قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والخمسون

انعقد حاجبي أمجد بشدة وهو يستدير لينظر الى مسك التي تكلمت بصلابة و قوة، لم يكن قد سمع هذه المعلومة، فقال بصوت غريب
(هل تزوج؟)
نظرت مسك اليه بصمت ثم قالت بلامبالاة
(تزوج منذ أشهر، و زوجته حامل، لهذا أتى كي يتم مهمة قديمة)
و كأن غضبه تجاهها قد تبخر فجأة، و تحول الى جهة واحدة، و هي جهة زاهر الرافعي...
كل ما حاول أن يداويه بداخلها على مدى أشهر، أتى الحقير زاهر ليدمره في لحظة بحركة مدمرة...

و ها هي تقف أمامهم تحكي ما حدث بكل برود بعد أن عادت الى قوقعتها الجليدية مجددا...
أظلمت عينا أمجد وهو ينظر اليها، و دون أن يتكلم، دون أن يسب أو يلعن، مد يده ليمسك بكفها بقوة...
أجفلت مسك و هي تنظر الى كفه الممسكة بكفها، و بدافع غريب داخلها، لم تسحب يدها منه!
و كأنها كانت في حاجة اليها، و كأنه أدرك أنها تتألم على الرغم من كل هذا الصراخ و الحدة و الصلابة...
نظر أمجد الى سالم و قال بنبرة قوية.

(زاهر هو من تهجم على ابنتك، تهجم عليها نفسيا و حط من قدرها مجددا، ليس أنا، أنا زوجها و أريدها في بيتي كي أمنع عنها تلك الأنفس المريضة)
رفع سالم عينيه ينظر اليهما، ثم قال أخيرا بجمود
(ستدخل بها قبل أن أسافر للإصلاح من الكارثة التي ارتكبتها)
فغرت مسك شفتيها و هي تقول بحدة
(الا رأي لي في الأمر؟)
قال سالم بقوة
(الرأي كان لك حين وافقت على الزواج به، لكن ما يلي هذا فالكلمة للرجال)
قال أمجد محييا بقوة و حماس.

(لا فض فوك يا عمي، الكلمة للرجال، و لتبقى النساء في المطبخ)
قال سالم بإمتعاض
(عمي!)
أما مسك فقد نظرت اليهما و هي تهتف بحدة، (أنا لا أقبل بهذا بينما تيماء تمر بمثل هذا الظرف)
قالت تيماء بخفوت
(لا تتحججي بي رجاءا، إنها حجة في منتهى السخافة يا مسك و كأنك تستغلين وضعي)
نظرت اليها مسك ذاهلة و هي تقول من بين أسنانها
(أنا أستغل وضعك يا ناكرة الجميل؟)
رفعت تيماء كفيها و هي تقول متراجعة
(الكلمة للرجال).

زمت مسك شفتيها و هي تدلك ذراعها ملتزمة الصمت، متوترة الملامح، صلبة العينين...
ابتسم أمجد وهو ينظر اليها سعيدا منتشيا، بينما رمقته مستنكرة بطرف عينيها...
فشدد من قبضته على يدها وهو يقول بهدوء
(تعالي لنخرج في موعدنا و سنعد للأمر، أعدك الا ينقصك شيء)
ارتفع حاجبي مسك و هي تهتف
(أي موعد! انظر الى قميصك الممزق و حالتك المزرية)
أظلمت عينا أمجد وهو يقول غاضبا.

(مزرية؟، رجل خرج من المصعد وجد زوجته على وشك الخطبة لرجل غيره، ماذا تتوقعين أن تكون هيئته بعدها؟، بوردة في عروة السترة؟)
ابتسمت تيماء و هي تبتعد عنهما لتتركهما الى جدالهما اللذيذ، لعل قدوم زاهر الأحمق بفعلته السوداء كان خيرا لهما...
شعرت بتشنج في بطنها فابتسمت أكثر و هي تضع يدها عليها هامسة برقة
(اهدأ يا حبيبي، لقد توترت كثيرا).

لكنها عادت و صمتت مدركة أنها قد نست مجددا، فلوحت بكفيها و هي تستند الى الجدار خلفها، مرجعة رأسها للخلف...
لم تدرك أن سالم كان ينظر اليها عاقدا حاجبيه بعد أن لحق بها في الرواق، فقال بصوت أجش بعد لحظات
(هل أنت بخير؟)
رفعت تيماء وجهها تنظر اليه بتوتر، فاستقامت بسرعة و هي تقول
(هل خرجا؟)
زم سالم شفتيه وهو مستنكرا
(خرجا بهيئة لا تشرف، المهم، كيف تشعرين الآن؟)
قالت تيماء بخفوت و تردد.

(أنا بخير، لقد تعافيت تماما، وكنت سأغادر غدا على الأكثر)
عقد سالم حاجبيه بشدة وهو يقول ببطىء
(و لما العجلة؟)
رفعت عيناها الكبيرتين اليه بدهشة، ثم قالت بحيرة
(و لماذا أطيل البقاء؟)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول متذمرا، متجنبا النظر اليها
(هذا، بيتك)
فغرت تيماء شفتيها قليلا، ثم قالت هامسة
(لم يكن يوما بيتي)
حينها رفع سالم وجهه و نظر اليها قائلا بإستياء.

(الى أين ستذهبين؟، هل تنوين البقاء مع أمك و زوجها التافه؟)
أخذت تيماء نفسا عميقا و هي تفكر في تلك المعضلة، بالفعل هي غير قادرة مطلقا على الذهاب الى أمها و زوجها، أما شقتها المستأجرة فقد فض مالكها عقد الإيجار قبل سفرها...
بدت شاردة تماما و غير قادرة على التفكير، فقال سالم مستغلا الفرصة
(تبدين متعبة للغاية، اذهبي لترتاحي، و اتركي فكرة الرحيل لما بعد).

أومأت تيماء بصمت و استدارت كي تعود الى غرفة مسك، لكنها توقفت للحظة، ثم عادت و التفتت الى والدها قائلة
(لم يتسنى لنا الكلام من قبل، أو بمعنى أصح كنا نتهرب من المواجهة، لدي سؤال واحد فقط، و أرجوك أجبني عليه بصدق، هل كان لك دخل في المؤامرة التي دبرتها ريماس كي تعيد قاصي الى هنا؟)
أطرق سالم برأسه دون رد، بدا شديد التجهم، والإدانة بالذنب، فلم تحتاج الى رده...
قالت تيماء بصعوبة.

(لماذا؟، لماذا؟، هل وصل كرهك له الى الحد الذي يجعلك تحرم ابنه منه في حياته؟)
استدار سالم عنها وهو يقول بصوت أجش
(كان خاطفا لابن امرأة، و كنت تأمرينه أمرا بالسفر و أعادته الى أمه)
نظرت تيماء الى ظهر والدها ثم قالت بخفوت ذاهل
(كنت تدافع عن امرأة غريبة ضد مصلحة ابنتك؟)
قال سالم بقوة مندفعا
(بل كنت أدافع عن الحق)
هزت تيماء رأسها و هي تقول بيأس.

(أي حق؟، اي حق يا، أبي، بعد كل هذه السنوات من ضياع حقي بك، جئت الآن لتحرم طفلي من والده بدعوى الحق؟)
صمتت قليلا و هي تنظر أرضا، ثم همست بخفوت
(لما الكلام الآن؟، ما فائدة السؤال، فلقد خسرت طفلي في كل الأحوال، ما الفائدة؟)
تحركت لتبتعد و هي تهمس لنفسها بصوت غير مسموع، فقال سالم من خلفها بقوة
(كانت خطة راجح، أنا فقط ساعدته بكلمتين لزوجك).

لم تتوقف تيماء و لم تستدر اليه، بل ظلت تهمس و كأنها لم تسمعه من الأساس...
(ما الفائدة؟)
ظل سالم يراقبها الى أن دخلت الى غرفة مسك و أغلقت الباب خلفها بهدوء، حينها تراجع سالم الى أقرب كرسي، فجلس عليه، مستندا برأسه الى الخلف بملامح غريبة
لم يدرك معنى المثل القائل، لا أعز من الولد. الا ولد الولد...
الا بعد أن رأى تيماء تحمل طفلها المتوفي بين ذراعيه و هي تتأرجح به و تهمس له في أذنه...

حينها شعر بلسعة من الألم تصفع صدره...
الغريب في الأمر أنه لم يتألم لتيماء وحدها، بل شعر بقبضة غريبة تغلف قلبه حين أدرك أنه بفعلته تسبب في سفر قاصي، فتوفي طفله بعيدا عنه قبل أن يستطيع حمله...
خطأ لن يتم اصلاحه مطلقا، على الرغم من كرهه لقاصي و الذي لا يزال حتى الآن، الا أنه لم يكن يتخيل أن يموت الطفل فور سفر والده، ضربة قوية جعلته يتصل بقاصي و يخبره بنفسه...
فلم يسمع منه ردا حتى يومه هذا...

لقد رآه خلال مراسم الدفن، كان يقف بعيدا و يضع نظارة سوداء على عينيه وهو ينظر اليهم دون تعبير...
لم يحاول حتى الإقتراب، و لم يسعى أحد الى مواساته و كأنه لا يستحق، و ما أن انتهوا من الدفن حتى ابتعد في صمت، كما حضر في صمت...

تحرك ببطىء متثاقل تجاه الباب، حيث الرنين المتواصل و طرق الباب...
ففتحه و نظر الى زائره الصباحي دون ترحيب...
تراجعت امتثال خطوة الى الوراء و هي تنظر اليه مصدومة و هي تهمس
(بسم الله الرحمن الرحيم، لماذا تبدو بهذا الشكل؟)
لم يرد قاصي عليها وهو ينظر اليها دون تعبير، ثم قال أخيرا و السيجارة في فمه
(ماذا تريدين؟).

رمقته امتثال بنظرة قلقة و هي تراه يقف أمامها لا يرتدي سوى بنطال بيتي قصير فوق الركبتين، و مبذل مفتوح تماما، كاشفا عن صدره و بطنه المليئة بالخدوش و الجروح...
أما لحيته فقد استطالت حتى أوشكت على تعدي حدود فكه، كشعره الذي شاركها طولا...
عيناه كانتا حمراوان بلون الدم، و نظراته ميتة، حيث فقد الجمر الذي كان يشعلهما ببريق من روحه الهائمة على وجهها...
فتحت امتثال فمها لتقول بصوت حذر
(هل أنت بخير؟).

لم يرد قاصي على الفور، بل أخرج السيجارة من فمه و نفث دخانها في وجه امتثال التي سعلت بعصبية و هي تلوح بيدها كي تبعد هذا الدخان عن نفسها، بينما كرر قاصي بنفس النبرة القاتمة
(ماذا تريدين؟، لقد طرقت بابي عشرات المرات)
أخذت امتثال نفسا عميقا و هي تنفخ صدرها غضبا، ثم هتفت بحدة
(هل لديك فكرة عن عدد القطط المتواجدة أمام باب شقتي اليوم بسبب كيس القمامة الذي وضعته أمام باب بيتك ليلة امس؟).

لم يرد مجددا قبل أن يأخذ نفسا عميقا من سيجارته، نفخه في وجهها مرة أخرى، قبل أن يقول بصوت ميت
(كم قطة؟)
لمعت عيناها بغضب و هي تهتف محتدة
(ست قطط، ست قطط بسبب بقايا السمك الذي القيت به لها، على الرغم من تحذيري لك الا تفعل، نحن نلقي بأكياس القمامة أسفل البناية، مر عمر و أنت لا تفعل هذا الا لتستفزني)
أخذ النفس الأخير، قبل أن يلقي بنهاية السيجارة على السلم بجوارها، فنظرت اليها ذاهلة قبل أن تهتف غضبا.

(ما الذي،!)
عادت لتنظر اليه و هي تنوي أن تصب جام غضبها عليه، الا أنه سبقها و قال ببرود
(لم تكن بقايا، بل ثلاث سمكات كاملة، اشتريتها كي أطعم القطة الحامل التي تسكن معنا، لم أدرك أنها ستأتي بقبيلتها، لكن كان الخير كثيرا فأكلت القطط كلها حتى أصيبت بالتخمة، بالمناسبة، لقد تركت فضالات كثيرة في كل درجة من درجات السلم بين طابقينا، هلا نظفتها؟ سأكون شاكرا لك).

فغرت امتثال فمها غير قادرة على النطق، تحاول البحث عن الطريقة المثلى كي تنفجر به بشكل مبالغ فيه، الا أنه سبقها و قال ببرود
(الحليب عليك، احرصي أن يكون فاترا، كي لا يتعب معدة القطط المسكينة، وداعا)
و أمام ملامحها المذهولة كان قد صفق الباب في وجهها بكل قوة...
تحرك قاصي ببطىء الى داخل شقته مجددا الى أن أرتمى على الأريكة محدقا في السقف، قبل أن يشعل سيجارة جديدة...

سمع رنين هاتفه، فتأفف بقوة وهو يتحرك ليأخذه قبل أن يرد بملل
(نعم)
وصله صوت رجولي يقول مبتهجا
(ألم تسمع الخبر؟)
نفث دخان سيجارته وهو يقول بفتور
(لم أسمع أي أخبار مهمة مؤخرا، ماذا حدث؟)
أجابه المتصل يقول بخبث
(مبارك يا رجل، تم القبض على عمران الرافعي بعد ضبط شحنة آثار و تسجيلات خاصة بالصفقة في احدى مخازنه، نريد الحلوان)
لم يرد قاصي، بل ظل صلب الملامح ميت النظرات وهو يسحب تفسا قاتلا من السيجارة المسممة...

كان يظن يوما أن خبرا كهذا كفيلا بأن يجعله أكثر أهل الأرض نشوة و سعادة، لقد أقسم على أن يرقص إن سمعه...
لكن ها هو يتلقاه دون تعبير أو إحساس، و كأن ما فقده قد غضى على مراكز الإحساس لديه...
تكلم قاصي أخيرا ليقول بخفوت
(الحلوان الكبير بعد النيل منه في السجن ان شاء الله، هذا ما قد يشفي غليلي أكثر)
أغلق قاصي الخط وهو يترك الهاتف فوق معدته بإهمال...

كان يفترض به الصراخ فرحا، الا أنه لم يفعل سوى التفكير بها...
مر شهر كامل منذ أن رآها آخر مرة، أثناء دفن طفلهما...
كان يراقب ما يحدث من بعيد. ، غير قادرا على الإقتراب، عيناه تتنقلان من اللفة الصغيرة البيضاء اليها و هي تقف مكتفة الذراعين متشحة بالسواد، باهتة الملامح و هي تنظر الى المراسم بصمت حزين...
لم يهتم أحد به، ربما رؤوه و ربما لم يفعلوا، لكن لم يكن ليهتم أحد بوجوده من الأساس...

لقد فقد حق أن يقف بجوارها...
كم بدت هشة و حزينة، و صغيرة للغاية، لم تتعدى الخامسة و العشرين من عمرها، لكن ما مرت به يفوق قدرة كتفيها الصغيرين على التحمل...
و على الرغم من ذلك وقفت ثابتة متماسكة، تبتسم لكل من يواسيها برقة...
الى أن بدأ الجميع في التحرك، حينها رفعت وجهها اليه، و تقابلت أعينهما عن بعد فوقفت مكانها للحظة...
كانت تنظر اليه بنظرة غريبة، و كأنها تنتظر منه أن يقترب، ان يحادثها...

لكنها لم تعرف كم كان مرتعبا في تلك اللحظة، خوفه من أن ترفضه كان أكبر من رغبته في الجري اليها واعتصارها بقوة حتى يمتص كل الألم بداخلها و يحتفظ به بدلا عنها...
حتى الآن لا تزال رائحتها الطفولية من آخر لقاء حميمي بينهما تزكم أنفه و رئتيه...
خصلات شعره لا يزال يشعر بها تحك بشرته في دغدغة ناعمة...
صوتها الهامس باسمه يرن في أذنه كل لحظة، لقد خسرها، خسرها مع خسارته لطفليه، خسرها للأبد...

رنين هاتفه مجددا جعله يتأفف بصوت عال قبل أن يصرخ بقوة هزت جدران المكان
(لماذا لا يتركني الجميع في حالي كما كنت دائما؟)
أمسك بالهاتف و أجاب صارخا
(ماذا؟)
ساد صمت لعدة لحظات قبل أن يصله صوت مسك و هي تقول ببرود
(هل أتصل في وقت لاحق ربما كنت اكثر تهذيبا و آدمية؟)
أغمض قاصي عينيه وهو يقول بفتور
(ماذا تريدين يا مسك؟)
ردت مسك بنبرة حازمة.

(كلك ذوق والله يا مروض الخيول، اسمع، بإختصار، حفل زفافي سيكون بعد يومين، لن يكون حفلا بصراحة، سيكون جمعا بسيطا نظرا للظروف، لكن يهمني أن تحضر)
ابتسم قاصي دون أن تصل الإبتسامة الى عينيه، ثم قال بخفوت
(أنا سعيد لأجلك يا مسك، لعل أحدنا يستطيع الحصول على السعادة أخيرا)
صمتت مسك بضعة لحظات، ثم قالت بصوت آمر
(ستحضر)
أخذ نفسا عميقا، ثم قال بصوت مهتز
(اعذريني يا مسك إن لم أستطع الحضور، فأنا).

قاطعته مسك لتقول بحدة و استياء
(تيماء ستكون حاضرة رغم كل ألمها، هل أنت مصر على تجاهلها؟)
أغمض قاصي عينيه وهو يشعر بالجملة الحادة تكاد أن تزهق روحه، بمنتهى القسوة
هل أنت مصر على تجاهلها؟، من يخدع؟، إنه قادر على تجاهل روحه، لا تجاهلها هي...

كانت مسك تبدو رائعة، بسيطة الى درجة قاتلة، هذا ما فكر فيه أمجد وهو ينظر اليها تجلس بجواره بكل بهاء...
ترتدي فستانا بسيطا أبيض اللون، أنيقا و دون أي زخارف، أما شعرها فقد تركته حرا، بنعومة لينسدل متجاوزا كتفيها على بداية ظهرها...
عيناها شاردتان قليلا، مما جعله يرغب في اقتحام روحها الجامحة لمعرفة سبب شرودها...
لم تكن معه بكامل روحها كما هو معها بكل كيانه في تلك اللحظة...

إن كان قد انتابته المخاوف سابقا، فهو الآن متأكدا من قراره تمام التأكيد، مد يده ليمسك بكفها المستريحة على فخذها، فانتفضت و هي تنظر اليه مجفلة...
حينها سألها بخفوت
(ماذا بك؟)
ظلت على اجفالها للحظة، قبل أن تبتسم برزانة و هي تبعد شعرها الناعم عن وجهها لتقول بجمال
(كان يوما مرهقا فحسب)
لم يتجاوب أمجد مع ابتسامتها، بل سألها بصوت متحدي
(لا تخبريني أنك تشعرين بالنعاس مبكرا؟).

مطت مسك شفتيها و قالت ببرود هامسة كي لا يسمعها أحد
(لا فائدة، أتوقع أن تفكيرك كله منصب في جهة واحدة)
ابتسم لها ابتسامة جعلتها ترتبك و هي تراقب الغمازة التي ازداد عمقها تحت لحيته، فشدد قبضته على يدها وهو يقول لها بجدية هامسا الى عينيها
(تفكيري كله منصب في كوني رابح الليلة).

بهتت ابتسامتها قليلا و تشنجت أصابعها تحت أصابعه، الا أنه رفض أن يحررها وهو ينظر اليها متسائلا، لكنها أشاحت بوجهها و هي تتظاهر بالإبتسام، على الأقل تحاول...

وقفت تيماء تراقبهما مبتسمة، مفكرة أنهما أفضل زوجين متناسبين رأتهما في حياتها...
لقد أصرت على مسك أن ترتدي ثوب زفاف، الا أن مسك رفضت تماما، و حين رضخت أخيرا، اختارت هذا الثوب الأنيق الذي يناسب أمسية راقية، و بدا اختيارا رائعا...
أما هي فقد نبذت اللون الأسود بتصميم، و ارتدت فستانا عسلي شاحب، جعلها أكثر هشاشة و شحوبا...

بصراحة لم تهتم كثيرا بزينتها، فزمن الإهتمام قد ولى، لم تحضر الليلة الا لتشعر مسك بأنها غير مستاءة اطلاقا من تقديم موعد زفافهما...
و من بعيد كان هو يراقبها، واقفا في الخارج ينظر اليها و يراقب كل حركة منها...
لم تغفل عيناه عن يدها التي كانت تضعها بإستمرار على بطنها، و كأنها لا تزال تحتفظ بطفلها...
أغمض قاصي عينيه وهو يزفر بصوت خافت...
مهلكة، مهلكة دون حتى أن تبذل أي مجهود في اظهار هذا...

لم تكن هناك من هي أجمل منها الليلة، على الرغم من أنه لم ينظر الى أي امرأة سواها...
لكنه كان متأكدا من ذلك، كانت شابة صغيرة رقيقة، لكن عينيها غائرتين جدا...
و كما حدث يوم دفن طفلهما، رفعت تيماء وجهها و نظرت اليه مباشرة، فسارع الى الإختفاء خلف الجدار الذي كان يراقبها من خلفه...

تحركت تيماء و هي ترفع حافة فستانها، الى أن خرجت من القاعة و وصلت للجدار الذي أقسمت أنه كان يقف خلفه، لكنه لم يكن موجودا، بل كان مجرد وهما آخر...
وضعت يدها على بطنها و هي تشرد قليلا، لكن هذه المرة تذكرت، تذكرت أن بطنها خالية تماما...

أزاحت مسك ستار نافذة غرفتهما و نظرت الى الظلام خارجا...
بينما كان أمجد واقفا خلفها يراقبها، يتأمل انسياب جسدها و رشاقته التي لن تعرف يوما ترهل حمل أو علامات ولادة...
جسد فارسة...
لكنه لم ينجذب اليها بسبب جسدها أو جمالها أبدا، بل لسبب واحد، وهو أنها مسك الرافعي...
فقط لا غير، حالة نادرة في حد ذاتها...

اقترب أمجد منها ببطىء، الى أن وضع يديه على خصرها فانتفضت بقوة و هي ترفع يدها الى صدرها مغمضة عينيها، كانت شاردة تماما كما توقع...
فأدارها ببطىء حتى واجهته فرفعت وجهها اليه ترفض ادعاء الخجل، و على الرغم من ذلك كانت وجنتاها محمرتين بجمال أخاذ...
كان يرمقها بنظرة مختلفة، نظرة تطرق كل ذرة منها بصراحة و دون تردد، ثم قال أخيرا بصوت أجش خافت و كأنه يخشى أن تتبدد من أمامه إن ارتفع صوته عن درجة معينة.

(ألماس، لا أصدق أنك بين يدي أخيرا، هل تشعرين بالندم؟)
لعقت مسك شفتها المرتجفة قليلا فخطفت عينيه خطفا الى حركتها البسيطة، ثم قالت ضاحكة بعصبية و هي تبعد شعرها الى خلف أذنها...
(هذا السؤال يفترض بي أنا أن أسأله لك)
رفع يده ليحرر شعرها الذي حجزته خلف أذنها، فأعاده منسابا على وجنتها وهو يقول بصوت أجش هامس
(أرى أنه من واجبي أن أثبت لك الى أي حد أنا لست نادما).

شعرت مسك بنبضات قلبها تتسارع بقوة عنيف تجاوبا مع همسته فقط، دون حتى أن يبادر بلمسها...
منذ أن عرض عليها الزواج و هي تدرك أن هناك جاذبية جسدية قوية بينهما، رفضت أخلاقها الجموح في تخيلها حتى هذه اللحظة...
الآن بدت غير قادرة على تجاهلها أكثر، لذا أقصى ما استطاعت فعله، هو أن قالت بتوتر
(س، سأذهب لأبدل ملابسي).

ابتسم أمجد وهو ينهل من جمال ارتباكها بعينيه الشغوفتين، و حجزت يداه خصرها النحيل فمنعتاها من الحركة وهو يقول بخفوت
(خسارة، هذا الفستان رائع و أكره أن تبدليه بأي شيء آخر)
رفعت مسك وجهها اليه و قالت ببراءة
(الا تريد مني تبديله؟)
رد عليها ببساطة دون أن يفقد ابتسامته الجميلة
(بل أريد منك خلعه، أمامي)
شهقت مسك بعينين متسعتين، لكنه لم يمنحها الفرصة للهرب، فقد طال به الصبر، طال جدا...

و لديه عمر طويل كي يعوض كل لحظة تمناها فيها، كجوهرة نفيسة، لم يعرف مثلها مطلقا...
تاوهت مسك بضعف و هي تحاول التحرر من مرمى شفتيه و يديه، الا أنه همس في أذنها برقة و حنان
(لا، لن أنصاع لتمردك الليلة، لن أستطيع، فلا تحاولي)
لكنها حاولت، و لم تفلح سوى في زيادة جنون شغفه بها، الى أن شعرت بثوبها الأنيق يسقط ببطىء و هي ترتفع بين ذراعيه، فأحاطت عنقه بذراعيها و هي تترك لنفسها العنان...

ربما ستندم غدا على مضيها بإصرار أناني في تلك الزيجة و حرمان رجل بكامل صحته من الأبوة، لكن الليلة ستنال ما تستحقه مسك الرافعي، ستنال نصيبها من السعادة...

فتح قاصي باب شقته و انحنى ليضع بعض الطعام لصديقته القطة التي تقف أمام باب شقته كل يوم...
مد يده ليداعب فرائها الناعم برفق وهو يدغدغها، الى أن ظهرت خلفها قطيطاتها الصغيرات فابتسم لهم...
كانت تلك القطة و صغارها هي السبب الوحيد في جلب الإبتسامة الى فمه مؤخرا...
نهض على قدميه، ثم دخل الى شقته و أغلق الباب خلفه، بينما كانت هناك امرأة تصعد السلم درجة درجة، بملامح شاردة و عينين كبيرتين...

وقفت تيماء مكانها و هي ترى امتثال تحاول ابعاد القطط عن باب شقتها بمكنسة قديمة و هي تشتم و تدعو على شخص ما...
فابتسمت رغم عنها، لا تزال كما هي، سيدة عدوانية بطبعها، او ربما كان قاصي هو السبب في استثارة عدوانيتها...
فتحت تيماء فمها و قالت بتردد
(صباح الخير سيدة امتثال)
توقفت امتثال عما تفعل و نظرت الى تيماء التي كانت واقفة أسفل الدرج مترددة و هي تضع يدها على حاجز السلم و كأنها تحاول أن تدعم نفسها...

قالت امتثال بدهشة
(تيماء؟، أين كنت كل هذه المدة؟، لقد ظننتكما انفصلتما منذ زمن)
ابتلعت تيماء غصة في حلقها، ثم قالت مبتسمة بنبرة متداعية...
(كنت مسافرة، و سأعود قريبا، كيف حالك؟)
نطقت سؤالها الأخير و هي ترمش بعينيها ناظرة للأعلى، حيث تقع شقة قاصي، الشقة التي جمعتهما و شهدت أول لقاء لهما...
قالت امتثال بصوت جاف قليلا...
(أنت تسألين عن حاله، لا عن حالي، اليس كذلك؟).

أعادت تيماء عينيها الغائرتين الى امتثال، ثم قالت بخفوت دون أن تنكر
(هل ترينه؟، كيف حاله؟)
زفرت امتثال بغضب و هي تقول بعذاب
(استغفر الله، لقد تحول الى مجنون سليط اللسان، سيء الأخلاق، منظره مخيف، و كأن عفريتا قد تلبس روحه، لم يعد أحد يطيقه من سوء طباعه أكثر من ذي قبل، انظري الى كل تلك الفوضى حولك، هو السبب فيها و كأنه يسكن في مكب للنفايات).

نظرت تيماء الى بقايا الطعام المتناثرة و القطط الراكضة في كل مكان، ثم همست بعدم تصديق
(الى هذه الدرجة؟)
كانت تصعد ببطىء الى أن وصلت لإمتثال، ثم تابعت تقل بصوت متردد
(ألم تتكلمي معه أبدا؟)
قالت امتثال غاضبة بنفاذ صبر
(و هل من في حالته يخرج من فمه سوى العيب؟، لقد تحول الى كائن أكثر همجية من ذي قبل)
تنهدت تيماء و هي تنظر الى القطط الصغيرة في كل مكان، ثم قالت بخفوت.

(اعذريه يا سيدة امتثال، لقد فقد طفله منذ فترة فصيرة، لذلك هو يتألم بشدة على الأرجح)
تسمرت امتثال مكانها و هي تحاول استيعاب الكلام البسيط الذي خرج من بين شفتي تيماء...
ثم سألتها بذهول
(أي طفل؟، ممن؟)
رفعت تيماء يدها الى بطنها و قالت بخفوت شارد
(مني بالطبع، ممن سيكون غيري؟)
اقتربت منها امتثال و أمسكت بذرعها لتقول بصوت حار و نبرة متلهفة، بينما غارت عيناها بنظرة أمومية متعاطفة بشدة
(و ماذا عنك؟).

رمشت تيماء و هي تقول بعدم فهم
(أنه يعاني حاليا لذا تحمليه قليلا، الى أن)
قاطعتها امتثال و هي تقول بصوت أكثر صرامة و حدة
(لم أسأل عنه، بل سألت عنك أنت. كيف تبلين بعد فقدانك لطفلك صغيرتي؟)
انعقد حاجبي تيماء و هي تهمس بشرود
(أنا؟، أنا بخير)
رفعت وجهها الى امتثال و ابتسمت برقة مؤكدة
(أنا بخير، لطالما كنت أكثر صلابة منه).

تأوهت امتثال بصمت و انحنت عيناها ألما، قبل أن تجذب تيماء الى أحضانها بقوة و هي تهمس لها بحنان
(ترفقي بحالك يا صغيرة، لقد كبرت بسرعة جدا)
ظلت تيماء في أحضانها للحظة، ثم أغمضت عينيها و هي تشعر و كأنها لم تكن صغيرة أبدا...

التفت قاصي وهو ينظر الى الباب حيث تعالى صوت جرسه مجددا...
ليس هناك سوى شخص واحد سمج قادر على ازعاجه في مثل هذا الوقت من الصباح...
تقدم فجأة مندفعا وهو يصرخ عاليا بجنون
(لقد سئمتك، سئمتك، سئمت برودك و تدخلك فيما لا يعنيك)
فتح الباب بكل عنف، مما جعل تيماء تتراجع للخلف بسرعة منتفضة، بينما تسمر مكانه وهو ينظر اليها مشدوها...

ساد الصمت بينهما بضعة لحظات، قبل أن يرفع كفه لضغط أعلى أنفه و عينيه بأصابعه، ثم نظر اليها مجددا...
فوجدها واقفة على بعد، تنظر اليه بحذر و كأنها المرة الأولى التي يراها فيها...
نفس النظرة، نفس الجمال، نفس الطفولة، لكن هناك شيء ناقص فيها...
كان ينظر اليها بذهول، لا يصدق أنها تقف أمامه بالفعل...
هز رأسه محاولا النطق، الا ان صوته تحشرج في حنجرته، فعجز عن الكلام وهو ينظر اليها بإختناق و ألم...

ظلا على وضعهما طويلا، الى أن أشار اليها بإصبعه كي تقترب...
فاقتربت منه بالفعل بخطوات غير ثابته، الى ان وقفت أمامه مباشرة و هي مكتفة ذراعيها بقوة...
فغر قاصي شفتيه وهو يرفع اصابعه ليمررها على وجنتها و كأنه يتأكد من وقوفها أمام باب بيته...
همس أخيرا بصوت أجش متحشرج
(أنت هنا، أنت هنا بالفعل، هذا ليس حلما!)
فتحت تيماء فمها و قالت دون مقدمات بصوت هامس
(أريد طفلا).

تسمرت أصابع قاصي فوق وجنتها، ليسحبها بسرعة وكأنها لسعته، ثم قال عاقدا حاجبيه بشدة
(ماذا، ماذا قلت للتو؟)
ردت تيماء بنفس النبرة الخافتة، التي تكاد أن تكون همسا
(أريد طفلا، لأنني أتألم بشدة، و لا أظنني قادرة على التحمل اكثر)
ارتجفت شفتي قاصي بشدة و غارت عيناه، فابتلع نفس الغصة و انقبضت كفه بشدة، حتى ابيضت مفاصل أصابعه...
ثم قال بصوت غريب.

(لما، لما لا أحررك مني، لعلك تحصلين على الطفل الذي تريدين من رجل يستحقك؟)
للحظات شعرت أن هذا ليس صوته، فعقدت حاجبيها و هي تنظر اليه مدققة النظر به...
فرأت ملامحه مختلفة كنبرة صوته، و كأنه يعاني من ألم مبرح...
لذا قالت بصوت مندهش و كأنها تخاطب طفلا
(لا، أنا اريد طفلك أنت، لا أحد غيرك)
ازدادت ملامح قاصي ألما و تشنجا، ثم قال بصوت مختنق
(و ماذا عني؟، هل أنا موجود في هذه الصفقة؟، أم سأكون مطرودا بعدها؟).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة