قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس

ذكرى أخرى لها و هي تنظر في المرآة، تغني و تتمايل مبتسمة، بينما هو خلفها...
يتمايل معها، و عيناه على عينيها في المرآة، جمرتين لم تهدآ يوما و لم يخبو وهجهما،
انتفضت تيماء تستقيم في جلستها و أصابعها تشتد على ذراعي المقعد...
تنظر حولها عائدة الى الزمن الحالي، بينما صدرها يعلو و ينخفض بقوة، فابتلعت ريقها و هي تهمس.

تمالكي نفسك يا تيماء، ساعات من الزمن و ترحلين للأبد، فقط اصمدي في مواجهة تلك الساعات، مهما بلغت صعوبتها، اصمدي، انقبض كفها في قبضة مضمومة فوق ذراع المقعد، تضرب عليه بخفوت و هي تتابع الهمس
ما الذي تفعله هنا يا قاصي؟، و اين حياتك؟، مرت السنوات و انتهى بك الحال و أنت لا تزال عبدا لهذه العائلة، كيف عدت و تنازلت، اظلمت عيناها و هي تواجه نفسها بشراسة.

هل تشفقين عليه؟، أم تشعرين بالخيبة لخنوعه بعد ما أصابك؟، كنت تودين أسره دائما في صورة ذلك المدافع الشرس عنك و الذي قد يفديك بحياته لو تطلب الأمر، أم أنك تلعنين ذلك الخنوع الذي كان السبب في رؤيتك له مجددا بعد كل تلك السنوات ليزلزل كيانك من جديد، و كأن شيئا لم تفعليه، و كأن ما بنيته خلال السنوات الماضية لم يكن سوى وهم، عادت لتغمض عينيها و هي تسمع صوته صارخا بقوة من الماضي.

سأقتلك يا سالم، أقسم أن أقتلك، الا هي، الا هي، فتحت عينيها متأوهة و هي تنهض من المقعد، تدور حول نفسها و كأنها تبحث عن مهرب وهمي، هامسة بجنون يائس
لا يعقل أن يكون هنا بالفعل، الا هو، الا هو،
جلس بمكتبه الأنيق براحة بعد يوم طويل متعب...
ممسكا أخيرا بالكوب الذي أعده من القهوة الجاهزة وهو يغمض عينيه مرتاحا، مشمرا كمي قميصه الأبيض الناصع، و الذي قام بتغييره للتو كي يحظى بالإنتعاش...

حيث أن له طقوس خاصة في الراحة بعد التعب حتى و إن لم ينتهي يوم عمله بعد...
قرب الكوب من شفتيه هامسا مبتسما برضا
(وحيدا، مرتاحا، و مع كوب القهوة الأول منذ الصباح)
فتح باب مكتبه فجأة مع صوت جماهير محتشدة غاضبة، مما جعل ذراعه ينتفض و انسكبت نصف القهوة على سطح المكتب و، و قميصه الناصع!
(ما يحدث نحن نرفضه رفضا باتا يا سيد أمجد)
أغمض أمجد عينيه بيأس وهو يقول بصوت خافت...

(كنت أعرف أن الهدوء ليس من أقداري، و الراحة ليست من نصيبي، حسبي الله و نعم الوكيل. )
ألتقط عدة محارم ورقية ليمسح بها سطح المكتب ببطىء...
قبل أن يرفع عينيه الى مجموعة الموظفين اللذين اقتحموا مكتبه دون اذن...
أخذ يتفحصهم واحدا تلو الآخر...
نعم، إنهم مجموعة الشباب الرافضين دائما و المطالبين بحقوق الباقين، و اللذين يحبهم بصراحة و يحب فورة الحماس لديهم، الا أنهم باتو يمثلون الصداع الأقوى بيومه المضني...

حسنا، أمجد الحسيني معروف في الشركة بأنه حبيب الجميع، و المتواضع كليا مع كل الموظفين من أصغرهم منصبا و حتى الرأس الأكبر في الشركة...
لقد كان الدخول اليه سهلا و مباشرا، على عكس الجميع...
لكن هذا ليس معناه الدخول دون حتى طرق الباب، لكنه أجل ملاحظته وهو يرى على ملامحهم احساسا هاجعا بالظلم، اذن فالموضوع خطير...
أخفض عينيه وهو يتابع مسح السطح تماما حتى زالت القطرة الأخيرة قبل أن يقول بهدوء.

(حسنا، من اخترتم ليتكلم نيابة عنكم؟)
تقدمت أقصرهم و أنحفهم و أعلاهم صوتا، تلك الجنية الصغيرة أسماء...
علي الرغم من أن حجمها يكاد أن يكون ربع أقلهم حجما، الا انها دائما المتحدثة الرسمية بالنيابة عنهم...
تنهد أمجد وهو يقول
(طبعا، و من كنت أنتظر غيرك، تفضلي يا أسماء، أسمعك)
اندفعت أسماء تقول بصوت عال
(هل بلغك من سيكون المدير الجديد لقسم التوريد يا سيد أمجد؟)
قال أمجد وهو يضع نظارته فوق عينيه ثم ينظر اليها.

(لا، لم أعرف بعد نظرا لأن العمل خارج الشركة شغلني أكثر في الفترة الأخيرة خاصة و أن الشؤون الإدارية ليست المحبذة لدي، لكن من الواضح من ملامحكم أن الخيار لم يعجبكم)
تقدمت أسماء حتى وصلت الى سطح المكتب ووضعت كفيها عليه و هي تنحني الى أمجد بعينين تستعران غضبا...

(ابنة السيد سالم، ابنة السيد سالم الرافعي، هل تصدق ذلك يا سيد أمجد؟، بأي حق؟، لمجرد أنها ابنة صاحب الشركة؟، إنها لم تعمل هنا يوما؟، فكيف تكون مديرة لأحد الأقسام؟، و تنتزع ترقية الأستاذ كامل؟، إنه الأكبر سنا، و خبرته و كفائته و سنوات عمله في الشركة تؤهله لهذا المنصب و الجميع كان يتوقع له هذه الترقية كأمر مفروغ منه، فكيف يحدث ذلك؟).

كان أمجد يستمع اليها باهتمام، مدققا بكل كلمة، و يده تمس لحيته الشقراء الداكنة، قبل أن يقول بجدية...
(لحظة واحدة كي أفهم، من هي ابنة السيد سالم الرافعي؟، لم أراها أو أسمع أنه له ابنة من الأساس؟)
هتفت أسماء وهي تضرب على سطح المكتب بقبضتها حتى اضطر أمجد أن يرفع الكوب كي لا تتناثر باقي محتوايته مجددا...
(هذا لأنها لم تعمل هنا من الأساس، هل تسمعني يا سيد أمجد؟)
قال أمجد بهدوء.

(اسمعك يا أسماء، أقسم بالله أسمعك، هلا أخفضت صوتك رجاءا، على الأقل من باب الإحترام لفارق العمر)
احمر وجهها بشدة، و ارتبكت قائلة
(أنا آسفة سيد أمجد، لم أقصد أن أحتد عليك، فأنت لست المقصود)
قال أمجد متظاهرا بالراحة
(الحمد لله أنني براءة)
ابتسمت أسماء رغما عنها، فابتسم أمجد هوالآخر ليقول.

(حسنا لنبدأ من جديد، ابنة السيد سالم المجهولة، ستأتي من اللا مكان حيث ستتسلم ادارة أحد الفروع هنا، لكن هذا ليس منطقيا؟، أن تكون بلا خبرة و تحط علينا فجأة، هل يعرفها أحد أو سمع عنها أي معلومات؟)
قال راشد وهو أحد الواقفين المستائين
(لقد أتمت دراستها في الخارج، و علمت هناك مباشرة، و قد عادت للتو)
أرجع أمجد ظهره للخلف وهو ينقر على سطح المكتب قائلا.

(آه، اذا فبعض الخبرة موجودة، هل يعرف أحدكم المزيد عنها؟، كم عمرها؟)
قال راشد مجددا
(ربما في السادسة و العشرين)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول
(صغيرة السن بالنسبة للمنصب!)
اندفعت اسماء تقول بغضب و استياء.

(ليت السن كان المشكلة الوحيدة، لقد أتت الى هنا منذ يومين، و لم نكن نعلم بنوايا مجلس الإدارة في تعيينها، إنها شديدة الغرور بدرجة تدفع أي شخص كان محبا لعمله يوما. أن يحرق المكان و هي به، إنها فاشلة و لا تحمل ذرة من روح الفريق)
أسبل أمجد عينيه قليلا...
إن كان هناك ما يكرهه في هذه الدنيا فهو الغرور...
الا أنه قال بحيادية أخيرة.

(حسنا لندع صفة الغرور تلك جانبا، من الظلم الحكم على طبع شخصي لأنسان قابلتموه لمرة واحدة. )
اندفع عثمان و هو أحد المعترضين حامين الوطيس كذلك
(بل هي شديدة الصلف بالفعل يا سيد أمجد، لم يستطع احد البقاء معها لأكثر من ربع ساعة فقط، فكيف سنعمل معها؟).

حسنا، تلك الشابة وضعت في القائمة السوداء تلقائيا دون حتى أن يراها، و مع ذلك تبقى القائمة السوداء لديه مجرد شعور شخصي يفصله تماما عن العمل، تكلم راشد مجددا و هو أكثرهم حكمة...
(أنتم تضيعون المهم في الموضوع، الغرور ليست المشكلة الأساسية يا سيد أمجد، بل الظلم، ليس من العدل أن تنال المنصب الذي كنا نتوقعه للسيد كامل، فهو الأكبر و الأكثر خبرة و الجميع يشهدون له بالكفاءة)
رفع أمجد وجهه وهو يقول بهدوء.

(أحسنت يا راشد، هذا هو الأهم في الأمر، حسنا لقد استمعت اليكم حتى النهاية، الآن دعوا الأمر لي و عودوا الى أعمالكم، و أعدكم أن أنظر في الأمر)
قالت أسماء باستياء
(لو كنت تحضر احدى اجتماعات مجلس الإدارة يا سيد أمجد)
قال أمجد يقاطعها
(أسماء، توقفي عن الطنين فوق أذني، أنا لم أشرب قهوتي من الصباح، هيا الحقي برفاقك)
غادرت أسماء خلف المجموعة الثائرة، مغلقين الباب خلفهم...
فرفع أمجد الكوب الى شفتيه قائلا بتفكير.

(ابنة سالم الرافعي، اذن حرب جديدة مع المزيد من الطفيليات المتبجحة)
لم تصل أي قهوة الى فمه فأخفض وجهه الى الكوب الفارغ، ثم قميصه المتسخ، قبل أن يقول بصوت قاتم
(رائع)
وضع الكوب جانبا، ثم التقط أحد أوراقه المتكومة ليبدأ العمل من جديد قائلا بامتعاض
(حسنا، لم يعلمني أحد باسمك بعد يا ابنة سالم الرافعي، ترى من تكونين، شاكينار، ماهينار، ماهيتاب)
بدأ يركز بأوراقه، لكنه قال مبتسما أثناء العمل.

(ألمظ يليق بك، كنت أظن أن مثيلاتك انقرضن منذ زمن).

دخل الى مقهى العمل متعبا، متجها الى طاولته الخاصة التي اعتاد الجلوس عليها دائما...
الا أنه توقف مكانه و زالت ابتسامته وهو يجدها تجلس الى طاولته...
ممسكة بكوب به شراب ساخن، تنظر شاردة من النافذة بجوارها دون أن تلمحه، و البخار الدافىء يلامس وجهها...
زم شفتيه قليلا، قبل أن يأخذ نفسا هادئا و يتجه اليها ببطىء، و ما ان وصل الى الطاولة حتى قال بهدوء دون أن يجلس
(الطاولات كثيرة العدد، فلماذا العناد؟).

انتفضت قليلا من شرودها و هي تنظر اليه رافعة وجهها الجذاب اليه، و طالت نظرتها لحظتين قبل أن تبتسم قائلة بهدوء
(لم أجدها مسجلة باسمك رسميا، الطاولات متاحة للجميع)
قال أمجد وهو ينظر اليها من علو، واضعا يديه في جيبي بنطاله
(لماذا يصعب عليك ترك طاولتي لي يا غدير)
ارتجفت شفتيها قليلا قبل أن تقول بخفوت
(أردت الحديث قليلا، هل تبخل على به؟).

ظل أمجد واقفا مكانه ينظر اليها بصمت، و بملامح هادئة لم تظهر شيئا، قبل أن يتقدم خطوة و يسحب الكرسي أمام عينيها المنتظرتين، ثم جلس بثقة وهو يرفع يده الى النادل ليحضر له قهوته التركية الخاصة...
نظر اليها مجددا ثم قال بهدوء
(تبدين كمن تلقى صدمة).

عضت على شفتيها المطليتين بلون أرجواني يناسبها، مخفضة وجهها و هي تراقب سطح شرابها الساخن، بينما انسابت خصلة من شعرها البني الداكن على وجنتها تخفي بعضا من ملامحها عنه...
قالت اخيرا بصوت شديد الخفوت و الهدوء الخالي من الحياة
(يمكنك قول ذلك)
ظل أمجد ينظر اليها عدة لحظات قبل أن يقول
(كنت تريدين الكلام، فلماذا أنت صامتة الآن؟)
رفعت وجهها اليه، و عيناها تحومان من حوله الى ان نظر للنافذة و قال بصوت جامد.

(الجو بارد اليوم)
لاحقت غدير نظرته الى النافذة، ثم قالت بفتور
(نعم، جدا)
ساد صمت قصير قبل أن تنظر اليه لتقول بخفوت
(لماذا لا ترتدي كنزة؟، الا تشعر ترتعد مثل باقي البشر؟)
نظر اليها ثم قال بهدوء
(لا أظنك كنت تريدين الكلام عن كوني بلا كنزة!)
عقدت حاجبيها و هي تبتسم ابتسامة زائفة. خالية من المرح قائلة بلطف
(لا، لكن بقعة القهوة تفسد أناقتك المعروفة).

أخفض أمجد عينيه تلقائيا ينظر الى بقعة القهوة، قبل أن يعاود النظر اليها قائلا بابتسامة
(التغيير مطلوب، لقد كانت هذه البقعة نتيجة لصدمة كتلك الصدمة على وجهك الآن)
ارتفع حاجبيها بحيرة و هي تقول بخفوت
(حقا؟، أشك أن تكون نفس صدمتي)
أمال أمجد رأسه قليلا وهو ينظر اليها، مستريحا في مقعده، و يديه في جيبي بنطاله، ثم قال بهدوء
(اذن لما لا تختصرين الطريق و تقصين على الأمر و تدعين الحكم لي).

أرتجفت أصابعها قليلا حول الكوب و هي تنظر لحافته مجددا، بينما كان خاتم زواجها يلمع باصبعها بكل بهاء، لكنها كانت شاردة عنه للمرة الأولى...
لطالما أحبت النظر الى خاتم زواجها بفخر خفي، لم تكن تظن ان أحد من الممكن أن يلمحه، لكن عينيها كانتا تبرقان به كلما رمقت الخاتم...
لكنها الآن متابعدة و شاردة تماما، الى أن قالت أخيرا بصوت شاحب
(صديقتي، أقصد، تلك التي كانت صديقتي يوما، سنتواجه أنا و هي قريبا).

ساد صمت طويل، قبل أن يقول أمجد بصوت خافت بارد مستنتجا الجواب
(تلك التي تركها خطيبها لأجلك؟)
ارتفعت عينيها الى عينيه لتقول بجمود و عيناها تتصلبان
(لم يتركها من أجلي، لم يحدث هذا)
ضيق أمجد عينيه وهو يتظاهر بالتفكير، ثم قال أخيرا بصوت متسائل
(عذرا، لكن ألم ترتبطي بشخص خاطب قبل أن يخلع خاتمه؟)
هتفت غدير بقوة.

(الحياة بينهما كان محكوما عليها بالفشل قبل أن تبدأ، أنت لا تعلم الكثير من التفاصيل، بل في الواقع أنت لا تعرف أي تفاصيل)
صمتت فجأة و هي ترى النادل يقترب ليضع القهوة أمام أمجد الصامت قبل أن يقول بهدوء
(شكرا لك)
انصرف النادل بينما بقى كلاهما صامتا و كأن الأجواء قد اشتعلت من حولهما فجأة دون الحاجة للكلام...
ثم قال أمجد أخيرا بهدوء.

(غدير، ألست مقتنعة بحياتك التي اخترتها بنفسك؟، فماذا يهمك من المواجهة اذن، الا لو كنت تشعرين بال، الخزي)
ارتفع وجهها منتفضا شاحبا اليه، و قالت بصوت واه
(خزي يا أمجد؟، هل هذه نظرتك لي؟)
قال أمجد وهو ينظر الى عينيها.

(أنا لا أملك أي نظرة لك يا غدير، ظننت يوما أنني أفعل، لكنني أيقنت فيما بعد أنني لست كذلك، الأهم هو نظرتك أنت لنفسك، و لو كان ضميرك مرتاحا فلا تأبهي للمواجهة، فلقد سبق و مررت بالأصعب، و طعنتها)
فغرت غدير شفتيها بصدمة، ثم قالت بصوت يرتعش قليلا
(لم أعهدك قاسيا هكذا من قبل يا أمجد)
ابتسم بسخرية قبل أن يقول.

(أشياء كثيرة تتغير مع الوقت، لكن أنت على ما يبدو لا تتغيرين، ترفضين حتى الإعتراف، و اقصى ما تستطيعين فعله هو الجلوس في الركن مرتجفة خوفا من مواجهة، سبق و حدثت)
مدت غدير كفيها على الطاولة بينهما و هي تهمس بحدة شرسة
(الإعتراف بماذا؟، بماذا على الإعتراف؟)
قال أمجد بقسوة
(أنك اخترت القبول برجل يحمل خاتم خطبة صديقتك)
قالت بحدة يائسة.

(لقد أحبني، هذا ما حدث، فهل كنت تريده أن يكمل زواجه بها وهو يحب أخرى من باب الواجب فقط؟)
رفع عينيه اليها مباشرة قبل أن يقول
(و ماذا عنك؟، هل أحببته؟)
بهتت ملامح غدير فجأة و كأنه غافلها بسرعة لم تتداركها، و ابتلعت ريقها بتوتر قبل أن يقول أمجد بهدوء
(لم أسمعك مرة تنطقين بحبه)
قالت غدير بخفوت مرتعش
(طبعا احبه، فلماذا تزوجته اذن إن لم أكن أحبه؟)
قال أمجد ببساطة
(ليس هذا الإنطباع الذي منحتني اياه).

اهتزت حدقتي عينيها بقوة، و ارتجفت شفتيها، كلامه المختصر يحتمل عدة معاني، ليست مؤهلة كي تواجهها حاليا...
بينما المعنى الصريح كان ظاهرا بعينيه، دون أن يحيدا عن عينيها...
أما هي فمن حادت بعينيها عن عينيه و هي تنظر الى حافة كوبها التي بردت و مات البخار بها...
أسنانها تعض على شفتها بتوتر، جعل أمجد يشفق عليها رغم عنه...

لطالما كانت غدير تثير به غريزة الرعاية، أو ربما الشفقة، فقد قصت عليه حياتها الصعبة بكل تفاصيلها...
حياتها تجبر من يحياها على أن يكون مهتزا و غير مستقر...
و قد بدت متعلقة به في البداية لدرجة قد تثير الإختناق، لكنه كان يستمع اليها بصبر، الى أن تحول الصبر الى اهتمام بالتدريج، و أحب هذا الشعور...
أحب البريق في عينيها كلما تكلمت معه طويلا...

لكنه اكتشف أن هذا البريق كان مؤقتا و ضعيفا كقشة طيرتها أول نسمة هواء...
لم يكن بحاجة الى استنتاج سبب تباعدها عنه فجأة، رجل جديد ظهر بحياتها...
لكن الصدمة حين رآهما ذات يوم، و علم أنه يضع باصبعه خاتم خطبة...
و فيما بعد علم أن خطيبته التي كانت يوما...
كانت أغلى صديقة لها أو ربما الوحيدة، و على الرغم من ذلك فقد استثنتها تماما من كل الحكايات التي قصتها عليه...

تجاهلت ذكرها من بين كل تفاصيل حياتها التي اسمعته اياها، و كأنها كانت تتمنى استئصالها من حياتها بأكملها...
حينها قرر الخروج فورا من تلك الدائرة السوداوية، و الفرار بأقل درجة خسائر ممكنة...
لقد تزوجت الفتاة التي أوهمته يوما أنه الرجل الوحيد، نقطة آخر السطر.
قصة قصيرة ساخرة...
رفع أمجد عينيه اليها أخيرا ثم قال بهدوء
(ألم تشفقي عليها ولو للحظة قبل الموافقة على الزواج منه؟).

رفعت غدير عينيها الزائغتين اليه، قبل أن تهمس مرتجفة
(أنت لا تعرفها، كلمة الشفقة لا تقترن بها، لقد كانت تمتلك كل شيء، كل شيء، و تشعر من حولها بأنها تتمنن عليهم، هذا ليس ذم بها، لكن هذا هو طبعها، نتيجة نشأتها)
ضيق أمجد عينيه وهو يقول بخفوت
(كيف كانت صديقتك و أنت تتكلمين عنها بهذا الشكل؟)
لعقت شفتيها المرتجفتين قبل أن تهمس بخفوت بعد فترة طويلة
(كنا أعز الصديقات، منذ سنوات طويلة جدا، و لسنوات أطول. ).

قال أمجد باهتمام
(و لماذا لم تذكرين اسمها بأي حديث تم بيننا يوما؟، لقد استئصلتها تماما، و كأنك كنت تريدين اخفائها عن حياتك)
أخذ اصبعها المرتجف يلاعب حافة الكوب قبل أن تقول بخفوت مشتد، حاد
(لأنني كنت قد تعبت، تعبت من، كونها هي، بشخصها، بزهوها بنفسها، تعبت من كبريائها و احساسي بأنني نكرة بجوارها، لقد منحتها الكثير، أكثر مما منحته هي لي، و لم أكن بحاجة للكلام عنها أكثر).

عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بجمود حائر
(تبدين كمن يكرهها)
رفعت غدير عينيها اليه لتقول بقوة
(أنا لم أكرهها أبدا، لقد كانت صديقتي الوحيدة، لكن القدر كان له قرار آخر، و تقاطعت طرقنا)
ساد صمت مشحون، بينما كلاهما يتأملان القطرات الصغيرة من الأمطار و التي بدأت في تبليل زجاج نافذة المقهى...
ثم التفت اليها أمجد ليقول بهدوء
(كيف كانت ردة فعلها حين تركها خطيبها لأجلك؟)
استدارت اليه تقول بحدة من بين أسنانها
(لم يتر).

قاطعها أمجد بمنتهى الهدوء
(كيف كانت ردة فعلها تجاهك؟)
لاحظ بريق من القسوة بعينيها، و شفتيها تحولتا الى خط مستقيم صلب...
و كأنه يرى تحولها الى شخص آخر...
فعقد حاجبيه، قبل أن يذهل بمرآها و هي تبتسم فجأة ببرود لتقول
(تصرفت كما هي، كطبعها)
قال أمجد بحذر
(صفعتك مثلا؟، استأجرت من أصابك بعاهة، تسببت لك بفضيحة؟)
كانت عيناها بعيدتين عنه، ناظرتين لكوبها البارد، و ساد صمت طويل قبل أن تقول بفتور ميت.

(لا أزال أتذكر هذا اليوم و كأنه كان بالأمس، كنا معا أنا و أشرف في انتظارها، و كنت أصرخ به أنه إن لم يعترف لها بحبه لي فليعتبر أنها النهاية، حينها وصلت و لاحظت توتر الجو من حولنا...

تقترب منا بخيلاء، و ابتسامتها الواثقة تجذب نظر كل من ينظر اليها، ابتسامة ثقة و كأن لا أحد في هذا العالم قادر على ايذائها، أنفها مرفوع دائما، و لم تقلق يوما من تقاربنا أنا و اشرف، و كأنني أبخس من أن تعتبرني أمرأة تخشى على خطيبها مني ولو للحظة...
لا أزال أتذكر نبرة سؤالها الهادىء و هي تنقل عينيها الباسمتين بيننا، ماذا بكما؟ هل كنتما تتشاجران؟، ).

صمتت ترتجف بقوة، أمام ناظريه و شفتيها ترتعشان، قبل أن تقول بهدوء ميت متابعة
(حينها اندفع أشرف للمرة الأولى بحياته، و قال دون مقدمات مسك، أنا أحب غديرو قد حدث هذا رغم عنا، دون قرار منا أو نية)
ضيق أمجد عينيه وهو يقول بخفوت
(مسك!)
أغمضت عينيها و هي تطبق على شفتيها المرتجفتين في صمت طويل، ثم همست بصوت مختنق.

(لا أتذكر كم مر من الوقت، كان صمت طويل، أخذ يخنقني ببطىء شديد منتظرة انفجارها، انهيارها، أي تصرف آدمي يجعلني أشفق عليها، الا أنها رفعت ذقنها أكثر و قالت بصوت لن أنساه
مبارك لكما، ثم خلعت خاتم الخطبة ووضعته أمامنا بكل ترفع)
رفعت غدير عينيها المغروقتين بالدموع الى أمجد الذي كان ينظر اليها نظرة غريبة، بها، بها...
بها شيء كالإعجاب!، لم تفهمها...
لكنها همست متابعة.

(لم تصرخ، لم تبكي، لم تذرف دمعة واحدة، بل حتى أنها لم تسأل كيف حدث ذلك، ثم نهضت من مكانها بهدوء و أناقة لتغادر، لكنها توقفت بعد خطوتين لتستدير و تعود الينا قائلة بابتسامة لن أنساها أبدا
كدت أن أنسى، لقد نلت الوظيفة بالشركة بعد توصية أبي، و كنت أعدها كمفاجأة لك)
صمتت غدير تماما و هي تنظر الى أمجد بعينين متشوشتي الرؤية من الدموع التي تغرقهما...
مدخرة لنفسها التفاصيل الأهم!، و التي لا داعي لذكرها...

حين طال بهما الصمت، قالت أخيرا بصوت مرتجف
(هل عرفت الآن أن الشفقة كلمة ليست موجودة بقاموسها)
ظل أمجد صامتا قليلا، قبل أن ينهض ببطىء أمام عينيها الضائعتين، ثم قال بصوت غريب وهو ينظر لها من علو
(عرفت أنك كنت مرتبطة به، قبل حتى عملك هنا، هذه معلومة جديدة تماما، و هذا كاف بالنسبة لي)
نظر الى قهوته قبل أن يرفع عينين ساخرتين إلى عينيها المصدومتين قائلا
(لقد بردت القهوة، لا نصيب لي بها).

ابتعد بخطوات واثقة أمام نظراتها المفجوعة، و قلبها الصارخ بخيانة...
عد أرجوك، وقف أمجد ينتظر المصعد وهو يتلهف لمغادرة المكان...
هل هو متأثر؟، غاضب؟
الحقيقة ليس تماما، فمشاعره تجاه غدير لم تجد الوقت كي تكتمل، مجرد بضعة أشهر
ربما كانت أشهر طويلة، لكنها تظل أشهر، لم تكمل العام...
و الحب الذي لا يكمل العام لا يعد حبا...
ابتسم بسخرية من نفسه وهو مخفض الرأس، يديه في جيب بنطاله...

متذكرا ملاحقتها له باستمرار كالعلقة، ربما فعلا كانت تحتاج الى بث شكواها لأحد...
هذا ما لم تكذب به، يعرف أن حياتها كانت شديدة القسوة...
لكن أين كان هذا الخطيب المسروق من كل هذا؟، كان لا يزال يرتدي خاتم صديقتها على الرغم من انفصالهما!
رفع وجهه يراقب الأرقام المضيئة أعلى المصعد، وهو يهمس لنفسه.

التجربة لن تنتهي يوما، حتى لرجل في مثل عمرك، لقد أوشك أن يطلبها للزواج قبل حتى أن تتحدد مشاعره تجاهها، رآها فتاة عفوية بسيطة و طيبة، تحتاج الى الحنان، وهو كان يحتاج الى الزواج...
لم يصدق أن يكون هناك رجل آخر بحياتها...
اغمض عينيه ليضحك من نفسه مجددا وهو يهز رأسه باستياء...
غاضب، حقا غاضب...

بينما هو واقف مكانه، مغمض العينين. يديه بجيبي بنطاله و منظره ينم عن اللامبالاة بعكس النفور بداخله...
غمرت أنفه رائحة قوية، أزكمته سحرا...
رائحة تبدو كال، مسك...
المسك القوي و كم يعشقه...
نسي عينيه مغمضتين لعدة لحظات دون أن يفتحهما و يسمع نغم أنيق لكعبي حذاء عاليين، يطرقان الأرض المصقولة من خلفة بتمهل راقي...
وجد أمجد حاجبه يرتفع ببطىء، و شفتيه تميلان بابتسامة تقدير خاصة دون أن يفتح عينيه...

اللحن مع العطر، مسكريين...
أخذ صوت الخطوات يقترب منه، يعلو و يعلو، الى أن توقفت خلفه مباشرة...
مالت ابتسامته أكثر وهو يفكر انها ليست أحد العاملات...
لم يرى كعبا عاليا واحدا منذ أن بدأ العمل الإداري هنا...
هل ستلقي التحية؟
لكن الصمت استمر، مما أثار استفزازه، فخسر الرهان مع نفسه وهو يستدير بتمهل...
ناويا القاء نظرة عابرة على من تقف خلفه...
تسمر للحظة وهو يراقب الشابة واقفة خلفه، ترمقه بترفع غريب...

ذقنها مرفوع، أنفها مرفوع، حاجب واحد أنثوي رقيق مرفوع...
لديها كبرياء غريب يظهر للناظر اليها من الوهلة الأولى...
أنثى جذابة بكل معنى الكلمة...
عيناها بلون العقيق الخام، حين يكون بني محمر، في أكثر درجاته دفئا...
شعرها أسود كجناح الغراب اللامع، يتطاير من حول وجهها، و يكاد طوله أن يلامس كتفيها بحرية...
ضاقت عينا أمجد وهو يراقب تلك الشابة التي تمثل رقيا غاب منذ فترة...

لم تكن ملابسها تظهر منها انشا واحدا، الا أنها كانت مثالا للأناقة...
نظرت اليه مسك بترفع، و كأنها تستنكر مراقبته الصامتة لها، و كأنه يتعدى على من هم أعلى منه شأنا...
قبل أن تستقر عيناها على البقعة المنتشرة على قميصه الأبيض...
حينها ارتفع حاجبها أكثر، و مالت شفتيها استنكارا، مما جعل ملامحه تتصلب و تشتد...
لكن وصول المصعد قطع عليهما حرب النظرات بينهما...

أشار أمجد بيده الى المصعد المفتوح وهو يقول بهدوء و رزانة في أول كلمة منه لها...
(تفضلي)
تفضلت مسك بالفعل و هي تنفض وجهها ليتطاير شعرها الناعم عنه، و هي تتجاوزه بأناقة و ما أن دخلت المصعد حتى استدارت لتواجهه قبل دخوله، لكن ما أن تقدم خطوة حتى رفعت كفها لتقول بترفع
(عفوا، لا أستقل المصعد مع أحد)
تسمر أمجد مكانه و عيناه تتسعان قليلا، قبل أن تنغلق أبواب المصعد بينهما...

مخفية عينيها الباردتين، الدافئتين!، كيف يجتمع النقيضين في عين واحدة؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة