى أن تهتم لرفضه، أي أنها لا تزال تهتم بنيل رضاه، و قد تفعل اي شيء في سبيل هذا...
كان يحترق داخليا بصمت، الا أن صوتها أخرجه من تلك النار و هي تقول بخفوت
(من ستتزوج؟)
رد قاصي بعدم رضا
(زاهر)
ارتفع حاجبي تيماء بذهول، بينما الغضب يتسرب الى أعماقها ببطىء حتى صرخت بجنون
(زاهر! و قبلت به؟، كيف تفعل ذلك؟، لقد قرر الزواج من أخرى قبل حتى أن يعرضه عليها).

رد قاصي بحاجبين منعقدين
(و كيف عرفتِ؟)
ردت تيماء بعصبية
(أتتذكر ليلة زواجنا، حين صعدت الى جدي، أخبرني فريد أن زاهر تحديدا لن يقبل بي كزوجة، فهو يريد الزواج من اثنتين، احداهما تنجب له ولدا، و الأخرى هي التي يتمناها منذ فترة طويلة، و هي مسك، الجميع يعلم، الحقير، النذل)
أخرجت تيماء هاتفها من حقيبتها فسارع قاصي الى الإمساك بمعصمها قائلا بعنف
(ماذا تفعلين؟)
هتفت تيماء بقوة و غضب
(سأحذر مسك قبل فوات الأوان).

رد عليها قاصي بتوتر دون أن يتخلى عن معصمها...
(طالما أن الجميع يعرف بنيته، فمن المؤكد أن مسك أيضا، تعرف)
هتفت تيماء بقوة هادرة
(مستحيل، مستحيل أن تعرف و تقبل به، أنت لا تعرف مسك اذن، مسك لا تحط من قدر نفسها مطلقا)
ترك قاصي معصمها ببطىء، بينما بدت في عينيه نظرة غريبة لم تلحظها تيماء، خاصة و هي تسارع بطلب رقم مسك، و ما أن ردت أختها و هي تقف أمام المرآة مرتدية فستان عرسها...
قالت تيماء بتشنج.

(مسك، هناك ما أريد اخبارك به عن زاهر، ربما يكون خبر قديم، لكن علي أخبارك به قبل زواجكما).

نظر اليه في جلسته المتهالكة...
مشعث الشعر، طويل اللحية، عيناه بلون الدم، شاردتان باستمرار، بهما من الخطر ما يحتاجه تماما...
تكلم سالم أخيرا وهو يتحرك أمامه ببطىء
(انظر الى نفسك، انظر الى ما تحولت اليه، شبح رجل ضعيف، متهالك، و كل هذا لأن امرأة ترفض الزواج منك، و بدلا من أن تلقي بها من تفكيرك للأبد، تقدم على أكثر الأفعال جنونا و حماقة و اختلالا)
توقف سالم مكانه و هتف بغضب.

(تقدم على خطف ابنة عمك! هل جننت؟، فعلة كهذه كفيلة بأن تفقدك حياتك، الا أنك كنت اكثر حظا ففقدت الكثير من ممتلكات جدك الموعودة لك، أي معظم ثروتك، و تسببت في طردك و طرد والدك من أرضيكما للأبد، تبا لغبائك)
رفع راجح رأسه، ينظر الى عمه، بصمت، و بعينيه الحمراوين كعيني قاتل، بينما هدر به سالم بقسوة أشد.

(لأجل حب امرأة خسرت كل شيء، و لهذا خسرتها، فالمرأة لا تقنع بالرجل الغبي، أتعلم من زدته شماتة بك؟، ابن الحرام و الذي نال انتقامه منك و من والدك دون جهد)
لا يزال على صمته، و عيناه تزدادان احمرارا، الى أن قال قال سالم متابعا بصوت أكثر شرا.

(يا غبي، يا غبي، انسى ابنة عمك التي أزهقت روحك أكثر من مرة، و التفت الى ما هو أهم، أحرق قلبه و خذ منه ما هو ملك لك، خذ ابنك، لحمك و دمك، هذا هو الشيء الوحيد الذي سيحطمه الى شظايا متناثرة، إنه لا يحيى الا بفخر تربية ابن الرافعية و أنت تمنحه الولد بكل بساطة و غباء ليهزأ منا، عشت عمري كله أتمنى ظفر صبي و ها أنت تلقي بهم واحدا تلو الآخر، خذ ابنك يا راجح).

تابع الفصل الحادي و العشرون:
آه يا سوار يا ابنة وهدة...
كان يظن أن زمن المراقبة الصامتة قد انقضى منذ سنوات طويلة، لم يتخيل في أشد أحلامه أسرا بها أن تكون حلاله يوما ما، لذا توقف عن المراقبة منذ اليوم الذي كتبت فيه لغيره...
يكاد أن يعد على أصابعه عدد المرات التي نظر فيها اليها دون قصد، و كانت هي من يبدا بالسلام كل مرة...

و يعلم أنه كان يخذلها بشبه مقاطعته لها و كأنه يعاقبها على رفضها له، لكن لم تكن تلك الحقيقة، إنما كان يقتل في داخله شيطان الفتنة بها، وهو يعلم أن نظرة لعينيها قد تشعل به شوقا قديما...
و لم يكن ليسمح بذلك...
أما الآن فهي زوجته، تحل له و يحل النظر اليها دون كوابح...
لا يمنعه عن مراقبتها حتى ممانعتها هي...

و على الرغم من أنها أصبحت له جسدا و اسما، الا أنه لا يزال واقفا هنا يراقبها من مسافة دون أن تشعر به...
نعم لقد أصبحت سوار له...
لكنه يرفض حتى أن يفكر أن ما حدث بينهما كان حقا جسديا، لقد كان اكتمالا بينهما يصعب وصفه...
لقد كان من الروعة بحيث بدأ يشك في أنه كان يعرف شيئا عن فتنة النساء من قبل...
يا طيب عطرها، و جمال الشلال الأسود الحريري فوق ذراعيه...
تنهد باسمها كثيرا كرجلٍ تعب من الجري خلف السراب...

عليه الإعتراف أن الكثير قد فاته في معرفته لها، لقد قطع صلته الفعلية بها منذ ما يقرب من العشر سنوات...
و كم يتوق الى تذوق كل ما يخص المرآة التي تقف أمامه الآن، الناضجة ذات الهدوء الملوكي، و العينين، الغاضبتين...
نعم انها غاضبة منه، لكنها ترفض أن تضعف و تظهر شيئا من هذا الغضب، فتسيء الى وقارها المقدس...

كانت تحرك ما في أواني الطبخ بعصبية، على الرغم من ثبات جسدها، لكنه يلاحظ حركات أصابعها الخرقاء و هي تحضر طعام الغذاء دون أن يطلب منها...
ابتسم ليث من موقعه وهو يقف مكتفا ذراعيه، مستندا بكتفه الى اطار باب المطبخ...
ثم قال بصوتٍ عميق خافت كي لا يفزعها
(هذا أول ما علي أن أعرفه عنكِ، وهو أنكِ حين تغضبين، فإنكِ تلجأين الى الطبخ).

أجفلت سوار و استطاع أن يلمح تصلب جسدها الرائع تماما، حتى أصابعها توقفت و كأنها قد اصابها الشلل، لكنها لم تستدر اليه على الفور...
انتهز تلك اللحظات وهو يراقب شعرها الذي ربطته بشريط حريري ينافسه في الطول بطرفيه المتدليين على ظهرها...
لكنهما خسرا المنافسة، فقد استطال شعرها عنهما، طويلا، ساحرا و متجاوزا خصرها بدلال...
استدارت سوار في النهاية بملامح هادئة متزنة، لكنها لم تخدعه في هدوءها...

فوجهها كان مشتعلا بلون احمر قاني، و كأنها لا تستطيع نسيان لحظة مرت بينهما
و كم أسعده هذا...
قالت سوار دون ان تنظر لعينيه و هي تتابع بعض الأواني الأخرى بلا مبالاة
(أنا لست غاضبة)
اتسعت ابتسامة ليث وهو يتابع حركاتها دون ان تفوته احداها، فقد كانت متعة...
ثم قال بخفوت عميق و متسلي
(هذا شيء رائع سماعه، ظننت أنكِ ربما تكونين غاضبة مني بعض الشيء).

حينها رفعت سوار وجهها لتنظر اليه بتحدي و بلا تعبير معين، ثم قالت ببرود مهذب
(و لماذا أغضب منك؟، الأنك نلت حقك؟ في النهاية اسمه حق من حقوقك و أنا لن أغضب ربي بحرمانك منه، صحيح أنني كنت أفضل لو منحتني بعض الوقت، لكن و بما أنك لم توافق، فهذا أيضا حقك، لذا، لا ضغائن).

قالت الكلمة الأخيرة بمزيد من البرود و بدون تعبير معين، حتى أنها نطقت الكلمة الأخيرة بالإنجليزية، و كأنها تستفزه، رغم معرفته أن سوار لا تخلط لغتين في كلامها مطلقا...
فهذا لا يناسبها و لا يليق بمظهرها الشرقي و مخارج حروفها السليمة و التي ازدادت وضوحا بحفظها للقرآن كاملا...
لكنه لم يستسلم لاستفزازها الواضح، بل قال فجأة بصوت رجولي قوي النبرات بسلطة.

(و ماذا عن طلبك في تأجيل الإنجاب، على الرغم من توقي الشديد لأن أكون أبا، و قد خط الشيب رأسي، أنا و أنت لم نعد صغارا يا سوار و لا وقت كي نقضيه في دلال المراهقات و التمنع، فماذا عن هذا؟، الا ترين أنكِ تغضبين ربك بهذا الطلب؟)
ارتبك التحدي المرتسم على وجهها و الذي قضت الساعات الماضية في محاولة رسمه على وجهها كي تواجهه...

و ذاب البرود عن ملامحها فبدت صافية و أكثر انسانية و تعاطف و هي تسبل جفنيها قليلا...
بماذا تجيبه؟
انه لا يعلم السبب الحقيقي وراء طلبها، و هي لا تستطيع الشرح، لكنها من المستحيل ان تحمل بطفله الآن...
مستحيل...
لكنها تغضب ربها، نعم لا يمكنها الإنكار
طال الصمت بينهما، الا ان ليث كان على استعداد للبقاء معها سنوات، يحتجزها انتظارا لجوابها لو اقتضى الأمر...
فقالت في النهاية بخفوت دون ان تنظر اليه...

(كل شيء حدث بسرعة، و حملي بطفل الآن يعد ظلما لي، لقد فقدت طفلي و زوجي منذ أشهر قليلة، أنا أحاول و أحاول، لكن الجميع يتوقعون مني أن أكون امرأة خارقة و هذا ليس عدلا)
ابتلع ليث احساسها بأنها لا تزال متزوجة من سليم، على الرغم مما يسببه له هذا من ألم رجولي مبرح، خاصة بعد الساعات الماضية...
الا أنه ابتلع ألمه و لم يحاول تصحيح الكلمة لها، لأنه لا يتوقع منها أن تكون امرأة خارقة، عكس ما تظن...

رفعت سوار عينيها اليه و قالت تسأله بفتور حزين
(و ماذا عنك، لماذا وافقت على طلبي طالما أنك تشعر بأنه مجحف في حقك؟)
استقام ليث من استناده على اطار باب المطبخ، و اقترب منها ببطىء وهو ينظر الى عينيها المحدقتين به بحذرٍ غاضب، في أعماقهما العسلية...
لم تحاول الهرب منه، بل وقفت بثبات تواجهه، لكنه توقف على بعد خطوة منها دون أن يحاول لمسها، و ظل يحدق بعينيها بنظرة تسبر أعماقهما بسلطان...

ثم قال أخيرا بصوت عميق بطيء، ما كان يفكر به للتو
(لأنني لا أتوقع منكِ أن تكوني امرأة خارقة)
صمت للحظة كي يرى تأثير كلماته عليها، فارتبكت سوار وارتجفت شفتيها في لمحة خاطفة، مما منحه الرضا اكثر مما تصور...
ارباك سوار الرافعي ولو للحظة يعد كغزو مملكةٍ ذات أسوار عالية منيعة...
الا أنه تابع بعد لحظات بنبرة أكثر تشديدا و دون أن يرفع صوته...

(كما أن حملك بطفلي يجب أن يكون بملىء ارادتي، هذا طفل له حياة كاملة، لن أفرضه عليكِ الا لو طلبتِ أنت)
كانت كلماته كالخناجر في خاصرتها، الا أنها من شدة العصبية الداخلية، رفعت وجهها و قالت فجأة دون تفكير، قاذفة الكلمات بوجهه
(الا أنك أرغمتني على تقبل حقوقك، أخبرتني بمنتهى الوضوح أنك لست في حاجة لطلب الإذن مني و مضيت فيما تنتويه دون أن تحسب حسابا لما أشعر).

ساد فجأة صمت ثقيل بينهما بعد أن رمته بتلك الكلمات الحاقدة...
فأطرقت بوجهها و هي تشتم لسانها الغبي على اظهار مثل تلك الروح المستضعفة و التي بدت و كأنها تطلب منه أن يراضيها و يستسمحها...
لم تكن تريد الظهور بمظهر الأنثى المطعونة و التي لم تستطع مقاومته...
قال ليث أخيرا بصوت غريب لا تعبير محدد فيه سوى صلابة نبرته الخافتة
(تابعي، أنا أسمعك).

لم ترد عليه سوار، بل ظلت واقفة امامه مطرقة الرأس، لا تعرف سبيلا لردٍ قوي، حاسم، يغلق النقاش...
الا أن ليث تابع بنبرة خافتة و أكثر خطورة
(اذن فقد أرغمتك، اغتصبتك ربما؟)
اتسعت عينا سوار و احمر وجهها أكثر ما بين الحياء و الغضب، الكثير من الغضب، فرفعت وجهها و قالت بتصلب محتد
(ليست سوار غانم الرافعي من تخضع لقوة جسدية)
كتف ليث ذراعيه وهو يقول بهدوء و قد فقدت عيناه روح التسلية بهما، ثم قال
(لم أجبرك اذن).

كان الغضب بداخلها يتقد أكثر و أكثر، فهتفت بقوة و هي تضرب الطاولة بجوارها بقبضتها و قد أفلتت منها روحها المتمردة
(بلى أجبرتني معنويا، أجبرتني حين وضعتني على حافة رفض حقوق زوجي، و أنا لم أتهرب من واجب قط، لذا ما فعلته كان ابتزاز و ليس اغتصاب)
أخذت نفسا عميقا و هي تحاول عبثا ابتلاع تلك الروح الهاجعة المندفعة منها عبر عينيها و لسانها القاصف...

حين طال الصمت بينهما مجددا، غامرت برفع وجهها اليه، الا أنها أجفلت و هي ترى تلك القساوة التي ارتسمت على ملامحه و عينيه...
ارتجفت سوار للحظة، ليست ارتجافة خوف و إنما، شيء شبيه بالندم...
فهي لم ترى هذا التعبير على وجه ليث تجاهها من قبل...
لقد آلمته و بشدة...
و على الرغم من غضبها الهادر منه، الا أنها لم تفكر في ايلامه ردا لكرامتها...

يظل هذا ليث الهلالي مهما فعل، ليث الذي وقف بجوارها موقف شهم و لم يتراجع حتى النهاية...
وضع شرفه و اسمه بين يديها دون أن يسأل، أو يتردد...
فتحت فمها لتنطق بشيء ما يلطف من قذائف كلماتها الفظة، فقالت بخفوت
(عامة، انتهى الأمر وأنا تجاوزته، أنت زوجي و هذا حقك)
لم يرد عليها ليث على الفور، بل ظل ينظر اليها بنفس التعبير الذي أشعرها بالندم أكثر...

و قبل أن تنطق مرة أخرى، كان هو أسرع منها فابتسم ببرود قائلا بصوت هادىء
(جيد، لكن لا تنسي الإبتسامة، أنتِ لا تريدين أن تمنحي زوجك حقوقه بالمن و الأذى، اليس كذلك)
فغرت سوار شفتيها قليلا و هي تنظر اليه بصمت، الا أنه نظر حوله و قال بصوت جامد
(أين أم مبروك و نسيم؟، لماذا لا تساعدانك؟)
رمشت بعينيها و هي تنظر حولها بنظرة خاطفة و كأنها تستوعب مكانها، ثم قالت بفتور خافت
(لقد صرفتهما الى داريهما حتى صباح الغد).

ابتسم ليث ابتسامة لم تصل الى عينيه، ثم قال بهدوء
(لا حاجة لتخيل أنكِ قد فعلتِ ذلك لنبقى معا دون دخلاء، خيالي لن يجمح الى هذا الحد العاطفي التافه بالتأكيد)
امتقع وجه سوار من سخريته المبطنة، الا أنها لم تستطع الرد...
فالحقيقة لم تصل فعلا الى هذا الحد العاطفي التافه فعلا، لم ترغب في مواجهة أحد بعد ما صار بينها و بين ليث منذ ساعات، و كأنهما ستقرئان على وجهها و من ارتباكها ما حدث و بسهولة...

نعم لقد كانت مرتبكة كتلميذة خائبة...
و تفاصيل ما حدث لا تنفك تداهمها كل لحظة...
على الرغم من سنوات عمرها التي تقارب الثلاثين، الا أنها الكثير من سنوات شبابها قضتها في واجبات و قوانين، اندمجت في حياة عائلة الرافعي و نبذت قلبها بعيدا، بعد أن سلمت هذا القلب الى من لا يستحق
وحده سليم هو من ادرك رغبتها، فمنحها اسمه فقط، دون شرط دون قيد...
اظلمت عينا سوار بدموعٍ غلفت حدقتيها و هي تنظر ارضا...

سليم، و كأنه كان في رحلة قصيرة الى هذا العالم يبث فيها من جمال روحه قبل أن يغادرها سريعا...
تاركا أثره في قلب كل من عرفه...
اقترب منها ليث في تلك اللحظة ليأخذ وجهها بين كفيه أثناء شرودها الحزين، فأجفلت سوار و هي ترفع عينيها اليه بسرعة...
الا أنها لم تستطع قراءة شيء من عينيه النافذتين، الصامتتين...
الى أن قال في النهاية بهدوء
(بما أننا قد أمسينا وحدنا، لا أظنك تمانعين في تقبيلي لزوجتي بحرية).

فغرت سوار شفتيها و همست بصوت غير مسموع
لا يا ليث...
لكنه لم يسمع ممانعتها الهامسة، و ربما سمعها و تجاهلها...
كل ما تعرفه أنه قضى على تلك الممانعة قبل أن تظهر الى النور، بتملك دافىء، جعلها ترتعش حتى الأعماق، وهو يغرقها أكثر و أكثر، ببطىء...
بينما أصابعه تتلمس وجهها الأبي...
لا تعلم كم مرت من الثواني بينهما، و ربما دقائق هادئة تماما...
لا تحمل اثرا لقوة أو تسرع...

بل كان متمهلا في قبلته، و كأنه يمنحها الفرصة كاملة في استشعار كل لحظة بها، عله يذيب بعضا من تلك القساوة التي باتت تحيط بها و لم يعهدها بها من قبل...
لم تكن تلك هي نفسها سوار التي ابتعد عنها منذ عشر سنوات، لكنه لا يمانع الآن في التعرف الى سوار الجديدة مهما كانت ميتة الروح، مصابة، او حتى شديدة القسوة...
ابتعد عنها ليث في النهاية وهو ينظر الى وجهها الصافي و الشاحب قليلا، و الى جفنيها المغمضين...

بينما كانت أنفاسها تصدر صوتا خافت جدا و كأنه نحيب دون دموع...
فقال بخفوت هامس
(سأبقى في مكتبتي الى أن يحين موعد الغذاء، و سلمت يداكِ مسبقا)
ترك وجهها أخيرا ثم تراجع خطوة دون ان يرفع عينيه عنها، الى أن استدار و خرج من المطبخ أخيرا...
بقت سوار مكانها تنظر الى حيث اختفى ليث بعينين واسعتين قليلا قبل أن ترفع أصابعها الى شفتيها...
صورة أخرى من صور علاقتهما الجديدة...

علاقة مخجلة في مدى انسيابها بنعومة رغم ممانعتها النفسية...
و كأنها تتسلل عبر حواجزها كي تجعلها تتذوق كل لحظة على نحو خاص...
أغمضت سوار عينيها بقوة و هي تشعر بعذاب فوق قدرتها على التحمل...
ليس عليها أن تستشعر هذا التجاوب مع رجل غير سليم...
لقد مات شابا، صحيح الجسد، جميل القسمات، و بقت هي...
تركها و ترك خلفه ثأرا لن يهدأ قبل أن يقضى على يديها...

لا أن تتزوج و تتمتع بليالٍ من الدلال و الرغبة بين ذراعي رجلٍ آخر...
حتى لو كان هذا الرجل هو، ليث الهلالي...

كان المساء قد حل و قاربت الشمس على المغيب، حين انتهت من وضع الأطباق على مائدة الطعام بصمت...
لقد أمضت في المطبخ وقتا أكثر مما انتوته...
وجوده معها في هذه الدار وحدهما كان كفيلا بأن يجعلها تلتزم المطبخ لفترة أطول متهربة من لمساته، و قبلاته، و فظاظة كلماته، و تعامله معها و كأنها حق مكتسب له...
كانت تسكب الحساء بشرود في أحد الأواني و هي تمسكه باليد الأخرى، حين سمعت صوته من خلفها يقول بهدوء.

(لقد أتعبتِ نفسك اليوم)
أجفلت سوار مع هذا الصوت الرجولي الذي بات مألوفا لها فانسكب الحساء الساخن على يدها الممسكة بالإناء، مما جعلها تشهق ألما و هي تسارع بنفض يدها...
لكن ليث كان أسرع منها وهو يلتقط كفها قائلا بجدية و قلق
(هل آذيت نفسك؟)
حاولت سوار ابعاد كفها من بين يديه، الا أنه لم يسمح لها وهو يتفحص كفها الذي تلون باللون الأحمر على الفور...
فقالت بصلابة
(لم يحدث شيء، مجرد سائل ساخن، لا داعي لكل هذا).

الا أن ابهام ليث كان يتحرك على يدها المحتقنة وهو ينظر اليها بحاجبين منعقدين و تفكير طويل...
ثم قال وهو يرفع عينيه الى عينيها دون أن يترك يدها
(لا داعي لأن تكوني بمثل هذه العصبية يا سوار، لن أضايقك برغباتي أكثر، اهدئي و تعاملي معي ببساطة، أنه أنا ليث ابن خالك قبل أن أكون زوجك)
احمرت وجنتاها قليلا، الا أنها قالت بنفاذ صبر.

(هلا توقفنا عن الكلام في هذا الموضوع رجاءا، أرجوك اجلس كي تتناول غذائك، لقد تأخرت بالفعل في اعداده)
نظر ليث الى المائدة البسيطة التي أعدتها و التي كانت تحتوي على عدة أصناف محدودة لكن شهية الرائحة، و جميلة المنظر...
فقال بهدوء وهو يعيد عينيه الى عينيها
(لم يكن عليكِ فعل هذا كله، كان عليكِ الراحة و ترك امر اعداد الطعام الى الخدم بدلا من صرفهم)
قالت سوار بصلابة.

(أنا لم أعتد أن يخدمني أحد، كنت أشرف على الخدم في دار الرافعية، الا أنني كنت أعمل معهم)
حاولت سحب يدها الا أن ليث لم يسمح لها فرفعت عينيها اليه و قالت بغيظ
(أنت تضغط على مكان الإحمرار و تزيد من احساسي به)
ظهر طيف ابتسامة على وجه ليث، ثم جذبها برفق وهو يقول
(اذن اجلسي لترتاحي قليلا)
سحب لها كرسيا، فجلست بتردد و هي تراه يجلس دون أن يترك كفها، و قبل أن تحاول سحبها من جديد.

كان يرفعها الى شفتيه ليقبل مكان الإحمرار بنعومة جعلتها ترتجف، وهو يقول بجدية
(الطعام يبدو رائعا، سلمت يداكِ)
قالت سوار بخفوت
(سبق و قلت هذا، هلا تركت يدي الآن، أشعر بالتعب و اريد التوجه الى غرفتي لأرتاح قليلا، كل شيء جاهز و معد لك كي تأكل)
هز ليث رأسه نفيا وهو لا يزال ممسكا بكفها، ثم قال ببساطة
(أنا لا أتناول الطعام بمفردي مطلقا)
أرادت سوار الصراخ به...
اذن اذهب الى زوجتك و تناول طعامك معها...

الا أنها خشيت أن يفسر هذا كغيرة عليه مثلا! لذا آثرت السيطرة على عصبيتها و قالت بتحدي
(و مع ذلك عليك أن تعذرني فأنا متعبة، و صحبتي لن تروق لكِ للمتبقي من هذا اليوم)
ابتسم ليث مجددا وهو يقول.

(أولا لن أعذرك، لأن هذا الطعام و المجهود الرائع أجمل من أن يتم اهدارهما عبر رجل يجلس ليأكل وحيدا في صمت، و امرأة تنام جائعة متعبة بعد أن وقفت لتعده بكل تفاني زوجة راقية، ثانيا، أنا فقط من يقرر إن كانت صحبتك تروق لي أو لا، لذا لا تشغلي بالك بهذا الأمر)
أرادت سوار الجدال أكثر و ربما الصراخ حقيقة هذه المرة، الا أن الكلمات توقفت في حلقها و هي تراه يسحب كفها ليضغط ظاهره فوق ابريق الماء المثلج برفق...

مبقيا كفيه فوق كفها بهيمنة...
ثم نظر الى عينيها ليقول وهو يسكب الطعام لنفسه و لها في طبقيهما...
(اذن كنتِ تعملين في المطبخ في دار الرافعية، أخبريني المزيد عن وقتك، كيف كنتِ تقضين حياتك بعد انتهائك من الدراسة؟، كمهندسة ظننتك ستشغلين وظيفة أو تبدأين مشروعا خاصا بكِ)
كانت سوار تنظر الى كفيهما بصمت، ثم قالت أخيرا باختصار
(تأخرت كثيرا في هذا السؤال، كان هذا منذ سنوات طويلة، ).

لم يترك ليث كفها بل ظل يضغطها على الأبريق البارد، و كفها يرتعش ما بين برودة الأبريق و حرارة كفة، مرسلا ذبذبات غريبة الى كامل جسدها...
ثم قال أخيرا بتمهل.

(أعرف أنني أستحق لومك يا مليحة، لكن لم يكن حل آخر، لم أكن لأتواصل معكِ و أنا أحمل بداخلي ذرة من مشاعر خاصة تجاهك، ربما لو لم تتزوجي من سليم رحمه الله، لكنت حاربت لأجلك طويلا، لكن زوجة سليم كانت محرمة النظر علي، محرمة الصوت، محرمة الفكر، لم أكن لأخونه بسماع صوتك)
رمشت سوار بعينيها و هي تطرق بوجهها لتتلاعب بمعلقتها في وعاء الحساء...
كلامه يربكها و يثير بداخلها مشاعر غريبة...

ليث الهلالي، ذلك الرجل المهيب الذي خط الشيب فوديه...
لا يزال متعلقا بمراهقة منذ عشر سنوات و أكثر، يبثها غزلا خفيا، و يفهمها أن مجرد نظرة اليها كانت كفيلة بافقاده احترامه لنفسه...
بصراحة، هي لا تؤمن بمثل تلك المشاعر الغيبية...
تلك التي تقبع في النفس لسنوات دون أن تموت، دون اللقاء و التواصل...
و لا تزال متعجبة آن رجل في مثل عمره يتكلم بهذه الطريقة...
لذا قالت بخفوت.

(لست مقتنعة بعذرك، و ربما لا أصدقه، تتكلم و كأنني ساحرة، تركت لك عملا منذ سنوات لم تستطع كسر سحره حتى الآن)
ساد الصمت قليلا، و ليث ينظر اليها، لقد نطقت للتو بما يسمعه من ميسرة على مدى السنوات...
ربما لو كان جاهلا مثلها، لصدق أن سوار الرافعي قد صنعت له عملا عند ساحر...
لكن ببساطة، هو يعلم ان سحر سوار الرافعي لم يكن على يدي مشعوذ، بل هو نابع من داخلها...

تأسر به كل من يعرفها، سوار الرافعي هي السحر بذاته...
قال ليث أخيرا بهدوء و اتزان
(لم أطلب اقتناعك، و تصديقك أمر راجع اليكِ، لست مطالبا بالتبرير، المهم أنكِ الآن زوجة ليث الهلالي)
لم ترد سوار و هي تتجنب النظر اليه، فترك يدها أخيرا وهو يقول آمرا
(تناولي طعامك، فأنت تبدين شاحبة للغاية)
رفعت سوار الملعقة الى فمها بصمت و دون شهية، متمنية أن تكون تلك هي نهاية الحوار، الا أنه فاجأها قولا بهدوء مترقب.

(لم تخبريني عن السبب الحقيقي لزيارة ابن عمك لكِ اليوم صباحا)
توقفت سوار عن ارتشاف الحساء و هي تنظر اليه بفراغ...
بدور! لقد نسيت أمرها تماما بعد ما حدث بينها و بين ليث و اكتمال زواجهما، لقد دارت في عالم آخر، و انفصلت عن الواقع بصدمة خفية لا تزال تعاني منها حتى الآن...
و ها هو يذكرها ببدور التي تاهت عن فكرها...
كان ليث يراقب امتقاع وجهها بدقة، الا أنها سيطرت على نفسها و هي ترفع ذقنها لتقول ببرود.

(أخبرتك السبب الحقيقي، و مثلك تماما، أنا لا أطلب تصديقك و لا أحتاج الى تبرير)
ظل ليث ينظر اليها بصمت، و نظراته تزداد صرامة، بينما هي جالسة مكانها تنتظر منه أن ينفجر بها في أي لحظة و يفقد أعصابه كي يمنحها العذر لتتركه و تهرب من صحبته...
ثم قال أخيرا بصوت آمر.

(تعلمين أنكِ كاذبة فاشلة يا سوار، و أنا لن أضغط عليكِ في اخباري ما لا تريدين عن عائلتك، لكنني لن أتمنى الا تكونا قد تحدثتما عما حذرتك به هنا في البيت، هذا ما لن أتهاون به)
لم ترد سوار على الفور...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة