قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والعشرون

كانت تدور في شقتها كالمجنونة، تفرك بأصابعها و هي تتعرق بعرق بارد مؤلم...
ملامحها شاحبة و الهالات الزرقاء تحيط بعينيها...
منذ ساعات و هي على هذا الحال، منذ اتصال تيماء بها، تلك الصغيرة الخبيثة...
لقد بثت سمها في اتصال لم يتجاوز الدقيقة، و كان له تأثير السم في عروقها...
لقد أوشكت على ايقاظ عمرو و ضربه حتى يصرخ طلبا للرحمة، بعد أن باح لتيماء بسرهما،
الا أنها تراجعت و تغلبت عليها أمومتها في النهاية...

كانت تشعر بالجنون من السرعة التي سيطرت بها تيماء على ابنها عمرو و نالت ثقته فبات يبوح لها بكل كبيرة و صغيرة من حياتهما، مهما أوصته الا ينطق بحرف...
و الآن ماذا ستفعل؟
ماذا ستفعل؟
توقفت ريماس مكانها في منتصف الشقة و هي تهمس لنفسها بعدم تصديق
(لماذا؟، لماذا أخفيت عنه الأمر؟، لماذا لم أخبره و أنفي التهمة عن نفسي؟، لماذا؟، لماذا تحكمت بي لحظة جنون غبية)
رفعت ريماس وجهها لتواجه صورتها في مرآة مقابلة لها...

كانت صورتها تنظر اليها بسخرية و اتهام...
سخرية من ادعائها الجهل، و اتهام لها بالضعف من جديد أمام راجح، و كأن السنوات لم تمر...
ظلت ريماس تنظر الى تلك الصورة الساخرة الباهتة، و الرعب في داخلها يتزايد مما تحولت اليه!
هل ترغب في الأخين معا؟
ماذا دهاها؟
الى أي مسخ تحولت؟

كانت تشعر بغثيان مؤلم و دقات الساعة تخبرها بأن الفجر قد حل، و سرعان ما سيحل الشروق، و هي على نفس الحال، اهترأت قدماها من الدوران المهلك...
لكنها تسمرت مكانها فجأة و قفز قلبها الى حلقها و هي تسمع صوت المفتاح في باب الشقة...
لتجد قاصي يدخل بصمت، مظلم الملامح، ميت العينين...

أغلق الباب خلفه قبل أن يرفع وجهه ليفاجأ بوقوفها في منتصف الردهة، فبقى كلا منهما ينظر الى الآخر بصمت الى أن قال قاصي اخيرا بصوت خافت
(لماذا تقفين هكذا؟، ما الذي أيقظك في مثل هذه الساعة؟)
حاولت ريماس استنتاج شيئا من ملامحه، الا أنها لم تتبين بوضوح...
كانت عيناه حمراوين بلون الدم و ملامح وجهه مرهقة و مخيفة في آن واحد...
فابتلعت ريقها و قالت بخفوت
(نمت مبكرا، حتى أنك أدخلت عمرو الى سريري دون أن توقظني).

تلاعب قاصي بالمفاتيح بين أصابعه، مطرق الرأس، شارد الفكر، فقالت ريماس بقلق متابعة
(تبدو مرهقا للغاية، هل، هل حدث شيء؟)
رفع قاصي وجهه ينظر اليها بصمت، قبل أن يقول بخفوت
(لم أستطع الإنتظار حتى النهار، بعد ساعات و ساعات من الرعب و القيادة فوق الطرق السريعة، قررت المجيء الى هنا، لعل رعبي ينتهي)
ارتجفت شفتي ريماس قليلا، الا أنها همست بخفوت
(لم أفهم شيئا، ماذا تقصد؟).

ظل قاصي واقفا مكانه ينظر الى عينيها القلقتين بصمت مضني و كأنه يحلق شاردا في سماء قاتمة خاصة به وحده، لا يعلم عنها أحد سواه، ثم قال أخيرا بصوت أجوف
(أريد الكلام معك يا ريماس قليلا، و أرى أن الآن أنسب فرصة خاصة في نوم عمرو، فأنا لا أريده أن يسمع ما أنا بصدد قوله)
شعرت ريماس بأن كل عظامها قد تجمدت بصقيع غريب، و راقبت قاصي وهو يتجه الى مائدة الطعام، فسحب كرسيا لها وهو يقول بخفوت
(تعالي يا ريماس اجلسي).

أجبرت ريماس قدميها على التحرك بصعوبة الى أن وصلت للكرسي فجلست بصمت و هي تشبك أصابعها فوق المائدة، بينما جلس قاصي على الكرسي المقابل لها، راميا المفاتيح أمامه على سطح المائدة بصوت مزعج، ثم ظل مطرقا بوجهه شاردا، متجهم الملامح...
الى أن قالت ريماس في النهاية بقلق
(هل الأمر صعب الى هذه الدرجة؟)
رفع قاصي وجهه ينظر اليها، بعينين غريبتين قبل أن يقول بخفوت
(أظن أن الوقت قد حان يا ريماس).

ارتفع حاجباها لتقول بصوت مرتجف
(أي وقت؟، ماذا تقصد؟)
نظر قاصي الى عينيها قبل أن يمد يده ليقبض على كفيها المتشابكين فوق سطح المائدة ليقول بصوت أجش
(الوقت حان لننفصل)
فغرت ريماس شفتيها و هي تقول بصدمة
(ماذا؟، لماذا؟، ماذا فعلت كي تتركني؟)
قال قاصي بصوت أجش دون أن يترك كفيها
(لم تفعلي شيئا، لكنني أختار تيماء، هذا حقها)
ظلت ريماس على حالها فاغرة فمها و هي تنظر اليه بعينين زائغتين، غير مستوعبتين...

قاصي ينفصل عنها؟
تبقى وحيدة من جديد؟، عرضة لرغباتها في التعاطي و الرجال! عرضة لأن تكون كقشة رخيصة في مهب الريح؟
تكلمت ريماس أخيرا و همست باختناق
(لكن، لكن، و عمرو؟، ماذا عنه؟)
شدد قاصي من قبضته على كفيها وهو يقول بصرامة
(سيظل حال عمرو كما كان تماما، لن يتغير شيء، أي شيء)
ارتجفت شفتيها و هي تهمس بذعر
(و أنا؟، ماذا عني أنا؟، أنا لا أستطيع أن أحيا وحيدة؟، لم يعد بإمكاني هذا)
رد عليها قاصي قائلا بخفوت أجش.

(لن ينقصك شيء، ما عليك سوى أن تطلبي فقط، ستبقين أم عمرو للأبد، أي أنك ستظلين تحت رعايتي دائما، لن يتغير شيء مطلقا)
صرخت ريماس فجأة و هي تنزع قبضتيها من بين يديه بعنف
(بل سيتغير كل شيء، أنا ضعيفة، أنا ضعيفة، لست قادرة على متابعة حياة الإلتزام وحدي، أحتاج الى اسمك، الى حمايتك و اصرارك، الى وجودك)
قال قاصي بصوت متصلب.

(أنت لست مغيبة الى هذا الحد يا ريماس، لقد تحولت الى امرأة أخرى تماما غير تلك التي تزوجت منها انقاذا لطفلها، و لن تتخلي عن حياتك المستقرة مجددا لأي شهوة مهما بلغت سطوتها)
صرخت به ريماس بعذاب
(بل سيحدث، سيحدث، أنا أحتاجك، لا تتركني)
تنهد قاصي وهو يسوي حملا على كتفيه، قبل ان يقول بصوت أجش
(و أنا أحتاج الى تيماء)
هتفت ريماس فجأة بعنف.

(اذن فقد أمرتك أن تختار بيني و بينها! و هي تعلم بالطبع من ستختار دون جدال، تبا لقسوتها ألم تفكر في عمرو الذي تدعي حبه؟)
قال قاصي بصوت خشن
(ريماس، انسي تيماء، فحياتك ستظل كما هي و لن أسمح لك بالتراجع)
رفعت اليه عينين براقتين بشراسة و هي تقول من بين أسنانها
(لن يكون لك الحق في السماح من عدمه، فأنا سأكون حرة، و قد أتزوج أو أسافر و حينها سآخذ ابني معي، و حينها لن تراه مجددا و سأحرص على هذا).

لمعت عينا قاصي بطريقة مخيفة، قبل ان يميل اليها وهو يقول بخفوت مهدد خطير
(لن تجرؤين على ابعاد ابني عني، لي فيه أكتر مما لك أنت و لا تستطيعين انكار هذا)
ارتجفت ريماس قليلا من سطوته، لذا لعقت شفتيها و هي تنظر اليه بصمت و بدت شاردة الذهن و اكثر توترا، و كأنها تفكر في أمر معقد، قبل أن ترفع وجهها لتنظر اليه قائلة ببرود
(أنا مضطرة لإخبارك بشيء كنت أخفيه عنك)
ضاقت عينا قاصي وهو يقول بصوت غير مرتاح
(ماذا؟).

بدت ريماس اكثر ترددا و توتر، لكنها قالت في الأخير بجمود
(لقد، لقد أتى راجح الى هنا، في غيابك، )
انتفض قاصي فجأة واقفا حتى وقع الكرسي الذي كان يحتله ارضا، بينما هدر بها بذهول
(ماذا؟، متى و كيف؟، كيف لم تخبريني؟، هل دخل الى هنا؟)
قفزت ريماس واقفة و هي تهتف بهلع
(أتى قبل مجيء تيماء الى هنا مباشرة، لم يدخل بل جاء برسالة واحدة، مطالبا بعمرو، إنه يريده).

صرخ قاصي بجنون وهو يقبض على ذراعيها بعنف و قد تحولت عيناه الى عيني شيطان
(طالب بماذا؟، اقسم أن أجعله يطالب بالرحمة و لن ينالها)
ابتعد متجها الى باب الشقة الا أنها هتفت من خلفه بقوة
(هل ترى أنها صدفة؟، راجح يريد عمرو بعد كل هذه السنوات فجأة، بينما على صعيد آخر تطلبك تيماء بالإختيار بيني و بينها، بعد أن كانت متأقلمة و راضية؟).

توقف قاصي مكانه فجأة دون أن يستدير اليها، بل ضاقت عيناه قليلا و كلمات تيماء تقفز الى ذاكرته...
لقد نصحته بارجاع عمرو الى راجح!
هز قاصي رأسه يبعد عن تفكيره هذا الجنون قبل أن يندفع خارجا من الشقة و الشياطين تلاحقه...
بينما وقفت ريماس تراقب انصرافه بعينين متسعتين، مرتعبتين...
ثم همست بصوت مذهول يرتجف
يا ربي ماذا فعلت؟،.

تحرك راجح من مكانه متعثرا وهو يسمع الطرق المجنون على الباب مرافقا الرنين المزعج لجرسه...
فنهض من نومه شاتما وهو يقسم على أن يقتل من يطرق بابه في مثل هذا الوقت و بتلك الطريقة.
فتح الباب بعنف، لكن و قبل أن يصب لعناته على الطارق، وجد فجأة قبضة كالمطرقة، اندفعت لتضرب فكه بكل قوتها، حتى أسقطته أرضا!
لامس راجح فكه المكدوم و شفتيه النازفتين بذهول وهو يهمس بعدم استيعاب
(ما اللذي؟).

لكنه صمت و اشتعلت عيناه وهو يرى قاصي يدخل شقته ليغلق الباب خلفه بقدمه، بينما عيناه متسمرتان على راجح الملقى أرضا و قد تحولت نظراته الى نظرات بشعة مخيفة...
قفز راجح واقفا على قدميه وهو يهتف
(أيها القذر كيف تجرؤ، سأقتلك)
الا أن قاصي لم يمهله، بل أمسك بالعصم الذي ارتفع يضربه، قبل أن يضرب أضلع راجح بقبضته مرة أخرى و بكل قوته، وهو يقول من بين أسنانه هامسا
(تريد ابني؟، بأي حق؟).

نهض راجح من مكانه مرتنحا وهو يبصق الدم من اللكمة الأولى، و ممسكا بجانب صدره متوجعا من اللكمة الثانية، الى أن استقام وهو ينظر الى قاصي بشراسة، قبل أن يهتف بغضب
(ابني أنا يا ابن الحرام)
رفع راجح قبضته ينوي الهجوم على قاصي، الا أنه كان أسرع منه، فابتعد يمينا قبل أن يندفع راجح للهواء، فاستدار قاصي و ركله في ظهره بحذائه ليسقطه أرضا مجددا وهو يقول بوحشية.

(ماذا تعرف عنه يا ابن الحلال كي تطالب به؟، لقد ولد ابنك يتيما في حياتك، و لا يعرف والدا غيري)
وقع راجح على وجهه لاهثا وهو يكاد أن يشتعل جنونا من فرط الغضب، فقفز مجددا رغم الألم الذي يشعر به، استدار الى قاصي وهو يترنح بدوار قليلا...
لكنه لم يهجم عليه هذه المرة، بل وقف مكانه ينظر الى قاصي بحقد، قبل أن يبتسم ابتسامة بطيئة، تشبه ابتسامة الأفاعي، ليقول ماسحا الدم بظاهر يده.

(و هل مثلك يعد والدا من الأساس؟، أنت ابن زنا، لا أصل لك و لا شرف كي تورثه لطفل، أرجو الا تتهور و تسارع بجعل زوجتك حاملا، فستجني على حياة مخلوق لا ذنب له في دنس أمك)
توقف قاصي مكانه، و انتفضت عضلة في حلقه، قبل أن يقترب من راجح ببطىء و عيناه على عيني أخيه، و الذي لم يكتفي بعد، بل صمت قليلا ثم ابتسم بعبث متابعا...
(بالمناسبة، زوجتك جميلة جدا، لطالما أردت سؤالك عن سر لون عينيها، هل هي طبيعية أم).

لم يستطع راجح متابعة حواره الفاسق، فسرعان ما هجم عليه قاصي، ليقعا أرضا و هو يطبق على عنقه بكفيه، هادرا من بين انفاسه الحادة
(إن تجرأت على ذكر زوجتي من جديد على لسانك القذر فسأقتلك، سأقتلك يا ابن عمران، سأقتلك)
جحظت عينا راجح وهو يحاول الفكاك من بين يدي قاصي و الذي بدا عليه في هذه اللحظة و كأنه قد تحول الى شيطان لا ينوي الا الشر...
ثم همس من بين أسنانه بشراسة...

(لن تمس ابني يا راجح، لو قضيت المتبقي من عمري فقط لأمنعك عن هذا فسأفعل، لن تمسه، و لا تحاول الإقتراب منه بعد الآن و الا قسما بالله، لن أكون هادىء الأعصاب في المرة المقبلة)
أوشك راجح على الإختناق بين يدي قاصي و حين ظن أنها النهاية لا محالة، دفعه قاصي بقوة، وهو يستقيم لاهثا، قبل أن يركل جانب صدره المصاب بقدمه...

تلوى راجح على جانبه وهو يتأوه و يسعل، الا أن قاصي رمقه بنظرة أخيرة مزدرية قبل أن يقول بخفوت
(أستطيع قتلك الآن، لكنني سأنتظر، فقائمة الحساب لم تبدأ بعد، فقد استعدا أنت ووالدك)
استدار قاصي ليغادر من باب الشقة المفتوح، الا أنه و قبل أن يخرج هدر راجح من خلفه بصوت متحشرج.

(سآخذه، سآخذه و أحرق قلبك على فراقه يا ابن الحرام، و لست وحدي من سيفعل، بل حماك العزيز يساندني، استعد للقضية التي رفعتها لضم الولد الى حضانتي)
توقف قاصي قليلا، قبل أن يسمع صوت ضحكة راجح المقيتة وهو يتابع برجفة الشر في داخله
(نعم، لقد أقسم عمك، على حرمانك منه، و من كل ما تملك، و أولهم زوجتك)
صمت للحظة قبل أن يبتسم بخبث رغم ألمه اللاهث. ثم قال بنبرة مقززة.

(و من يدري، ربما ساعدت عمي في سلبك زوجتك، ففي النهاية سيفضلني عليك، ما رأيك لو تراهننا عليها، لنمرح قليلا. )
استدار قاصي لينظر اليه بصمت، فواجهه راجح بنظرته النارية التي تفيض غلا، لكنه كان من الغباء بحيث أدرك انه تلاعب بآخر ذرات الكرامة الرجولية لدى قاصي الحكيم، وتحديدا فيما يخص تيمائه...
أرضه، وطنه، و كرامته...
لذا و في غمضة عين اندفع قاصي في خطوتين واسعتين...

أما راجح فقد زالت الإبتسامة عن وجهه و لم يجد الوقت كي ينهض، قبل أن ينحني قاصي اليه، يطعمه من كل أنواع الجنون و فنون الدفاع عما يملك، عن تيماء تحديدا...
و صراخه يدوي، كصوت رجل كهف جهوري
(لو فكرت، مجرد التفكير في الإقتراب منها، فسوف).

كانت الساعة تقترب من السابعة صباحا و مسك كالعادة في أوج استعدادها للعمل و بكامل أناقتها، بينما تيماء كانت ترتجف في سرير مسك من فرط الإنفعال، فمنذ أن قرأت رسالته و هي تنتفض حرفيا و قد فقد قلبها دقاته...
كانت تتلاعب بأصابعها كطفلة صغيرة و هي تنظر الى مسك التي وقفت أمام المرآة ترفع شعرها في ربطة أنيقة، مرتدية احدى أطقمها شديدة الكلاسيكية و الجمال...
بينما قالت تيماء بصوت متوهج.

(هل كان من المفترض أن أتصل أنا به؟، أنا لم أرد و ربما ظن أنني اعتبرت موافقته على شرطي أمرا مسلما به، و أنني أتدلل و أتعمد التحقير من تضحيته)
استدارت مسك الى تيماء و هي تهتف بعنف و قد عيل صبرها
(تضحيته؟، أسمعيني مجددا، أي تضحية تكلمين عنها يا ذات العقل القاصر؟، هذا أبسط تصرف قد يقوم به، في محاولة لتصليح ما ارتكبه في حقك، و لن يكفي أيضا...

و بالطبع موافقته على شرطك يعد أمرا مسلما به، تعقلي يا غبية و لا تفقدي ثباتك الآن بسبب كلمة تافهة)
عضت تيماء على شفتها و هي تقول بعصبية
(أنت لا تفهمين يا مسك أهمية عمرو الى قاصي، إنه ابنه، و التخلي عن أبوته له يعد أكبر تضحية، خاصة بالنسبة الى شخص في مثل ظروف قاصي، و لقد فعل، فعلها لأجلي، كان من المفترض أن أتصل به بعد أن قرات الرسالة)
التفتت مسك اليها بملامح صلبة و هي تقول بنفاذ صبر.

(ما الذي فعله؟، بالله عليك كل ما فعله هو ارسال كلمتين! لا تكوني بمثل هذا الغباء، و كفى كلاما عنه لقد تعبت، الا يكفي أننا لم ننم للحظة واحدة و سأذهب للعمل بعد مستيقظة منذ ثمانية و اربعين ساعة)
زفرت تيماء بخفوت و هي تقول يائسة
(نعم، معك حق، أنت محقة، لكن لماذا لم يتصل؟)
قالت مسك و هي تضع بعضا من مسحوق التجميل على وجهها.

(انها استراتيجية الرجال عامة حبيبتي، يرخي لك الحبل و يلوح لك بوردة حمراء، قبل أن يجذبه فجأة يخنقك به)
قالت تيماء بقنوط و هي تنظر اليها
(أنت معقدة على فكرة)
استدارت مسك لتحمل حقيبتها و حقيبة الحاسوب و هي تحاول التوازن على قدمها المصابة قبل أن تقول بثبات
(ربما كنت معقدة، الا أن عقدتي بالتأكيد لن تقارن بعقدة حبك المريض لقاصي الحكيم)
اتجهت الى باب الغرفة و هي تقول.

(أنا مضطرة الى الذهاب للعمل الآن، هل ستكونين بخير و أنت بمفردك؟)
ابتسمت تيماء و هي تقول بنبرة فاترة
(كنت بخير دائما و أنا بمفردي، لا تقلقي و اذهبي الى عملك و أنا سأسافر على الأرجح اليوم مساء، إن وجدت حجزا متوفرا في القطار)
قالت مسك بهدوء آمر
(لكن لا تتحركي لحين عودتي، هل فهمت؟، أياك و المجازفة).

فتحت تيماء فمها لترد، الا أن صوت رنين جرس الباب قاطعها فجأة فأجفلت، بينما عقدت مسك حاجبيها و هي تنظر الى ساعة معصمها قائلة بقلق
(من سيأتي في مثل هذه الساعة؟)
قالت تيماء و هي تنهض من السرير واقفة
(ربما كان أحد العاملين على نظافة البناية، أو حارس الأمن)
صمتت قليلا، ثم قالت بقلق و توتر
(هل يمكن أن يكون والدك قد عاد من السفر؟، ياللهي، لن أتحمل ذل الطرد الآن، ياله من موقف)
قالت مسك و هي تتجه الى الباب.

(والدك يحمل معه المفتاح دائما، لا ليس هو، بالتأكيد، سأذهب لأرى)
ذهبت مسك الى باب الشقة، لتفتحه و ما أن فعلت حتى تسمرت مكانها و هي ترى قاصي واقفا أمامها...
كان غريب المنظر، غير حليق الذقن، أشعث الشعر، و عيناه حمراوين و غريبتين،
مرهقا، مرهقا جدا، الا أن به شيء مخيف...
قالت مسك بدهشة
(قاصي؟، ماذا بك، لماذا تبدو على هذا الحال؟).

رفع قاصي وجهه اليها، كان يضع قناعا من حجر، لا ينم عن شيء الا القسوة و انعدام الإحساس...
ثم قال أخيرا بايجاز
(هل هي هنا؟)
رفعت مسك ذقنها بادراك متأخر، دون الحاجة لسؤاله عمن يقصد، لكنها لم ترد، بل قالت بصوت ثابت
(أنت متعب جدا. و أي كلام الآن لن يصح، لما لا تعود الى بيتك الآن و ترتاح قليلا ثم تعود و نتكلم).

خرجت تيماء في تلك اللحظة تحديدا و هي تجري لخطوتين ثم وقفت عن بعد، فلفتت انتباه قاصي الذي رفع عينيه اليها...
كانت واقفة من بعيد، جميلة، مهلكة...
ترتدي احدى منامات مسك على الأرجح، و شعرها الطويل، مجنون، مشعث و مجنون و متطاير كالأسلاك...
جسدها المغري يخبره دون شك بحقيقة حملها، دون أن يظهر الحمل على بطنها بعد...

عيناها تتألقان كالنجوم، و ابتسامة مختصرة تناضل كي تظهر على شفتيها و كأنها مراهقة تتدلل على حبيبها الأول...
نفس نظراتها لم تتغير منذ أن كانت طفلة...
نفس الشقاوة و الوعد المغوي الساكن بهما رغم طفولتها و برائتها...
لم يطلق عليها تيمائه المهلكة من فراغ...
راقبها و هي تقترب منه ببطىء الى أن تجاوزت مسك ووقفت أمامه مباشرة، فأمسكت بالباب، تتشبث به كي يدعمها، ثم قالت أخيرا بصوت خافت
(تلقيت رسالتك).

لم يرد قاصي، بل ظل واقفا ينظر اليها بصمت، و هي تعض على شفتها قبل ان ترفع وجهها اليه لتقول بصوت ثابت ناعم، كامرأة واثقة
(ستكون لي وحدي، و أنا لك وحدك، سنعود قاصي و تيماء لا ثالث لهما، كما كنا دائما، آآآه ثالثهما طفلهما، كدت أن أنساه)
ضحكت برقة و عذوبة و هي تقول بدلال ناظرة اليه، عاقدة حاجبيها بعتاب مغري.

(أنسيتني طفلك برسالة من كلمتين، كما أنسيتني الفضيحة التي افتعلتها، امام بوابة بنايتك، لقد أشفقت على السيدة امتثال، بل و خفت عليها أيضا، و تمنيت لو انشقت الأرض و ابتلعتني، لكنني أسامحك، ففي النهاية كانوا سيعلمون، مهما طال الوقت، كان سيعلمون في النهاية)
كانت تثرثر بنعومة و رقة و هي تخفض رأسها خجلا و كأنه آتيا كي يتقدم لخطبتها للمرة الأولى...
قالت مسك بحذر من خلفها.

(تيماء، تراجعي قليلا، لما لا تدخلي لتعدي الشاي لقاصي)
التفتت تيماء لتنظر اليها كي تجيبها، الا أن قبضة قوية اندفعت لتمسك بذقنها فجأة تعيد وجهها اليه حتى كاد ان يقتلع رأسها من جذورها...
شهقت تيماء مجفلة من قسوة قبضته وهو يرفع وجهها اليه بالقوة و اتسعت عيناها و هي تنظر الى عنف ملامحه بعدم فهم!
ألم يكن هو نفسه من أرسل اليها الرسالة؟، ماذا به اذن؟

فتح قاصي فمه ليقول بصوت غريب بطيء وهو ينظر الى عينيها بعينيه الصلبتين
(سؤال واحد و أريد جوابا عليه، هل لك أي دخل في مطالبة راجح بحضانة عمرو؟، هل تواطئت معه و مع سالم؟)
ساد صمت مهيب بينهما و كلا منهما ينظر الى الآخر، بينما تحولت عيناها الى طاقتين من زجاج بارد قبل أن تقول بصوت يماثل في غرابته، صوت قاصي
(هل هذا ما أتيت لاجله الآن؟)
شدد قاصي قبضته على ذقنها وهو يقول من بين أسنانه و دون أن يرفع نبرة صوته.

(سألت سؤالا و أريد عليه جوابا، هل كان شرطك، مجرد خطوة كي يأخذ راجح عمرو مني؟)
مات الدلال و ذبحت الشقاوة، و لم يتبقى سوى عينيها الزجاجيتين تنظران اليه بصمت، و هي لا تشعر بقسوة أصابعه التي على الأرجح ستترك علامات على بشرتها الحساسة...
فغرت تيماء شفتيها لتقول بعد صمت طويل و بصوت جامد جليدي...
(نعم)
تجمدت عيناه عليها، و تراخت أصابعه عن ذقنها، قبل أن تتابع تيماء بنفس البرود.

(كنت ادافع عن حياتي و لا يمكنك لومي على ذلك، على الأرجح، أنك قد ندمت على رسالتك المتهورة التي ارسلتها إلى في نزوة حب مفاجئة، اليس كذلك؟، لكن لا تقلق، يمكنني مسحها من صندوق رسائلي بكبسة زر واحدة)
تركت أصابعه ذقنها ببطىء، و نظرت اليه بانفعال داخلي مجنون، الا أن وجهها كان باردا كبرودة جثة طافية فوق المياه...

تحرك خطوة للخلف فظنت أنه سيرحل هكذا ببساطة، الا أن هذا لم يحدث، لم تدرك سرعة ارتفاع يده في الهواء، ليهبط بها فجأة فوق وجنتها...
اتسعت عينا تيماء بذهول و هي تشعر بلسعة حارقة فوق وجنتها المحمرة، و هي لم تستوعب بعد ما حدث...
بينما صرخت مسك بعنف و هي تندفع لتقف بينهما صارخة لتضربه في صدره، تدفعه خارج الشقة
(هل جننت، هل فقدت عقلك أيها الهمجي، لتضرب أختي!)
هل ضربها فعلا؟
هل هذا ما قالته مسك للتو؟

هل فعلا ضربها؟
كانت تنظر اليهما بذهول صامت و كفها فوق وجنتها و كأنها تراقب مسرحية هي ليست طرفا بها، بينما كان قاصي ينظر اليها بنظرات تفيض كرها وهو يقول متجنبا ضربات مسك بسهولة
(لم أتخيل للحظة أن يأتيني الغدر منك أنت تحديدا، توقعت الغدر من الجميع و فلح توقعي، لكن أنت؟)
هتفت به مسك و هي تحاول دفعه عبثا
(أخرج من هنا حالا، أخرج قبل أن تندم أكثر من هذا أيها الغبي).

الا أنها بدت كمن يزيح صخرة من الطريق بينما أبعدها عنه بذراع واحد بمنتهى السهولة وهو يندفع الى تيماء ليقبض على ذقنها و فمها مجددا، وهو يقول بوحشية
(لن تفلح خطتكم، و لو علمت أنك قد تواصلت مع راجح بأي وسيلة كانت يا تيماء، فسترين مني ما لم تريه من قبل، و أرجو أن تكوني قد اتعظت من البداية، فهي البداية فحسب، حاولي فقط السماح له بالوصول اليك، حاولي).

لم ترد تيماء، بل ظلت واقفة مكانها و هي تواجهه بصمت رافعة وجهها اليه بعينين صلبتين، صامتتين، الى أن ترك وجهها أخيرا، ثم استدار ليغادر، بينما وقفت مسك تنظر اليه بغضب و استنكار، لتهتف من خلفه
(أستطيع الإتصال بأبي و سيوقفك عند حدك)
قال قاصي دون أن يستدير اليها
(سأكون ممتنا لك حينها، لأنني سأكسر ساقه كما سبق و كسرت له ساعده بعد أن تجرأ و حاول أخذ ما هو ملكي).

رأته مسك يبتعد و هي تتنفس بسرعة و عنف، قبل أن تستدير الى تيماء لتنظر اليها بقلق و هي تقول
(هل أنت بخير؟)
أنزلت تيماء كفها عن وجنتها، قبل أن تنظر الى مسك، لتقول بهدوء دون تعبير أو احساس
(أنا بخير)
لكن عيناها لم تكونا كذلك، كانتا قاسيتين، و مظلمتين بعد أن انتهى منها المتبقي من أمل خائب...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة