قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأول

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأول

رواية طائف في رحلة أبدية ج2 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الأول

نكمل مباشرة حيث توقفنا في الجزء الأول.

(المقهى ممتلىء بالعاملين في الشركة، لذا دون فضائح انهضي و اسبقيني للشركة)
اتسعت عينا مسك و هي تنظر الى أمجد المبتسم اليها ببرود و يده على ظهر مقعد أشرف...
فقالت بغباء
(ماذا؟)
رد أمجد بنفس البرود...
(سمعت للتو ما نطقت به، اسبقيني الى العمل ثم سألحق بك)
استعاد أشرف وعيه من الذهول الذي أصابه للحظات، فحاول النهوض من مكانه وهو يقول
(لقد تجاوزت حدودك تماما).

الا أن كف أمجد حطت على كتفه تمنعه من النهوض وهو يقول مبتسما الإبتسامة الباردة...
(انصحك بالبقاء مكانك هنا لتكمل احتساء قهوتك كي لا تبرد، أما بالنسبة للآنسة مسك فأنا أحتاج اليها في العمل بصفة ضرورية)
بدأ صوت أشرف يعلو وهو يقول
(انتظر هنا لحظة)
الا أن مسك نظرت حولها و قالت بقلق
(اخفض صوتك قليلا يا اشرف، أعتقد أنه من الأفضل أن أنصرف الآن و لنتابع حديثنا لاحقا)
تكلم أشرف قائلا بغضب
(لا يا مسك انتظري).

الا أن مسك نهضت من مكانها بأناقة و قالت تخاطبه بنبرة آمرة
(قلت لاحقا يا أشرف، أراك فيما بعد)
ثم ابتعدت مفرودة الظهر، و شعرها يتطاير حول وجهها بينما نظرات أمجد تلاحقانها بنظراته الباردة السوداء، ككل من تتمر به مسك الرافعي...
و ما أن خرجت من باب المقهى حتى جلس أمجد في المقعد الذي كانت تحتله للتو، ثم نظر الى أشرف مبتسما ببرود و قال وهو يرتشف المتبقي من فنجان قهوة مسك.

(اذن، كيف حال السيدة غدير؟، لقد قلق الجميع عليها)
كان أشرف قد تلبسته روح عائلة الرافعية، فبدا كرتاج باب صدء، وهو ينظر الى ملامح أمجد الهادئة اللطيفة ظاهريا...
ثم قال أخيرا بصوت متشنج...
(أنا لن أقبل ما فعلته للتو، ليس هناك من يتصرف مع أشرف الرافعي على هذا النحو)
ابتسم أمجد ببشاشة و رفع فنجان مسك محييا وهو يقول ببساطة
(قاضني).

أما مسك فلم تستطع السيطرة على غضبها الهائج في تلك اللحظة، لم تستطع حتى الصعود الى مكتبها و انتظاره هناك...
بل ظلت تدور في بهو الشركة و هي تفرك أصابعها بغيظ، غير مصدقة لما حدث للتو...
كيف يجرؤ؟
كيف يجرؤ؟
ظلت على حالها الى أن رأت أمجد يدخل من باب المدخل بملامحه الهادئة البسيطة، واضعا كفيه في جيبي بنطاله...
فتوقفت مكانها و كتفت ذراعيها و هي تنظر اليه بنظرات لو كانت تقتل لكانت أردته قتيلا...

انتظرت منه أن يأتي اليها ليعتذر و يبرر لها تصرفه، و حينها ستسمعه ما يليق به و تلقي باعتذاره في أقرب سلة مهملات...
الا أن أمجد رمقها بنظرة محتقرة وهو يتجاوزها دون أن يتوقف للحظة حتى، ثم اتجه الى المصعد...

ظلت مسك مكانها مكتفة ذارعيها تنظر الى ابتعاده بذهول، و ما أن استوعبت دخوله الى المصعد المفتوح. حتى فكت ذراعيها و أسرعت الخطا خلفه و كعبي حذائيها يضربان الأرض بصوت عصبي، لكن ما أن واجهته حتى ضرب زر المصعد، فأغلق ابوابه أمامها و آخر نظرة منه لها...
كانت نفس النظرة المحتقرة!
اندفعت مسك خطوة لتضرب زر المصعد بعنف، الا أنه كان قد صعد تاركا إياها تقف مكانها بذهول و هي تتسائل.

اي رجل في البلد يجرؤ على النظر الى مسك الرافعي بتلك الطريقة المحتقرة؟
كيف يجرؤ؟
ظلت مسك واقفة مكانها تنتظر نزول المصعد و هي تطرق الأرض بكعبها بعصبية و تهور...
الى أن وصل فاندفعت اليه أخيرا، ثم ضربت أزراره بقوة و هي تهمس لنفسها بهذيان
(سأريه، سأريه، سأريه)
أغلق المصعد أبوابه، فرفعت ذقنها و أغمضت عينيها للحظة، قبل أن تفتحهما و هما تطلقان الشرر، فهمست متابعة من بين أسنانها
(تبا له و لعطره، فج يملأ المكان).

كان امجد قد وصل الى مكتبه فجلس خلفه بهدوء و بدأ في مطالعة أوراقه بلا تركيز حقيقي...
و ما هي الا بضعة دقائق و كانت مسك الرافعي تقتحم مكتبه بصوت حذائها المزعج...
دون اذن او حتى طرقة على الباب...
و ليس هذا فحسب، بل مدت ذراعها و صفقت باب المكتب خلفها بكل عنف...
رفع أمجد وجهه عن أوراقه ينظر اليها بهدوء، أثناء صفقها للباب...

كانت تتحرك كفرس غير مروضة، و عيناها تلمعان بخطورة، و ذقنها اكثر ارتفاعا و هي تستدير اليه مستعدة لقتله...
رآها تندفع اليه الى أن مالت مستندة بكفيها الى سطح مكتبه و صرخت في وجهه بعنف
(هل يمكنك اخباري عما حدث في المقهى للتو؟)
ظلت عيناه على حالهما تتأملان شعرها المتجاوز كتفيها بعدة سانتيمترات، لم يكن من عادتها ترك شعرها منسابا في العمل...
فهل اليوم يعد مناسبة مميزة لها كي تتركه حرا، و فاتنا؟

زم أمجد شفتيه ثم قال ببرود
(أخفضي صوتك و انت تخاطبينني)
ارتفع حاجبيها بذهول، ثم قالت بعدم تصديق
(هل أنت واع لما تفعله؟، هل أنت متعاط لشيء ما أفقدك عقلك؟)
تصلب وجه أمجد و فقد بساطته وهو يقول دون أن تعلو نبرة صوته، الا أنه شدد على كل حرف بسطوة
(احترمي نفسك)
ارتفع حاجبي مسك أكثر و اتسعت عيناها و صرخت بذهول.

(أنا من تحترم نفسها؟، أنا؟، أنت من عليه احترام نفسك و التزام حدودك و أنا لن أتهاون في ما فعلته للتو، لقد أخطأت خطأ كبيرا في تجاوز حدودك معي، و أنا لن أسكت)
نظر أمجد اليها وهو يتراجع في مقعده بهدوء، ثم قال ببساطة
(قدمي شكوى ضدي، و اشرحي الأمر بالتفصيل)
توقفت مسك مكانها و هي تعقد حاجبيها، ثم قالت بعصبية
(ماذا؟)
رد أمجد ببساطة.

(قدمي شكوى ضدي، اشرحي فيها تصرفي الوقح و أسبابه و مكانه، حينها يسعدني أن أرد على كل اتهاماتك بهدوء، و لو اقتضى الأمر أن أوصل الأمر الى والدك ليبت في الأمر بنفسه)
فغرت مسك شفتيها و قالت بذهول خافت تتأكد
(هل تهددني، بوالدي؟، كم تظن عمري؟)
رد أمجد ببرود وهو ينظر اليها بصلف
(ظننت أنه العمر الذي يمنعك نضجه من محاولة النيل من امرأة فقدت طفلها للتو مهما كان الجرم الذي ارتكبته في حقك).

أجفلت مسك من الإهانة المهذبة، الا أنها رفعت حاجبها و قالت بدهشة مستنكرة، متقززة
(أتعلم عن اجهاض غدير؟، كم أنت منافق، تجلس مكانك لتحاكمني بوقاحة، بينما تلك الأريحية الوقحة بينكما في الكلام لا تزال مستمرة!، في نفس الوقت الذي تبحث فيه عن عروس، وهي تحمل اسم رجل آخر، تحديدا اسم ابن عمي، اي رجل أنت؟، الا تخجل من نفسك؟)
نهض أمجد من مكانه و قد بان الغضب على ملامحه للمرة الأولى، ثم قال بنبرة نافذة قاطعة.

(قبل أن تتجاوزين في كلامك عن سيدة متزوجة، الجميع يعلم بأنها قد مرت بحالة أجهاض لأنها ذكرت هذا بنفسها أثناء طلبها للأجازة، و أنا لم أحادثها منذ آخر مرة كانت فيها هنا في العمل)
رفعت مسك ذقنها و هي تشعر بأن هذا الشخص قد نجح في اخراجها عن طورها و ايقاعها في الخطأ...
بينما هي آتية الى هنا في الأساس كي تنهال عليه بكل غضب الكون و تلزمه حدوده...

التقطت مسك نفسا مرتجفا من شدة الغضب، ثم رفعت اصبعا واحدا و هي تقول
(سؤال واحد فقط، كيف تتجرأ و تتصرف على هذا النحو في المقهى؟)
هز أمجد رأسه و قالت ببرود و كأنه أمر مسلم به
(لا أستطيع أن أرى السوء أمامي و أتجاوزه)
فغرت مسك شفتيها بذهول و هي تنظر الى هذا المجنون، ثم هتفت
(هل أنت واع لما تقول؟، من عينك حاكما على تصرفات غيرك)
قال امجد بهدوء
(ضميري)
ازدادت انفراجة شفتيها و هي تهتف.

(يا رب العالمين، هل أنت حقيقي؟، أم أنك شخص من وحي مخيلتي العصبية المرهقة مؤخرا؟)
ظل أمجد يراقبها بصمت و ينظر الى انفعالات الغضب و الذهول الباديان عليها قبل أن يقول أخيرا بصوت جامد
(لا رجل يستحق أن تمتهني نفسك لأجله الى هذا الحد يا مسك)
عقدت حاجبيها بشدة، و علم أمجد أنها قد وصلت الى نهاية قدرتها على السيطرة، و بالفعل صرخت فجأة بقوة
(كيف تجرؤ على مخاطبتي بهذه الصورة؟، الا تعلم من أنا؟).

ابتسم أمجد بشفقة وهو يقول
(أعلم تماما من انت، مسك الرافعي، و التي تلقت أول ضربة في حياتها و لم تستطع أن تنساها حتى الآن، فقط دعي الأمر يمر و حينها ستجدين أن حياتك باتت أفضل)
صرخت مسك بقوة وهي تضرب الأرض بقدمها
(ليس من حقك اختراق اسراري بتلك الصورة الدنئية لمجرد أن فتاة كانت تعجبك أشاعتها اليك بمنتهى السفالة و القذارة)
اقترب منها أمجد خطوة، وهو ينظر الى عينيها ثم قال بخفوت
(أنا آسف).

و كأن أحدهم قد سكب دلوا من الماء البارد على نيران غضبها فأطفأتها، لثاني مرة يعتذر لها بنفس النبرة الخاصة، مخترقا دفاعاتها...
الا أنها تماسكت و قالت بصلابة خافتة
(علام تعتذر؟، الا أصدق أنك شعرت بالندم على تصرفك الغير محترم)
ابتسم امجد و رد بهدوء ناظرا الى عينيها.

(لم أفعل، أنا آسف على شيء آخر، أنت محقة تماما في رفضه، وهو سماعي لقصة شابة لا أعرفها، شابة فوجئت بخطيبها منذ الطفولة يعتذر لها عن الخطبة، لأنه أحب صديقتها الوحيدة...

فما كان منها الا أن خلعت الخاتم بكل رقي ووضعته بينهما مبتسمة، يومها كانت المرة الأولى التي اهتم فيها بسماع قصة امرأة غريبة دون أن أطلب ممن يقصها أن يتوقف، بل أنني تمنيت في لحظة مجنونة رؤيتها، رؤية تلك الشابة التي تمتلك روحا حديدية بهذا القدر، و زادت رغبتي في رؤيتها ما ان عرفت اسمها)
صمت للحظة، ثم أضاف هامسا
(مسك).

كانت مسك تقف أمامه رافعة وجهها اليه، تنظر الى عينيه و هي تستمع الى صوته الرخيم الهادىء...
لكن عينيها كانت مبللتين!
لأول مرة منذ فترة طويلة تسمح لرجل بأن يرى دموعها، صحيح أنها لم تنساب على وجنتيها، الا أنه رآها، فعقد حاجبيه و تجهم...
لقد رأى القصة المشرقة التي قصتها عليه غدير فقط، و لم يرى الجانب الكئيب منها...
لم يرى تلك الشابة التي تمنى رؤيتها و التي وضعت الخاتم بينهما مبتسمة...

لم تكن تملك سوى ذلك، فلقد كانت يومها بلا شعر، تحيط رأسها بوشاح حريري ملون، و معقود على جانب عنقها بأناقة...
لو كانت غدير قد اخبرته، لما ذكرها مرارا برغبته في الكثير من الأطفال...
همس أمجد بخفوت مقاطعا أفكارها
(هاتان العينان العنبريتان المترفعتان، لا تبكيان مطلقا لأجل رجل، أي رجل...
لا تتزوجي من ابن عمك يا مسك، و انسي الآخر الذي غدر بك، لأن هذا يضايقني و بشدة).

فتحت شفتيها قليلا، ثم تكلمت بجمود قاسي رغم اختناق نبرتها
(لن يبكيني رجل مطلقا، أنا أبكي شيئا أنت لا تعرفه، كما أنني لا أتقبل من أي رجل أن يملي على قراراتي دون وجه حق)
ازداد انعقاد حاجبيه بشدة، ثم قال بقسوة مماثلة...
(بل أمتلك وجه حق، بيننا تلك الكيمياء الخاصة منذ اليوم الأول الذي رأينا به بعضنا، و ستكونين حمقاء لو حاولت اقناعي أو أقناع نفسك بالعكس).

بهت لون مسك و تراجعت خطوة و هي تسمع تصريحه المفاجىء الصادم لها...
المنطقة الغير مرغوب بها، باتت منطقة مستباحة!، فغرت مسك شفتيها و قالت بتشنج محاولة الدفاع عن نفسها ض تلك المشاعر الغير مرغوب بها
(هل تعي ما قلته للتو؟، يمكنني اتهامك بالتحرش اللفظي)
ابتسم امجد رغم عنه، فتعلقت عيناها بابتسامته الظاهرة من بين لحيته الشقراء المنظمة...
ثم قال بخفوت
(لقد تقدمت لخطبتك يا مسك، و أنا الآن أحاول اقناعك).

اخذت مسك نفسا مرتجفا و هي تشعر بالعالم يدور من حولها، ثم قالت بخشونة
(لقد خطبت لابن عمي و انتهى الأمر، من فضلك لا تتجاوز حدودك معي اكثر)
نظر أمجد الى أصابعها الطويلة الرشيقة، ثم قال ببرود
(لا أرى خاتم خطبة في اصبعك)
هتفت مسك باستياء
(هذا لأن الكلمة لدينا في العائلة خطبة، ثم أنه ليس لك الحق في استجوابي)
اربدت ملامح أمجد ثم قال بصوت جامد
(لا تتسرعي يا مسك، سترتكبين خطأ فادحا)
الا أنه صرخت به بعصبية.

(لا دخل لك، أتسمعني، لا دخل لك)
لم يرد عليها، بل نظر اليها نظرة نافذة، غاضبة، و قبل ان تتكلم مجددا
فتح باب مكتبه دون اذن و اندفعت أسماء تهتف قائلة بغضب
(يا سيد أمجد لدي شكوى، هذا ليس حال عمل معتدل، و أنا لن)
توقفت فجأة متشبثة في الباب و هي ترى أمجد و مسك واقفين، متجاورين و بينهما حوار صامت...
فقالت بتعجب
(آآآآآآآه، هل قاطعت شيئا هاما؟).

كانت هذه العبارة البسيطة هي القشة التي فجرت سيطرة مسك على مشاعرها العصبية فهتفت في أسماء بغضب
(أنت، كم مرة نبهتك الى ضرورة طرقك للباب قبل اقتحامك المكان بهذا الشكل؟ الا تفهمين؟)
ارتبكت أسماء و احمر وجهها بشدة، و همست و هي تتراجع للخلف
(أنا آسفة، لم أقصد)
الا أن أمجد قال بصوت عال صلب.

(لا عليك يا أسماء، يبدو أن الآنسة مسك من كثرة العمل، التبس عليها الأمر و نسيت أنها في مكتبي لا مكتبها، و انا لا أغلق باب مكتبي أمام أي أحد)
كان قد وصل الى مكتبه فجلس الى كرسيه بغطرسة ثم رفع وجهه ناظرا الى مسك ليتابع ببرود
(و لقد انتهت الآن، أراك لاحقا يا آنسة مسك).

شعرت مسك في تلك اللحظة بأنها لم تتعرض الى اهانة كتلك التي تعرضت لها للتو، فنقلت عينيها بينهما بغضب قبل ان تندفع مغادرة المكتب و هي تدفع أسماء من أمامها
تأوهات أسماء و هي تهتف
(آآآآه، كتفي يا آنسة)
لكن مسك تابعت طريقها بينما قال أمجد بجمود
(تعالي يا أسماء)
اقتربت أسماء لتجلس الى الكرسي المقابل لمكتب أمجد، ثم نظرت اليه و قالت بحذر.

(هل هناك خطب ما أصاب الآنسة مسك فضلا عن كل ما بها من عيوب و مساوىء؟، ستنفجر في أي لحظة ملوثة الجو المحيط)
نظر أمجد الى أسماء ثم قال بصرامة
(توقفي يا أسماء)
ارتفع حاجبيها ببراءة ثم قالت بلهجة مصدومة
(أتدافع عنها امامي؟، لقد تغيرت يا سيد أمجد!)
نظر اليها امجد ثم قال مستائا
(يا ابنتي هل هي ضرتك؟، لماذا أدافع عنها ضدك، توقفي عن تلك الحساسية الزائدة و اخبريني بشكواك).

زمت أسماء شفتيها كالأطفال بينما نظر أمجد متجهما الى الباب الذي خرجت منه مسك للتو...
و بداخله شعور عنيف لم يعرفه من قبل...
شعور يختبر شره الأسود للمرة الأولى، شعور الغيرة...

جذبها من ذراعها بقوة الى احدى غرف الدار...
و ما أن أغلق الباب خلفهما حتى استدار اليها هادرا
(هل جننت؟، كيف تتصرفين بمثل هذه الوقاحة علنا؟)
ارتدت ميسرة قناع المسكنة و هي تنظر الى ليث في ثورة غضبه، ثم همست متظاهرة بالجرح.

(هل هكذا تخاطبني في صباح أول يوم بزواجك؟، الا تقدر انكسار قلبي و غيرتي التي لا أملك لها دواءا؟، الا يكفي أنك قمت باذلالي بأن خرجت صباحا متكتما الأمر ثم عدت بها زوجة بعد أن عرفت البلد كلها بخبر زواجكما قلبي، لم يكن العشم يا ابن الاصول، على الأقل كنت حافظ على مكانتي كزوجتك الأولى و شاركني في قراراتك).

أخفضت ميسرة وجهها و تظاهرت بمسح دموع وهمية، بينما هي في الحقيقة تضم بين اضلعها قلب لا يستطيع البكاء، فقط الحقد و الغل هما ما يتآكلانه...
خف غضب ليث قليلا و قال بصوت أجش
(لم يكن في نيتي اذلالك مطلقا، و لم أخرج من هنا و صدري قرار التعجيل في الزواج، لكن حدث و أن جد شيء مع عائلة الرافعي، لذا وجدنا أنه من المناسب عقد قراننا، بينما يتأجل عقد قران عرابي و جويرية قليلا احتراما لوفاة سليم رحمه الله).

كانت ميسرة تستمع اليه و هي رافعة احدى حاجبيها...
تراقب ملامحه و تسجل ردات فعلها بدقة، ثم قالت باهتمام
(ما هو ذاك الذي جد؟، يمكنني اخباري، أنا زوجتك، سترك و غطاك)
الا أن ليث ازداد تجهما و قال بنبرة صارمة
(مجرد تفاصيل بين كبار العائلة لن تفهمي منها شيئا، المهم أننا تزوجنا و انتهى الأمر و كما ترين لم نقم أي عرس أو احتفال)
قالت ميسرة بنبرة هادئة، الا أنها حملت في طياتها الكثير من السخرية.

(كم أنت مراع يا زوجي الحبيب لذكرى صديقك)
نظر اليها ليث بعينين تقدحان شررا ثم قال محذرا بصرامة
(ميسرة، لا تعجبني سخريتك، عودي الى دارك و اقتصري الشر)
الا أنها قالت بدلال و هي تقترب منه حتى أحاطت عنقه بذراعيها
(هل تطردني من دارك الجديد يا ليث، يا شريك حياتي و عشرة عمري، من أين لك بمثل هذه القسوة؟، )
تأفف ليث عاليا و أبعد ذراعيها عن عنقه ليقول بنفاذ صبر.

(كفى يا ميسرة، أنا أفهمك أكثر من نفسك و لن تتمكنين من خداعي، فهي عشرة عمر بيننا كما تقولين، عرفتك خلالها و حفظتك جيدا)
لم تفقد ميسرة الامل و لم تيأس من محاولتها في تنفيذ ما أملته عليها أمها، كي تكون في نظره المرآة التي يحتاجها...
ليث لم يعاشر سوار ليلة أمس...
و هذه المعلومة لا تحتاج الى ساحر كي عرفها، يكفي فقط النظر الى وجهه و ملاحظة نفاذ صبره و تشنجه من أقل كلمة...
لذا همست له شاعرة بالرضا.

(لا أريد سوى أن تقبلني، قبلة واحدة تشعرني بأنني لا زلت زوجة، أرجوك، هل تنبذني بعد أن رجوتك؟)
نظر اليها ليث بضيق، فجسده و مشاعره في تلك اللحظة لا يتفاعلان معها مطلقا...
لقد تحمل منها الكثير و اليوم تحديدا وقوفها بجوار سوار لن يكون مقارنة عادلة بالنسبة لها...
الا أنه لم يستطع ان يكسر خاطرها أكثر...
يكفي زواجه الذي تم بطريقة صادمة لها، لذا مد يده الى شعرها و قرب وجهها منه، قبل أن ينحني اليها برفق...

دخلت سوار الى غرفتها و هي مشتعلة الوجنتين، متوترة...
لم يسبق لها أن رأت مشهدا رخيصا مثل هذا بملء عينيها...
أي زوجة تحترم نفسها يمكنها أن تقدم على فعل ذلك أمام غريمتها، أو أمام اي مخلوق؟
تأففت و هي تدور في الغرفة شاعرة بالضيق من هذا الإحتجاز، صحيح انها ليست محتجزة بأوامر من احد...
لكنها في دار جديد، مع خدم جدد، و زوج جديد...
توقفت سوار لتنظر الى نفسها في المرآة...

كانت لا تزال بنفس عباءة الزواج، و كان وجهها متوهجا من الحرج الذي شعرت به جراء تصرف مكشوفة الوجه ميسرة...
أما عينيها فكانتا تبرقان بالعزم و التصميم...
لذا قررت التغاضي عن كيد النساء هذا و التركيز على هدفها...
فاتجهت الى دولابها، تنوى الاغتسال و تغيير ملابسها...
لم تحضر معها شيء لترتديه، لكنها اكيدة من أن ليث قد أسرع في التصرف بما يليق بها كعروس ليث الهلالي...

فتحت سوار الدولاب، الا أنها شهقت عاليا و تراجعت للخلف حتى ارتطمت بالسرير فسقطت عليه جالسة
و هي ترفع يدها الى صدرها اللاهث هامسة برعب
(بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من شر ما خلق)
فعلى احد أرفف الدولاب و فوق أقمصة النوم الحريرية تماما، كانت هناك رأس قطة ميتة سوداء!

فتحت سوار باب الغرفة التي سمعت صوتهما بداخلها...
دون أن تطرق الباب...
ثم توقفت و هي ترى ابتعادهما السريع عن بعضهما، بينما ميسرة تتظاهر بالتعديل من وضع عبائتها، ثم قالت بصوت فاتر
(كان عليك طرق الباب يا حبيبتي، فمنذ لحظات لم تتحملي المشهد كفتاة عذراء و هربت جريا)
هتف ليث بها
(ميسرة، كفى)
ثم استدار ناظرا الى سوار باحساس بالذنب و قال بصوت أجش مرتبك
(سوار)
لكنها قاطعته و هي تقول بصوت قوي رنان...

(عذرا حبيبتي، لكنك هنا في داري، و أي مشاهد مماثلة لتلك، لن أسمح بها هنا، لأنني لا أطرق أبواب في بيتي مطلقا، زوجك هو زوج في دارك فقط، و ليس داخل حدود هذه الدار، هذا أولا، أما ثانيا، وهو الأهم، ماذا تفعل هذه في دولاب ملابسي الخاصة؟).

و دون خوف فتحت كيسا أسود اللون بينما ترتدي فقازين من الحرير الأسود، ثم نفضت ما به أمامها، فسقطت رأس القطة أمام قدميها، مما جعل ميسرة تصرخ هلعا و هي تترجع للخلف حتى ارتطمت بالجدار من خلفها...
أما ليث فقد كان ينظر الى ما يحدث بذهول، ثم نظر الى سوارهاتفا
(سوار، ما هذا؟)
رفعت سوار وجهها اليه، و كانت جامدة الملامح، مظلمة العينين و هي تنظر اليه بنظرة طويلة...
ثم قالت أخيرا بصلابة.

(وجدتها فوق ملابسي، كانت في غرفتنا طوال الليل، معنا)
شعر ليث بالتقزز الا أنه قال
(مستحيل، لكنا شممنا لها رائحة لو كانت في الغرفة طوال الليل)
استدار بعدها الى ميسرة و قال بنبرة مهددة
(ميسرة!، لن تكون العواقب محمودة لو كان لك دخل في الأمر)
صرخت ميسرة و هي تنظر الى رأس القطة برعب
(ماذا؟، كيف تتهمني بهذا؟، لقد كنت معي منذ دخولك و اتحرك الى أي مكان، أما غرفتها فهي أول من دخلها، فكيف أفعلها؟).

كانت محقة في ذلك، فلم يدخل احد الغرفة غير سوار...
نظر ليث الى سوار التي كانت تبادله النظر بنفس النظرة الغريبة، و كأنها...
لا تعلم، لا تستطيع التحديد، لكنها لا تريد التفكير، تريد فقط التركيز على هدفها...
صرخ ليث بقوة
(أم مبروووووك، أم مبروووووووك)
استدار بعدها الى ميسرة ثم قال بصوت آمر
(ستنظف أم مبروك المكان، بينما تعودين أنت الى دارك، )
هتفت ميسرة برعب.

(لم أفعلها يا ليث، لا يمكنك معاقبتي على شيء لم ارتكبه)
الا أن ليث قاطعها بصرامة
(كفى، لقد انتهت الزيارة، ووصل واجبك).

بعد مغادرة ميسرة...
استدار ليث لينظر الى سوار و هي تستند بكفيها الى سور الشرفة الحجري...
تراقب الأراضي الممتدة الساحرة أمامها بصمت شارد...
سبحان خالق هذا الجمال...
فاتنة في شرودها، و فاتنة في قوتها...
ليس هناك ما هو بها و لا يملك جزء من السحر على كل من يراها...
كانت قد استبدلت عباءة الزواج بأخرى أكثر بساطة، تفصل قوامها الغض القوي، و تجعل منه عود ورد مزدهر...

أما شعرها فقد انسدل على ظهرها طويلا من تحت الوشاح الذي يحيط بوجهها...
ولولا علمه أن هذه الشرفة غير مكشوفة، لكان منع النسيم من رؤيتها بهذا المنظر الخلاب...
اقترب منها ببطىء ثم قال بخفوت كي لا تجفل من وجوده...
(سوار، بالنسبة لما حدث)
صمت قليلا وهو يحاول اختيار الفاظه، الا أنها تطوعت قائلة بهدوء و هي لا تزال تحدق في المنظر الجميل أمامها.

(أيهما تقصد، القطة الميتة أم القبلتين العلنيتين؟، فكلاهما كريه الرائحة)
عقد ليث حاجبيه و قال متماسكا، عالما بأنها محقة
(اسمعيني جيدا، أنا لا أريد أن أجرحها أكثر، خاصة بعد أن)
استدارت اليه سوار، بوجه هادىء و نظرات باردة، و ابتسامة مرسومة متزنة على شفتيها...
ثم قالت بعزم
(كيف سنقضي اليوم؟)
شعر ليث بقلبه يخفق بهواها، و هي تبدو أكثر جمالا في كل مرة، خاصة و هي تسأله عما سيفعلانه في أول يوم زواج لهما...

لو تركت الخيار له، لحملها الى غرفتهما، و أشبع بها شوقا طال و اشتعل...
لكنه يعرف أنها كانت بريئة السؤال، ليت البراءة تغادرها و تتحول الى امراءة شغوفة بفنون حب زوجها لها...
لم يهمس ليث بأي من أفكاره المضنية لها، بل ابتسم بوقار و قال برقة
(كل ما تتمنينه، أنت العروس)
قالت سوار بصلابة
(أريد العودة للتدرب على التصويب بالسلاح، مضت فترة طويلة منذ أن أمسك بواحد).

انعقد حاجبي ليث قليلا وهو ينظر إلى ملامحها الهادئة المبتسمة...
ثم قال بصوت غريب
(هل أنت متأكدة؟)
قال سوار بتألق
(نعم، كانت أجمل أيام هي تلك التي علمتني فيها الإمساك بالسلاح، أتراك قد نسيت؟)
تنهد ليث وهو ينهل من جمال عينيها، ثم قال مستسلما بخفوت
(من هذا الذي ينسى يا مليحة، كنت الأجمل بين جميع شباب العائلة ممن علمتهم، الأقوى و الأشجع، و سارقة القلب بلا هوادة).

أخفضت سوار وجهها ثم نظرت الى الأراضي مجددا و قالت بهدوء
(اذن لنبدأ من الآن).

أصطحبها ليث الى أرض خلفية، لا تراها عين في الدار...
و كانت سوار تضع عبائتها السوداء ووشاحها، بل و تغطي وجهها أيضا...
أمسك ليث بالسلاح و استدار اليها قائلا بهدوء
(يمكنك خلع وشاح شعرك و غطاء وجهك، لا مخلوق سيراك هنا)
ترددت سوار قليلا، ثم قالت
(أفضل التدرب و انا أغطي وجهي)
قال ليث بهدوء وهو ينظر الى عينيها
(لماذا؟)
فما كان منها الا أن هزت كتفيها و قالت بثقة
(هكذا أريد، أنا العروس، اتذكر؟).

وضع ليث السلاح واقفا أرضا، ثم اقترب منها ببطىء و قبل أن تستطيع تدارك حركة أصابعه، كان قد نزع غطاء وجهها ووشاحها، فتركهما يسقطان أرضا، بينما هتفت سوار بغضب
(لا تفعل هذا مجددا يا ليث، لا تجبرني على ما لا أريد)
قال ليث بهدوء آمر دون أن يرف له جفن
(و انا لن أدربك الا و انت بهذا الشكل، فماذا قلت؟)
كانت أصابعها تحاول جاهدة جمع شعرها الطويل المتهدل على ظهرها...
بينما بين أعينهما تدور حربا أخرى، حرب السيوف...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة