قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والعشرون

لكن الصدمة الثانية أتت أسرع مما تتخيل...
و كأن كل الخيوط كانت تنسج خطة مغايرة تماما لمستقبلها...
فقد سمعت بعد يومين تحديدا، جلبة عالية في جناح جدها، هتاف غاضب و تهديد...
أوشكت على أن تستدير و تبتعد...
لكن اسم راجح طرق أذنها بقوة بصوت جدها، و كان يبدو عنيف الغضب...
حينها لم تستطع سوار أن تجبر نفسها على الابتعاد، فاقتربت من باب الجناح. ووضعت اذنها عليه ترهف السمع...

حينها انطلق صوت جدها مجددا وهو يخاطب ابنه عمران والد راجح...
(ذلك القذر ابنك، لن يهدأ و لن يتوقف عن الدنس أبدا، انظر الى تلك الفضيحة الآن و أخبرني كيف لنتصرف)
ارتعد قلب سوار و هي تشعر بشيء مر في حلقها، سيء، سيء جدا...
ثم انطلق صوت عمران يقول بغضب
(يا حاج انها مجرد فتاة مرتزقة، لا تريد سوى بعض القروش، لنلقي بهم اليها و ننهي الامر)
هدر سليمان الرافعي وهو يضرب الأرض بعصاه قائلا.

(فتاة مرتزقة ترفع ضد ولدك دعوى تتهمه فيها باغتصابها؟، و الأدهى أنها حامل منه؟)
شعرت سوار فجأة بأنها على وشك السقوط أرضا من هول ما سمعت، حتى أن قلبها توقف عن نبضاته و بات وجهها شاحب يحاكي وجوه الموتى...
بينما قال عمران منفعلا
(و هذا هو الدليل يا حاج، هل لو كان قد اغتصبها فعلا ستنتظر كل هذا الوقت الى أن تتأكد من أنها حامل ثم ترفع دعوى؟، أم كانت لتتجه الى الشرطة و الطب الشرعي في اليوم التالي مباشرة).

هدر سليمان بعنف
(لا شك لدي في أنها فتاة رخيصة، استغفر الله)
زفر بقوة وهو يحاول منع نفسه عن قول المزيد، ثم أخذ نفسا خشنا ليقول مجددا و بصوت أكثر عنفا
(تلك الفتاة حامل من ابنك أم لا؟، و أسرتها تصر على سير الدعوى و هي ليست أسرة مرتزقة كما تفضلت بالقول بل اسرة لها شأنها، و على استعداد لتوصيل قضيتها الى الملأ لو اقتضى الأمر)
قال عمران بعنف
(و هل تكون تلك أسرة محترمة التي تقبل بفضح ابنتهم على الملأ؟).

ضرب سليمان الأرض بالعصا مجددا وهو يهدر
(ليست قضيتي الآن إن كانت أسرة محترمة أم لا، المهم الا يطال اسم الرافعية مثل تلك الفضيحة)
صمت سليمان وهو يتنفس بخشونة...
بينما كانت سوار مستندة الى الباب بكفيها، وجهها صامت. لا تعبير له، حتى انها لم تمتلك دمعة لتذرفها...
لقد خسرت الرهان قبل حتى أن يبدأ...
حين تكلم سليمان أخيرا، قال بصوت صارم، جامد.

(ولدك منذ صغره وهو يبحث عن كل ما هو رخيص، و ستظل تلك عادته حتى مماته، كنت سأهديه بالذهب، بينما هو يمرغ يديه في الوحل منتشيا)
ساد صمت كئيب مجددا، قبل أن يقول سليمان اخيرا
(آخر كلمة لدي يا عمران، سنرضخ لأسرة هذه الفتاة و ليتزوجها ابنك لبعض الوقت، و ليبقى هذا الأمر سرا عن باقي عائلتنا، يكفي فقط أن تحصل تلك الفتاة على اب لطفلها في عائلتها هي).

وجدت سوار نفسها تبتعد ببطىء عن الباب، و تسير مثقلة الكتفين عبر الرواق القديم...
شعرها الطويل يتمايل مع عبائتها الهفهافة، بينما وجهها الأبيض شاحب و فاقد للحياة...
راجح الذي احبته سيتزوج غيرها، و ستكون هي زوجته الثانية بأمر العائلة...
لأن هذا هو قانون العائلة، و قانون سليمان الرافعي...
و عليها أن تلتزم به...
وقف سوار مكانها للحظة، و هي تسمع صوت جناح جدها يفتح خلفها، فالتفتت تنظر اليه بصمت...

وهو أيضا بدا و كأنه قد تفاجأ بوجودها...
فوقف ينظر اليها طويلا و هي تبادله النظر بصمت و قد علم جيدا أنها سمعت كل الحوار بينه و بين عمران...
بدت علامات التفكير العميق المثقل بالهموم على وجهه، وهو ينظر إلى عينيها جامدتي التعبير...
الى ان ابتعد اخيرا ببطىء و نزل السلم...

وسوار واقفة مكانها تنظر في اثره بصمت، قبل أن تجري الى غرفتها و تصفق بابها لتستند اليه و هي تتنفس بعنف، بينما عينيها على نفس الجمود، و القسوة...

انتهت مشكلة راجح و تمت مداواة الأمر في الخفاء، و اصبح له ابن في الثانية من عمره يعيش مع أمه...
لكن هي، لم تتداوى جراحها أبدا...
فقدت توفت والدتها فجأة، و لحق بها والدها حزنا عليها...
و تركاها وحيدة فجأة، بعد أن كانت محاطة بكامل دعمهما...
لقد مرت ثلاث سنوات و هي ترفض مجرد الكلام في موضوع الزواج، ترفض حتى الحياة بعد موت والديها...
الى أن أصبح الامر خطيرا، و باتت مهددة...

أن ترفض الزواج لمدة ثلاث سنوات كاملة لهو أمر منتقض و لم يكن جدها ليقبل به أكثر من ذلك...
موت والدها هد قلب سليمان الرافعي، و أوهنه، الا أنه لم يوهن عزمه و قدرته على قيادة شؤون تلك العائلة...
لذا حين بدا الكلام في أمر زواجها بإصرار هذه المرة، ظنت أن لحظة الحرب قد حانت و أنه سيجبرها على الزواج من راجح قسرا، لذا استعدت تشحذ كل أسلحتها...
لكن في الاجتماع العائلي...

أمسك سليمان بيدها و نظرت هي الى عيني راجح الملونتين بنشوة الأنتصار...
ثم قال بصوت عال يسمعه الجميع
(اختاري يا سوار بين ابني عميك، سليم و راجح)
لن تنسى أبدا نظرة الذهول على وجه راجح وقتها، كانت صدمته أكبر من صدمتها...
أما هي فنظرت الى سليم بصمت...
سليم الذي أخذ يحاول اقناع جده مرارا بقبول زواج ليث من سوار...
أو على الأقل ليتركها دون أن يجبرها على الزواج دون ارادتها...

لكن سليمان كان دائما يستمع الى سليم صامتا، ينظر اليه و يسمع منه دون أن يرد...
الى أن خيرر سوار بين سليم و راجح، و لا قرار ثالث...
و حينها وجدت أنها تريد سليم...
ليس هربا من راجح، و إنما نظرة الى ملامح وجهه المتعاطفة اليائسة، جعلها تدرك كم باتت وحيدة بعد فقد والديها، و كم تحتاجه...

انتفضت سوار من سيل ذكرياتها على صوت صراخ راجح وهو يهدر بجنون من اعلى السلم...
خارجا من جناح جده
(سأقتله، سأقتله)
ذعرت سوار و قفزت من مكانها و هي تراه نازلا درجات السلم جريا كالثور...
وجههه أحمر و عيناه تندلع بهما براكين من الهمجية...
لم يرها أو حتى يلمحها، بل اندفع خارجا من باب الدار كالمجنون، أمام أعين الخادمات المذهولة...

رفعت سوار عينيها المرتعبتين الى جدها الذي كان واقفا على السلم ينظر في اثره صامتا، مثقلا...
فجرت اليه سوار و هتفت برعب
(هل أخبرته بأمر قاصي يا جدي؟، هل يقصده؟)
لم ينظر سليمان اليها، بل ظل واقفا مكانه، ناظرا الى باب الدار المفتوح على مصرعيه...
ليقول بخفوت
(عليه أن يحل الأمر مع أخيه، كان سيعلم في أي وقت)
هتفت سوار بقلق
(سيقتله يا جدي، سيقتل أخيه)
نظر اليها سليمان ليقول بعد فترة بهدوء.

(قاصي الحكيم، قادرا على حماية نفسه يا سوار، لا تقلقي)
نظرت سوار بحزن الى جدها و هي تقول بصوت قوي
(قاصي الرافعي يا جدي، الم يئن الأوان كي ينال حقه!)
تنهد سليمان وقال بصوت لا يحمل تعبير
(هذا الحق لا أملكه أنا يا سوار، لا تحاكميني يا ابنتي على أخطاء أولادي، كفاني منهم و من أفعالهم، أصبحت أكبر من أن أتحمل ذنوبهم)
و دون انتظار الرد، ابتعد سليمان عنها و هو يسير، معتمدا على عصاه...

و قد بدا في حاجة اليها للمرة الاولى...

انها احدى تلك المرات النادرة التي يدخن بها سيجارة...
لكنه الآن يفضلها على أن يشعل النار في شيء ذو فائدة...
وقف ليث في شرفة منزله ينظر الى الأراضي الممتدة أمامه، و عقله و قلبه لا يرحمان لوعة تكبتها رجولته...
زفر موجات من دخان رمادي ناعم، ثم همس بغضب
(ابتعدي عني ايتها العينين العسليتين، انتما دخيلتين)
حتى وهو ينطق بالكلمة، اراد الضحك عاليا. ساخرا من كذبه...
دخيلتين؟
رباه، من تخدع انت يا ليث؟

انهما من سكان هذا القلب منذ قديم الأزل، ليرحل الجميع و تبقى المالكتين الرئيسيتين...
العينان العسليتان...
زفر موجة اخرى من موجات دخان السيجارة، لقد حذره الطبيب في آخر زيارة له من السجائر، و منعه عنها تماما...
الا ان الكبت في داخله اليوم كان اكبر من احتماله...
عليه الرحيل من هنا...
سحب ليث نفسا آخر من سيجارته وهو يفكر جديا...

عليه الرحيل من هنا، ليأخذ زوجته و يذهب بها عن هذا المكان المغوي، الأرض التي تحمل ساحرته على سطحها، تتهادى بالقرب منه دون ان يجرؤ حتى على النظر اليها...
نعم هذا هو القرار الصائب...
علي الأقل سيريح اسرته من شرور ميسرة، و هو كفيل بأن يرد اليها عقلها...
باللين مرة، و بالشدة مرة...
سيلهيه هذا قليلا عن التفكير بعذابه المتبقي من حياته...

انتبه ليث من شرفته الى احدهم، يسير متجها الى بوابة بيته، يقود فرسا تبدو مصابة و هي تعرج قليلا...
ضيق ليث عينيه وهو يتبين هوية القادم، ثم همس بحيرة
(قاصي!)
بالفعل كان هو...
استدار ليث ليخرج اليه مسرعا...
كان قاصي يبدو غريبا، متعبا، لكن اشد صلابة...
مصابا، لكن جسده القوي يأبى الوقوع...
عيناه، عيناه غريبتين للغاية...
وصل ليث اليه وهو يقول بقلق
(مرحبا يا قاصي، اي رياح القت بك الى هنا في هذا الوقت من الصباح؟).

رفع قاصي وجهه الغير حليق الى ليث، و قد بدت ملابسه مشعثة و شعره متناثر قبل أن يقول باجهاد
(الفرس مصابة يا ليث، اعتني بها رجاءا)
سارع ليث بالتلويح الى احد رجاله و أمره بمهاتفة الطبيب على الفور و اقتياد الفرس لترتاح أرضا...
قال قاصي بخفوت
(سأرحل أنا الآن، شكرا لك)
الا أن ليث أمسك بذراعه وهو يقول بصرامة
(لن تذهب الى مكان قبل أن تخبرني عما أصابك؟، ماذا بك؟).

رفع قاصي عينيه الى عيني ليث ليقول بهدوء جامد بلا حياة
(تم فتح الجرح المحمل بالصديد و التقيح)
ارتفع حاجبي ليث و اتسعت عيناه وهو يقول مشدوها
(هل واجهت جدك؟، متى؟، لم تخبرني أنك ستقدم على ذلك؟)
قال قاصي وهو ينظر الى البعيد
(هناك ما أجبرني على التعجيل بالأمر، لقد انتهى على كل حال)
قال ليث بقسوة
(و ما هو مصير عمران الآن؟، أتخيل أن سليم قد نجح في اثنائك عن أخذ قصاصك منه)
رفع قاصي وجهه الى ليث ليقول بخفوت أجش.

(لم يكن سليم يا ليث، لم يكن سليم أبدا، اكتشفت أن هناك ما يجعلني اريد الحياة، أو على الأقل المتبقي منها)
عقد ليث حاجبيه، كان للتو يفكر في الهرب بالمتبقي من حياته...
و ها هو قاصي مثله، الا ان الفارق هو ان قاصي يريد أن يظفر بهذا المتبقي...
قال ليث بشرود
(و ما هو هذا الذي جعلك تتنازل عن ثأرك؟)
سحب قاصي نفسا متعبا وهو يقول
(فرصة، فرصة للحياة القيت على باب بيتي ذات يوم، فكيف اتركها الآن؟).

ترنح قاصي قليلا، فسارع ليث للامساك بذراعه وهو يقول بقوة
(قاصي انت أيضا تحتاج الى رعاية، أنت مصاب و تعاني من تأثير ما حدث، ادخل معي للبيت و بعدها ستخبرني عما آل اليه الأمر)
أوشك قاصي على أن يمتثل الى اوامر ليث، الا ان صوت رسالة وصلت هاتفه. جعلته يتوقف و يفتحها
و يقرأها
اعذرني يا قاصي...

رابطة الدم بيني و بين تيماء جعلتني اخضع لها حين ترجتني طلبا للمساعدة، لم استطع أن أساهم في احتجازها، لذا حجزت لها تذكرة في القطار، و أرسلت لها رسالة كي تذهب الى المحطة، و هي على الأغلب هناك الآن بعد أن اوصلها عبد الكريم قبل أن يراها جدي، أنا أخبرك فقط كي تعرف مكانها لو أردت أن تكلمها على انفراد دون ان تكون محتجزة ضد ارادتها.

أما أنا فحاليا على متن الطائرة متجهة الى المدينة، أنا حقا لم اقصد الغدر بك، لكن هذا هو الصواب، اراك لاحقا...
ملحوظة: ترفق بالفتاة، فهي لا ينقصها سوى فرقعة اصبعين و ستسقط عند قدميك
مسك
قرأ قاصي الرسالة مرتين بجنون قبل أن يهتف بعنف
(تبا، تبا)
التفت الى ليث المتعجب ثم هتف به
(ليث احتاج الى سيارة أو فرس، أي وسيلة أصل بها الى محطة القطار)
أخرج ليث مفاتيح سيارته من جيبه و القى بها الى قاصي قائلا بقوة.

(هل أنت في حالة تسمح لك بالقيادة؟)
هدر قاصي بقسوة وهو يبتعد مندفعا
(أنا في حال يسمح لي باقتناص فرصتي الوحيدة في الحياة، و لو انتزعتها انتزاعا من براثن الاسد)
لم يكن ليث يعرف ما يقصده قاصي تماما...
لكن عبارة قاصي الهادرة، جعلته يشعر بالالم، و الرغبة في انتزاع فرصته في الحياة هو الآخر...
و الهرب بها بعيدا، بعيدا جدا...

استندت تيماء برأسها الى زجاج نافذة السيارة، و هي تراقب الأراضي الممتدة و التي تسابقها جريا و كأنها تحاول أن تمنعها من الرحيل...
لكم اختلف حالها اليوم عن الأمس!
كانت أمسك تعرف جيدا ما تريد، مصممة على أخذ ما جائت من أجله ثم الرحيل سريعا بقوة و اتزان عملت على بنائهما طويلا...
أما الآن فهي راحلة، لكنها راحلة خالية اليدين، مجوفة الروح...
و كأنها لعبة من قش، تتقاذفها الرياح...

لقد قلب مرآى قاصي كيانها، و أغرقها في طوفان من الذكريات و الشوق...
شهقت باكية فجأة و هي تهتف بغضب من بين دموعها الغزيرة
(تبا لك، تبا لك، تبا، تبا)
ارتفع حاجبي عبد الكريم بصدمة قبل أن يهتف بصوت خشن
(لماذا؟، ماذا فعلت لك؟)
نظرت اليه عبر المرآة و هي تبكي و تشهق بقوة، تهز رأسها قليلا بعجز...
قبل أن تهتف من بين نشيجها اليائس.

(سأشتاق اليك يا عبد الكريم، ليس من العدل أن تعلقني بك لمرة واحدة ثم أرحل و لا أراك مجددا، سأظل أتخيل دوما أي علاقة طيبة كان من الممكن أن تجمعنا يوما)
دفنت وجهها بين كفيها و اخطرت في بكاء حاد، بينما عبد الكريم ينظر اليها في المرآة بتوجس...
ليقول باستياء
(لماذا يتركك أهلك تسافرين بمفردك هكذا؟، أنت فتاة مزعزعة المشاعر)
رفعت وجهها الأحمر اليه و هي تقول شاهقة بعنف من بين بكائها الحار.

(أنا مزعزعة يا عبد الكريم؟، هل تراني مزعزعة؟، أنا لم اكن مزعزعة يوما، و ها أنا سأرحل و اترك لك هذا الانطباع)
عادت لتبكي بقوة و هي تطبق جفنيها بشدة، تهمس بعذاب مضني
(تبا لك، لماذا رأيتك؟، لماذا رأيتك؟)
قال عبد الكريم بصبر
(هذا نصيب يا ابنتي، نصيب أن أراك و ترينني)
فتحت عينيها المتورمتين و هي تنظر الى عبد الكريم، بينما اخذت شهقاتها تنحصر قليلا، شيئا فشيئا. الى ان تحولت الى تنهدات متعبة رقيقة...

رفعت تيماء يدها لتمسح وجنتيها بظاهر كفها...
ثم قالت بشرود
(نعم، هو نصيب، و نصيبي الابتعاد، فهناك من ينتظرني و أنا اكثر من راضية به، انا راضية به)
بقت ترددها طوال الطريق الى المحطة
انا راضية به، أنا راضية به، بينما عبد الكريم يهز رأسه متمتما
(لا حول و لا قوة الا بالله، أعانك الله على عقلك)
وصلت تيماء الى المحطة اخيرا، فأخرج لها عبد الكريم حقيبتها وهو يقول بخشونة.

(انها المرة الأولى التي يعطي الحاج سليمان اوامره للسيدة مسك كي تخبرني بها!)
رفعت تيماء يدها الى فمها الفاغر باعتذار، ثم قالت من بين دموعها
(أنا آسفة يا عبد الكريم، انا حقا آسفة، لم أقصد أذيتك أبدا!)
عقد حاجبيه وهو يقول
(أي أذى؟، هل عدت للتخاريف من جديد؟)
عضت تيماء على شفتها و هي تهمس باختناق
(ستعرف حين تعود، أنا حقا آسفة)
زفر عبد الكريم بقوة و ترك لها الحقيبة ليقول
(الى اللقاء يا سيدة تيماء).

نظرت تيماء من بين دموعها الى الحقيبة الملقاة ارضا، ثم الى عبد الكريم الذي استقل السيارة و بدا في تحريكها، فقالت تيماء بخفوت
(آنسة يا عبد الكريم، آنسة، ماذا عن الحقيبة؟، ألن تحملها من باب التعاطف حتى؟)
الا ان عبد الكريم كان قد ابتعد بالسيارة بالفعل، فقالت تيماء
(كم سأشتاق اليك يا عبد الكريم!، أنت شخص نادر جدا)
امسكت تيماء بمقبض حقيبتها و جرتها خلفها باعياء و هي تشعر بألم لم يهدأ منذ الأمس...

ناظرة الى البعيد، عائدة الى حياتها...
هربا من ماضيها...

أوقف السيارة في مكان عشوائي...
ثم خرج منها مسرعا، ليجري مندفعا الى المحطة بحثا عنها في كل اتجاه بيأس و غضب جارف، حارق...
الى أن رآها!
وقف قاصي يلهث وهو يراقبها مكانها من بعيد، مشدوها...
و كأن السنوات لم تمر أبدا...
و كأنها ابنة الرابعة عشر و التي اعتادت الهرب بين الحافلات و القاطرات من مدينة الى أخرى...
استند قاصي الى أحد الأعمدة وهو ينظر اليها بملامح غريبة...
يحاصرها بكل تفاصيلها...

لقد كبرت، عليه أن يعترف بذلك...
نضجت و أصبحت شابة أنيقة، أكثر رقيا...
فستانها الأسود كان شديد الجمال عليها، ووشاحها الأحمر يظهر هذا الوجه، هذا الوجه الذي لم يتغير كثيرا...
شرودها كان بديعا وهو يكمل تلك اللوحة الساحرة...
تلك الشابة الجذابة التي تجلس مكانها بهدوء شارد، كان هو السبب يوما في نحرها بكل قساوة قلب...
اغمض قاصي عينيه وهو يتذكر منظرها و ألمها...
صراخها باسمه...

تلك اللحظة التي انزلها من قيودها كالذبيحة لتسقط مباشرة بين ذراعيه...
وهو يضمها الى صدره بقوة صارخا بجنون، و دمعة تفلت من عينه لتسقط على وجنتها...
ابتلع قاصي تلك الغصة الشاطرة لحلقه، و فتح عينيه لينظر اليها مجددا...
ضاقت عيناه بشراسة وهو يهمس
(من الذي يجرؤ على أخذك مني بعد كل الذي كان؟، سيكون تعيس الحظ من يحاول فقط الاقتراب منك).

رآها تتأوه بخفوت من بعيد. فتسائل إن كانت ذكرى مؤلمة قد اجتاحت عقلها في تلك اللحظة...
كانت بتبدو حزينة جميلة...
بينما يدها على جانبها اسفل معدتها، جعلها مغرية، بل شديدة الإغراء...
حتى في ملابسها المحتشمة...
شعر بالغضب يتفجر داخله، وهو يستقيم ليقترب منها بخطوات مسرعة...
الى ان وقف امامها مباشرة، و دون مقدمات قال بصوت صارم أجش
(انهضي).

لم تصعق لصوته الأجش، بل ظلت على حالتها و هي ممسكة بجانب بطنها الأيمن، و حاجبيها منعقدين...
أعاد قاصي أمره بلهجة أكثر شدة
(انهضي و تعالي معي دون فضائح)
لكن تيماء انحنت الى الأمام قليلا و هي تطبق جفنيها بشدة، و تعض على شفتها السفلى...
ثم هتفت فجأة بصوت مختنق
(قاصي، أنا أتوجع بشدة، انجدني)
اختفت الصرامة عن ملامحه في لحظة و هتف بقلق
(تيماء ماذا بك؟).

ازداد انحنائها الى الأمام و هي تكتف ذراعيها فوق بطنها هامسة باختناق
(جانبي الأيمن يؤلمني، كطلقة رصاص)
هتف قاصي بقوة
(انهضي معي، انهضي ايتها الغبية)
نهضت تيماء بصعوبة، لكن ما أن وضعت ثقلها على قدميها حتى صرخت ألما بقوة و سقطت غير قادرة على الوقوف...
الا أن قاصي كان أسرع منها وهو يتلقفها بين ذراعيه صارخا
(تيمااااء)
وضع ذراعه تحت ركبتيها ليحملها بقوة و يضمها الى صدره...

حينها لم يتمالك نفسه من الهمس بذلك الشعور الذي سرى في جسده بغدر مضني
(تيمائي المهلكة، ها قد عدت الى وطنك حبيبتي).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة