قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والعشرون

منذ بضعة أيام، (حقك. و حقي أن أسافر للأبد، دون أن تمتلك حق منعي، لأنني سأكون قد حصلت على الطلاق منك)
ساد الصمت بينهما تماما، بعد أن ألقت بعبارتها الجليدية في وجهه ووقفت تنظر اليه، تنتظر ردة فعله...
كانت صلبة خارجيا، الا أنها كانت مرتعبة داخلها، لم تكن مرتعبة خوفا على نفسها منه...
بل كانت مرتعبة من نوبات غضبه التي تعرفها جيدا، و التي تدرك بأنها تكون خارجة عن حدود سيطرته...

الآن لم تعد نفس الفتاة التي تتحمل هذا العنف بقلب يدرك علة حبيبه...
الآن هي تحمل طفلا، طفلا تخاف عليه، طفل قاصي، و الذي تخاف عليه من بطش قاصي نفسه...
لذا و دون ان تدرك، كانت يدها قد ارتفعت لتلامس بطنها بأصابع مرتجفة، و كأنها تحمي طفلها منه بتلك الطريقة...
انخفضت عينا قاصي الناريتين الى حركة يدها التي لامست بها بطنها، و كأنه أدرك ما تفكر به، فزاد العنف في نظراته بصمت...

راقبته تيماء بعينين جامدتين، بينما قلبها يصرخ بعنف
اخترني، أرجوك اخترني
وقفت تنتظر تقرير مصير حبها، و كل لحظة تمر، تخبرها كم هو هين حبها عليه، كي يتردد بتلك الطريقة...
انتظرت منه أن يصرخ و يكسر، و يحطم كل ما حولها بفقدان للذرة المتبقية من عقله...
الا أنها لم تتوقع أن يتراجع رأسه للخلف لينفجر بضحكة عالية مخيفة!

ابتلعت تيماء ريقها و شعرت بخيط بارد يمر في عمودها الفقري و هي تسمع صدى ضحكاته المخيفة، فتراجعت للخلف خطوة تلقائيا و عيناها الواسعتان تنظران اليه بقلق...
استمرت ضحكاته بينهما كصوت رعد مرعب، الى ان بدأت تخفت وهو ينظر اليها بعينين لا تحملان ذرة من المرح، و اقترب منها خطوة، فتراجعت تيماء خطوة أخرى و هي ترفع وجهها محاولة الا تظهر له خوفها منه، الا أن كفها كان لا يزال ماكثا على بطنها، يحمي جنينها...

وصل اليها قاصي وهو ينظر اليها بتلك العينين اللتين عشقتهما دائما و أبدا، لكنهما الآن تنظران اليها بطريقة تثير فزع اعتى الرجال...
وقف امامها تماما، حينها فقط ارتفع وجهها اليه و تكلمت حين شعرت أن هذا الصمت يكاد أن يقتلها...
فقالت بفتور
(هل انتهيت من ضحكك؟، يسرني أن أكون قد رفهت عنك)
وضع قاصي كفيه في خصره وهو ينظر اليها، قبل ان يقول بصوت غريب، لا يعبر عن العاصفة الموشكة على الإندلاع في أية لحظة...

(بل و أكثر، هل تخيريني بينك و بين ريماس؟)
شعرت تيماء بقبضة جليدية تغلف صدرها، الا أنها واجهت عينيه قائلة بجمود
(هل تراه طلبا مبالغا فيه؟، يؤسفني اذن أن قدرت نفسي بشكل أكبر مما تستحق)
ضحك قاصي مجددا بعصبية وهو ينظر اليها مستنكرا، نظرة مجنونة صماء، قبل أن يصرخ في وجهها فجأة.

(أي قدر الذي تتكلمين عنه؟، تعرفين أن ريماس ليست في الكفة الأخرى من الميزان من الأساس، و لم أتخيل مطلقا أن تنزلي من قدرك و تضعي نفسك محل اختيار!)
لم يرهبها صوته الجهوري، بل أثار غضبها لتصرخ به هي الأخرى
(و أنا لم أظن أن تتزوجني ساهيا عن اخباري حقيقة زواجك من امرأة أخرى قبلي، لاغيا حقي في الموافقة أو الرفض)
هدر بها قاصي وهو يندفع اليها قابضا بكفيه على كتفيها حتى حفرت أصابعه في بشرتها بقسوة.

(هل عدنا لنفس النغمة من جديد؟، و الآن تحديدا؟، بعد أن سكن طفلي أحشائك)
كان الألم يعصف بها، يتلاعب بقلبها دون هوادة، الا أنها جابهته بكل عنف هاتفة
(طفلي هو السبب الرئيسي في اجباري على وضع حد لهذه المهزلة، أنت تخطىء في حق الجميع، حقي و حقها، و طفلي و طفلها، الا يمكنك أن تتنازل عن أنانيتك و تقرر ماذا تريد حقا؟، الى متى تنوي تركها رهينة معلقة بين يديك؟).

كانت عيناه تلمعان بالغضب و بدا و كأنه على وشك ضربها، الا أنه كان قد ارتدى قناع السخرية القاسية كي يخفي شعوره عنها، فقال باستهزاء عنيف
(هل ألمح تعاطفا منك على حالها؟، كم أنت رقيقة القلب يا تيمائي!)
شعرت تيماء بقسوة سخريته، الا أنها نظرت اليه ببرود و قالت بفظاظة
(لا أشعر بأي تعاطف معها، لكنك ستكون الخاسر بتقييد امرأة لا تزال تملك من الشباب ما يجعلها تتمنى حياة زوجية طبيعية).

ضاقت عينا قاصي وهو ينظر اليها محاولا فهم ما ترمي اليه، ثم قال بصوت غامض
(ما الذي تريدين قوله تحديدا؟)
رمشت تيماء بعينيها و هي تخفض وجهها محاولة لجم لسانها عن قول المزيد، بامكانها اشعال فتيل جنون رجولته و اخباره عن زيارة راجح لزوجته، بل و عناقهما و ملامسته لها...
الا أنها لم تكن لتفعل ذلك، فهي لا تملك من الأدلة سوى أقوال طفل صغير، و هي لا تعلم كيف سيتصرف قاصي لو علم بالأمر...

أخذت تيماء نفسا عميقا، ثم نظرت اليه و قالت بفتور خافت...
(ألم تفكر للحظة، أنه ربما كان من مصلحة عمرو أن يتعرف الى والده، لربما رغب في ضمه اليه؟)
اتسعت عينا قاصي بذهول وهو يستمع الى ما تقول، و كأنه ينظر الى معتوهة، تطاولت عليه...
أما تيماء فتابعت بشجاعة، محاولة الكلام بصوت ثابت متزن قدر الإمكان...

(حسنا، أدرك كم هو شخص دنيء، و ألقى بابنه منذ سنوات، لكنه يظل والده، وهو لم يره بعد حتى الآن، ماذا لو رآه و أحبه و رغب في أن يكون والده، حينها لن تستطيع أن تعارض حقه، فراجح سيظل والد عمرو شئت أم أبيت، و من حق عمرو أن)
هدر قاصي فجأة بعنف
(اصمتي)
صمتت تيماء و هي تبتلع المتبقي من كلماتها، ناظرة الى الغضب الذي تجلى في عيني قاصي بصورة مرعبة، لكنها قالت بخفوت بعد عدة لحظات.

(لن يمكنك السيطرة على عمرو طوال عمره، سيكبر و سيرغب في)
صرخ قاصي مجددا وهو يشدد على ذراعها
(قلت اصمتي يا تيماء، لا تتدخلين في أمر لا تعرفين عنه شيئا)
اطرقت تيماء بوجهها الشاحب و هي تنظر أرضا، قبل أن تكرر كلماته بخفوت شارد و كأنها تحادث نفسها بسخرية مريرة
(لا أتدخل، بالطبع، من أكون أنا لأتدخل بين أفراد الأسرة الواحدة)
هتف قاصي بها بنفاذ صبر.

(كفي عن أسلوب النواح هذا، فهو لا يليق بك، و لن تثيري تعاطفي معك بتلك الطريقة العاطفية الرخيصة)
رفعت تيماء وجهها اليه و هي تقول بصدمة
(أثير تعاطفك؟، هل هذا هو ما استنتجته من كلامي كله؟، أنا لا أحتاج الى تعاطفك، أنا هنا لأفرض حقوقي، فأنا لن أقبل بأن).

قاطعها قاصي فجأة وهو يتراجع بها الى أن ارتطمت بالحائط خلفها فأغمضت عينيها و هي تحاول تهدئة الخوف المتردد داخلها، بينما انحنى قاصي حتى أصبح وجهه مواجها لوجهها فهمس لها بشراسة
(لن تقبلي! لن تقبلي ماذا؟، دعيني أنعش لك ذاكرتك تيمائي الصغيرة، لقد سبق و قبلت بالفعل).

رفع يده فجأة يلامس بشرتها الظاهرة من أزرار قميصها العلوية المحلولة، فازداد ارتجفاها بأسى وهي تسمع ضحكته الخافتة القريبة من أذنها، فأبقت على عينيها مطبقتين، الى أن همس بخفوت أجش
(لقد وقعت عقدا يا تيماء، و ختمت عليه روحا و جسدا، و سأكون ملعونا لو سمحت لك بفسخ هذا العقد لأي سبب كان).

فتحت تيماء عينيها و هي ترفع وجهها لتنظر الى وجهه الأحمر الغاضب العنيف و الذي يعد مخيفا لغيرها، لكن ليس لها، خوفها كان من تأثير ردة فعله العنيفة عليه هو. و على طفلها...
لكنها لم تخافه يوما، و لن تخافه أبدا...
مهما ظلمها و تجبر، مهما قسى و استأسد، لن تخافه، ستظل تيمائه الوحيدة...
لكنها ستقتل أنانيته تجاهها حتى ولو تطلب هذا فراقها عنه، مجددا...
فغرت تيماء شفتيها لتقول بخفوت.

(الكرة في ملعبك يا قاصي، أنت من ستفسخ العقد بيننا، أو تبقي عليه)
صمتت للحظة تبتلع الغصة المسننة في حلقها لتتابع باختناق هامس
(عقد الحصرية يا قاصي، أتتذكره؟)
ازداد انعقاد حاجبي قاصي، و لمع شيئا ما فيه عينيه، تمنت أن يكون الألم...
رفعت قبضتها المضمومة لتضرب بها قلبه وهي تتابع بصوت أكثر اختناقا تذكره
(أنت تخصني وحدي، أتتذكر؟).

لمعت الدموع في عينيها الفيروزيتين كغلالة ناعمة، دون بكاء أو نحيب، مجرد ستار صاف جعل عيناه تتألمان بوهج حريقهما أكثر وهو ينظر الى هاتين العينين الواسعتين كأجمل ما فيها...
حاولت ابعاد قبضتها عن صدره و هي ترمش بعينيها مشيحة بوجهها بإباء كي لا تبكي أمامه، الا أنه سارع بالتقاط قبضتها و أطبق عليها مبقيا اياها فوق قلبه وهو يقول بصوت أجش.

(ما الذي حدث لك؟، تركتك مبتهجة و تتوهجين عشقا، و الآن تبدين كقطة شرسة، تريد تمزيق صدري بمخالبها الصغيرة)
رفعت تيماء وجهها اليه و هي تستند برأسها للجدار من خلفها، تتأمل ملامحه بكل ذرة فيها...
تحبه، اي والله تحبه و تعشقه...
همست له بخفوت
(الكلمة الصحيحة الوحيدة فيما نطقت هي، تركتك ).

غامت عيناه للحظة وهو يميل اليها، مستندا بكفه الى الجدار بجوار وجهها، و أنفاسه تلامس بشرتها، بينما أصابع يده الأخرى ارتفعت لتلاحق ملامح وجهها الناعم ببطىء.
أعلى وجنتها و فكها نزولا الى شفتيها وهو يهمس لها بصوت أجش بطيء
(كل هذا لأنك اشتقت إلى يا مجنونة؟، و أنا اشتقت اليك أكثر، اشتقت للنوم و رأسي يرتاح بين أحضانك)
قالت تيماء بخفوت و هي تلتهمه بحدقتيها الواسعتين.

(نعم اشتقت اليك، و بأكثر مما تتصور، لكن الشوق ليس هو ما يحركني و يتحكم بعقلي، اختر و الآن يا قاصي)
تسمرت أصابعه للحظة فوق فكها، و تشنجت ملامحه و اربدت، بينما ضربتها نظرة مستعرة منه، لكنه لم يلبث ان ضحك ضحكة قصيرة خشنة، لا تحمل اثرا للمرح وهو يقول بخفوت يحمل لمحة من القسوة
و اصابعه تداعب عنقها...
(لا تبالغي يا تيماء، فأنا أستطيع أن أخضاعك، و حالا).

كان لكلماته المفعول القوي الذي احتاجت اليه، كي تحارب بها وهج عشق النظر اليه...
فتسمرت كل عضلة بجسدها، و أظلمت عيناها، بينما ارتفع وجهها بملامح غريبة جديدة و هي تقول فجأة بصوت قوي متصلب هادىء
(لم تستطع قبيلة بأكملها اخضاعي، لذا لن تستطيع أنت ما لم أمنحك أنا الإذن، ).

الآن فقط فقد القناع اللطيف الذي كان يرتديه ليخفي عنها تجدد غضبه، ما أن لاحظ جديتها و صلابة صوتها، فانخفضت يده عن وجهها، و ابتعد عنها خطوة، ناظرا اليها بنظرة غريبة، بينما استقامت تيماء من استنادها الى الجدار ووقفت امامه تواجهه قائلة بثبات
(يبدو أنك أخطأت استيعاب خضوعي لك يا قاصي، لقد كان بأمر مني، لا بأمرك)
ساد الصمت بينهما لعدة لحظات و كل منهما يقف مواجها للآخر...
الى أن قال قاصي بصوت غامض أجش.

(يبدو أنني فعلا قد أسأت فهمك! لقد تخيلت بمنتهى الغباء، أنك سلمت بوجود كل منا في حياة الآخر، مهما كانت العواقب أو الظروف)
رفعت وجهها و هي تقول بصوت اكثر قسوة
(ليس حين يكون احد تلك الظروف هو وجود امرأة أخرى في حياتك)
صرخ فيها بعنف جعلها تنتفض مكانها. وهو يضرب جانب رأسها باصبعه بقسوة آلمتها حتى تأوهت
(لا وجود لها في حياتي، حاولى أن تقحمي هذا في عقلك الغبي)
أزاحت يده عن رأسها بقوة و هي تهتف.

(ماذا تعني بأن لا وجود لها في حياتك؟)
لم يرد عليها قاصي وهو ينظر اليها متجهما بجنون، الا أنها لم تصمت، بل تابعت و هي تضربه في صدره صارخة
(أنت تلبي لها ما تريد، تخضع لتعبها وألمها، تربي ابنها، و تنفق اليها، بل و تتحدث معها عما يوجعك، و في نهاية المطاف ذهبت لتقضي معها لياليك خوفا عليها، فماذا ينقص بعد؟).

كانت قاصي يتنفس بعنف و بصوت مسموع، بينما كانت هي قد انفجرت و انتهي الأمر، بعد أن فقدت اللجام على سيطرتها، فصرخت بقوة أكبر
(أجبني، ماذا ينقص بعد؟)
صمتت تلهث للحظة بينما تحول اللون الفيروزي في عينيها الى لهيب قاتل و هي تضرب صدره بقوة، قبل ان تتابع صارخة.

(مشاركتك الفراش؟، هل هذا هو ما ينقص؟، أهذا هو ما يتميزني عنها به؟، أجبني، هل هذا هو؟، اذن خذ تلك الميزة لا أريدها، فهي أتفه ما قد تقدمه لي، فأنا لا أشعر بك بهذه الطريقة من الأساس)
اتسعت عينا قاصي بذهول وهو يستمع الى ما تصرخ به، الا أنها كانت قد جنت من شدة ما تعانيه، فتابعت صراخها بعنف.

(ما بك؟ أراك مذهولا، تبدو و كأنك نسيت على ما يبدو، نسيت ما يسعدني و ما لا أشعر به من الأساس، أنا لا أشتاق لفراشك كل ليلة، لا أشاركك المتعة، أتعلم لماذا؟)
صرخ قاصي بها بجنون وهو يلهث من فرط ما يشعر به...
(اخرسي)
الا أنها لم تخرس، بل ضربت صدره مجددا مرة، ثم مرتين و هي تصرخ
(لا لن أخرس، سأذكرك إن كنت قد نسيت، أنا لست مولعة بعلاقتنا الزوجية الخاصة، لأنهم قتلوا بي تلك المتعة، بسببك).

هجم عليها قاصي ليكتم فمها بقبضته، الا أنها تلوت لتفر من بطش قبضته و صرخت مشيرة باصبعها الى شقته التي يقفان بها
(حين تبعتك الى نهاية العالم، عمياء العينين، لا يحركني سوى قلبي الغبي بعشقك، ووصلنا الى هنا، هذه الشقة، هذه الشقة تحديدا)
صرخ قاصي مجددا وهو يلهث بعذاب
(اخرسي يا تيماء لا تزيدي)
الا أنها تابعت بعذاب يفوق عذابه...
(و هنا في هذه الشقة أمسك بي والدي، و بسببك عوقبت بأبشع طريقة قد تتخيلها، ).

صمتت قليلا و هي تلهث بألم، واضعة يدها على بطنها ترتجف من شدة الإنفعال الذي تعانيه، فأطرقت وجهها تلتقط أنفاسها بصعوبة، و هي تقول باعياء
(يبدو أنك قد نسيت، نسيت أنني على أرض تلك الشقة، نزفت دما بسبب حبي لك)
رفعت وجهها تنظر اليه حيث كان قد استدار عنها يوليها ظهره، يرتجف فعليا بجسده الضخم، الا أنها لم تتبين ملامحه...
ثم قالت أخيرا بصوت ميت.

(لذا، يمكنني التنازل عن علاقتنا الزوجية يا قاصي، على أن تبقى لي وحدي، فقلبي ما زال حيا، ألم يكن هذا هو ما همست لي به في احدى الليالي و أنا بين ذراعيك؟، لم يسلبوك دقات قلبك يا تيماء، و كنت محقا، لم ينجحوا في قتل نبضات قلبي المجنونة كلما نظرت اليك...
سأتنازل عن الفراش، و تبقى لي وحدي، فما هو قولك؟).

ساد الصمت لعدة لحظات مرعبة، لا يقطعه الا صوت تنفسهما العنيف الى أن تحرك قاصي فجأة ممسكا باحدى الأواني الزجاجية الموضوعة بالقرب منه، ليضربها بكل عنف وهو يصرخ عاليا كالمجنون، فاختلط صوت صراخه بصوت تحطم الآنية بالحائط، مما جعل تيماء تنتفض و هي ترفع كفيها الى أذنيها حتى انتهى صرخته المجنونة...

و ما أن استعادت وعيها، حتى اندفعت تجري الى غرفة النوم حيث وشاحهها ملقى أرضا، فانحنت لتلتقطه و حقيبتها، ثم استقامت و هي تلفه حول وجهها كيفما يكون، لتندفع و هي تجري الى باب الشقة، فخرجت دون أن تنظر الى الخلف، لكنها سمعت صرخته الوحشية من خلفها وهو يناديها ما أن لمح هروبها
(تيمااااااااااء).

لكنها لم تبطىء و لم تلتفت اليه، بل سارعت الى المصعد و ضربته بقوة، لحسن حظها كان في الطابق الذي يعلو طابق شقة قاصي مباشرة، ففتح أبوابه بسرعة...
و ما أن دخلت و استدارت حتى رأت قاصي يتبعها كالمجنون، لكنه لم يدركها، بل أغلق المصعد أبوابه مخفيا عنها ملامح وجهه المعذبة المخيفة...
ضرب قاصي المصعد المغلق بقبضته بكل عنف وهو يصرخ عاليا
(تبا، تبا، تبا).

ثم انطلق لينزل السلم جريا دون أن ينتظر، أما تيماء فقد تراجعت كي تستند الى جدار المصعد و هي تغمض عينيها، تتنفس بتعب، و يدها لا تزال على بطنها...
لم تعرف يوما حماية، كتلك التي تشعر بها تجاه طفلها الذي لم يرى النور بعد...
لقد أرهقته، و أتعبته نبضات قلبها العنيفة المعذبة، وهو لا يستحق منها تلك المعاملة...

فتح المصعد أبوابه بعد أن وصل الى الطابق الارضي، ففتحت عينيها و هي تستقيم لتخرج منه و من البناية كلها متجهة الى سيارتها التي أوقفها قاصي أمام بوابة الxxxx بمسافة قصيرة...
ففتحت بابها، الا ان قبضة قوية من خلفها امتدت لتصفق باب السيارة و تغلقه مجددا قبل ان تديرها الى وجه رجولي غاضب، مجنون، و عينين كالجمر تحرقان ما حولهما...

اتسعت عينا تيماء برهبة و هي تنظر الى الحالة الغير مسيطر عليها و التي وصل اليها قاصي...
كانت قبضته تكاد على تمزيق لحم ذراعها، بينما صدره يعلو و ينخفض، و أنفاسه تتردد بصعوبة على وجهها و كأنه عاجزا عن الكلام...
لذا تطوعت هي و قالت بصلابة رغم ارتجافها.
(اترك ذراعي يا قاصي)
الا أن كلماتها المستفزة تسببت في حفر أصابعه أكثر و أكثر حتى شهقت ألما...
بينما همس لها بصوت متشنج عنفا.

(اصعدي معي الى الشقة دون احداث جلبة)
قالت تيماء بقوة و رفض
(لن يحدث يا قاصي، لن أصعد معك، الا بعد أن تختارني، وحدي و دون شركاء)
ضرب قاصي بعنف على سقف السيارة وهو يصرخ عاليا
(اصعدي معي يا تيماء و كفى غباءا)
حاولت جذب ذراعها من قبضته الا أنها لم تفلح، فصرخت به
(اتركني يا قاصي و لا تعاملني بهذه الطريقة، أنا لن أصعد معك)
الا أنه كان قد وصل الى مرحلة عدم السيطرة وهو يجرها معه هاتفا
(ستأتين معي شئت أم أبيت).

بينما ظلت هي تصرخ به و هي تضرب ظهره،
(اتركني يا قاصي، أنا حامل، تبا لك، لا تفعل هذا)
استدار اليها دفعة واحدة قبل أن ينحني اليها وفي حركة واحدة رفعها في الهواء، حتى شعرت بنفسها تطير الى أن استقرت بين ذراعيه، وهو يحملها ببساطة...
فغرت تيماء شفتيها و هي تستوعب منظرها وهو يحملها في قارعة الطريق على مرأى و مسمع من الجميع، فهتفت به بجنون بينما اشتعلت وجنتيها و هي ترى عددا من الأشخاص يحدقون بهما،.

(أنزلني، أنزلني يا قاصي، لا تفعل هذا)
لكنها كانت كمن يخاطب صنما، لا يسمع و لا يشعر، لا يصنف الا حجرا باردا بملامح قاسية عنيفة...
تحرك بها خطوتين، الا أنهما سمعا صوتا نسائيا من خلفهما ينادي بذهول
(قاصي؟، ماذا تفعل؟)
تسمرت تيماء مكانها و هي تغمض عينيها حرجا و هي تتعرف على صوت السيدة امتثال، جارة قاصي و التي كانت آخر شخص على وجه هذه الأرض تتمنى رؤيته في تلك اللحظة...

شعرت تيماء بجسد قاصي يتصلب على جسدها، وهو يتعرف الى الصوت كذلك، فظنت أنه سيتجاهلها و يتابع طريقه، الا أن امتثال سارعت لتتجاوزهما حتى وقفت أمام قاصي و هي تحمل في يديها أغراض البيت التي اشترتها للتو...

نقلت نظرها بينهما بذهول يدعو الى الضحك في وقت آخر، لكن الضحك كان آخر ما قد تشعر به تيماء في تلك اللحظة، لذا أخفت وجهها في كتف قاصي و هي تتمنى لو انشقت الأرض و ابتلعتها، بينما قال قاصي بقسوة و دون ترحيب
(اعذرينا يا سيدة امتثال، الوضع غير مناسب لتبادل التحية حاليا، )
حاول تجاوزها، الا أنها تركت الأكياس من يدها أرضا لتقبض على ذراعه و هي تقول بصرامة.

(لا لن أعذرك، لماذا تحمل ابنة أختك بتلك الطريقة المهينة، هل جننت؟، أنزلها حالا أنت تتصرف بطريقة مخزية)
كانت تيماء تهمس بداخلها برعب
ياللهي، ياللهي، يا رب،
الا أن رعبها تحول الى ذعر و هي تسمع قاصي يصرخ فجأة بعنف في وجه امتثال بجنون
(انها ليست ابنة أختي، أنا لا أخت لي من الاساس، إنها زوجتي، هل سمعت؟ تيماء سالم الرافعي هي زوجتي، هل هذا واضح؟).

توقف قلب تيماء من شدة الهلع و هي تواجه هذا الموقف، خاصة و هي ترى نظرة الذعر التي ارتسمت على ملامح السيدة امتثال، لكن قاصي لم يتراجع، أو يتردد، بل دار حول نفسه وهو يحملها بين ذراعيه، ناظرا الى بعض ممن ينظرون اليهم و تابع صارخا
(إنها زوجتي، تلك المرأة التي أحملها بين ذراعيها، هي زوجتي، هل تعرفتم اليها جيدا؟ لأنها ستقطن هنا منذ الليلة و للأبد، هل رأيتموها جميعا؟)
همست تيماء بذعر و ألم و هي تغمض عينيها.

يا رب، أريد الموت، أتمنى الموت،
تراجعت امتثال للخلف خطوة و هي تنظر اليه ذاهلة بحاجبين منعقدين، و كأنها ترى أمامها مجنونا فارا من مشفى الأمراض العقلية، ثم قالت أخيرا بصوت ممتقع
(زوجتك كيف؟، و منذ متى؟، لقد كانت تزورك في بيتك منذ أن كانت طفلة!)
صمتت للحظة قبل أن تهمس بتقزز و عدم تركيز
(ما تلك القذارة؟).

ارتجفت عضلات قاصي قليلا، وهو يبادل امتثال النظر بملامح عمياء، و كأنه ضريرا غاضبا لا يرى من يقف أمامه، و من يحادثه...
فانتهزت تيماء تلك اللحظة كي تتلوى من بين ذراعيه و هي تهتف بعذاب
(أنزلني أرجوك، أرجوك أشعر بالغثيان).

بدا مترددا للحظة و كأن صوتها المتوسل يخترق حواجز غضبه الذي طمس عقله، حينها فقط قفزت تيماء من بين ذراعيه حتى تعثرت و كادت أن تقع أرضا، الا أنها تماسكت و استقامت فوق ساقين طريتين كالهلام، ثم انطلقت تجري حتى وصلت الى سيارتها و دخلتها لتتحرك بها بأصابع مرتجفة...
لحقها قاصي و اخذ يضرب زجاج السيارة بقبضته، وهو يهدر بقوة، لكنها كانت قد أوصدت الباب و النافذة...

ناظرة أمامها بعينين ميتتي النظر قبل أن تحرك المقود، و اندفعت بالسيارة دون أن تنظر للخلف...
وقف قاصي ينظر حوله بجنون قبل أن يركل حجرا كان في الأرض وهو يشتم بألفاظ نابية، مدركأ أن سيارته كان قد تركها بالقرب من المطبعة، ليقود سيارة تيماء...
و ها هي تختفي من أمام عينيه بينما هو يقف كالمجرمين لا يدري كيف يلحق بها...

اما امتثال فقد كانت واقفة مكانها تنظر اليه بصمت، نظرة مزدرية، و ما أن مر بجوارها ينوي الصعود ليجلب بعض النقود حتى يلحق بتيماء، حتى قالت امتثال بصوت قاتم
(لطالما شعرت منذ بداية شبابك بأنك شخص تحيط به هوة سوداء ملوثة، لا أهل و لا أسرة، لا نعرف لك سوى ابن، الله أعلم متى أنجبته و من هي أمه، و فتاة كنت تدعي أنها من محارمك حتى تبين العكس).

صمتت للحظة و هي تواجه نظرته السوداء المظلمة بعد أن وقف يستمع لكل كلمة تنطق بها، قبل أن ترميه بكلمة أخيرا
(قذر)
وقف قاصي مكانه و كأنه قد تسمر تماما، ثم قال أخيرا بصوت ميت ذو صدى أجوف
(هل انتهيت؟)
لم ترد امتثال و هي تقلب شفتيها بقرف ناظرة اليه و كأنها تنظر الى حيوان موحل...

بينما ابعد قاصي عينيه عنها لينظر الى الجمع الذي تجمهر من حولهما، الكثير منهم من سكان هذا الحي، ينظرون اليه باستنكار و غضب، و قلق من معارضته...
كان الجمع شبيها في عدده بالبشر اللذين تجمعوا حوله وهو يحمل تيماء ضاحكا في الملاه، ليخبرهم بصوته الجهوري أن زوجته تحمل طفله بين أضلاعها...
لكن الآن اختلف كل شيء، النظرات السعيدة استبدلت بأخرى مستنكرة مزدرية...

و السعادة التي كان يشعر بها حينها، حل محلها الغضب و الجنون...
أما تيماء التي كانت تضحك بين ذراعيه بسعادة، لم تعد بين ذراعيه، بل فرت منه دون أن تنظر الى الخلف...
هدر قاصي فجأة بصوت شق المساء الساكن
(هل استمتعتم جميعكم بالعرض المجاني؟، هل من أحد آخر يريد نعتي بالقذارة؟)
سادت بعض الهمهمات وهو ينظرون اليه، بينما هو يدور حول نفسه، ناظرا اليهم بسخرية، ثم هتف قائلا بقوة.

(ماذا؟، لا أسمعكم، هل لدى أحدا منكم أي اعتراض على زواجي؟)
استمرت الهمهمات و النظرات المستنكرة، الى أن صرخ بهم مجددا
(هل من رجل بينكم يريد أن يواجهني؟)
لم يرد عليه، أحد، فنظر اليهم جميعا فردا فردا، الى أن تواجهت عيناه مع عيني امتثال، فصمت وهو يتنفس بسرعة، بينما هي تنظر اليه بازدراء، ثم قالت أخيرا بخفوت
(اذهب لتلحق بزوجتك، و كفى فضائح في الطريق، الله ستار حليم، لكن بعدها، لو غادرت حينا سنكون ممتنين لك).

تحرك قاصي تجاهها بعينيه القاسيتين المظلمتين، فتراجعت امتثال للخلف بخوف، الا أنه رمقها بنظرة صامتة قصيرة، قبل أن يتجاوزها ليصعد الى شقته...
بينما بدأت القصص و الحكايا تتناقل بين الجميع عن سر وجود تيماء، و زواج هذا الرجل الذي قضى معهم عمرا في هذا الحي، دون أن يعلم أحدهم شيئا عن أصله، و نسبه...

لا تعلم كم دارت بالسيارة في شوارع المدينة المضيئة ليلا،
هاتفها على المقعد المجاور لها، يضيء بصمت، لا يتوقف عن الإتصال معلنا أن صاحب الإتصال لن يهدأ له بال قبل أن ترد عليه...
لقد اتصل بها عشرات المرات، حتى أغلقت الصوت، و وضعت الهاتف بجوارها، بينما قادت سيارتها، تشاهد الليل في المدينة، حيث السعادة تضيء وجوه العاشقين ممن خرجوا في هذه الليلة للأستمتاع بهذا الليل و أضواءه...

كان من المفترض أن تبدأ طريق السفر عودة الى مدينتها منذ ساعة على الأقل...
لكنها لم تستطع، كان العالم يدور بها، و لا تكاد ان ترى الطريق أمامها، حتى بدأت الأضواء تتداخل أمامها...
لذا مالت بالسيارة الى جانب الطريق ثم اوقفتها لترتاح بذراعيها و رأسها فوق المقود...
لم يكن هذا هو ما توقعته من قاصي...
أم لعله ما توقعته تماما؟

لا تستطيع حتى التحديد، كل ما تعرفه، هي أنها أدركت بما لا يقبل الشك بأنها لا تحتل من مساحة حياته و أولوياته الا أقل القليل...
رفعت وجهها قليلا و هي ترى الهاتف يضيء من جديد، اسمه لا يزال له نفس التأثير على قلبها، و كأنها تسمع صوته، و كأنها تسمع ندائه من بعيد...
لكنها كانت تنظر للهاتف بعينين مظلمتين الى أن انقطع رنينه المضيء الصامت، حينها فقط أمسكت به و بدأت كتابة رسالة مختصرة.

أنا بخير، لا تقلق على الطفل،
أرسلت تيماء الرسالة، ثم تراجعت للخلف و هي تسند رأسها تراقب النجوم اللامعة في سماء المدينة القاتمة...
الى أن وصلتها رسالة بعد لحظات، ففتحتها بملامح لا تعبير لها، لتقرأ رسالته المجنونة التي بدت حروفها كصراخ مدوي
ملعون غبائك، ملعون غبائك، اخبريني اين أنت؟ أنا أبحث عن سيارتك على الطريق السريع منذ ساعة،
ظلت عيناها تقرأ الحروف الغاضبة طويلا، الى أن كتبت له رسالة جديدة...

لن تجد السيارة، فتوقف عن المجازفة بسلامتك، أنا بخير و لن أؤذي طفلك، مهما آذيتني أنت،
و ما أن أرسلت الرسالة، حتى سارعت بالإتصال برقم آخر، و ما أن سمعت صوت مسك الهادىء حتى قالت بخفوت
(مسك، أنا لا زلت هنا في المدينة، أنا أكثر ارهاقا كي أقود عائدة الى مدينتي)
ساد الصمت لعدة لحظات، قبل أن يأتيها صوت مسك قائلا بغضب مكتوم
(هذا تحديدا ما توقعته، أخبريني أين أنت تحديدا و سأصل اليك في أسرع وقت).

شرحت تيماء مكانها لمسك بالتحديد، ثم أغلقت الخط و هي تنظر أمامها بتفكير عميق، و استمر بها الصمت لعدة لحظات، ثم قامت بالإتصال برقم آخر و هي تزم شفتيها بقوة...
و انتظرت...
مرت عدة لحظات قبل أن يصرها الصوت ذو الرنين الرخيم، ناعسا، مدللا...
(نعم، من معي؟)
أغمضت تيماء عينيها و هي تلتقط نفسا عميقا، قبل أن تفتحهما لتقول بهدوء صلب
(تيماء).

ساد الصمت لعدة لحظات، قبل أن تقول ريماس بصوت هادىء بارد و قد استفاقت تماما
(ياللها من مفاجأة للمرة الثانية في نفس اليوم! هل اشتقت إلى بهذه السرعة؟)
ردت تيماء ببرود مماثل و هي تبتلع غصة الألم التي لا تهدأ في حلقها.
(شوقي لك لا يزيد عن شوقك لي، لقد اتصلت بك لأمر محدد)
مرت لحظة قبل أن تسمع صوت ريماس يصلها بسخرية.

(لقد أثرت اهتمامي، حسنا، كلي آذان مصغية، لكن أخبريني أولا، اليس من الفترض بك الآن أن تكوني بين احضان زوجك عوضا عن ملاحقة ضرتك ليل نهار؟، لقد غبت في النوم قليلا، ثم استيقظت لأجد عمرو بجواري، فاستنتجت أن قاصي قد حمله و أدخله الى فراشي و انا نائمة، لذا لم أجد الفرصة كي أخبره عن زيارتك الكريمة)
انعقد حاجبي تيماء بألم و هي تتخيل الصورة التي رسمتها ريماس بمهارة و خبث...

صورة قاصي وهو يدخل الى غرفتها و يراها و هي نائمة، بما يظهر منها، لينحني اليها و يضع ابنه بجوارها...
و كم آلمتها تلك الصورة دون رحمة، لكنها لن تسمح لهذه المرأة بأن تنال منها مهما كان، لذا قالت تيماء بهدوء
(لا تشغلي بالك، فقد أخبرته أنا، أنا لا أخفي عن قاصي شيئا، بعكسك)
ساد صمت متوتر بينهما، قبل أن يصلها صوت ريماس و هي تقول بتردد قاسي.

(ماذا تقصدين؟، لما لا تقولين ما أتصلت لأجله، فأنا لست متفرغة لتواصلك المفاجيء و الغير مرغوب فيه معي)
أخذت تيماء نفسا عميقا، ثم قالت ببرود و دون مقدمات
(لقد عرفت بزيارة راجح لك)
عاد الصمت بينهما مجددا، الا أن صوت تنفس ريماس العالي وصل الى اذن تيماء بوضوح، و قد أخبرها بأن القصة حقيقية تماما، مما زاد من عزمها و اصرارها...
تكلمت ريماس أخيرا بعنف خافت.

(ما الذي تهذين به بالضبط؟، هل جننت أم أنك قد تعاطيت شيئا؟)
قالت تيماء بجمود و كأنها لم تسمعها من الأساس
(اسمعيني جيدا، لأنني لن أكرر كلامي مرتين، و لن أعيد تحذيري لك، أنت تحملين اسم قاصي الحكيم، أتدرين من هو قاصي الحكيم؟، إنه زوجي و حب عمري، لن أسمح لك مطلقا بأن تسيئي لاسمه في نوبة ضعف جديدة لك)
سمعت تيماء صوت شهقة مكتومة، قبل أن تهتف ريماس برعب
(ما الذي، كيف يمكنك؟، انا لا أسمح).

قاطعتها تيماء بصوت باتر صلب
(ألم يعانقك مثلا وسمحت له بذلك؟، لما لا أخبر قاصي و أدعه يتقصى الأمر بنفسه؟)
كان صوت تنفس ريماس الآن يبدو كشهقات مختنقة، ثم همست باختناق
(لم يحدث، أنت تلجأين الى أرخص الطرق كي تبتزينني بها)
ابتسمت تيماء بسخرية، ثم قالت ببرود.

(أنا لا أحتاج الى الإبتزاز، فليس لديك ما أبتزك لأجله، نهاية كلامي، أنك ستكونين دائما تحت عيني و لو علمت بأنك سمحت له بمقابلتك مجددا و دخول بيت قاصي فلا تلومي الا نفسك، أنت لا تعرفين قاصي رغم سنوات زواجك منه، لو تلاعبت باسمه فقد تخسرين لسانك او عينك، أو ربما حياتك نفسها، و أنا لا أريد له أن يتأذى بسببك)
هتفت ريماس بغضب
(انتظري لحظة، أنا لست).

لكن تيماء أغلقت الخط و هي ترمي هاتفها جانبا، لتعاود النظر الى السماء المظلمة، و حينها فقط، سمحت لدموعها بالإنهمار...

(ألن تأكلي شيئا؟، أنت شاحبة للغاية)
كانت تيماء مستلقية على ظهرها في السرير الوثير الناعم، تنظر الى السقف بصمت...
لكنها أدارت وجهها ما أن سمعت صوت مسك آتيا من باب الغرفة...
فردت عليها بفتور
(لا شكرا، لست جائعة، لقد تناولت ما يكفيني حين كنت هنا منذ ساعات، لست في حاجة للمزيد)
ردت عليها مسك بجمود و هي تدخل الى الغرفة ببطىء
(كان هذا منذ ساعات، من المؤكد أنك جعت ولو قليلا).

هزت تيماء رأسها نفيا بصمت. ، ثم همست بخفوت
(أنا بخير، لا تشغلي بالك)
جلست مسك على حافة السرير الذي تستلقي عليه تيماء واضعة ساقا فوق أخرى، تراقبها مليا و بنظرة غير راضية، ثم قالت أخيرا بفتور
(هل حقا أنت بخير؟، لا تبدين كذلك)
ابتسمت تيماء و هي تقول بلا حياة
(اعتدت الألم و الصدمة في أقرب الناس الي، لا تقلقي)
رفعت مسك ذقنها ثم قالت بحزم.

(تعرفين أنك قمت بالصواب، لم يكن أمامك حل آخر، اياك أن يكون ما يشغل بالك حاليا هو احساسك بأنك قد تسرعت، اياك أن تكوني بمثل هذا الغباء)
عادت تيماء تنظر الى السقف بصمت لعدة لحظات، ثم قالت أخيرا بخفوت
(أتدرين ما الذي كنت أفكر فيه قبل دخولك للغرفة مباشرة؟)
قالت مسك بهدوء
(ماذا؟)
فغرت تيماء شفتيها و هي تهمس بشرود
(كنت أفكر أن أكثر ما سيحزنني في فراقي عنه، هو عودته للكوابيس من جديد ما أن يعود للنوم بمفرده. ).

ارتفع حاجبي مسك بصمت و دون أن ترد، بينما استدارت تيماء على جانبها و هي تنظر اليها لتقول مبتسمة بمرح زائف
(هل أشي لك بسر و أفضحه؟)
قالت مسك مبتسمة برزانة
(قولي)
اتسعت ابتسامة تيماء الزائفة و لمعت عيناها و هي تقول
(قاصي المرعب الذي تعرفينه، يخاف الظلام)
ارتفع حاجبي مسك أكثر، بينما أومأت تيماء برأسها مصدقة، ثم تابعت تهمس بنبرة عاشقة متعاطفة...

(هل تصدقين أنه لا ينام الا و الضوء مفتوح، لو أحاط به الظلام لغرق في الكوابيس، لكنها خفت كثيرا منذ زواجنا، فأنا أحرص على فتح الضوء الجانبي للسرير و أضمه الى صدري كطفلي)
ابتسمت مسك برقة و هي تشعر ياللغرابة بالألم، من المفترض أن تصب جام غضبها على قاصي الآن، الا أنها شعرت بالألم عليه و على حاله في تلك اللحظة...
ضحكت تيماء و هي تقول.

(لكن في الحقيقة رأسه ثقيلة جدا، يكاد أن يطبق بها على أضلعي و أنفاسي و أظل أنا مختنقة معظم الليل، لكنني لا أجرؤ على ابعاده)
صمتت للحظة ثم شردت عيناها و ماتت ابتسامتها الزائفة، قبل ان تهمس بشرود
(ترى كيف سينام؟، و أي كوابيس ستراوده من بعد فراقي!)
قالت مسك بصوت هادىء
(سيتدبر أمره، كما ستدبرين أمرك، هكذا هي الحياة، محاولة من التأقلم لا تنتهي).

مدت تيماء يدها تلامس بطنها بشرود و عيناها تظلمان بعواصف الحزن الذي يريد أن يعود و يسمح لها بالإنهيار، الا أنها ترفض...
لكن مسك فهمت ما تفكر به تيماء، فقالت بثقة
(وهو أيضا سيكون بخير)
نظرت اليها تيماء بتساؤل، فأشارت مسك بذقنها الى بطن تيماء مبتسمة باناقة و هي تقول
(طفلك، سيكون بخير)
أظلمت عينا تيماء أكثر بغلالة من العذاب و هي تهمس
(هل تظنين هذا حقا؟)
قالت مسك مؤكدة.

(بل أثق في هذا، تستطيعين الإلتفات الى حياتك و متابعتها، لتشاركي طفلك بها، لم يقتل الحب أحدا من قبل، و لن يفعل هذا معك فأنت تحملين موروثات عائلة الرافعي رغم كل شيء، و نساء الرافعي لا يقهرن، هذا شيء معروف)
أومأت تيماء برأسها في صمت، بينما ارتفعت يدها الأخرى لترتاح على قلبها الذي يموت صارخا...
وصلتها رسالة فجأة، فالتفت تنظر الى هاتفها بصمت و الذي لا يزال بجوارها على المنضدة الجانبية...
قالت مسك ببرود.

(ألم يتوقف بعد عن ارسال الرسائل؟)
هزت تيماء رأسها نفيا، ثم قالت بخفوت
(هو يريد الإطمئنان على الطفل، يظن أنني عدت الى مدينتي و أنا أقود سيارتي ليلا، لذا فهو لا يزال يبحث عني على الطريق السريع على الأرجح)
نظرت الى مسك و قالت بجدية
(أنا خائفة عليه جدا، قاصي حين ينتابه الجنون يتحول الى شخص اعمى و هو حاليا غير مؤهل للقيادة مطلقا)
مطت مسك شفتيها و هي تقول بيأس.

(يا حمقاء اهتمي بنفسك أولا و خافي على الطفل في بطنك، كفى غباءا)
أغمضت تيماء عينيها و هي تزفر ببطىء كي تهدىء الكثير من عواصف الألم و الخوف بداخلها...
لكن مسك تابعت تقول ببساطة
(ألن تقراي الرسالة؟)
هزت تيماء كتفيها و هي تقول
(انه يسأل عن مكاني على الأرجح، كعشرات الرسائل التي سبقت)
قالت مسك بجدية
(و مع ذلك عليك قرائتها، إن كنت خائفة عليه كما تدعين).

ارتسمت فجأة في خيال تيماء، صورة لسيارة قاصي محطمة على الطريق، و أحدهم يحاول الوصول الى زوجة قاصي عبر الإتصال بها أو ارسال الرسائل، و ربما كان قاصي غارقا في دمه وهو يهمس باسمها...
انتفضت تيماء و سارعت تلتقط الهاتف لتقرأ الرسالة و قد تحولت أصابعها الى قوالب جليدية بينما لسانها يهمس بارتجاف
يا رب سلمه من كل شر،.

لكن ما أن طالت عيناها الكلمتين الوحيدتين في رسالته المختصرة، حتى قفزت جالسة في السرير و هي تنظر اليهما بذهول...
عقدت مسك حاجبيها و هي تقول بقلق
(ماذا؟، ماذا قال؟)
رفعت تيماء وجهها عن الرسالة و هي تنظر الى مسك بعينين متوهجتين قبل أن تدير الهاتف اليها، كي تقرأ الرسالة بنفسها، و لم تكن الرسالة سوى كلمتين فقط
لقد اخترت، اخترتك...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة