قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث عشر

في الواقع لقد كان الحديث بينها و بين بدور واضحا تماما لمن يقرر السمع...
صحيح أنها منعتها قبل أن تتابع، لكن من يريد التنصت سيحاول تجميع الخيوط...
لكن ماذا كان في يدها لتفعل غير ما فعلت؟، هل تطردها من دارها كالمتسولين؟
سوار الرافعي لا ترد من يطرق بابها طلبا للمساعدة مطلقا، و بدور لا تحتاج مساعدة، بل تحتاج رحمة من حبل مشنقة...
قالت سوار بصيغة مبهمة، تقيها من ثقل الكذب.

(كان أمرا يخصها، و أنا لا أملك البوح به، حتى لزوجي)
كان ليث يراقبها دون ملل و عينين كالصقر، ثم قال أخيرا
(و أنا لا أطلب منك معرفة ما يخصها، فقط كوني حذرة لما نبهتك له، رجاءا)
عضت سوار على باطن شفتها و هي تتلاعب في الحساء بمعلقتها مجددا، ثم قالت دون أن تنظر اليه
(ستظل مكبل العنق طوال عمرك خوفا من افتضاح أمري، و هذا ما كان عليك التفكير به قبل المضي قدما في تلك الزيجة).

قال ليث بنبرة قاطعة ترسل الرجفة في الاوصال
(ليس ليث الهلالي من يكبل عنقه، و قراراتي أنا لا أندم عليها مطلقا، أنت مقدرة لي يا سوار منذ دهر، فلم أكن لأندم الآن، )
مقدرة له منذ دهر...
نعم على ما يبدو، فقد رفضت حبه، و أحبت آخر، لتتزوج من ثالث...
و بعد هذا العمر، ها هي زوجته، يمتلكها روحا و جسدا...
و كأنه كان يتركها أمانة لدى سليم الى حين
قال ليث يخرجها من أفكارها مغيرا الموضوع بحزم.

(بالمناسبة، سأحضر لكِ خادمتين أخرتين، و لو احتجدت أكثر من اثنتين أعلميني فقط)
رفعت سوار رأسها متفاجئة و هي تقول بقوة
(لكن أنا لا أريد تغييرهما)
أجفل ليث من نبرتها المهاجمة فنظر اليها مندهشا، فسارعت للقول بحذر و تردد و هي تقمع تلك القوة المتهورة داخلها دائما
(أقصد لماذا تريد تغييرهما بعد أن اعتدت عليهما؟، لا أفضل هذا التردد، و أحب أن أتعامل مع أشخاص لا تتغير من حولي)
رد ليث بصوت غامض.

(لم يمضي على وجودك هنا سوى يومين، هل اعتدت عليهما بهذه السرعة؟)
زمت سوار شفتيها و قد بدأت تستفز من هذا التحقيق لتقول بنبرة هادئة، حاسمة
(كنت قد بدأت، و ارتحت لوجودهما)
رد ليث باختصار
(هل نسيتِ ما وجدتهِ في دولابك؟، لم نحاسب من فعلها بعد)
قالت سوار مدافعة
(لم نتأكد من أن احداهما هي من فعلتها)
رد ليث بايجاز
(لم يكن في الدار غيرهما، و نحن)
رفعت سوار عينيها اليه و قالت ساخرة
(و زوجتك، أم تراك نسيتها).

رد ليث دون أن يتأثر بسخريتها
(ميسرة لم تدخل الى غرفتنا، بل أنها لم تصعد للطابق العلوي حتى)
شعرت سوار بشيء غريب تجاه دفاعه عن ميسرة، شيء من الضيق...
على الرغم من كل مساوىء ميسرة، و اضافة الى ذلك أن الله لم يرزقها بأطفال، لم يتركها ليث و لم يفكر في الزواج من أخرى طوال تلك السنوات على الرغم من أنه كبير شباب عائلة الهلالي و هذا الأمر يعد منتقدا...
و ها هو يدافع عنها بحزم...

ربما كان ليث الهلالي لا يزال يحمل بداخله حلم اسطوري يسميه سوار الرافعي...
الا أن ميسرة كانت الواقع، زوجته التي اختارها بعقله و لم يتركها حتى الآن، ابنه عائلة الهلالي و ابنة عمه...
بينما تظل سوار، الحلم الأسطوري الذي حققه أخيرا بزواج صلح في قضية ثأر، و حركة شهامة في الدفاع عن شرفها و سمعتها...
لذا ترى أن كفة ميسرة هي الأرجح...

لأنها تقدر القوانين أكثر من المشاعر، تعرف معنى الإلتزام أكثر من معنى الأحلام...
أخذت سوار نفسا عميقا كي تبعد تلك الأفكار الدخيلة على عقلها ثم قالت ببساطة
(و مع ذلك لا أفضل قطع الأرزاق، انها مجرد حركة تافهة و من فعلها يريد مضايقتي ليس أكثر، أرجو الا تأتي بغيرهما)
ظل ليث ينظر اليها طويلا، ثم قال في النهاية بصوت لا تعبير له
(حسنا، إن كانت تلك هي رغبتك، لكنهما ستظلان تحت أنظاري).

ظلت سوار تقلب الحساء بشرود ثم قالت بصوت خافت
(لا بأس بذلك)
قضيا الدقائق التالية في تناول الطعام، حيث كانت سوار تأكل بلا شهية، مجرد لقيمات صغيرة مدعية الأكل، بينما هي في الحقيقة تراقبه بطرف عينيها حيث كان يأكل بنهم...
كان يستمتع بكل قطعة، و كأنها المرة الأولى التي يتناول بها طعاما معدا بيتيا...
و كأنه عازب لم يسبق له معرفة الأكل من يدي زوجته...
للحظة شردت عيناها في شفتيه النهمتين...

يبدو أنهما نهمتين في كل المجالات...
رفع ليث عينيه لتلتقيا بعينيها العسليتين المراقبتين له فجأة، فارتبكت سوار و سارعت بخفضهما، فقال لها مبتسما
(هل آذيت نظرك بافتراسي للطعام على هذا النحو؟)
نظرت اليه بطرف عينيها ثم قالت بخفوت
(تبدو جائعا)
رد عليها مبتسما تلك الابتسامة الصغيرة المتزنة، ناظرا الى عينيها
(نعم، كنت أتضور جوعا، و حين أجوع لا أستطيع السيطرة على انفعالاتي، سامحيني).

للحظات شعرت بأنه يعطيها اشارات متداخلة...
و كأنه يتكلم عن...
رفعت عينيها اليه تتأكد من صدق ظنونها الا أن ابتسامته زادت رقة و نظر الى طبقه ليكمل طعامه، ثم قال ببساطة
(سلمت يداكِ، لم أعرف أنكِ طباخة ماهرة الى هذا الحد)
قالت سوار بهدوء
(ربما لو كنت قبلت أحدى دعوات سليم رحمه الله، لكنت عرفت وقتها)
لم يرد ليث، بل أنهى ما بفمه ثم التقط المحرمة المطوية بجواره ليمسح بها فمه بملامح رزينة، قبل أن يقول بهدوء.

(رحمه الله)
لم يزد، و لم يجيبها فعلا، بل اكتفى بالترحم عليه، فقالت سوار بعد فترة
(هل كان غاليا عليك؟)
رفع ليث عينيه الى عينيها، ثم قال بخفوت
(كان في معزة أخي، و أكثر، ربطتنا صداقة أنا وهو و قاصي، ربما اختلفت نظرتنا للحياة في الكثير من الأمور، الا أننا كنا نكن لبعضنا مشاعر الأخوة حتى لو باعدت بيننا المسافات و السنوات، )
تركت سوار معلقتها و تراجعت في كرسيها لتنظر اليه قائلة.

(و هل يمكن لإمرأة أن تتسبب في خلخلة صداقة بين رجلين؟)
رأته وهو يلتقط نفسا عميقا، جسده متصلبا و عيناه جامدتان، لكنه لم ينفعل و لم يأمرها بالصمت، بل قال بهدوء، مسيطرا عليه بمهارة
(لا، لا يمكن لإمرأة أن تكون السبب في خلخلة الصداقة بين رجلين الا اذا كانت تلك الصداقة معطوبة من الأساس)
كصداقته براجح!
هذا ما أرادت قوله، الا أنها أبت أن تنطق الاسم المدنس على لسانها...
لذا قالت بصلابة.

(لكنك ابتعدت عن سليم أيضا، و لم يكن يستحق ذلك منك، سليم لم يسعى للزواج مني، وهو يعرف برغبتك، أنا من اخترته وهو ما وافق الا ليحميني من اختيارٍ أسوأ)
نظر اليها ليث ليقول بهدوء موجز
(سليم كان مقدرا لابتعادي)
قالت سوار بحدة
(ربما لم يكن)
ارتفع حاجبيه و قال
(هل سبق و اخبرك أنه يحمل أي ضغينة تجاههي؟)
أرتبكت سوار و تراجعت عن حدتها و هي تقول على مضض
(لا، لم يفعل).

ساد الصمت بينهما لعدة لحظات قبل أن يقول ليث أخيرا بهدوء
(أما أنا فقد أمنني عليكِ، لذا قضيتك في اظهاري بمظهر النذل خاسرة يا سوار)
امتقع وجهها و هي تقول بسرعة
(لم أحاول أبدا اظهارك بمظهر ال)
الا أن ليث قاطعها بهدوء قاطع
(بلى فعلتِ، أستطيع قراءة أفكارك بمنتهى السهولة، في البداية يبدأ اللوم على الإبتعاد عن سليم، ثم تصلين الى سماحي بالصلح بين العائلتين كي لا يأخذ بثأره)
فغرت سوار شفتيها و همست بخفوت.

(لا، لم يكن هذا ما كنت)
الا أن ليث عاد و قاطعها مجددا وهو يميل الى الطاولة قائلا بتركيز و عيناه تأسران عينيها
(حاذرى يا سوار، أنا أستطيع قراءة أفكارك بمنتهى الوضوح عبر شفافية عينيكِ العسليتين، فلا تحاولي اخفاء أي شيء عني، لأنكِ ستفشلين)
شعرت سوار بأنه يلقي اليها تهديدا مباشرا لم تستسيغه، الا أنه لم يسمح لها بالمتابعة
فقد نهض من مكانه وهو يقول برزانة
(الحمد لله، كانت طعاما رائعا، ).

ظنته سيقول سلمت يداكِ للمرة الثالثة، الا أنه انحنى اليها ليلتقط كفها المحمر ثم قبله برقة دون كلام...
و بعدها أخذ أطباقه الفارغة و اتجه بها الى المطبخ أمام عينيها!
ظلت سوار مكانها لعدة لحظات، تشعر بدوامات تدور داخلها في حلقات بسرعة عنيفة، بينما هي جالسة في سكون مطبق، و عينين صامتين تماما...
عاد ليث ليتناول المزيد من أواني الطعام، الا أن سوار سارعت للقول بخفوت.

(ماذا تفعل؟، أنا سأنظف المائدة، قبل غسل الاواني، لا تفعل ذلك)
الا أن ليث قال بهدوء
(سبق و غسلت ما استخدمته، طالما أنكِ صرفتِ أم مبروك و نسيم، فسأساعدك أنا)
نهضت سوار من مكانها و هي تلملم المزيد من الأطباق شاعرة بالحرج و هي تقول
(هذا لا يصح)
الا أن ليث قال ببساطة
(سوار بنت وهدة ليست هنا لتخدم، بل هي هنا لتأمر).

توقفت سوار مكانها تماما ممسكة بطبقين و هي تنظر اليه مصدومة، الا أنه ابتسم لها ليتابع طريقه الى المطبق، بكل وقار...

تدعي أنها لا تود الهرب...
الا أنها هربت الى غرفتها ما أن دخل ليث الى مكتبته من جديد بعد تناولهما للغذاء الذي عدته في جو هادىء، لا يفسده أي متطفل، سوى استفزازها الوقح له...
بصراحة كانت تلك هي المرة الأولى التي تجرب فيها حياة البيت المستقل، الخصوصية و الخلوة...
دون أي غرباء كما كان ينوى سليم رحمه الله، لكن القدر لم يمهله...
رفعت سوار وجهها لأعلى و هي تئن هامسة بعذاب.

(آآآه يا سليم، رحمك الله يا حبيبي)
منذ ساعات و هي تلتزم غرفتها، و منذ ما يقرب من الساعة و هي جالسة على حافة فراشها ممسكة بشريط الأقراص بين أصابعها تنظر اليه بشرود
حسنا على الرغم من عمرها الناضج الا أن الخبرة تنقصها في مثل تلك الأمور..
اليس من الأفضل أن تذهب الى طبيبة نسائية إن أرادت تأجيل الحمل فعلا؟

كل ما تعرفه هو انه جلب لها الأقراص كما طلبت، لكن هل تتمادى و تطلب منه أن يصطحبها الى المدينة كي تستشير الطبيبة بما لا يدع الشك في حدوث حمل!
ليس من المنطقي أن تاخذ الاقراص دون سؤال و دون توقيت او ميعاد...
لقد أخذت واحدا صباحا، و قد أخبرها أن تأخذ منه يوميا في نفس الموعد...
لكن هل تأخذ واحدا آخر الآن لو حاول الإقتراب منها؟
هل سيحاول الإقتراب منها مجددا؟

شعرت بنفسها تتوتر اكثر من المرة الأولى، كعروس ساذجة لم تتزوج قبلا...
لم تكن بنفس التوتر مع سليم رحمه الله...
زفرت سوار و هي تعيد تفكيرها بالقوة الى الأقراص في يدها، و التي تجهل كيفية استخدامها السليم و المضمون الا عن طريق متابعة الطبيبة...
لكنها لم تستطع المجازفة بطلب هذا من ليث...
على الرغم من قوتها و صلابتها، الا أنها تمتلك حدا أقصى من الوقاحة و الجبروت لا تستطيع تجاوزه...
همست سوار بصوت متخاذل.

(لا أستطيع أن أحمل طفله الآن، لا أستطيع)
أجفلت سوار فجأة و هي ترى باب الغرفة يفتح، قبل أن يدخل ليث، و من غيره!
فارتبكت وهو يلقي اليها نظرة عميقة قبل أن يتجه ليبدل ملابسه قائلا ببساطة
(مرحبا، هل تأخرت عليكِ؟)
سارعت سوار باخفاء شريط الأقراص بحرج و هي تنهض من مكانها قائلة بارتباك
(لم أكن أنتظرك، كنت شاردة فحسب).

رأته يخلع قميصه أمام عينيها المختلستي النظر اليه فسارعت تستدير عنه كي تمنحه حرية التصرف دون حرج، الا أنها رأته في المرآة، لا جدوى من الهرب...
قال ليث من خلفها
(لماذا كنتِ تجلسين على حافة السرير بهذا الشكل اذن؟)
رفعت سوار أحدى فراشي الشعر و اخذت تمشط بها شعرها المجموع في ذيل حصان طويل قبل أن تقول بخفوت محاولة أن تتجنب عينيه في المرآة...

(كنت شاردة، خذ راحتك في انهاء أعمالك فأنا لا أطالبك بوقت معين تقضيه معي)
ساد الصمت لعدة لحظات قبل أن يقول بهدوء متصلب
(قضاء الوقت معكِ هو غايتي)
لم ترد سوار بل ظلت صامتة تمشط شعرها بعصبية، الى أن قال ليث
(مكتبتي تحت أمرك، يمكنك أخذ ما تشائين منها كي تشغلي وقت فراغك، الا زلتِ تحبين القراءة كما كنتِ في مراهقتك؟)
رفعت سوار عينيها الى عينيه في المرآة، ثم قالت بهدوء سارح.

(و أكثر من ذي قبل، كان سليم رحمه الله يحضر لي المزيد من الكتب كلما سافر للمدينة، لدي مكتبة كبيرة في غرفتي بدار الرافعية، لم يتسنى لي احضار شيئا منها الى هنا)
لم يرد ليث، بل استدار بعيدا عنها و هو يتابع تبديل ملابسه، فاستدارت اليه سوار لتقول بحذر
(بمناسبة هذا، كان لدي طلب، هل يمكنني الذهاب لزيارة جدي غدا و إحضار بعض أغراضي الخاصة؟).

مرت عدة لحظات من الصمت و بدا ليث و كأنه لم يسمعها، و حين أوشكت على تكرار طلبها بعصبية، سبقها هو و قال بهدوء
(ليس من المعتاد لدينا أن تعود العروس الى بيت أهلها بمثل هذه السرعة حتى و لو كانت مجرد زيارة، أخبريني بكل ما ترغبين و سوف أشتريه لكِ جديدا، أما عن جدك فيمكنك الإتصال به)
شبكت أصابعها بتوتر و هي تبحث عن رد مناسب كي تتحجج به و تذهب لزيارة جدها كي تناقشه في أمر بدور، فقالت بتحفز.

(هذه التقاليد تناسب فتاة صغيرة و عروس بكر يا ليث، جدي متعب و منعزل عن الجميع بسبب ما حدث، عدة ضربات تلو الأخرى، وفاة سليم و ما حدث لي، ثم زواجي بتلك الطريقة و ابتعادي عنه و أنا التي لم أفارقه منذ سنوات، أقل ما يمكنك تقديمه له هو أن تسمح لي بزيارته كما أرغب، الا يكفيك سليم الذي قتل بيد واحد منكم، الان تمنعني عنه!).

كان صوتها قد احتد في نهاية كلماتها بتوتر، فالتفت اليها ليث بنظرة جعلتها تصمت تماما، ثم قال بصوت جامد
(الا ترين أنكِ تبالغين بمأساوية، كل ما قلته هو أن تؤخري الزيارة لوقت مقبول، خاصة و أن كبار عائلة الهلالي آتين لزيارتي غدا)
بهت لون سوار و هي تقول بصدمة
(غدا! وعدتني الا تسمح لأحد بزيارتي)
قال ليث بجفاء
(انهم آتين لزيارتي أنا)
بدت ملامحه قاتمة، و مجهدة، وهو يجلس على حافة السرير يحك رأسه قليلا...

نظرت سوار اليه عدة لحظات وهو يبدو غارقا في تفكير عميق، فدارت حول السرير الى أن وقفت أمامه ثم قالت بخفوت قلق
(متى عرفت بأمر الزيارة؟)
رد عليها ليث دون أن يرفع رأسه
(اتصل بي أحد أعمامي منذ دقائق)
ظلت سوار واقفة مكانها تنظر اليه بصمت، ثم قالت بخفوت
(و ما سبب الزيارة؟ّ! لا أعتقد أنها للتهنئة)
رفع ليث وجهه ليراقبها طويلا، ثم قال بهدوء
(ربما سأنال تقريعا كبيرا بسبب الطريقة التي تزوجنا بها).

أخذت سوار نفسا مضطربا ثم قالت بخفوت
(لم يعلم أحد منهم بالسبب، اليس كذلك؟)
قال ليث بتأكيد لا يسمح بالشك
(و لن يعلم مخلوق)
أطرقت سوار بوجهها و هي تقول بفتور
(لقد تسببت لك تلك الزيجة في الكثير من الضرر، لم يكن عليك المضي بها)
قاطعها ليث بتعب
(سوار، لن نعيد هذا الكلام مجددا، زواجي بكِ كان مفروغا منه، سواء تم الآن أو بعد أشهر، فلا تزيدي الجدال).

ضغط رأسه مجددا، فانتبهت سوار للمرة الأولى أنه بعد سفر أسبوع كامل و العودة صباحا، لم يرتح أو ينام، فقالت بصوت خفيض
(هل أنت متعب؟)
رفع وجهه المجهد اليها طويلا و عيناه تجريان عليها ببطىء محرق، قبل أن ينهض من مكانه ليقترب منها خطوة فتراجعت، الا أنه سحبها اليه وهو يقول بخفوت أجش
(نعم أنا متعب يا سوار، متعب جدا).

ارتبكت سوار و هي تحاول الالتفات من بين كفيه المحيطتان بخصرها أسفل مبذلها الحريري، لكنه لم يتركهها، فقالت برفق
(لما لا تنام قليلا، سأطفىء لك المصابيح و)
لكنها لم تستطع المتابعة وهو يضمها اليه بحنان جارف حتى تشكلت مع رحابة صدره بقوة بينما أراح شفتيه في تجويف عنقها وهو يهمس بنعومة
(راحتي لا تكون الا بكِ يا سوار، لا تقاوميني رجاءا)
تنهدت سوار بأنين و هي تقول
(ليث أرجوك، ترفق بي و امهلني وقتا).

شعرت بأنفاسه تلفح عنقها حد الألم وهو يهمس بصوت أجش
(عشر سنوات يا سوار، عشر سنوات الم تكفيكِ بعد؟، أنا اكتفيت يا مليحة، اكتفيت)
و دون أن ينتظر منها ردا كانت يده تسحب احدى طرفي عقدة المبذل قبل أن تمتد كفاه الى كتفيها ليسحبه عنهما حتى وقع أرضا...

وقف ليث ينظر اليها بعينين براقتين مسحورتين، وهو ينظر الى كتفيها الغضتين في قميص نومها الحريري الطويل، و المحتشم جدا لولا أنه يظهر كتفيها و ذراعيها لعينيه للمرة الأولى...
مد ليث يده ليسحب الشريط الحريري اللذي يجمع شعرها فانساب حول جسدها مما جعله يهمس بخشونة
(سوار).

حاولت الإبتعاد، الا أنه انحنى اليها و قد طار تعبه وحل معه طاقة جعلته يرفعها عاليا و كأنها وزن الريشة، على الرغم من أنها طويلة قوية البنيان و ليست خفيفة الوزن تماما...
تعلقت سوار بعنقه و هي تقول بقوة
(أرجوك)
الا أنه اقترب بها من السرير وهو يهمس لها بنعومة
(هذه المرة سأتمهل، أعدك بذلك).

ترى اين هي الآن؟
كان هذا هو السؤال الذي ألح عليه منذ الصباح الباكر، و منذ معرفته بأنها جائت للعمل بالفعل...
المعلومة خرجت من فم أسماء بنبرتها الممتعضة الطبيعية في سياق الحوار
لقد أتت الآنسة مسك اليوم و كأنها ترتدي ثوب جليد أكثر برودا من كل يوم، و لم يحالف الحظ كل من وقع بين يديها، و كأنها مقسمة على أن تفسد حياتنا واحدا تلو الآخر...
ما أن سمع اسمها حتى انتبهت حواسه كلها و تحفزت عضلات جسده...

لقد قضى ليلتين لم يعرف مثلهما من قبل مطلقا...
ليلتين من عذاب، لم يرى خلالهما سوى طيف عينيها و ارتفاع أنفها المستفز له كي يضمها الى صدره هاتفا
اخفضي أنفك قليلا، و ابكي...
كان تقريبا يعد الساعات المتبقية كي يأتي يوم الأحد و يراها في الشركة، لم يكن لديه شك في أنها تمتلك القوة كي تفعلها...
ستأتي غير آبهة بشماتة من غدير أو انتشار القصة، ستأتي مرفوعة الرأس و تتابع عملها...
ستأتي كمسك الرافعي...

و الغريب في الأمر أنه ما أن سمع بوصولها حتى انتابته فرحة غير متوقعة، كان يظن أنه التعاطف أو الرغبة في رؤيتها قوية كعادتها...
لكن تلك الفرحة كانت شعورا أكبر، أكبر من عرض زواج تقليدي عرضه عليها ذات يوم...
و أكبر من مجرد تعاطف معها لإصابتها المفجعة...
و ها هو ينتظر الفرصة كي يراها و يختلي بها فيطمئن عليها، بعفوية دون ان يسارع اليها فيلفت اليهما الأنظار...

لكن الفرصة أتت أسرع مما يتخيل، فأثناء جلوسه شاردا بمكتبه يفكر بها، دخلت أسماء فجأة لاهثة و كأنها كانت تجري، ثم هتفت بفزع من بين لهاثها...
(سيد أمجد، تعال بسرعة، هناك مشادة حادة بين راشد و الآنسة مسك الرافعي، لقد فقد أعصابه و احتد عليها تماما كمن أصابته هيستيريا و هي تقسم أنه لن يتابع عمله هنا، لقد أوشك على أن يضربها لولا أن العاملين وقفوا بينهما و منعوه بالقوة، لقد ضاع مستقبله في الشركة. ).

نهض أمجد من مكانه منتفضا وهو يهتف بغضب
(ماذا؟، هل أصابه الجنون؟)
اندفع خارجا من مكتبه تتبعه أسماء جريا و هي تهتف بهلع من خلفه
(على ما يبدو، لقد فقد أعصابه تماما، لكن هي السبب فهي قادرة على استفزاز الحجر، انها لن تهدأ حتى تصيبها أحدى دعواتنا أن يبتليها الله بما)
استدار أمجد اليها و هدر فجأة
(كفى، و لا كلمة أخرى، هل تظنين أن ما تقولينه هين؟).

تسمرت أسماء مكانها و هي ترى أمجد للمرة الأولى يعاملها بهذه الحدة، فارتجفت و هي تقول بحزن
(آآآ، آسفة)
لكن أمجد لم يرد، بل لم يكن منتظرا منها أسفا، بل تابع طريقه مندفعا و الغضب يغطي على مجال الرؤية لديه، حتى أنه لم يرى اثنين ممن مر بهما وهما يلقيان اليه التحية...
كان غاضبا و منفعلا الى أن وصل للطابق الثالث، و من بداية الرواق استطاع رؤية الجمع المتجمها، منقسما الى نصفين...

نصف من العمال يمسكون براشد المنفعل و كأن شيطان قد تلبسه، و النصف الآخر كان متمثلا في، مسك، كانت وحدها في جانب، تقف كنمرة تتحداه ان يقترب منها، بنظراتها التي تجمد الدم في العروق...
و كان صوتها هو أول صوت وصله، و كأنه الصوت الذي انتظر سماعه منذ يومين كامليين...

(إما أنا أو أنت في هذه الشركة، و ان كنت رجلا كما يدعون تعال و ارني مدى رجولتك و حاول مد يدك مجددا دون أن يمنعك احد، تلك هي الرجولة في نظرك، اليس كذلك يا سبع الرجال!)
صرخ راشد بجنون وهو يصارعهم كي يصل اليها
(الرجولة، تريدين معرفة الرجولة ايتها المدللة التافهة المغرورة، أنا سأريكِ بعضا منها)
دوى صوت أمجد فجأة كقصف مدفعي بينهما، رج الجدران من حولهم
(راااااااشد، اخرس).

تجمد العاملين من هول الصرخة التي قصفت فوق رؤوسهم، حتى مسك انتفضت متفاجئة و هي تنظر اليه من هول الصوت الجهوري...
الا أن راشد كان في حالة عصبية جعلته لا يسمع، كان يرتجف و يلهث من فرط الغضب...
وصل أمجد اليه ليقف بينهما ثم هدر في من يمسكون به
(اتركوه)
ساد صمت متوتر و همهمات، وهم لا يجرؤون فعلا على تركه، الا أن صيحة أخرى من امجد جعلتهم يمتثلون
(الآن).

و بالفعل بدأت الأيادي تبتعد عن كتفيه و خصره و ذراعيه، الى ان وقف حرا يلهث، وهو ينظر اليهما بعينين حمراوين...
أمسك أمجد بمقدمة قميصه بكلتا قبضتيه و هزه بكل قوته وهو يهدر في وجهه
(تريد ضرب امرأة؟، حسنا هيا، افعل، لكن تجاوزني أولا)
بدا راشد و كأنه ليس في وعيه، زائغ النظرات مرتجف بطريقة غير ثابتة، الا أن مسك قالت بحدة من خلف أمجد.

(امرأة؟، هل هذا هو توصيفك لما يحدث؟، أنه يريد ضرب امرأة؟، أي أنني لو كنت رجلا فيحل له أن يتجاوز مع أحد مدرائه؟)
هدر أمجد بغضب دون أن يترك راشد و دون أن يلتفت اليها
(اصمتي يا مسك)
ارتفع حاجبيها بدهشة و هي تنظر الى ظهره، بينما صوته يقصف بعنف ليصمتها!
أرادت ضربه على رأسه الا أنها امتنعت مسيطرة على غضبها بأعجوبة...
حسنا، لهما حساب عسير حين يكونا بمفردهما، فبخلافه هي لن تهينه كمدير أمام عامليه...

كتفت ذراعيها و هي تطرق الأرض بكعب حذائها برتم بطيء، بينما الشرر ينطلق من عينيها المجرمتين في تلك اللحظة...
بينما ترك أمجد قميص راشد ليضربه على كتفه بقوة وهو يهدربصرامة قائلا
(هل أفقت؟، أجبني، هل أفقت؟)
لم يرد راشد، بل أطرق برأسه و فجأة و دون سابق انذار، انفجر في البكاء أمام الجميع!

ارتفع حاجبي أمجد قليلا بينما تعالت الشهقات من حوله، بينما أجفلت مسك بقوة و هي ترى الثور الذي كان يريد التهجم عليها منذ دقائق ينفجر باكيا كطفل صغير...
مرت عدة لحظات من الصدمة، قبل أن تتمالك نفسها و هي تقول آمرة
(ليذهب الجميع الى أعمالهم، أنا اريد راشد، بمفرده)
هتفت أسماء التي كانت تنظر الى ما يحدث بعينين دامعتين
(لن نتركه وحده معكِ)
الا أن مسك هدرت بقوة دون أن تتنازل في النظر اليها.

(أقسم بالله أنني قد وصلت الى آخر طاقتي على تحمل استهتاركم و تجاوزكم، ولو حاول أحدكم مخالفة أوامري في تلك اللحظة، فأقسم أنني سأقدم شكوى مكتوبة بكل تجاوز يحدث و لن يهدأ لي بال حتى يتم غلق القسم بأكمله)
بدأ الجميع ينظرون الى أمجد و كأنهم يسألونه المشورة، بينما كان هو ينظر الى مسك نظرة غريبة عاقدا حاجبيه، ثم قال أخيرا بصوت آمر
(هيا الى أعمالكم، سنعالج الموضوع دون هذا التجمهر).

بدأو يدخلون الى مكتبهم المجمع الضخم متثاقلين وهم ينظرون الى ثلاثتهم بقلق، مدركين أن مستقبل راشد قد انتهى في هذا المكان للأبد، و أقصى ما سيحدث أن يستطيع أمجد اقناعها الا تستدعي له الشرطة بنفوذها القوي هنا...
اختفى الجميع بينما بقى راشد مكانه و كأن الدموع لديه لا تنضب، و كأنه كان يتمنى البكاء منذ زمن...
و بقت أسماء تراقبه من بعيد بشفتين مرتعشتين و هي ترفض تركه، لكن أحد لم يلحظ وقوفها البعيد...

استدارت مسك الى راشد ترمقه بنظرة حادة قبل ان تمد يدها لتسحبه من ذراعه بقوة خلفها الى اقرب مكتب قائلة بصرامة
(تعال معي)
تبعهما امجد خطوة بخطوة، فدخل راشد و ما ان دخلت مسك و لاحظت أن أمجد خلفها لدرجة أنه طرق كعب حذائها بحذائه مما جعلها تتعثر، فنظرت اليه و همست بصوت خفيض و هما يقفان عند الباب
(عند اي مرحلة لم تستوعبني حين قلت، أنني أريد راشد بمفرده؟)
كانت جميلة، بل خلابة...

غاضبة و حادة الطباع، و شعرها الناعم افلتت خصلاته بفعل الغضب من ذيل حصان مقوس في حجم كف اليد، لذيذ الى درجة لا تصدق...
نظر الى عينيها و امتنع عن الرد الفظ الذي كان يريد رميها به، و اكتفى بأن همس لعينيها بنبرة آمرة متسلطة
(لن أتركك معه بمفردك للحظة، و يمكنك محاولة استخدام القوة الجسدية لدفعي خرجا لو أحببتِ).

ارتفع حاجبي مسك و هي تسمع منه نفس الاسلوب الآمر الذي تحدث به في حفل زفافها اللذي فشل قبل أن يبدأ، نفس الأسلوب الفظ و كأنه يملك عليها سلطانا...
فهمست له بشراسة
(يبدو أن الأمر قد حلا لك)
دارت عيناه ببطىء على ملامح وجهها الكلاسيكي الأنيق، و توقفت للحظة على أنفها المرتفع، ثم قال بجدية
(جدا، فوق تصورك).

ارتبكت قليلا، الا أنها زمت شفتيها و تأففت بصوتٍ واضح قبل أن تجذب سترتها الكلاسيكية لأسفل بحدة، ثم تتركه و تستدير الى راشد الذي قبع مكانه و الدموع تنساب على وجنتيه، لكن على الأقل دون صوت الآن...
التقطت مسك احد الكراسي ووضعته مواجها لكرسي راشد بقوة قبل أن تجلس اليه...
ظلت تنظر الى راشد طويلا بينما هو يتجنب النظر اليها، ماسحا وجنتيه بظاهر كفه و قد بدا و كأنه استعاد القليل من وعيه و سيطرته على نفسه...

تكلمت مسك أخيرا لتقول بهدوء
(تحاول ضربي، ثم يحدث أن يكون أنت من تبكي.! كيف ذلك؟)
للحظات ظل صامتا، لكن الدموع عادت لتنساب من عينيه مجددا غير قادرا على ايقافها، فقالت مسك بنفس الصوت الهادىء.

(لا رجل يبكي، صحيح أنها عبارة شرقية مقيتة تمثل الرجل على أنه مجرد آالة، لكن ربما كانت العبارة الوحيدة النافعة الآن، لا رجل يبكي، على الأقل في العمل، انتظر الى أن تعود الى بيتك و تكون بمفردك، ثم ابكي كما تشاء، لكن لا تضعف نفسك بتلك الصورة أمام الآخرين)
كان أمجد ينظر اليها بصمت و قد غارت عيناه بتعبير موجع، و قد استند الى الجدار مكتفا ذراعيه، يراقبها، يسمعها، يعرفها...
و لسانه يهمس دون صوت.

تكلمي كليوباترا، اصرخي...
قال راشد أخيرا بصوت خافت متداعي...
(أنا لم أضرب امرأة من قبل)
ارتفع حاجبي مسك و هي تقول
(و قررت أن تبدأ بي؟، سأعتبر هذه مجاملة لطيفة منك)
ابتسم أمجد شبه ابتسامة حزينة، دون أن يفقد التعبير العميق في عينيه، بينما قال راشد بصوت مجهد، و كأنه يهذي بتعب
(أنا، لا أعلم ما حدث لي)
قالت مسك بصلابة و هي تكتف ذراعيها واضعة ساقا فوق الأخرى بأناقة.

(ما حدث هو أنك تهجمت علي لمجرد أنني نبهتك بصيغة شديدة اللهجة الى تقصيرك في العمل، أنت تقريبا لا تعمل في الأيام الأخيرة، و حين تمسك ورقة واحدة تسجل كل ما بها خطأ فيخطىء كل من هم فوقك، أدائك صفر، و إن كان هناك تحت الصفر فسيكون مناسب أكثر، لقد انفعلت بسبب خصم نصف راتبك، لكن لو أردت الحق، فالعدل يقول أنك لا تستحق النصف المتبقي من راتبك، أنت لا تعمل من الأساس، فهل يسمح لك ضميرك بهذا؟ّ! هل تشعر بالراحة و أنت تتقاضى راتبك الذي لا تستحقه؟).

ابتسم راشد ابتسامة ساخرة، و نظر اليها بعينيه المتورمتين الحمراونين، ثم قال بخفوت مجهد
(راحة؟، لقد نسيت طعم هذه الكلمة منذ فترة لا أتذكرها، أنا لا أعرف سوى الشقاء، فلماذا تطلبين الراحة لضميري، دعيه يعاني كما أعاني أنا)
ظلت مسك تنظر اليه صامتة قليلا و هي تنظر اليه بتفكير ثم قالت أخيرا بهدوء
(حسنا، ظروفك صعبة، لما لا تخلص لعملك كي يبارك لك الله في رزقك، ليس الجميع في أحسن حال).

تحولت ابتسامته الساخرة الى ضحكة خفيضة وهو يقول.

(و ماذا تعرفين أنتِ عن الظروف الصعبة؟، هل لديكِ أم تحتاج الى غسيل كلوي مرتين في الشهر دون أن تمتلكي قرشا من تكلفتهما؟، هل تركك خطيبك لأنه لم يستطع تحمل التقشف معك بعد خطبة دامت سبع سنوات كاملة، و تزوج بعد أن خلع خاتمك بأشهر قليلة؟، هل اكتشفت أنكِ مصابة بفايروس C عن طريق الصدفة، وهو السبب الأول لتسريح العمال هنا في الشركة، فتحاولين اخفاء الأمر و تكتمه قدر الإمكان، الى أن يأتي أحد زملائك و يشي بكِ للإدارة اليوم، فتجلسين منتظرة قرار الطرد في أي لحظة و كأنك مجرمة او مختلسة).

كانت مسك تستمع اليه بعينين سوداوين بشدة، و شفتين ثقيلتين، انحنت زاويتهما فبدت كلوحة حزينة جميلة...
بينما أغمض أمجد عينيه للحظة ثم فتحهما على هذه اللوحة ليتجرع مرارها و يتشرب جمالها...
بينما تابع راشد باختناق وهو يشير خلفها باشارة مبهمة
(أنا و أسماء، نسحق كل يوم ما بين المشافي و السعي خلف الدواء الغير متوفر، و في النهاية نصل الى العمل لنحصل على نصف راتب أو ربع راتب، وفقا للنصيب).

نظرت مسك من خلف كتفها الى حيث أشار، فوجدت أسماء واقفة في أحد الأركان و هي تبكي و تشهق دون صوت، كانت تبكي كالأطفال، و تكتم صوت بكائها بحسرة، طالت نظرة مسك اليها بصمت، ثم أعادت نظرها الى راشد و قالت بهدوء خافت
(سألتني ان كانت لدي أم تحتاج الى غسيل كلوي، في الواقع لا، لأن أمي توفت بعد اصابتها بمرض السرطان، توفت بعد الكثير من العذاب و الأنين، صوت أنينها لا يزال يلازمني ليل نهار...

كنا نملك المال، لكن بعد الكثير من العلاج الموجع و المهلك لها، صعدت روحها الى بارئها، لم ينفعنا المال بشيء، هذا كان مثلا لأسئلتك أما الباقي فلها عندي أجوبة أكثر مرارا، و الخلاصة نفس العبارة، المال لم ينفعني بشيء، ربما ستسخر مما أقول و تضحك في داخلك، لكن تلك هي الحقيقة، كل فرد في أسرتي عانى أكثر مما تتصور، هذا اسمه الإبتلاء، ربما لا أملك تأكيد أن الحياة ستزدهر لك و ظروفك المادية و الصحية ستتحسن، لكن على الأقل انجح في اختبارك الوحيد، حسن استقبال الإبتلاء).

أطرق أمجد برأسه وهو يشعر للمرة الاولى في حياته بلسعة توجع عينيه، بينما الغصة في حلقه تزداد ألما...
نهضت مسك من مكانها ببطىء و هي تقول بهدوء
(عد الى عملك، سنعمل على حل المشكلة، )
تحركت مسك بأناقة تنوي الخروج، و ما أن مرت بأسماء التي كانت لا تزال تبكي بصمت، طرقعت لها بإصبعين تنبهها وهي تقول آمرة
(أنتِ، لدي لكِ شيئا، أريدك في مكتبي بعد انتهاء الدوام).

ثم خرجت أمام ثلاثة أزواج من العيون يتابعونها بصمت، ما بين دموع، و دموع، و، قلب رجلٍ في خطر...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة