قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والعشرون

اقترب أمجد من نافذة مكتبه وهو يراقب السماء الرمادية ذات الغيوم المتراكمة...
يبدو أنها ستمطر اليوم، على الرغم من الهدوء السائد خارج زجاج النافذة، الا أنه كان من الواضح بأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة...
نظر الى ساعة معصمه مبتسما برضا، ثم قال من بين شفتيه المتسليتين وهو يرتشف من كوب قهوته
(يبدو أن الآنسة ألمظ لن تلتزم بموعدها، كنت أتوقع هذا من فظة الروح و اللسان).

ابتسم رغم عنه اكثر وهو يرتشف القهوة مجددا بتمهل، مراقبا السماء بغيومها الجذابة...
ربما كان يشعر ببعض الندم بسبب قسوته في الكلام معها هاتفيا...
الا أنه لا يتقبل أبدا ذلك النوع من النساء سليطات اللسان، شديدات الغرور مثلها...
لقد أراد أن يتأكد من أقوال العاملين هنا بشأن صلافتها، و لم يحتاج لأكثر من اتصال هاتفي واحد كي يتأكد من الأمر و يقر به...

صوتها الموسيقي، يشوهه غرور مريض، و كأنها تملك الكون بأسره، و سكانه ما هم الا رعاياها...
لكن على الرغم من ذلك!
كان الفضول بداخله هائجا لرؤيتها...
مسك سالم الرافعي، تلك التي تعاني كرامتها من جرح ليس ببعيد، لم يندمل بعد...

من المؤكد أنها لا تعرف بأنه قد عرف أدق أسرار حياتها الخاصة بالصدفة البحتة...
و منذ أن سمع بتصرفها من بين شفتي غدير، ذلك التصرف المترفع الجدير بالإعجاب وهو يرغب في رؤيتها...
و بالفعل حين سمع صوتها في الهاتف، تلائمت نبرته جدا مع ذلك التصرف في خياله...
و اسمها، اسمها اشد ملائمة للصوت و التصرف المترفع...
فكيف تكون الصورة اذن؟
هل يتجرأ على القول بأن الألم بينهما واحد؟

أم أن خاتم الخطبة الذي كان يزين أصبعها جعل الجرح اعمق و اقسى؟
رفض أن يدعي الألم...
فليس لمجرد أن أول امرأة تجذبه و تستميل عاطفة الحماية بداخله قد خذلته بمنتهى السرعة و دون ان تطرف عينيها، فسوف يجرحه ذلك!

لفت نظره شيء، جعله يخفض عينيه الى أسفل دون سبب معين...
فهناك أمام باب الشركة، تتقدم شابة طويلة، تتحرك بخيلاء واضح، و على الرغم من أن بينه و بينها مسافة ليست بقصيرة...
الا أنه استطاع التعرف اليها...
كانت نفس الشابة التي قابلها أمس الأول...
ضيق أمجد عينيه وهو يدقق النظر بها جيدا، نعم إنها هي دون شك...
لن يخطىء طريقة سيرها، فقد كانت مميزة و كأنها تعبر الحواجز فقزا...

شعرها الناعم كان مجموعا هذه المرة في عقدة أنيقة خلف أذنها، و كانت ترتدي حلة أخرى...
أكثر أناقة، و أكثر احتشاما...
اختفت من أمام عينيه و هي تدخل الى البناية...
فانعقد حاجبيه بضيق غير مسبب، و خلال لحظتين، لحظتين فقط وجد نفسه يضع كوب قهوته على اطار النافذة العريض و يسرع الخطا خارجا من مكتبه...
لا يعلم الى أين يتجه!
الا أنه أقنع نفسه بأنه يشغل وقته ليس الا، انتظارا لحضور المبجلة ألمظ...

ساقته قدماه الى المصعد، يراقب صعوده فضغط زره منتظرا...
و حين طال انتظاره، زفر بنفاذ صبر ليستدير متجها الى السلالم ينوي نزول الثلاث طوابق على قدميه!

وقفت مسك أمام المصعد و هي تزفر دون صوت، متأملة أرقامه المضيئة و هي تنتظر وصوله...
بداخلها غضب مكتوم تجاه ذلك الشخص الهمجي الذي توشك على مقابلته خلال دقائق...
فبعض الاشارات تدل على أن البدايات غير مشرقة بالتفاؤل...
لا تصدق أنه قطع عطلتها و أحضرها الى هنا قسرا، رأسا على عقب...
والله لولا اهتمامها ببداية عملها هنا، لما كانت انصاعت له ولو للحظة...

تأففت مجددا و هي تكتف ذراعيها، قبل أن تسمع وقع خطوات عفوية خلفها...
فتح المصعد أبوابه في تلك اللحظة فاستدارت تلقائيا و هي تقول بخيلاء
(عفوا، أنا لا أستقل المصعد مع أحد، يمكنك الإنتظار)
الا أنها صمتت بعد أن رأت فتاة تصغرها سنا، تنظر اليها شزرا...
فرمقتها مسك من قمة رأسها ذو الشعر المجموع أعلاه بفوضوية، و حتى أصابع أقدامها في حذائها الارضي الرياضي، ثم قالت أخيرا بلا تعبير
(حسنا، يمكنك استقلاله معي).

دخلت أسماء خلفها و هي تهز رأسها بعدم تصديق من مدى عجرفة تلك المرأة...
وقفت بجوار مسك التي كانت تنظر الى أرقام المصعد باتزان، رافعة ذقنها بتلقائية...
و كأنها قد ولدت مرفوعة الذقن!
فمنح ذلك أسماء الفرصة كي تتأملها مليا بحرية، قبل أن تقول ببرود
(أشكرك على التنازل في السماح لي بإستقلال المصعد معك!)
رمقتها مسك بنظرة مبهمة بطرف عينيها. قبل أن تعاود النظر الى أعلى قائلة بلامبالاة
(لا بأس).

ارتفع حاجبي أسماء بذهول مستاء أكثر و هي تضرب كفا بكف...
بينما أغلق المصعد أبوابه في نفس اللحظة التي وصل بها أمجد اليه...
لم يدرك بانه ما أن رأى انغلاق أبوابه حتى أسرع الخطا أكثر و بدا مهرولا...
و لم يلمح سوى جانب من وجهها مرفوع الذقن، تلك الشابة التي رآها مرة واحدة!
ثم أخفى الباب وجهها بالكامل...
وقف أمجد مكانه يراقب صعود المصعد الى الطابق الثاني. أسفل مكتبه...

فعقد حاجبيه وهو ينظر حوله متفاجئا. قبل أن يقول بتعجب
(ماذا تفعل هنا بالله عليك يا أمجد؟)
زفر بنفاذ صبر وهو يتجه الى السلم كي يصعد، الى الطابق الثاني!

كانت أسماء تراقب مسك منعقدة الحاجبين...
تقارن بين طولها الذي يكاد أن يصل الى كتف الوافدة البغيضة، و بين الكعب الذي ترتديه امعانا في اظهار طولها بغرور...
نظرت اليها مسك فجأة بسرعة جعلت أسماء تجفل متراجعة، قبل أن تقول مسك ببرود
(ماذا؟)
انعقد حاجبي أسماء و قالت بارتباك
(ماذا تعنين؟)
قالت مسك بنفس البرود دون أن ترحم ارتباك الفتاة المسكينة.

(أنت تحدقين بي منذ أن أغلق المصعد أبوابه!، هل أنت معجبة بي أم أشبه شخصا تعرفيه؟)
احمرت وجنتا أسماء بشدة و ازداد ارتباكها بدرجة مثيرة للتعاطف، الا أن هذا الإرتباك دفعها لأن تهتف بفظاظة
(لا هذا و لا ذاك)
قالت مسك دون أن تجفل أو تغضب
(اذن ألم تعلمك والدتك أنه من الوقاحة التحديق في الناس بهذا الشكل؟)
زمت أسماء شفتيها كالأطفال، و بات تنفسها ساخنا متسارعا و بصوت خشن، قبل أن تقول بعنف.

(هل من الخطأ أن أنظر الى المرأة الجديدة التي ستعمل معنا؟)
هنا تسمرت مسك مكانها، و ارتفع حاجبيها و هي تحدق بأسماء، لتميل اليها فجأة واضعة اصبعها على طرف أذنها تقول بعدم استيعاب
(ال، ماذا؟، عفوا أعيدي ما قلته مجددا!)
ارتبكت أسماء أكثر و تراجعت الى أن التصقت بمرآة المصعد، و قد بدأت تشعر بالخوف من طول مسك...
لكنها قالت بخفوت مضطرب
(المرأة ال)
قاطعتها مسك لتقول بصوت أكثر ترفعا...

(اذن فما سمعته صحيحا!، المرأة الجديدة؟)
عقدت أسماء حاجبيها و هي تنظر حولها بحثا عن مهرب. الا أن مسك بدت و كأنها تحاصرها من كل مكان بطولها الأنيق، فقالت حين يأست من الهرب
(ألست امرأة؟، بماذا أخطأت؟)
حاولت الهرب الى زاوية أخرى، الا أن مسك لم تفعل أكثر من وضع قبضتها على مرآة المصعد فمنعت عليها طريق الهرب و هي تقول مشددة على كل حرف.

(سيدة، اللفظ الذي تبحثين عنه هو سيدة، و هو ايضا ليس مناسبا للعمل، لكن الى أن أعرف طبيعة توظيفك هنا، فسوف اخبرك باللقب المناسب الذي تخاطبينني به)
ارتفع حاجب اسماء بذهول و هي تراقب مسك بتوجس، قبل أن تبتعد الأخيرة بهدوء آمر
(اخرجي)
ابتلعت أسماء ريقها و هي تقول بعدم فهم
(ماذا؟)
قالت مسك بابتسامة رزينة
(لقد وصل المصعد الى طابقك).

انتبهت أسماء الى أن المصعد قد فتح أبوابه بالفعل، فرمقت مسك بنظرة مستاءة منفعلة قبل أن تندفع خارجة منه، ليغلق أبوابه مجددا...
حينها لم تتمالك أسماء من ركل الباب المعدني بقدمها و هي تهتف بحنق
(عسى أن يسقط بك المصعد، و يحتاروا في جمع أشلاء جثتك)
الا أن الركلة كانت شديدة القوة على حذائها الرياضي الخفيف، فصرخت متأوهة و هي تقفز على قدم واحدة
(تبا، تبا، تبا).

كان أمجد قد وصل الى تلك اللحظة ووقف يراقب أسماء بارتياب و هي تقفز على قدمها و تدور حول نفسها...
فقال ببطىء
(أسماء!، هل أنت بخير؟)
فقزت أسماء و هي تعتدل مستديرة اليه على الفور لتقول مرتبكة محمرة الوجنتين
(صباح الخير سيد أمجد، أنا آسفة، لم أرك)
ابتسم أمجد و أشار بكفه قائلا
(ماذا كنت تفعلين للتو؟، هل هو طقس صباحي من طقوسك اليومية؟)
احمرت وجنتاها أكثر و قالت مطرقة الرأس
(بل كنت أصب لعناتي على أحدهم).

ارتفع حاجبي أمجد في تفهم مبالغ به وهو يقول محاولا كتم ابتسامته...
(آه و من هو تعيس الحظ الذي تجرأ على اغضابك؟)
ضمت أسماء قبضتيها فجأة و هي تقول متوسلة
(سيد أمجد، أرجوك لا نريد المدعوة مسك ابنة سالم الرافعي، أرجوك افعل شيئا)
ابتسم أمجد بتعاطف، ثم قال بلطف.

(لا أستطيع وحدي تغيير قرار مجلس الإدارة بأكمله يا أسماء، لكن اسمعي، ما أستطيع فعله هو ضمان أن تلك السيدة لن تهينك أبدا و أنا موجود في هذا المكان، و لا أي واحد منكم، ما رأيك؟، اعتبريها مجرد شخص عامل هنا دون معرفة هويته)
أصدرت اسماء أنين و هي تقول
(إنها بغيضة، بغيضة جدا)
قال امجد بلهجة جدية حازمة
(أسماااء، سأعتبر أنني لم أسمع هذا).

أطرقت برأسها بأسى، فشعر أمجد بالتعاطف معها، فلديه فكرة بسيطة عن حياتها القاسية و مدى ما تعانيه في بيتها من إهانات متوالية من عمها الذي تعيش معه بعد وفاة والديها...
لذا فهي حساسة جدا لأي احساس بالدونية تتلقاه من أي شخص...
و للحظة شعر أمجد بالحنق على ألمظ ابنة سالم، الا تمتلك بعض اللياقة كي تتعاطف على من هم أصعب منها حياة و ظرفا؟
قال أمجد بهدوء مبتسما.

(هيا اذهبي الى عملك و أعدك أن تكون الأمور على مايرام، اتفقنا)
أومأت أسماء برأسها دون أن تبتسم أو حتى أن تجيب، ثم انصرفت معه متمردة...
انه يعرف اسماء، أحيانا تتجاوز الحد، لكنها طيبة المعدن، طفولية الروح، لهذا لا يشتد معها في الأسلوب أبدا...
انتبه أمجد فجأة الى سبب صعوده للطابق الثاني، فنظر الى المصعد مقطبا جبينه قبل أن ينادي بسرعة
(أسماء، هل كانت)
توقفت أسماء و استدارت اليه، قبل أن تقول بعدم فهم.

(هل كانت ماذا؟)
نظر أمجد الى المصعد مجددا وهو يشعر بالحرج، بماذا سيجيب الآن؟
هل يسألها إن كانت قد رأت شابة تخرج من المصعد للتو فيفقد هيبته أمامها؟
تنهد قائلا بهدوء
(لا عليك، لقد نسيت)
استدارت أسماء تريد المغادرة، الا أنها عادت و التفتت اليه قائلة من بين أسنانها...
(إنها هنا بالمناسبة).

رمش أمجد عينيه مرة، ليقول بغموض غير متأكدا من تقصد، و للحظات ظن أنها قد قرأت أفكاره بشفافية، و تخبره عن تلك الفتاة التي يبحث عنها...
الا ان أسماء صدمته بقوة حين قالت ببساطة
(مسك سالم الرافعي، لقد وصلت و كانت معي في المصعد للتو)
تسمر أمجد مكانه و اندفع رأسه ينظر الى المصعد بصدمة...
هل هي نفسها؟
طبعا هي، لماذا لم يستنتج هذا من قبل؟
فتاة غريبة، أنيقة الهيئة و في نفس الموعد، لماذا لم يتخيل أن تكون هي؟

ربما لأنه أخذ صورة مختلفة تماما عن مسك الرافعي...
صورة أقرب الى شقراء مدللة...
أما تلك الفتاة التي رآها عند المصعد، فقد احتفظ بها بعيدا عن كونها نفس الشخصية البغيضة...
علي الرغم من أنه نفس الغرور الذي وصفه الجميع...
قالت أسماء بقلق
(هل أنت بخير سيد أمجد؟، تبدو و كأنك قد أجفلت من شيء ما)
انتبه اليها أمجد فابتسم وهو يقول بهدوء
(لا شيء يا اسماء، ربما على الصعود الى مكتبي الآن دون تأخير).

أومأت أسماء و هي تراقب انصرافه محتارة...
بينما كانت ملامح أمجد في تلك اللحظة غريبة...
الفضول بداخله زاد تدافعه كأمواج عاتية، يريد أن يراقبها عن كثب...
تلك الفتاة ستعمل معه لفترات غير قصيرة، و هي نفسها جذبت اهتمامه لمرتين مختلفتين
صوتا و صورة، و شخصية...
فكيف سيكون انطباعه عنها عن كثب هذه المرة؟
كانت مسك تجلس على أحد المقعدين المقابلين لمكتب أنيق خال من صاحبه...

تضع ساقا فوق الأخرى، و هي تتأمل المكان بإمتعاض...
المكان مفتوح الباب، لا سكرتيره له و لا صاحب، لولا أن أحد العاملين أشار اليه من بعيد لما كانت استطاعت الوصول اليه...
ما تلك الفوضى؟
هذا الشخص الفظ الذي رفض أن تطيل اجازتها أكثر، لا يهتم بتوظيف سكرتيره لتنظيم مواعيده و اعماله؟
و يترك المكتب مفتوح الباب لكل عابر، إنه حقا شخص غير مسؤول فضلا عن فظاظته وتسلطه...

نظرت مسك الى ساعة معصمها من فوق أنفها، فوجدت أن خمس دقائق كاملة قد مرت على الموعد المحدد...
لذا نفضت ساقها و هي تنهض برشاقة، و خرجت من المكتب و هي تنوي أن تتصل به لاحقا لتبين له حقيقه موقعه تماما...
اتجهت الى اخر الرواق، ثم اتجهت الى المصعد و ضربت زره بقوة، ووقفت تنتظر و هي تضرب الأرض بكعب حذائها العالي...
سمعت فجأة صوت رجولي عميق من خلفها
(ها نحن نلتقي مجددا يا آنسة).

عقدت مسك حاجبيها و هي تستدير ببطىء، لترى رجلا يقف خلفها وسيم الهيئة، أنيق الملابس رغم بساطتها...
يراقبها بعينين ضيقتين قليلا، وهو يضع يديه في جيبي بنطاله بلامبالاة...
رمقته بنظرة أخيرة شاملة قبل أن تقول ببرود
(عفوا، هل سبق و تقابلنا؟)
كانت صادقة في عدم تعرفها اليه، و هذا طعن رجولته للحظة فابتسم مستاءا...
لكنه أخذ نفسا عريضا قبل أن يقول بهدوء
(هل من عادتك الهرب سريعا بعد الخمس دقائق الاولى؟).

عند هذه النقطة استدارت اليه بكليتها و هي ترفع ذقنها كي تواجهه و هي تقول بلهجة تهديد مباشرة
(عفوا!، من أنت؟، و كيف تتحدث معي بهذا الأسلوب؟)
لم يجفل أمجد للهجتها المتعالية، بل راقبها بنفس النظرة المتأملة قبل أن يقول ببرود
(أنا أنتظرك منذ الصباح آنسة مسك، و مع خروجي لمدة خمس دقائق فقط من مكتبي قررت ضرب الموعد عرض الحائط و الخروج سريعا)
صمت قليلا يتابع علامات الإدراك المستاء على ملامحها، ثم أضاف برزانة.

(أنا أمجد الحسيني، الموكل بعقد مقابلة معك)
رمقته مسك بنظرة كانت أقرب الى الإزدراء قبل أن تقول بلهجة جليدية
(لقد تأخرت عن الموعد المحدد، و لم تترك رسالة لي بذلك و أنا دقيقة في مواعيدي، لذا كان على الإنصراف، خاصة أن لا سكرتيرة لك كي أجلس معها على الأقل)
التوت شفتاه في ابتسامة صغيرة ساخرة قبل أن يقول بخفوت
(اعذري اهمالي اذن، فلقد رأيتك من النافذة و نزلت اليك كي أستقبلك بنفسي، لكن حدث ووصلت قبلي).

التقت عيناها بعينيه، و هي تدقق النظر به...
كان اليوم مهذبا لكنه لا يزال محافظا على البرود السخيف، بعكس اتصاله العديم الأدب...
و هل من عادته أن يخرج بنفسه لملاقاة الموظفين؟
لمح أمجد ترددها فقال بهدوء آمر
(هلا تفضلت بالعودة الى مكتبي إن كنا قد سوينا هذا الخلاف؟)
رمقته مسك بنظرة صامتة قبل ان تقول بهدوء مرغمة
(حسنا).

أشار اليها أمجد كي تتقدمه، فسارت أمامه بأناقة، أحجم هو عن النظر اليها على الرغم من أنها مدعاة للنظر، و بشدة...
جلست مسك أمام مكتبه دون دعوة ووضعت ساقا فوق أخرى قبل حتى أن يتخذ مقعده، فرمقها بنظرة نافذة الصبر وهو يهز رأسه محاولا التسلح بالصبر...
ثم اتخذ مقعده لينظر اليها باهتمام، كانت تنظر أمامها بشرود نوعا و كأنها غير مهتمة بوجوده مطلقا...

تلك الفتاة مغرورة بالفطرة، دون حتى أن تبدأ الكلام، كل انطبعات وجهها الكلاسيكي توحي بالكبر و الخيلاء...
تنحنح أمجد ليقول برزانة...
(أرجو الا يكون طريق السفر كان شاقا عليك)
رفعت مسك وجهها اليه لتقول بجمود
(في الواقع كان شاقا، خاصة و أن المسافة كانت مضاعفة، لأنني لم أبقى في بلدتي سوى ليلة واحدة، قبل أن تطلبني في هذا، الإجتماع الهام).

كانت سخريتها شديدة الوضوح و هي تلمح الى اجتماعهما، فتصلبت ملامح أمجد قبل أن يقول ببرود مماثل
(هل هذه شكوى يا، أستاذة مسك منذ اليوم الأول؟)
رفعت مسك ذقنها و هي تقول
(حين تمر فترة بعملي هنا، ستدرك أنني لا أشكو أبدا، لكنني أكره التعنت)
ارتفع حاجبي أمجد و تراجع في مقعده وهو يراقبها بصرامة قبل أن يقول بصوت صلب.

(حين تمر فترة بعملك هنا، ستدركين أنني آخر من يوصف بالتعنت، و هذا الإجتماع الذي تسخرين منه أنا فقط من يحدد أهميته)
ارتفع حاجبها و هي تقول ببرود
(أنا لم أسخر من أهميته)
قال أمجد ببرود جليدي مماثل
(نبرتك تكفلت بإظهار سخريتك بوضوح)
ابتسمت مسك بسخرية حقيقية هذه المرة و هي تقول
(هل أنت معتاد على محاسبة العاملين هنا على نبراتهم؟، كم هذا رائع).

ظل ينظر اليها طويلا و هي تبادله النظر دون أن ترهبها نظراته الجامدة الثابتة على عينيها...
الى أن أمسك بملف من على سطح مكتبه، و باستهانة، القاه على مرمى يده ليحط على الطاولة الصغيرة أمامها، عند ركبتيها تماما!
ثم قال ببرود
(من فضلك راجعي بنود عقد تعيينك، لقد تم التعديل بها)
بهتت ملامح مسك من تلك الحركة الفظة، و نظرت الى الملف بصمت
حينها و للمرة الثانية شعر أمجد بضمير مثقل...

تلك الفتاة لها القدرة على اشعال غضب من أمامها في لحظة، ثم اخماده في اللحظة التالية بدافع من تأنيب الضمير ما أن يقسو عليها...
أوشك على قول شيء هادىء، الا أنها مدت ذراعها لتلتقط الملف و فتحته لتقرأه بصمت دون أن تسمح له برؤية اجفالها...
انتهز أمجد الفرصة و أخذ يراقبها من مكانه...
لديها خط كلاسيكي لجانب وجهها يثير التعجب
انف طويلة ذات نهاية مرتفعة جذابة، وجنتان عاليتان...
و ذقن مثلثة، لكن ليست مدببة...

افلتت خصلة فاحمة من شعرها على جانب وجهها و هي تقرأ العقد بدقة و اهتمام، فرفعت اصابعها الرشيقة لترجعها خلف أذنها دون أن ترفع عينيها عن الورق...
اصابعها تصلح أن تكون أصابع عازفة بيانو، طويلة و نحيفة...
ضيق أمجد عينيه وهو يربط كل تلك الملامح بصورة مرتسمة في خياله...
و أخذ وقته في تخيل الموقف...

تلك الشابة الجالسة أمامه، ترفع ذقنها بإباء دون أن تسمح لنفسها بالبكاء، و أصابعها الرشيقة تزع خاتم الخطبة لتضعه باناقة أمام خطيبها و، حبيبته...
التي هي أعز صديقاتها!
الآن فقط اكتشف أن ملامح مسك هي الأكثر ملائمة لتلك الصورة منذ أن سمع بها...
و تسائل أن كانت مسك الرافعي قد عرفت الضعف و الهوان يوما، أو سمحت بهما...
رفعت مسك لتنظر اليه ففوجت بنظراته الممعنة بها...

لم تكن نظرات وقحة، بل كانت نظرات شاردة. بحاجبين منعقدين و كأنه يحل معضلة!
و أرادت مسك في تلك اللحظة دفع ما تستطيعه لمعرفة ما يفكر به وهو يحدق بها بتلك الصورة!
لكنها قالت بجمود صلب عوضا عن ذلك
(موافقة على البنود)
أجفل أمجد قليلا و هي تنتزعه من شروده بنبرتها القوية، فنظر اليها مجددا للحظة قبل ان يقول دون أن يتحرك من مكانه.

(الا تحتاجين فترة كي تراجعيها مجددا أو أن تستشيري أحد أكثر خبرة؟، يمكنك ذلك قبل توقيعها)
قالت مسك بثقة لا تقبل الجدل
(أنا لا أستشير أحد فيما يخص عملي، لقد تخطيت هذه المرحلة منذ زمن، فلي القدرة على تقدير ما يناسبني، و أرجو أن تتحلى بالثقة في قدراتي سيد أمجد، كي يصبح عملنا معا أسهل)
ضيق أمجد عينيه وهو يراقبها، و مرة أخرى وجد السؤال يطرح نفسه بداخله.

هل عرفت الألم يوما؟، ام أنها مجرد تمثال رخامي جميل بلا قلب أو مشاعر!، لكنه ابعد السؤال جانبا و قال بصلابة
(أشك في هذا يا استاذة مسك)
ارتفع حاجبيها من صراحتة الفظة المفاجئة، فقالت ببرود
(أستاذ أمجد أرى بوضوح أنك لا تحبذ وجودي هنا قبل حتى أن تراني، فهلا أطلعتني على السبب؟)
استمرت حرب النظرات بينهما دون أن يسارع أمجد بانكار اتهامها...
لكن طرقا على الباب المفتوح جعله ينظر الى القادم، قبل أن يقول بجمود.

(لنكمل اجتماعنا ثم سأخبرك فيما بعد، تفضل يا أستاذ كمال)
رفعت مسك عينيها لترى رجلا في منتصف العمر، بشوش الملامح...
تقدم من أمجد ليقول مبتسما
(صباح الخير يا أمجد، أرجو الا أكون قد تأخرت عليك)
ابتسم أمجد وهو يقول مشيرا الى الكرسي المقابل لمسك
(إطلاقا يا أستاذ كمال، كنا في انتظارك، هذه هي الأستاذة مسك سالم الرافعي )
صمت للحظة قبل أن ينظر الى عينيها الباردتين بلون العنبر ثم أضاف بجمود صلب.

(مديرة قسم التوريد الجديدة، للأسف)
أجفلت مسك و تسمرت مكانها، و من شدة ذهولها لوقاحته فغرت شفتيها...
هل تجرأ للتو على قول كلمة، للأسف؟
ارتبك كمال بشدة من صراحة أمجد المفاجئة، فقال متلعثما
(امجد، أنا)
الا أن أمجد تابع بهدوء و عينيه على عيني مسك العاصفتين...
(لو كان القرار بيدي وحدي لكان السيد كمال قد نال ترقيته التي يستحقها بعد سنوات متفانية في العمل بهذه الشركة، لكن كما قلت، للأسف ليس القرار قراري).

أطبقت مسك شفتيها في خط مستقيم مشتد و هي تجابه نظراته بأخرى اشد قسوة...
بينما قال كمال بحرج
(كل شيئ نصيب يا امجد، أنا متأكد أن الآنسة تستحق كل خير)
التفتت مسك تنظر الى الرجل الجالس أمامها، و أخذت لحظة كي تتأمله...

علي الرغم من طيبة ملامحه و البشاشة الواضحة عليها، الا أن عينيه كانتا منخفضتين و بهما القليل من خيبة الألم، ليس القليل في الواقع بل الكثير منها فهي تعلم جيدا معنى أن يكون الإنسان منتظرا لشيء لطالما تمناه ثم تنهار أحلامه فجأة...
قالت مسك بهدوء و ترفع تخاطب كمال.

(أنا لم أحظى بذلك المنصب لأنني أستحق كل الخير يا سيد كمال، بل لأنني أستحقه و لولا هذا لما كان مجلس الإدارة قد واقف على تعيني هنا بالإجماع و بعد دراسة مطولة لخبرتي و مؤهلاتي)
أخفض كمال عينيه و قال بخفوت
(مؤكد يا آنسة، مبارك لك، )
لمعت عينا أمجد بالوعيد وهو يرى تعجرفها الواضح، فقال بلهجة آمرة.

(آمل أن تتعاوني مع السيد كمال يا آنسة مسك، فمع احترامي لكل خبراتك و مؤهلاتك ستحتاجين الى خبرته في هذا المكان لسنوات طويلة، خاصة فيما يخص المصانع، المصانع لدينا قديمة و لا تشابه ما اعتدته في الخارج، ستتعبين كثيرا قبل أن تتأقلمي مع المكان)
ابتسمت مسك ابتسامة جليدية بينما هب الصقيع من عينيها و هي تقول ببرود
(اعتدت التعب يا سيد، فلا تقلق)
التقت اعينهما في تحد كاره صامت، قبل أن تلتفت مسك الى كمال قائلة.

(سأكون سعيدة بالتعامل معك سيد كمال، و أرجو أن يكون ذلك لصالح المكان)
رفع كمال وجهه المغضن ليبتسم لها بطيبة رغم اهتزاز حدقتيه ثم قال بهدوء خافت
(يكون هذا من دواعي سروري)
قال أمجد بصلابة
(اذن أقترح أن نبدأ الحديث عن آلية العمل هنا و طريقة البدء بها على الفور)
ثم نظر الى ملامح مسك الأنيقة الجامدة و تابع بلهجة مهذبة، تشوبها السخرية
(كي لا نضيع المزيد من الدقائق الثمنية، من وقت الآنسة مسك).

ابتسمت له ابتسامة باردة، بملامح جامدة، قبل أن تقول ببرود
(سيكون هذا جيدا، أتوق للخروج من هنا)
صعقها أمجد بنظرة قاتلة، قبل أن تلتفت الى كمال المرتبك لتتابع
(كي أتفقد باقي المكان).

استمر الإجتماع بين ثلاثتهم لساعتين كاملتين، و بالفعل لم تصدق مدى تأخر الطريقة التي يتم بها العمل في هذا المكان و المصانع، كانت مغايرة تماما لما اعتادته كما قال، لكنها رفضت أن تظهر له مدى احباطها، فأبقت على ملامحها هادئة دون تعبير قدر الإمكان...
أما أمجد فقد عاد ليراقبها عن كثب مجددا...
بداخله نفور شديد من تلك العجرفة التي من المفترض أن تقلل من أنوثتها...
لكن على العكس، فأنوثتها لم تقل ذرة...

بل كان ذلك الترفع الظاهري الأنيق يزيدها جاذبية...
عيناها حين تسقط سيطرتها الجليدية عليهما، تتحولان الى نظرة صامتة من، هل هو حزن أم تعب؟
لكنهما تعودان و تتألقان من جديد كلما التقطت ثغرة تثير حماسها للحظة...
الآنسة الجليدية المتعجرفة التي لا تسمح لقلبها أن يتألم و يعطلها...
كان هذا هو الإنطباع الذي أخذه عنها حتى الآن...
حين انتهت جلستهم الثلاثية، نهض كمال من مكانه قائلا بابتسامة طيبة.

(سعدت بالتعرف اليك آنسة مسك، و أرجو أن يروق لك العمل هنا)
ابتسمت له مسك ابتسامة هادئة و هي تقول
(و أنا كذلك)
أومأ كمال برأسه صامتا، و استطاعت أن تلمح نفس شعور الإنكسار بعينيه، الا أنه استدار ليغادر قائلا بهدوء
(أراك غدا اذن يا أمجد)
و ما أن خرج حتى نهضت مسك من مكانها بأناقة و هي تجمع أغراضها الخاصة دون أن ترفع وجهها اليه
بينما هي تعلم جيدا أنه جالسا في مكانه بأريحية. يراقبها بوقاحة...

فقالت بهدوء متجنبة النظر اليه عن عمد
(سأنصرف الآن)
كانت قد اقتربت من الباب قبل أن يقول أمجد بهدوء
(سعدت بالتعرف اليك آنسة مسك)
توقفت مكانها بصمت دون أن تستدير اليه، ثم قالت أخيرا بجمود
(لا أعتقد أن هذا صحيحا)
ثم التفتت اليه لترمق عينيه المثبتتين عليها بنظرة طويلة قبل أن تتابع بهدوء
(لكن لك حرية أخذ الإنطباع الذي تشاء عني، طالما أنك لن تسمح لذلك بالتأثير على العمل)
حينها قال بوقاحة.

(أنا لا أخلط بين العمل و انطباعاتي الخاصة، مطلقا)
كم تمنت ضربه باحدى حذائيها في تلك اللحظة، في ضربة مباشرفة تستهدف أنفه المتعجرف البائس...
لو يعلم ان خلف ملامحها الهادئة تقبع رغبة شريرة في قتله في تلك اللحظة، لاختفى أسفل مكتبه الأنيق...
رمقته بنظرة متعالية أخيرة قبل أن تخرج من مكتبه و هي تشتمه و تشتم من أجلسه في هذا المكتب...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة