قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والعشرون

ابتسمت تيماء، رغم ألمها، و شردت عيناها و هي تتذكر رد فعله، قبل أن تهمس بنغمة ساحرة
(كان كالمجنون، حملني و دار بي حتى كدت أفقد الوعي، عيناه تحولتا فجأة الى طاقتين من جمر مشتعل، يبرق كالألعاب النارية و للحظة تخيلت انني أرى ظل الدموع بهما. كان و كأنه حصل على جائزة مليونية، الحلم الذي طالما حلم به)
صمتت للحظة و الذكريات الحلوة تعود اليها بخيانة، ثم ضحكت برقة و هي تتابع.

(هل تتخيلين أنني كنت أستيقظ من النوم لأجده يجلس بجواري، يداعب بطني بكفه وهو شاردا تماما، و كل هذا قبل حتى أن نتأكد من الحمل)
كانت مسك تستمع اليها بصمت، بينما غامت عينها بحزن دفين، شارد كشرود تيماء، الا أنه شرود مختلف، فوعت تيماء اليها و صمتت على الفور قبل أن تقول بخفوت
(مسك، هل يؤلمك كلامي؟)
نظرت اليها مسك لتقول بجمود.

(اطلاقا، و لماذا يؤلمني؟، على العكس، أنا سعيدة لقاصي، رغم كل غضبي منه و نقمتي عليه لما يفعله بك، الا أنه الصديق الوحيد المتبقي لي، كان أكثر من عرفتهم اخلاصا و رجولة حين احتجته، ووجدته بجواري، لطالما تمنيت له أن يجد السعادة التي يحتاجها، لكنني لم أتخيل أن يقتلعها عنوة بيديه، من أختي)
قالت تيماء بهدوء.

(لا، لا يا مسك، لقد ارتضيت بكل ما فعله، أنا ملامة مثله تماما و شريكة له في تلك التعاسة التي أحياها الآن)
تنهدت مسك و هي تنظر اليها قائلة بقنوط
(لا تزالي تدافعين عنه، و بكل قوة)
نظرت تيماء أمامها بصمت، ثم قالت بخفوت
(الغريب أنني أشعر بالغضب ما أن يمسه غيري بسوء، أشعر و كأنه يسيء الى طفلي، رغم معرفتي بكل عيوبه)
زفرت مسك و هي تنهض بصعوبة من جوارها قائلة بصلابة.

(كفى كلاما عن سيادته، و اخلعي حجابك و خففي من ملابسك كي ترتاحي قليلا و تأكلي، تبدين متعبة للغاية)
نهضت تيماء و هي تحاول اسنادها قائلة بقلق
(ربما عليك أن ترتاحي، و أنا سأعد لك ما تأكلين)
مطت مسك شفتيها و هي تقول ببرود
(اطمئني، لن نحتاج لأن نعد شيئا، فالطعام سيصلنا خلال دقائق دون مجهود)
عقدت تيماء حاجبيها، لكن قبل أن تسأل مسك عما تقصده، كان رنين جرس الباب يرتفع، لتتنهد قائلة.

(ليتني تمنيت شيئا آخر، ها هو الطعام قد أتى)
ثم اتجهت الى باب الشقة تتبعها تيماء و هي تقول بحيرة
(هل طلبت طعاما جاهزا؟)
لكن مسك لم تجبها، بل فتحت باب الشقة و هي تقول بفتور
(مرحبا وفاء، لم يكن هناك داع للمجهود و التكلفة، ككل يوم)
دخلت وفاء مبتسمة بعينين براقتين و هي تهتف بسعادة
(مرحبا بك أنت يا غالية، أي مجهود و أي تكلفة، و هي يعد هذا شيء مقارنة بما قدمته لي).

وضعت الصينية على الطاولة قبل أن تلتفت الى مسك متابعة بنبرة متوهجة
(ثم أنني لا أستطيع أن أرفض أمرا لأمجد، فهو حبيب العائلة كلها، يحبه الجميع والله يا مسك، و خالتي أم أمجد، لا حاجة لي باخبارك عنها، والله كالعسل، توضع على الجرح فيطيب من طيبة قلبها، يا سعد و هناء من ستكون من نصيب أمجد، أنا لا أقول هذا لأنه ابن خالتي، لا والله، هي شهادة حق والله العالم).

كانت مسك واقفة تستند بكلتا كفيها الى العصاة كقرصان مبتور الساق و هي نتظر تلك الوصلة كي تنتهي...
و الدم يغلي في عروقها، و يتفاعل، و يفور، و يهدد بالتهور...
بينما أمسكت تيماء بذراعها تشدها اليها لتهمس في أذنها بفضول
(من أمجد هذا، ها، من أمجد؟)
الا أن مسك جذبت ذراعها من يدي تيماء بقوة و هي تدفعها عنها بنفاذ صبر، فانتبهت وفاء أخيرا لوجود تيماء وقالت بحرج.

(عذرا يا مسك، لم أعرف بأن لديك ضيوف! حين اتصل بي أمجد بعد ايصالك، لم يخبرني أن معك ضيوف)
ارتفع حاجبي تيماء قبل أن تلمع عيناها بخبث و هي تهمس لمسك بفهم خبيث أخيرا...
(ما شاء الله، و اسمه أمجد أيضا! أشقر و بلحية و اسمه أمجد! ماذا ينقصه بعد؟)
دفعتها مسك و هي تقول بقوة
(اذهبي للداخل يا تيماء)
الا أن وفاء قالت بسعادة و هي تنقل نظرها بينهما
(ألن تعرفيني بضيفتك يا مسك؟).

أغمضت مسك عينيها بيأس، بينما مدت تيماء كفها مصافحة و هي تقول بمودة
(أنا تيماء، أخت مسك، تشرفت بمعرفتك)
هتفت وفاء و هي تضمها اليها لتقبل وجنتيها بمحبة
(غير معقول، أختها! لم أكن لأخمن أبدا، لا يوجد أي شبه بينكما مطلقا)
استسلمت تيماء لقبلات وفاء و هي تقول ببساطة
(أنا من أم و هي من ام أخرى، والدنا كانت له شقاوته في سنوات شبابه)
قالت وفاء باهتمام و هي تراقب اصابع تيماء
(هل أنت متزوجة يا تيماء؟).

ردت تيماء و هي تبعد الغطاء عن الصينية لترى ما بها...
(نعم، متزوجة من شهر تقريبا)
هتفت وفاء بمودة و كانها تعرفها...
(عروس اذن، ما شاء الله، الف مبروك، الف مبروك)
كانت تيماء قد التقطت احدى اصابع المحشو لتلتهم نصفها بنهم و هي تكاد أن تسقط من شدة الجوع الذي لم تدركه الا الآن، ثم وضعت النصف الآخر في فمها قبل حتى أن تبتلع النصف الأول، بينما تابعت وفاء تسألها بخبث السؤال المعتاد.

(و هل هناك شيء قادم في الطريق أم أنه السؤال مبكر جدا؟)
ثم ضحكت بقوة بينما مسك تتأكد بذهول مما سمعته للتو، لكن تيماء كانت تلتهم شيئا من كل طبق، ثم قالت ممتلئة الفم
(أنا حامل فعلا).

هتفت وفاء بسعادة و انبهار
(ما شاء الله، ما شاء الله، لم أكن أظن أن تجيبيني هكذا بصراحة، فقد كنت أمزح معك فقط، مبارك لك حبيبتي)
أومأت تيماء برأسها دون أن ترد و هي تسحب كرسي كي تجلس و تأكل بينما وفاء تتابعها بفخر مفكرة...
أما مسك فقد كانت تراقبهما بنظرة غريبة، مدركة تماما ما يدور في ذهن وفاء...
علي الأرجح تفكر أنها تنتمي لعائلة ذات خصوبة عالية...

لقد تطوعت ذات يوم و شرحت لها انها تؤمن تماما بخصوبة بعض العائلات اكثر من عائلات اخرى...
بل و تكرمت باخبارها. أن كل نساء عائلتها قد حملن منذ الشهر الأول في زواجهن...
و مسك كانت يومها تستمع اليها صامتة دون أن تبدي أي راي...
أما الآن، فالنفور بداخلها بدأ يتزايد سريعا قبل أن ترفع وجهها لتقول بحسم.

(أشكرك يا وفاء على تعبك معي و مساعدتك لي، لكن رجاءا كفى، لقد طلبت من أمجد أن يخبرك بذلك، لكن الواضح أنه شعر بالحرج)
نظرت اليها وفاء بدهشة قبل أن تنفجر ضاحكة لتقول
(من هذا الذي شعر بالحرج؟، أمجد أصدر لي أمرا مباشرا كي لا أتوقف عن تحضير الطعام لك الى أن تصح قدمك تماما)
هتفت مسك بغضب
(ليس من حقه أن يأمرك بخدمتي، أنا سأكلمه في هذا الأمر لاحقا، لكن رجاءا كفى)
اقتربت منها وفاء لتمسك بذراعها قائلة.

(أنا لا أعتبره أمرا، يوم المنى الذي أرى فيه أمجد يريد الزواج، و من الشابة التي أسرتني بصنيعها لآخر العمر، لقد طلب مني أن أحاول اقناعك من جديد و أنا و خالتي نتمنى هذا اليوم قبل الغد)
توقفت تيماء عن الأكل و هي تنظر اليهما بذهول، فتابعت وفاء تقول بجدية
(سانديني يا تيماء في اقناع اختك، ابن خالتي زميلها و تعرفه حق المعرفة، رجل طول و عرض و هيبة، أخلاقه يشهد لها الجميع و لن يؤخر لها طلبا، ).

ظلت تيماء تنظر اليهما بنفس الذهول بينما قالت مسك بحسم
(وفاء، رجاءا هذا الموضوع منتهي، أنا امتنعت عن التفكير في الزواج لفترة طويلة، رجاءا كفى)
نهضت من تيماء مكانها و قالت بحذر محاولة ابتلاع الطعام في فمها بصعوبة
(اتركيني معها و أنا سأحاول اقناعها، انها عصبية الآن ليس اكثر)
ابتسمت وفاء و هي تشد على معصم تيماء قائلة.

(انا الآن مطمئنة، سأترك الموضوع بيني أيد أمينة، ابذلي قصارى جهدك يا تيماء، الرجل يتمناها في بيته اليوم قبل الغد)
أومأت تيماء و هي تقول الحقيقة الوحيدة القادرة عليها
(اطمئني، سأحاول ما بوسعي)
ابتسمت لهما وفاء ثم غمزت لمسك و هي تقول
(أنا سأصعد الآن الى شقتي، و من يعلم، قد تحمل الصينية المقبلة شراب الورد الأحمر بعد أن نحصل على البشرى).

لم ترد مسك، بل زفرت بعصبية، بينما رافقت تيماء وفاء الى الباب مودعة، ثم اغلقت الباب خلفها لتستدير عائدة ركضا الى مسك...
ثم جذبتها لتجلسها بالقوة الى احدى كراسي المائدة و جلست في مواجهتها لتقول بنبرة آمرة
(اخبريني بكل شيء، لن أرحل قبل أن أعرف)
قالت مسك بحدة
(لا شيء لتعرفينه، مجرد زميل يريد الزواج مني و أنا لا أريده، نقطة آخر السطر)
رفعت تيماء حاجبيها و قالت بحذر.

(و هل ترفضين الزواج من المجرد زميل، بينما تقبلين أن يقلك نفس المجرد زميل يوميا. و يحمل لك الحاسوب و الحقيبة. و تأكلين الطعام الذي تحضره ابنة خالة نفس المجرد زميل؟
شيء من اثنين، إما أنك مستغلة، أو تتغابين، و أنا أرجح الإحتمال الثاني)
زفرت مسك و هي تنهض من مكانها بالقوة
(أتعملمين، أنت محقة، لقد تساهلت معه بما يكفي و الخطأ خطأي، سأتصل به على الفور لأنهي هذه المهزلة).

أمسكت تيماء بذراع مسك لتنظر في عينيها ثم قالت بجدية و خفوت
(هل يعلم؟)
نظرت مسك الى عينيها بجمود، ثم قالت ببساطة
(نعم يعلم، و مصمم أكثر من ذي قبل)
صرخت تيماء فجأة بغضب
(و ترفضين؟)
برقت عينا مسك بغضب أشد و هي تقول ببرود جليدي
(تقصدين لأن من هي في مثل وضعي لا تتجرأ على رفض الفرصة، بل عليها أن تقبلها شاكرة لليد التي امتدت لها و قبلت بها، اليس كذلك؟)
هتفت تيماء بجنون.

(بل لأن لا امرأة عاقلة ترفض رجل يتمناها الى تلك الدرجة، و على استعداد لأن يضحي بهذا القدر لأجلها، أين عقلك؟، أشقر و بلحية و يحمل لك الحقيبة! هل أنت مجنونة لترفضين رجل مثله؟)
قالت مسك بجمود بعد صمت طويل
(أنا لا أقبل التضحية، الزواج القائم على تضحية نهايته معروفة ما أن يزول بريقه)
تحركت بصعوبة و هي تستند الى العصاة التي اشتراها لها، فنادت تيماء من خلفها بأسى
(ترفقي بالرجل، لا تكسري قلبه).

استدارت اليها مسك لتقول بخفوت
(حمقاء، و ستظلين هكذا الى يوم مماتك)
ثم اتجهت الى غرفتها لتصفق بابها بكل عنف خلفها، أما تيماء فقد جلست الى الكرسي بملامح حزينة و هي تهمس بخفوت شارد
(ترفقي به، ليتني اجد من يترفق بحالي)
أمسكت مسك بهاتفها بعصبية و هي تضرب اسمه كي تتصل به، ثم انتظرت و هي تهز ساقها بتوتر، الى ان وصلها صوته الدافىء يقول.

(لا أصدق، اليوم حظي بالتأكيد، الآنسة ألمظ تتصل بي شخصيا، بعد ساعة من افتراقي عنها)
ساد صمت متوتر و هي تغمض عينيها محاولة السيطرة على غضبها، الا أنه تابع بصوت أكثر رقة
(هل اشتقت إلى سريعا؟، أم نسيت شيئا في سيارتي، ارحمي كبريائي الذكوري و اختاري الإحتمال الأول)
كانت مسك تعض على زاوية شفتها السفلى و هي تنظر الى نفسها في المرآة بعينين تقدحان شررا، تلاعب احدى خصلات شعرها الناعم، ثم قالت ببرود
(هل انتهيت؟).

تكاد أن تقسم بأنها ترى ابتسامته الآن، خاصة حين رد عليها قائلا بهدوء
(تقريبا آنسة ألمظ، بقي شيء واحد)
صمت للحظة بينما رفعت هي حاجبها منتظرة، متظاهرة بالملل ليقول بعدها بخفوت
(تزوجيني)
ارتبكت مسك أمام نفس النبرة الحانية التي ينطق بها طلبه كل مرة،
و كأن هذه الكلمة قد خلقت تحديدا لتزينها نبرته الخاصة و التي لم تسمع بمثل عمقها من قبل...
استقامت و هي تقول بحزم، محاولة الا تستسلم لسحر تلك النبرة العميقة.

(سيد أمجد، أولا أنا أرفض أي اسم عبثي منك، ألمظ أو ألماس. أو)
صمتت و هي تتحاول أن تتذكر بعضا من الأسماء التي يناديها بها، فساعدها يذكرها بتهذيب
(كليوباترا؟)
زمت مسك شفتيها و هي تقول من بين أسنانها
(نعم، و هذا أيضا)
أخذت نفسا لتتابع الا أنه سبقها ليقول مكملا
(ظاظا؟)
هتفت مسك بقوة
(توقف، أنا لا أسمح لك بتجاوز حدود التعامل الرسمي بيننا، ثم أنني اتصلت بك لهدف محدد، لا ترسل لي طعاما عن طريق وفاء، انتهينا).

قال أمجد بهدوء
(موافق، لن أطلب منها أن تصعد لك بأي طعام)
أخذت مسك نفسا و هي تستدير لتستند الى طاولة الزينة قائلة بصلابة
(جيد، ثانيا)
الا أن أمجد قاطعها قائلا ببساطة
(سأطلب لك طعاما من الخارج)
ارتفع حاجبي مسك و اتسعت عيناها لتقول بخفوت
(أنت غير معقول حقا، أنت)
قاطعها بخفوت قائلا
(بل أنا معقول جدا، من يراك و لا يسعى لنيل رضاك يا ألماس؟).

ساد صمت قصير بينهما و هي تنظر أرضا، تنظر الى قدمها التي كانت ترسم دوائر ببطىء...
ثم رفعت وجهها أخيرا لتقول بهدوء
(بالنسبة الى عرض الزواج، أنا آسفة سيد أمجد، لقد رفضته، و هذه المرة الأخيرة التي سنناقش الأمر بها، سواء كان جديا أو مزاحا)
لم يرد أمجد على الفور، بل عاد الصمت بينهما قصيرا الى أن قالت بخفوت
(أراك غدا في الشركة)
رد عليها أمجد بهدوء
(أراك غدا يا مسك).

حين أخفضت مسك الهاتف و هي تستدير لتنظر الى نفسها مهنئة في المرآة، لم تجد نظرة الإنتصار التي توقعتها، بل رأت نظرة أخرى، نظرة فاقدة للحياة، مجرد نظرة زجاجية مشوشة...

أغلق أمجد هاتفه ووضعه بجواره قبل أن يستلقي الى الخلف ناظرا الى سقف الغرفة بصمت...
ليس في سن يسمح له بالركض خلف امرأة كل هذا الوقت و بهذا المجهود...
لم يعتد أبدا أن ينزل من قدر نفسه، الا أنه تعمد أن يظهر لها تمسكه بها علها تقتنع، لكنها واجهت كل محاولاته بالرفض...
ربما عليه الإستسلام أخيرا، أيا كان سبب رفضها فعليه احترامه و التوقف عن مضايقتها...

شعر أمجد بشيء مؤلم في معدته، و كأن تخيل التسليم بتركها أخيرا قد آلمه جسديا...
برقت عيناه قليلا وهو يسأل نفسه متى أصبحت مسك الرافعي تمثل له تلك الأهمية؟
متى تحولت من مجرد عروس مرغوبة و مناسبة الى رغبة يتمناها، تؤلمه إن ابتعدت و تقتله إن توجعت
.
سمع فجأة طرقا على باب غرفته، فقال مناديا
(تفضلي يا أمي).

فتح الباب، لكنه لم تكن أمه هي من أطلت منه، بل وجه أخته أولا، ثم أمه التي كانت تمسك بكفها كي تقودها اليه...
شيء أكيد شعر به حين نظر الى وجه كلا منهما، أنهما غاضبتين من شيء ما...
أخته غاضبة، أما أمه فيعلو وجهها تعبير من القلق، الانزعاج. و الخوف، بل قريبا من الرعب...
استقام امجد جالسا ليبتسم قائلا بترحيب.

(لم تخبريني يا غالية أن مهجة ستتناول الغذاء معنا اليوم، متى وصلت و لماذا لا أسمع أصوات جيش التتار خاصتك؟)
قالت مهجة بخفوت متجهم
(يبدو أنك كنت مشغولا مع اتصالك، فلم تسمع صوت جرس الباب، لقد أتيت بدونهم، و لن اتناول الغذاء معكما اليوم يا أمجد، سأغادر في أسرع وقت)
انعقد حاجبي أمجد وهو ينهض من مكانه ليتجه الى امه، حتى أمسك بكفها و قادها الى أن أجلسها على سريره برفق، فقالت و هي ترفع وجهها اليه قائلة بخفوت.

(أنا من اتصلت بشقيقتك يا ولدي و طلبت منها الحضور، لأنني أحتاج اليها، أحتاج اليها كي تنظر إلى عينيك نيابة عني، لم أتمنى عودة بصري إلى، قدر حاجتي اليه الآن كي أراك و أطلب منك أن تنظر الى عيني و تواجهني يا ولدي)
انعقد حاجبي امجد بشدة وهو يجلس بجوارها ممسكا بكفها بين يديه ليقول بجدية و قلق
(يبدو أن الأمر خطير يا أمي، تكلمي رجاءا، لا تزيدي من قلقي).

بدت امه شاحبة الوجه، زائغة العينين على غير عادتها، فعلى الرغم من فقدها البصر الا ان عينيها دائما ثابتة، هادئة و بشوشة...
تكلمت مهجة حين طال الصمت بأمها، قائلة بخفوت
(لقد تلقت أمي اتصالا منذ قليل، اتصالا من احدى زميلاتك، و اسمها غدير، تقول انها صديقة قديمة لك)
تصلب أمجد مكانه، و تعقدت ملامحه بينما بدت نظرة مخيفة في عينيه، الا أنه قال بهدوء، مخفيا ما يشعر به...
(ماذا تريد؟، و لماذا اتصلت بك يا أمي).

ساد الصمت بين ثلاثتهم مجددا، الا أن أمه كانت هي من قطعه لتقول بخفوت متوتر
(سؤال واحد يا ابني و أريد اجابة صريحة له، لم أعتد منك سوى الصراحة يا أمجد)
قال أمجد بهدوء
(لست في حاجة لأن تطلبي مني الصراحة يا أم أمجد، اسألي فقط و لن تجدي سواها)
بدت أمه أكثرا قلقا وتوترا، الا أنها رفعت وجهها و شدت من قبضتها على أصابعه و هي تقول بخفوت
(هل زميلتك التي تريد الزواج منها، مسك، غير قادرة على الإنجاب فعلا؟).

الصمت الذي تلا سؤالها كان قاتما، كئيبا...
و ملامحها الشاحبة تؤكد له رأيها كما توقعه تماما...
أخذ أمجد نفسا عميقا، قبل أن يقول بهدوء دون أن يترك قبضتها
(نعم يا أمي، مشيئة الله، و لا يسعنا الإعتراض عليها)
بهتت ملامح والدته أكثر و أكثر، حتى شعر بالخوف عليها، الا أنها قالت بشفتين مرتعشتين و هي تنظر أمامها بصدمة.

(عسى الله أن يعوضها خيرا، لكن، لكن يا ولدي، لما تستخدم صيغة الجمع؟، ما دخلك أنت؟ هل أنت ماض في الزواج بها؟)
أخذ أمجد نفسا عميقا قبل أن يقول بهدوء و جدية
(و هل عهدت مني التراجع من قبل يا أم أمجد؟)
أغمضت أمه عينيها قبل أن تهز رأسها بعدم تصديق أما أخته فهتفت فجأة بقوة دون أن تستطيع السيطرة على نفسها أكثر
(ما الذي تقوله يا امجد؟، هل تريد الزواج من امرأة عاقر؟)
قال أمجد بصوت قوي، قاطع.

(كفى يا مهجة، اتقي الله)
أغمضت مهجة عينيها و هي تهمس بانفعال...
(لا حول و لا قوة الا بالله، يا أمجد أنا لا أعترض، لكن لماذا تقدم على زيجة و أنت تعلم أنك لن ترزق منها بأطفال؟، فيما تفكر؟)
قال أمجد بصوت صلب
(و من أخبرك فيما لا يقبل الشك أنني قادر على الإنجاب؟)
هتفت أخته بحدة و ذهول
(هل تسمع نفسك؟، أنت تهذي يا أمجد، و مع ذلك يمكنك اجراء تحليل للتأكد من الأمر و اغلاق باب تلك الحجة أمامك).

هدر أمجد بها للمرة الأولى
(هذا أمر يخصني يا مهجة، لا يحق لك التدخل به)
هتفت أمه فجأة بقوة
(لا، بل لها كل الحق، و لي كل الحق، كل فرد في هذه الأسرة له حق على الآخر، هل تعارض حقي أنا الأخرى يا امجد؟)
نظر أمجد الى أمه بملامح هادئة، تحمل الكثير من المعاني قبل أن يقول بخفوت
(أوامرك سيف على عنقي يا أم أمجد)
بدت و كأنها قد ارتاحت قليلا، الا أنها رفعت وجهها و قالت بصوت مرتجف.

(أسمع يا ولدي، أنا أتمنى لها كل الخير و السعادة، و عسى الله بأن يرزقها من هو أفضل منك)
عرف أمجد رأي أمه قبل أن تتم كلامها، الا أنه صمت و لم يرد على الفور، الى ان تابعت أمه تقول بصوت أكثر خفوتا.

(لكنك يا حبيبي لن تحرم نفسك من نعمة الأبوة، ليس هناك من شرع يجبرك على هذا، و أنا أحلم باليوم الذي أحمل فيه طفلك بين ذراعي، لذا، ابعدها عن تفكيرك يا ولدي و تمنى لها السعادة، أرجوك يا حبيبي، هذه الفتاة ليست من نصيبك)
ظل أمجد صامتا لعدة لحظات، قبل أن يربت على كف أمه برقة، ثم أحنى رأسه ليقبل ظاهر يدها، قبل أن ينظر الى وجهها المتوتر الحزين، ليقول بصوت هادىء.

(لن أعصي لك أمرا يا أم أمجد، و لن يتم زواجي بها إن لم تكوني موافقة، فاطمئني)
لكن ملامحها لم ترتاح تماما، بل قالت بأمل و هي تشد من قبضة يدها على كفه
(و هل ستذهب معي لرؤية العروس التي رشحتها لك وفاء سابقا؟)
مد أمجد يده ليربت على كتف أمه قائلا بجدية.

(واقفتك على طلبك يا أم أمجد، لكن اعفيني من موضوع الزواج، ليس تحديا مني أو ضغطا عليك، لكني الآن أعيش الرغبة المسيطرة على تفكيري في الزواج من انسانة معينة، هي من تحتل مساحة عقلي بأكمله، و أنا لن أقابل فتاة أخرى بغرض الزواج طالما مسك الرافعي لا تزال تشغل تلك المساحة، لن أقبلها لبنات الناس كما سبق و اخبرتك، و لن أقبلها لقلبي)
فغرت أمه شفتيها و هي تهمس بألم
(قلبك يا أمجد!)
ابتسم أمجد بحزن وهو يقول بجدية.

(نعم، هذا ما يبدو يا أم أمجد، لقد استحوذت مسك الرافعي على قلب ولدك، فلا تضغطي عليه أكثر، يكفيه رفضها، كي لا تحرمه من نعمة الأبوة كما طلبت)
أغمضت أمه عينيها و هي تهمس بألم
(لا تفعل هذا بي يا حبيبي، أنت تطلب مني المستحيل)
عاد أمجد ليقبل ظاهر يدها وهو يقول بخفوت
(أنا لن أطلب منك المستحيل، و أنت لا تفعلي بالمثل، لا تطلبي مني المستحيل بالتفكير في الزواج من أخرى، هذا هو العدل يا أمي)
هتفت مهجة بغضب.

(أنت تتوهم يا أمجد، متى أحببتها كل هذا الحب؟، لا تفسد حياتك، لمجرد وهم قد تستفيق منه بعد أن تكون الفرص المثالية قد ضاعت من يدك)
رفع أمجد وجهه ينظر الى أخته مليا ثم قال بصلابة
(حقي ان أحيا الوهم الذي يخصني يا مهجة، أم أنك كبرت و أصبحت تملكين الحق لمحاكمتي فيما يخص حياتي الخاصة؟)
هتفت مهجة بحدة
(لو كنت أنت مكاني لمنعتني من زيجة كهذه)
الا أن أمجد رد عليها بصوت أكثر سطوة.

(لو كنت مكانك، لما أجبرتك على الزواج ممن لا تريدين)
قالت أمه و هي تبكي بصمت
(حاول يا ولدي، اضغط على قلبك قليلا فربما يستجيب لعروس جديدة)
قال أمجد بهدوء خافت
(والله لا اقدر على تطويعه يا أمي، هي من يريد فسامحيه، )
اخفضت أمه وجهها و بكت، الا ان امجد امسك بجانبي رأسها ليقبله بحنان، ثم ضمها الى صدره بقوة وهو يهمس لها
(لا تبكي يا أمي أرجوك، من يعلم الغيب).

نظرت غدير الى هاتفها الصامت و هي تعض أصابعها بتوتر، منفثة دخان سيجارتها باليد الاخرى...
لقد تهورت و تصرفت بشكل غبي، و ها هي تنتظر منه مكالمة في أي لحظة...
لم تتخيل أن تشي بمسك لدى والدة أمجد بتلك الطريقة الدنيئة، لكن ماذا كان بامكانها أن تفعل، لقد أحبته...
أحبت امجد الحسيني قبل حتى ان تتزوج بأشرف، مهما أنكرت فهي تحبه...

و هي لم تستطع الوقوف مكتفة الذراعين، تراقب مسك الرافعي تفوز به، و تحرمه من الأبوة...
حتى ان لم يكن أمجد من نصيبها، لكنه لن يكون من نصيب مسك أبدا...
هي ليست سيئة تماما، انها تحاول فقط حماية أمجد من نفسه بدافع حبه المختبىء في زوايا قلبها لا يعرف عنه احد سواه...
و الخطأ كله يقع على عاتق مسك، كان عليها ان تكون اكثر جدية في ابعاده عنها، لذا عليها الآن أن تتحمل...

أطرقت برأسها و هي تسحق سيجارتها في المطفئة بالقوة، بينما شردت عيناها في البعيد،
ذكريات كثيرة جمعتها بمسك، ذكريات قد تكون معا، حياة كاملة صغيرة...
نهضت غدير من مكانها و هي تختال ببطىء ناظرة الى أنحاء شقتها الفخمة، و التي تضم الكثير من التحف الكريستالية و العاجية، اختارتها قطعة قطعة قبل زواجها...
الى أن وقفت تنظر الى مرآة مذهبة تكاد أن تكون أثرية و هي بالطبع باهظة الثمن...

وقفت غدير تراقب نفسها، لقد تغيرت قليلا، باتت اكثر عصرية بشعرها القصير ذو الخصلات المدببة...
لكن الخطوط تحت عينيها كانت سريعة الظهور، سابقة سنوات عمرها الحقيقي...
خطوط التفكير العميق و التوتر و الخوف من المجهول دائما، لم يستطع اي من مستحضرات الوجه الغالية التي اشترتها مقاومة تلك الخطوط، و محاربة الرعب الذي تسبب بها و سيتسبب في الأكثر منها...

شردت غدير للحظات و هي تمسك بسلسال ذهبي صغير محيط بعنقها، ترتديه بين الحين و الآخر...
لم تضيعه أبدا...
و عادت اليها ذكرى المرة الأولى التي حصلت فيها عليه...
كانت عند مسك في البيت الذي اعتادت زيارته و المبيت فيه، كان يوما رائعا، قضت معظمه في الضحك و قياس كل ملابس مسك واحدا تلو الآخر، الى أن أتت أمها ليلا لتأخذها،
في الحقيقة لم تأتي لتأخذها، بل أتت كي تتسول، لم تترك فضيحة واحدة الا و ارتكبتها...

قصت على والد مسك كل تفاصيل حياتها مع زوجها الراحل، الذي هو والدها...
ذمت به و صرخت و بكت، قبل أن تبدأ وصلة التسول، . بشكل مقيت، و نهاية المطاف ألقت نفسها على قدميه تقبلهما و هي تدعي الحاجة الى مبلغ صغير...
يومها خرجت غدير من غرفة مسك جريا و هي تنوي الهرب من هذا الخزي الذي عاشته، الا أن مسك لحقت بها و أمسكت ذراعها بالقوة تديرها اليها ثم هتفت بها.

(لا تبكي يا غدير، أنت لا دخل لك بتصرفات والدتك، و كلنا هنا نعاملك على هذا الاساس)
الا أن غدير هتفت بنحيب مختنق
(اتركيني يا مسك، أريد الموت، أريد التخلص من حياتي و من كل أفرادها)
الا أن مسك شدت على ذراعها و هي تقول بحدة
(أنا لن أسمح لك بمثل هذا الكلام، و إن مت فمن تتبقى لي، أنت لست صديقتي يا غدير، أنت أختي)
ظلت غدير تبكي الى أن أحاطت مسك عنقها بذراعيها و هي تضمها الى صدرها قائلة بخفوت.

(لا تبكي رجاءا و الا بكيت معك)
ابعدتها عنها قليلا لتبتسم لها قائلة
(أعرف ما قد يزيل عنك وجعك)
ثم رفعت يديها الى خلف عنقها و فكت السلسال الذهبي قبل ان تلبسه لغدير و هي تقول مبتسمة
(هذا السلسال هدية من والدي وهو معلق في عنقي منذ سن العاشرة، ضعيه حول عنقك و سيكون هذا رباط الصداقة الأبدية بيننا)
أفاقت غدير من ذكرياتها و هي تلامس الحلية الذهبية المتدلية من السلسال، لتنظر الى المرآة...

الا أنها فوجئت بابتسامة حزينة مرتسمة على شفتيها، فمسحتها على الفور و كأنها خجلت منها...
علا فجأة صوت رنين، هاتفها فانتفض رأسها و هي تلتفت اليه، قبل ان تجري لتلتقطه و كما توقعت كان الاتصال من امجد...
كانت تعلم أنه سيعنفها و يجرحها، الا أن مجرد النظر الى اسمه المضيء وهو من يطلبها، جعلها تنتظر و تتمتع بتلك اللحظة، فقد لا تعود مطلقا...

اخذت نفسا عميقا، ثم فتحت الخط دون أن تجد الجرأة على الرد، لكن أمجد لم ينتظر ردها، بل قال بهدوء
(اتصالك بي أو بأي فرد من أفراد أسرتي غير مرحب به، و إن تكرر الأمر فسوف أصعد الأمر على نحو رسمي في العمل، أرجو أن يكون كلامي أكثر وضوحا هذه المرة)
ثم أغلق الخط...

ظلت غدير تنظر الى الهاتف المغلق في يدها بذهول، قبل أن تغمض عينيها على دموع انهمرت من تحت جفنيها المنطبقين، فهذا القاسي الذي كلمها للتو و طردها من حياته، كان يحبها ذات يوم...
أي خسارة تلك!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة