قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

تجرأت قدميها على السير في أنحاء القاعة الضخمة و هي تتأمل ما حولها بحذر...
تريد انهاء مهمتها و الهروب من هنا سريعا...
كانت تنوي قضاء ثلاثة أيام هنا، لكن مع وجود قاصي فهي تريد الهرب اليوم مساءا على الأكثر...
لكن كيف تجد تذكرة في القطار دون حجز مسبق...
أخذت نفسا مرتجفا و هي تهمس لنفسها
(يا رب، اجعل هذا اليوم يمر، بخيره واكفني شره).

ساقتها قدميها الى حيث مصنع ضخم، هذا أقل ما يقال عنه، و في بعض الحضارات الأخرى يطلق عليه اسم مطبخ!
كان ضخما في حجم شقة كاملة، يحتوى على عدد عشر نساء على الأقل يعملن على قدم و ساق...
جميعهن ترتدين السواد، الا أنه لم يكن مقبضا للصدر...
بل كانت عبائات جميلة، تحسبا لدخول أي رجل عليهن...
دخلت تيماء و هي تتأمل الجو المختلف حولها، الى أن وصلت للوحيدة التي تعرفها هنا...
الغالية أم سعيد...

لذا اقتربت منها و هي تقول بمودة
(أم سعيد، اشتقت اليك)
نظرت اليها المرأة بطرف عينيها و هي تقول بعدم راحة
(اشتاقت لك العافية)
دست تيماء يديها في جيبيها و هي تنظر يمينها و يسارها، بينما القوة تنصهر بداخلها بشكل لا تريده...
التفتت الى أم سعيد و قالت مجددا
(ماذا سنأكل اليوم بالمناسبة؟)
نظرت اليها أم سعيد بطرف عينيها فقالت تيماء
(لماذا تكرهينني يا أم سعيد و تنظرين الى بهذا القرف؟، أنا شخصية لطيفة جدا).

ثم ابتسمت ابتسامة عريضة أظهرت غمازتيها الطوليتين، مما جعل أم سعيد تقول بايجاز
(العفو، و لماذا أكرهك؟، الستر يا رب)
ارتفع حاجبي تيماء و هي تخفض نظرها الى نفسها، تحاول اكتشاف ما الغريب بها و قد يجلب الفضائح، على الرغم من أنها ظاهريا، فتاة محجبة و تبدو محترمة...
أيكون اللون الوردي؟
رفعت حاجبا متفكرا و هي تقول لأم سعيد.

(جيد أنك لا تكرهينني يا أم سعيد، الحقيقة أنت و عم عبد الكريم ستعلقان بذاكرتي لفترة طويلة، هل هو زوجك؟)
استدارت اليها ام سعيد و هي تقول بغضب ممسكة بالسكين في يدها
(انت تنطقين بكلمات تطير بها الرقاب، انا متزوجة من ابن عمي الأكبر)
تراجعت تيماء خطوة و هي تقول
(اهدئي يا أم سعيد و ضعي سلاحك، كنت فقط اتعرف على العائلة)
تأففت ام سعيد و هي تعود لعملها، بينما قالت تيماء مجددا دون يأس.

(اذن، ماذا سنأكل اليوم، فالرائحة شهية)
قالت أم سعيد بلهجة طبيعية دون أن تنظر اليها
(عصيدة و السلاة و اللصيمة، و مرقوق و خبز الجوبرت، مع المشويات)
كانت عينا تيماء متسعتين و هي تحاول ترجمة تلك اللغة، منتظرة أن تضحك أم سعيد و تخبرها بأنها تمزح، الا أن ملامح المرأة الجدية جعلت حاجبيها يرتفعان و هي تقول
(لقد تكلمت بلغة مختلفة للتو، لم أفهم منها سوى كلمة مشويات و خبز، ماذا كنت تقولين؟).

مطت أم سعيد شفتيها و هي تهز رأسها قائلة
(هذا طعام، أنواع من الأكلات)
همست تيماء بدهشة
(مذهل!، أنا أنبهر هنا كل ساعة أكثر من سابقتها)
حانت منها التفاتة، فرأت طبقا عريضا يحتوى على شيء أحمر مبهر اللون، لونه يشبه التوت و الكرز.
فقالت بفضول
(و ما هذا الطبق؟)
نظرت أم سعيد الى ما تشير اليه تيماء، ثم قالت بهدوء غير مبالي
(هريس ال)
قاطعتها تيماء و هي تأخذ الملعقة و تملأها منه قائلة.

(هريسة!، الهريسة لدينا هي صنف من الحلو و تكون رائعة بالقشدة)
ابتلعت ما في الملعقة دفعة واحدة أمام عيني أم سعيد المذوهلين...
و لم تكن تمر لحظتين قبل أن تهمس تيماء بإختناق
(ما، كان، هذا؟)
ثم لم يلبث وجهها أن احمر بشدة و تورمت شفتيها و اندفعت الدموع من عينيها و هي تسعل بقوة كادت أن تهلكها، بينما أجابت أم سعيد بقلق
(هاريس الشطة)
اتسعت عينا تيماء أكثر و هي تسمع الكلمة القاتلة، فهتفت بصوت مختنق لم يسمع.

(شطة!، أنا لا أتحمل الكاتشب الحار!، الشطة!)
ثم انحنت ممسكة ببطنها و هي تسعل و تسعل بقوة و الدموع لا تتوقف من عينيها، حتى سقطت على ركبتيها، فاجتمعت النساء من حولها، غير مستوعبات ماذا جرى لها من الفلفل الحارق الذي يتناولنه كل يوم...
كانت تنظر اليهن باستنجاد، دون ان ترى اي امل، حتى سمعت صوتا منقذا يهتف
(ماذا يجري هنا؟، أفسحن حالا).

اقتحمت سوار المكان و هي تنظر الى شكل تيماء المرعب بهلع و قد بدت غير قادرة على التنفس
تختنق و عينيها تستغيثان...
التفتت حولها و هي تهتف...
(ماء، أحضرن ماء، إنها تختنق)
صدح صوت متشدقا
(من يختنق؟، أفسحن لطبيب العائلة)
ابتعدت النساء يغطين وجوههن، بينما رفعت سوار وجهها الى الشاب الذي دخل الى المطبخ و يديه في جيبي بنطاله. ينظر باهتمام الى تيماء، الجاثية على ركبتيها أرضا تسعل و تختنق...

فهتفت سوار بقوة ممسكة بذراعها
(فريد، الحمد لله، تصرف، أرجوك؟)
كان لا يزال ينظر الى تيماء بفضول دون أن يخرج كفيه، ثم قال
(حالة اختناق مع الساعة الأولى من الزيارة، رائع، مما تعاني؟)
مدت تيماء يدها لتلتقط أقرب ثمرة بطاطس على الطاولة ثم قذفته بها بقوة و هي تهتف من بين اختناقها البائس
(أعاني من تخلف مبكر، أفعل شيئااااااااااااااا)
عقد حاجبيه وهو يقول باهتمام
(ليست ودودة أبدا، ابنة من هي؟).

سقطت رأس تيماء أرضا، حتى لامست جبهتها الأرض و هي تسعل هاتفة بقوة
(منك لله، منكم لله جميعا)
رفع فريد حاجبه وهو يقول
(أنا لن أرد، بما أني فرد صالح في العائلة)
هتفت سوار بقوة
(افعل شيئا يا فريد، لقد ابتلعت كمية كبيرة من الشطة و هي غير معتادة عليها)
ضحك باستهزاء و هو يقول
(شطة!، الفتيات ميؤوس منهن حقا)
هتفت تيماء بعذاب
(اخرجوووووه من هنا).

أخذت سوار تضرب على ظهرها بقوة بينما تيماء تسعل بطريقة تثير الشفقة، فقال فريد أخيرا
(لن أرد مجددا)
ثم التفت الى النساء الواقفات و قال بهدوء
(أريد كوب من الماء)
كان ابريق الماء مع احداهن بالفعل فناولته له، حينها أخرج شريط أقراص من جيبه و اقترب ليجثو بجوار تيماء على الأرض و هو يخرج قرصا منه، قائلا
(ابتلعي هذا مع الماء)
رفعت تيماء وجها متورم، و شفتين متضخمتين و هي تنظر لاهثة الى القرص في يده لكنها همست بشك.

(ما هذا؟)
قال فريد باستعلاء
(استمري في الكلام الى أن تزهق روحك ان شاء الله)
تناولت تيماء القرص و ابتلعته بصعوبة من بين سعالها، بينما قال فريد
(الا يوجد كوب هنا؟)
لكن تيماء كانت قد التقطتت الإبريق منه لتنهل منه بصوت عال حتى تساقط الماء على وشاحها، مما جعل فريد ينظر اليها بتوجس قائلا
(آممم لا داعي للكوب، ستبتلعه على الأرجح).

كانت تيماء في حال مريعة و هي تتنفس بصوت متحشرج، بينما حلقها يؤلمها بصورة غير محتملة أما شفتيها فقد تمزقت زاويتهما بخدوش رقيقة حمراء، و تورمتا بشدة...
ربتت سوار على كتفها برقة و هي تقول متعاطفة
(هل أنت بخير؟)
لهثت تيماء و هي تشهق بصعوبة قبل أن تهمس بخفوت
(أريد الرحيل من هنا، لم تكن هذه فكرة، جيدة)
نهض فريد قائلا بمرح
(ترحلين قبل مقابلة سليمان الرافعي الكبير!، فلتتناولي الباقي من الشطة أيسر).

أغمضت تيماء عينيها و الإسم محفور في ذاكرتها بقوة...
مقترن بهيئة مهيبة، ضخمة و سلطانية الملامح...
ملابس لم تراها قبلا، و عمامة متوجة...
عصاة خشبية و رأسها مطعم بالعاج و الفضة، تضرب الأرض بقوة صارمة
لحية بيضاء زادته هيبة ووقارا...
وصوت ليس جهوريا، لا يحتاج، فنبرته وحدها كافية بأن تجعل من يسمعها يرتجف...
تلك الصورة حين أبصرتها للمرة الأولى، كانت تئن ألما و تظن أن الموت يقترب منها...

بل مصير أسوأ من الموت...
ذراعيها مكبلتين و قدماها لا تلامسان الأرض، كانت تتأرجح و الألم يسري في جسدها مثل النار...
بينما صوت سليمان الرافعي يهدر بقوة و عصاه تضرب الارض
يكفي، فكوا وثاقها حالا، شهقت تيماء بصوت عال و هي تعود لواقعها الحالي، وصوت سوار يقول بقلق
(ماذا بك؟، إنها مجرد شطة حارقة، لا شيء يجعلك بهذا الأسى!)
قال فريد و يديه في جيبي بنطاله
(هذا هو المتوقع منكن، فتيات طريات كالإسفنجات).

تأففت سوار و هي تقول
(اذهب من هنا يا فريد، الفتاة ليست في حالة تجعلها تتحمل استفزازك حاليا)
مط شفتيه وهو يعدل من نظارته فوق أنفه ليقول بغلظة
(هذا هو آخر اسداء خدمة لأي منكن، ناكرات الجميل)
خرج فريد من المطبخ بينما بقت تيماء مكانها، جاثية على أرض المطبخ على ركبتيها بملابسها الأنيقة، ووجهها المحني...
ثم لم تلبث أن رفعت وجهها الى سوار، و قالت بخفوت
(أريد مقابلة جدي الآن و الرحيل، أنا أضعف).

أطبقت سوار شفتيها بصمت، ثم قالت بخفوت
(جدك ليس متفرغا الآن، ربما بعد بضعة ساعات قد تتمكنين من مقابلته، و بعد أن تفعلين قد تغيرين رأيك بالرحيل)
رفعت تيماء وجهها اليها و قالت بخفوت واه
(أنت لا تفهمين، أنا يجب أن أغادر هذا المكان، اليوم)
قالت سوار باهتمام
(لماذا؟، ظننتك آتية لتمضين بضعة أيام، فلماذا غيرت رأيك؟)
أسبلت تيماء جفنيها و هي تتنهد بتعب، كيف تخبرها؟، كيف؟

كيف تخبرها أن المرة الوحيدة التي أتت بها الى هذا المكان، كانت المرة التي كسرتها
المرة الوحيدة التي عرفت بها معن الذل و كيف يمكن أن يدهس روح الإنسان و يسحقها...
و آخر مرة رأت بها قاصي، بآخر مشهد تخيلت أن يراها به...
هذا المكان الساحر، يحمل لها الذكرى الأشد سوادا بحياتها...

حين وجدت أنها في حاجة ماسة للهواء...
خرجت بحذر من احدى الأبواب، كان بابا جانبيا، حرصت على الا يكون ذلك الذي دخلت اليه...
و مع ذلك مدت رأسها أولا و هي تبحث عن أي أثر له، و حين تأكت من خلو المكان، خرجت كاللصوص حتى جلست على إحدى الدرجات الرخامية...
تنهدت تيماء و هي تميل برأسها و تستند بها الى الجدار بصمت
المكان كان هادئا تماما، الا من صوت الطيور و حفيف الأشجار...

يمكن وصفه للسلام النفسي، لكن أين هي من السلام النفسي؟
سمعت صوت أقدام من خلفها فتشنجت و انتفض قلبها تلقائيا، الا أنها ارتاحت قليلا حين سمعت صوتا مألوفا يقول
(أنت أيتها الفتاة المتورمة، ماذا تفعلين هنا؟، و كيف حالك؟)
التفتت تيماء رافعة وجهها الأحمر اليه. ثم لم تلبث أن قالت بهدوء
(كنت أطلب بعض الخصوصية، انها مساحة يحتاجها الشخص لنفسه أحيانا، فيتسلل الى مكان لا يراه به أحد)
ارتفع حاجبي فريد وهو يقول.

(أنت حقا حكاية)
و دون أي اعتبار للخصوصية التي تحدثت عنها. اقترب منها ليجلس بجوارها على السلم، ثم قال ناظرا أمامه
(المكان هنا جميل)
نظرت اليه تيماء بتبلد ثم لم تلبث أن ضحكت قليلا، فبادلها فريد الإبتسام وهو يقول
(بما أنك ضحكت و هذه تعتبر طفرة، اسمحي لنا بأن نتعارف بشكل لائق اذن، أنا فريد ابن غانم الرافعي)
ابتسمت تيماء و قالت باستسلام
(و انا تيماء)
قال فريد كأمر مفروغ منه
(ابنة من؟).

سقط رأس تيماء على ركبتيها و هي تقول بقنوط
(الرحمة يا رب)
ارتفع حاجبه وهو يقول بشك
(ابنة من؟، لا تقولي أنك ابنة عمران!، فهو العم الذي لا اطيقه بصراحة؟، أم أنك من فرع أبناء الأعمام الأبعد؟)
رفعت تيماء وجهها اليه و قالت بخفوت
(اسمع يا استاذ فريد، هلا طلبت منك طلب صغير؟، لا تسألني هذا السؤال مجددا، فهو يضايقني، ربما بدوت لك متطرفة و غريبة الأطوار، لكن هذا السؤال حقا).

شعرت فجأة بالإختناق والكلمات تموت على شفتيها، فنظرت أمامها بصمت، لتجد أن الرؤية قد تشوشت لديها بدمعتين حبيستين، انسابتا على وجنتيها دون ارادة منها...
كانتا من النعومة بحيث لم تتغير ملامحها، و لم تهتز عضلة بوجهها، لم يبدو أبدا أنها كانت تبكي.
بل كانت ملامحها طبيعية أقرب للإبتسام و هي تنظر الى المنظر الساحر البعيد أمامها...
ساد صمت طويل قبل أن يقول فريد بهدوء
(سألبي طلبك إن أسديت لي خدمة في المقابل).

نظرت اليه و همست بهدوء مبتسم، ماسحة وجنتيها بظاهر يدها
(و ما هي الخدمة؟)
ضيق فريد حاجبيه وهو يقول بجدية.

(سبع سنوات، سبع سنوات من الدراسة المضنية الكفيلة باخراج العاقل عن وقاره، و قد ينتهى به الحال يكلم نفسه في الطرقات، سبع سنوات من الحرب مع النفسية و العصبية و الباطنية، الحرب مع أجزاء من الجسم تحمل أشياء لا داعي لذكرها، حرب مع كتب ذات أوزان قد تكون أثقل منك، و في النهاية تأتي أنثى ممن لا يستطع ابتلاع ملعقة شطة و تلقبني بالأستاذ!، هل جئتك أطلب رقم عداد منظم الغاز؟، ها؟).

كانت تيماء تنظر اليه بارتياب رافعة حاجبيها أمام هجومه المفاجىء، ثم قالت بتوجس
(حسنا، هل أنت من اهل الصيت و ليس الثراء؟، لكن دائما الأطباء متعصبون للقب، أتفهم ذلك؟)
ضيق عينيه أكثر وهو يقول
(ما دمت تقولين هذا فأنت من أصحاب العقد تجاه كليات القمة، أنت خريجة كلية أدبية اليس كذلك؟)
قالت تيماء بعدم تصديق
(طبيب مثقف، و ينظر نظرة دونية الى الكليات الأدبية!، كم هذا مثالي!)
قال فريد رافعا يديه باستسلام.

(هل نظرت أي نظرات دونية!، لم يحدث، أنت فقط من شعرت بذلك لأنك معقدة)
قالت تيماء بثقة
(بل أنت من لديه هوس باللقب)
نظر اليها بطرف عينيه ثم قال متأففا
(معقدة)
فردت عليه بنفس ثقتها دون أن تبادله النظر
(مهووس باللقب)
قال فريد
(انت حقا شديدة الإستفزاز)
ضحكت تيماء بخفة ثم استدارت اليه لتقول بمودة
(و ما هو تخصصك عامة؟)
نظر أمامه منتفخ الصدر بفخر و هو يقول بثقة
(علم الوراثة)
قالت تيماء مهتمة.

(آه حقا! هذا رائع، لكن مجرد سؤال، بما أن تخصصك هو علم الوراثة، هلا تكرمت و اخبرتني ما هو الدواء الذي أعطيته لي منذ فترة؟، هل أنت مؤهل لذلك؟)
نظر فريد اليها بصمت قبل أن يقول
(انت تصرين على نظر إلى كبائع الحليب، صحيح؟، اطمئني أيتها المواطنة الأدبية النظرية، لقد أعطيتك مسكنا، أحمله في جيبي دائما للصداع و أحببت أن أتشارك واحدة منه معك)
مطت تيماء شفتيها و هي تقول.

(رائع أيها العلمي العملي، أنا حاصلة على درجة الماجستير في علم الأجناس البشرية)
نظر اليها لفترة، مضيقا عينيه ثم لم يلبث أن قال
(لست بعيدة عن الوراثة اذن)
ابتسمت تيماء و هي تقول
(أتظن ذلك؟، وراثة أم سلوك؟، بقيت سنوات أقارن بين الإثنين. )
قال فريد أخيرا بهدوء
(طالما اجتمعا اذن فهما ليسا بعيدين كل البعد)
ابتسمت تيماء له. لكن قبل أن تجيب، سمعت طفلا يدخل من الباب المفتوح خلفهما...

نظر اليهما ثم لم يلبث أن اعتذر بالألمانية و استدار ليغادر، الا أن تيماء نادته بذهول
فاقترب منهما بأدب، الى أن جذبته من يده ليجلس بينها و بين فريد، ثم قالت بذهول أكبر
(طفل أشقر!، ما اجمله!، ابن من هذا؟، هل جاء هنا بالخطأ؟)
أمسكت خصلتين ناعمتين كالحرير من شعر الطفل و هي ترفعهما مدهوشة
فضحك فريد ليقول
(لا ليس هنا بالخطأ، انه ابن ابن عمي، و امه ألمانية)
قالت تيماء و هي لا تزال مذهولة.

(شعره ناعم كالحرير، هل تتحدث العربية؟)
أجابها الطفل بأدب ووداعة
(نعم)
قالت تيماء بسعادة
(ما أجمله، و يتحدث العربية أيضا)
ضحك فريد وهو يقول
(ترفقي بالصبي، سيتساقط شعره من رأسه بسبب عينك الصافية التي لا تترك عافية)
نظرت اليه تيماء لتقول بغلظة
(أنا لن أحسده، ثم هل هذا كلام طبيب محترم؟)
قال فريد بصدق.

(بل هو كلام الخالة أم سعيد بصراحة حين كنت أنظر الى مزرعة الأرانب التي اكتشفت أنها تربيها تحت أحد السلالم في فناء الدار الجانبي، انها بكثرة بالمناسبة، و لهذا نطلق عليكن أرانب، لأنكن لا تفكرن الا في الإنجاب)
قالت تيماء بغيظ...

(الله أكبر، أنت فعلا من له عين حاسدة على ما يبدو، ثم أن الأرانب المؤنثة لا تنجب من نفسها، لابد أن يكون هذا قرارا مشتركا، أي أن هناك أرانب ذكور يتحملون نفس المسؤولية، ألست طبيبا؟)
عض فريد على شفته السفلى وهو يقول بتحذير مشيرا للطفل بينهما
(هشششش، هناك طفل جالس و لا يصح أن يستمع الى مثل هذا الحوار الخارج)
ضحكت تيماء و هي تعبث في شعر الطفل الجميل الأشقر، مستمتعة بنعومته على أصابعها...

هتف الطفل فجأة بصوت عال و بكلمة ألمانية...
(فأر)
فنظرت تيماء الى زاوية الشرفة الصغيرة التي تضم السلالم الجالسين عليها، لتجد أكبر فأر رأته في حياتها...
فقالت بسعادة
(فأر!، نعم انه فأر عملاق)
نظر فريد الى الفأر بحيرة، فسارع للإختفاء بين عدة أدوات و صناديق مرمية في الزاوية...
ثم قال لتيماء
(أتحبين الفئران؟)
نهضت تيماء من مكانها و هي تقول بنبرة متحمسة و عيناها تبرقان
(بل أحب اصطيادها).

اندفعت في اتجاه الصناديق و أخذت بعدهم واحدا تلو الآخر، و قد أمسكت عصاة في يدها، و فريد يقف خلفها مذهولا...
فرمت اليه عصاة أخرى و هتفت
(امسك هذه و استعد)
تابعت ابعاد الصناديق بحذر، الى أن ظهر الفأر جاريا بسرعة فصرخت تيماء
(حاصره يا فريد، لا تدعه يهرب)
كان فريد قد رفع العصاة عاليا و انقض على الأرض بعدة ضربات لم تصيب أيا منها الفأر وهو يجري من بين قدميه، بينما تيماء تتبعه جارية و هي تضحك بقوة هاتفة.

(لن أتركه، اقفز من على السور)
قفز فريد من فوق السور القصير بمهارة وهو يضح محاصرا الفأر الذي يجري في ممر ضيق أسفل السور، الى ان وصل لقدمي تيماء فتجاوزها بسرعة و هي تجري خلفه ضاحكة بينما فريد يصرخ
(ابتعدي عنه، هذه وظيفة أطباء محترمين، لن يناله غيري)
الا أن تيماء كانت قد رفعت العصاة لتضربه، لكن حجرا أبيض اللون كبير الحجم، سقط فجأة فوق الفأر بكل قوة ليسحقه تماما...

صرخت تيماء بهلع و هي تتراجع خطوة أمام هذا المشهد، لترفع وجهها بذعر...
حينها شعرت بالأرض تميد من حولها و هي ترى قاصي واقفا أمامها، ينظر اليه بعينين بهما حمم بركانية غاضبة...
عاري الصدر و يرتدي بنطاله الجينز المهترىء...
توقفت أنفاسها في رأتيها و هي غير مصدقة لتجسده أمامها فجأة بهذا الشكل...
و كأن السنوات لم تمر...
كأول مرة رأته بها، لكن الندوب زادت على صدره، و عيناه ازداد اشتعال الجمر بهما...

تراجعت خطوة اخرى و هي تلهث بصعوبة، بينما كان صدره يعلو و يهبط بسرعة، لا تتناسب مع جمود ملامحه وهو ينقل عينيه بينها و بين فريد الواقف خلفها...
ثم تكلم أخيرا بصوت رجولي جامد...
(هذه الفئران البرية شديدة الخطورة، قد تأكل طرف طفل رضيع)
ابتلعت تيماء ريقها و هي تنظر الى عينيه بصمت، وهو يبادلها النظر بسطوة دون أن تهتز حدقتاه، الى أن نادى أحد العمال عليه من خلفه قائلا
(لقد وصلت الفرس يا قاصي).

لم يتحرك على الفور، بل استمرت عيناه على اسرهما الناري لعينيها، قبل أن يستدير و يغادر بهيمنة...
وقفت تيماء مكانها لتجد أن تجري من رئتيها الى شفتيها لاهثة، حتى تحولت الى شهقات غير مسموعة الا لأذنها فقط، كهدير صاخب أوشك على أن يفجر طبلتهما المرهفة...
قال فريد من خلفها بهدوء
(هذا الرجل يروض فرسا في كل اجتماع عائلي، هل تحبين المشاهدة؟).

التفتت اليه تيماء بصمت مصدوم، ثم لم تلبث أن هزت رأسها قليلا لتقول بخفوت
(من هو؟)
هز فريد كتفه ليقول
(لا أعرف سوى أن اسمه قاصي الحكيم، و هو يأتي الى هنا كل اجتماع عائلي و يحظى بترحيب جدي)
ارتجفت شفتيها قليلا و هي تبتلع غصة بحلقها، بينما تابع فريد
(أتودين المشاهدة؟)
همست بسرعة
(لا، لا أريد).

لكن متى طاوع القلب قرار العقل و المسافة بينهما بضعة خطوات...
بضعة خطوات كانت تمشيها ببطىء و عيناها مسمرتان على السياج الخشبي المحيط بساحة مربعة واسعة...
كانت تتهادى كشخص متألم، متكاسل عن الوصول الى منبع ألمه...
وصلت الى حيث يتجمع الكثيرون، بعضا منهم رأتهم في البيت و هم من أفراد العائلة الضخمة...
و البعض الآخر من بسطاء الزي و الأعمال، يقفون مستندين الى السياج منتظرين ظهور الفرس...

و بالفعل، جائت مقطورة ضخمة، و تراجعت بظهرها، حتى وقفت عند بوابة السياج الخشبي...
و أمام عيني تيماء، نزل عاملين ليفتحا بابها الخلفي...
ليندفع منه فرس أسود اللون يلمع بوضوح، لم ترى أجمل منه بحياتها...
كانت قد وصلت إلى السياج و أمسكته بأصابع ترتجف و هي تراقب بريق هذا الفرس الحالك السواد تحت أشعة الشمس التي تميل للمغيب...
فرس عربي أصيل...
سلالته نقيه و شكله يسبي النظر...

راقبت تيماء كبرياء هذا المخلوق الرائع وهو يندفع منطلقا بقوة و كأنه يرفض القيد...
كان يدور حول السياج بسرعة قصوى، يصهل و يقفز بعنفوان جعل شراسته ترجف القلوب...
و بالفعل انتفض قلبها و بهت وجهها بشدة
علي الرغم من مدى جمال هذا الحيوان الراع الا أنها لم تصدق أن يكون هذا هو الفرس الذي سيروضه قاصي...
و كأنه سمع اسمه يتردد في ذهنها...

فرأته من بين الحشود، يسير بطوله الفارع الى أن وصل للسياج الخشبي فأمسك به ليقفز من فوقه بمهارة
و أصبحت الساحة تضم قاص و الفرس وحدهما...
حينها فغرت تيماء شفتيها و أصابعها تشتد أكثر على السياج و همست دون وعي
ماذا تفعل بنفسك يا مجنون؟، راقبته تيماء وهو يتحرك ببطىء، الى أن واجهته الفرس فانتفخت فتحتي أنفها و صهلت بصوت خافت مهدد...

بينما لم ينزل قاصي عينيه عن عيني الفرس، بل اشتدت نظرتهما النارية و انعقد حاجبيه في تحدي تفهمه تلك الكائنات جيدا...
ثم عاد ليتحرك ببطىء و هي تلتفت معه...
أشار بيده دون أن يبعد عينيه عن الفرس، فسارع أحد العمال راميا اليه لجاما جلديا، و سرج...

حينها صهلت الفرس عاليا و هي ترفع ساقيها الأماميتين و تستقر واقفة منتصبة على الخلفيتين بكبرياء مذهل، ارتجف قلب تيماء بعنف، و هي تراقب قاصي يفتح ذراعيه و كأنه يحاصرها ثم لم يلبث أن اقترب منها ببطىء ليلقى السرج على ظهرها، و محيطا عنقها بحبل طويل...
أخذت الفرس تصهل بقوة و ترفع ساقيها عاليا، الا ان الحبل كان قد انعقد في السرج و ربطه الى ظهرها بينما شد قاصي طرفه الطويل كي يقيد عنقدها...

صوتها كان عاليا يشق الصمت المهيب من حولها بينما صوت قاصي يهدر بقوة وهو يجذب طرف الحبل كلما فقزت و انتصبت واقفة
(اهدئي، اهدئي)
كان صوته ذو سطوة قوية جعلتها ترتجف أكثر، بينما صدره يلمع بعضلاته الضخمة تحت الشمس مشابها للفرس أمامه، عروق جسده و ذراعيه نافرة بقوة وهو يحارب الفرس...
و ساقيه مثبتتين في الأرض كجذور قديمة منذ الأزل...

لم يكن هو الشاب الذي رأته آخر مرة، بل كان رجلا قويا، صلب القامة و هائج الروح...
تلك الروح الهائجة لم تتغير أبدا على مدى السنوات كما لم ينطفىء الجمر بعينيه...
استمر النزال العنيف بينه و بين الفرس الى أن جذب عنقها بالحبل في حركة أعنف و هي تدور بجنون...
فغافلها و اعتلى السرج فوق ظهرها...
شهق المتواجدين و أولهم تيماء و هي ترى الفرس على الفور ترفع قائمتيها الأماميتين و ظنت أن قاصي يقع أرضا لا محالة...

لكن جسده بدا الصخر وهو يشدد ساقيه القويتين من حولها صارخا بها بصوت مفزع...
لكن الفرس لم تهدأ بل ظلت تجري بسرعة و تدور حول السياج، و تقفز على قائمتيها الخلفيتين و قاصي يمسك بلجامها و يهدر بها...
كانت عنيفة بدرجة لم تظنها في الخيول ابدا، و لم تدري أن عينيها كانتا تدمعان في تلك اللحظة و قلبها يصرخ مستميتا...
و في لحظة خاطفة، استقامت الفرس مجددا ثم قفزت منتفضة، حينها سقط قاصي عن ظهرها أرضا...

مما جعل الجمهور المتجمع يصيح عاليا، فضاعت صرخة تيماء المذعورة بين الصخب
(قاااااااااصي، احذر)
لكن حافر الفرس كان قد نزل بكل قوة ضاربا جانب قاصي الذي دار بسرعة متداركا نفسه، لكن الحافر خدشه خدشا بدا عميقا من شدة الدم الذي نزف منه خلال لحظات...
رفعت تيماء يدها المرتجفة الى فمها و هي تصرخ بذعر
(يالهي، فلينقذه احد، فلينقذه أحد).

لكن أحدا لم يرد عليها وهم يرون قاصي يقفز واقفا مجددا وهو يضع يده على جانبه النازف...
بينما دموع تيماء تشاركه النزيف...
في تلك اللحظة، شاهدت تيماء رجلا آخر يندفع خالعا كنزته و يقفز من فوق السور بطريقة تتناقض مع بعض الشعرات الفضية المنتشرة على جانبي رأسه...
و بسرعة الطيف كان يندفع ممسكا الحبل مع قاصي وهو يصرخ بصوت جهوري...
(اعتلي الفرس يا قاصي).

و بالفعل رغم ألمه نجح في اعتلائها، بينما الرجل الآخر يجذب الحبل بكل قوته...
و الفرس تحاول بكل عنفوان القفز واقفة، لكن هذا الرجل كان يجذبها بقوة من حديد، و قاصي يميل عليها ممسكا باللجام بكلتا قبضتيه...
كان الرجل الآخر شديد القوة و البأس، ذراعيه كالحديد وهو يجذب الفرس
مما جعلها تحاول عشرات المرات في التحرر دون جدوى، فقد بدت في مواجة زوجين من الثيران الهائجة...
أحدهما يقيدها و الآخر يعتليها...

و طال بها الوقت و الوهن الى أن أبطأت حركتها، تدريجيا و هي تلهث بعرق أبيض، الى أن توقفت و أخفضت رأسها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة