قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والعشرون

خرجت مسك من المصعد و هي تستعد للخروج من الشركة...
الا انها توقفت مكانها لحظة...
ضاقت عيناها و هي تراقب الفتاة المقبلة عليها من بعيد...
فتاة تبدو منشغلة بالأوراق في يدها و غير مدركة لوجود مسك واقفة في نهاية الرواق عند باب الشركة الزجاجي...

لقد تغيرت تماما و أصبحت مثالا للأناقة العصرية، في ملابسها و قصة شعرها...
الا أن مسك لم تكن لتخطئها أبدا...
لقد استمرت صداقتهما أعواما، و أحيانا كانتا تنامان في نفس الفراش...
وقفت مسك مكانها و على شفتيها ابتسامة...
ابتسامة لم تصل الى عينيها الجامدتين، ابتسامة لم تكن بساخرة و لا متألمة، بل ابتسامة ترفع...
و انتظرت...
لم تمر لحظتين قبل أن ترفع الفتاة وجهها و تنظر الى مسك مباشرة...

و هنا تسمرت مكانها...
فغرت شفتيها بصدمة، وعيناها تترجمان ما ترى...
فهمست دون صوت
مسك!، لم ترد مسك للحظات، بل وقفت مكانها تبادلها النظر بصمت و بنفس الابتسامة...
فقالت مسك بهدوء شديد دون ان تفقد ابتسامتها الباردة
(تغيرت كثيرا يا غدير، تبدين جميلة)
كانت الفتاة على حافة منحدر خطر من التوتر، فضمت أوراقها الى صدرها و كأنها تلميذة مراهقة.

بينما بدا خوف متردد في حدقتي عينيها المهتزتين و هي تتأمل مسك من اعلى شعرها الفاحم ذو اللمعان المميز، و في وقفتها المترفعة و حتى حذائيها الأنيقين...
ثم قالت بخفوت
(و أنت أيضا، تبدين، في أحسن حال)
التوت ابتسامة مسك أكثر، ثم فتحت ذراعيها و هي تقول بصوت جميل
(يبدو أنني كذلك)
تعالى وقع أقدام خلفها كانت ثابتة في البداية قبل أن تتباطىء تدريجيا...
وقف أمجد مكانه يراقبهما، وهو يشهد المواجهة الأولى بينهما...

كانت غدير مرتبكة كما لم يراها من قبل، بينما بدت مسك في أوج هدوئها و ثباتها...
و كأنها ملكة متوجة، و قد ساد صمت غريب بينهما
فقال من خلف مسك بهدوء
(جيد أنك لم تغادري بعد آنسة مسك، لقد نسيت هاتفك على طاولة مكتبي)
انتفضت غدير مذعورة و هي ترى أمجد خلف مسك...
بينما استدارت مسك اليه لتتناول هاتفها متفاجئة أنها قد نسيته بالفعل، فقالت بهدوء مختصر
(شكرا لك)
نقل أمجد عينيه بينهما قبل أن يقول بغموض.

(لقد تلاقيتما اذن، إنها الآنسة مسك يا غدير، مديرة قسمك الجديدة)
أخذت غدير نفسا مرتجفا طويلا و هي تغمض عينيها للحظة، قبل أن ترجع شعرها خلف أذنها لتفتحهما و هي تنظر الى مسك بنفس الفراغ القلق...
و حين بدا واضحا أنها عاجزة تماما عن الكلام، تطوعت مسك للقول مبتسمة بخيلاء
(لست في حاجة للتعارف، فغدير صديقة قديمة)
تأملها أمجد طويلا، من الصعب جدا ترك ملامحها للنظر الى ملامح غدير في تلك اللحظة...

فمسك الرافعي تثير الإنتباه أكثر...
تلك القوة البادية على تعابير وجهها، رهيبة...
قالت غدير بصوت أجوف
(نعم، صحيح)
رفعت وجهها الشاحب الى مسك و قالت متابعة بخفوت
(اشتقت اليك يا مسك حقا، و سعيدة جدا برؤيتك بصحة تامة)
أظلمت عينا مسك قليلا الا أنها ابتسمت برقي و هي تقول بخفوت
(أنا متأكدة من سعادتك حبيبتي)
ساد صمت طويل بينهما، مسك ترمقها بثقة و دون رحمة، بينما غدير تبدو و كأنها تتمنى الهرب
فقالت مسك اخيرا بهدوء.

(كنت أتمنى لو بقيت معك أكثر، لكنني مضطرة للرحيل الآن، لكن الأيام القادمة أطول إن شاء الله)
ابتلعت غدير ريقها بصعوبة و هي تقول بخفوت
(أنا أيضا مغادرة، أتودين أن، نقلك الى أي مكان؟)
ارتفع حاجبي مسك، ثم قالت ببطئ شديد
(و على من يعود حرف النون تحديدا؟)
ابتسم أمجد ابتسامة خفية قاسية وهو يرمق غدير التي كادت أن تذوى مكانها، قبل أن تجيب مسك فتور
(زو، أقصد أشرف ينتظرني خارجا، فهو يقلني من العمل كل يوم).

أبعدت غدير وجهها عن عيني مسك النافذتين في تلك اللحظة بعد أن نطقت بعرضها الأهوج...
كانت تظن أن ذكر اسم أشرف سيكون حماية لها...
الا أنها ما أن نطقته حتى أرادت أن تبتلع لسانها، من وقع نظرة واحدة من عيني مسك...
أطرق أمجد برأسه ممتعضا من تلك العبارة الفجرة
بينما افتر ثغر مسك عن ابتسامة غريبة و هي تقول
(آه، كيف حال زوجك بالمناسبة؟، بلغيه السلام رجاءا)
لم ترد غدير، بل ظلت مشيحة بوجهها تنظر الى البعيد...

فقالت مسك مجددا و هي تنقل نظرها بين أمجد و غدير...
(أنا يجب أن أغادر الآن، أراكما لاحقا)
رفعت ذقنها و خرجت أمام أعينهما، بينما رفعت غير وجهها الى وجه أمجد المتصلب، فقالت بخفوت
(هلا تحدثنا يا أمجد رجاءا، منذ يومين و أنت تتجنبني)
أظلمت عينا أمجد أكثر، الا أنه حين تكلم قال بصوت لا يحمل أي تعبير
(زوجك ينتظرك في الخارج يا غدير، من الافضل الا تتركيه لفترة أطول)
صدر صوتها كالأنين و هي تهمس متوسلة.

(على الأقل أسمعني أرجوك)
الا أنه كان قد عدل من سترته وهو يقول بصوت أكثر صرامة
(أنتهى وقت السمع، سمعتك طويلا من قبل)
ثم خرج أمام عينيها المتعبتين، لكن في عمقهما جذوة لا تهدأ و لا تريحها من اشتعالها الحاقد...
خرجت ببطىء متثالقة و هي تسير الى موقف السيارات التابع للشركة...
ثم وقفت للحظة تنظر الى لون السيارة المميزة الخاصة بزوجها، قبل أن تتابع السير الى أن وصلت اليها ففتحت الباب و جلست دون كلمة...

نظر اليها أشرف الرافعي بصمت و يده على المقود، ثم قال بهدوء
(الناس يلقون التحية اولا)
نظرت اليه غدير تتأمله قليلا...
كان وجهه مميزا منذ المرة الأولى التي رأته بها...
كانت مسك قد صرعتها كلاما عنه لفترة طويلة، الى أن رأته أخيرا...
يمتلك زهوا عائليا موروثا، بملامح سمراء شديدة الجاذبية، و لحية سوداء خفيفة تحيط بفمه و ذقنه...
عيناه صريحتان و جميلتان و كأنهما مكحلتان كحلا رجوليا طبيعيا...

كان شبيها بمسك في أشياء كثيرة، لا تعلم إن كان هذا بفعل الوراثة العائلية
أم أنه ترفع مكتسبا نتيجة الثراء و العائلة العريقة...
و من المرة الأولى وجدت أن كل ما به يجذبها بدرجة أكثر من الإعجاب العادي...
قال أشرف مجددا بصوت أعلى قليلا
(غدير، أنا أكلمك و أنت لا تسمعين، هل حدث معك شيء اليوم؟)
أجفلت على صوته و تأملت ملامحه مرة أخرى قبل أن تقول بفتور
(لم يحدث شيء، دعنا نخرج من هنا).

تأملها أشرف بعدم اقتناع، الا أنه هز رأسه ثم تحرك بالسيارة ينوي الخروج من الشركة...
لكن أثناء مروره بالبوابة الخارجية...
رمش بعينيه و انقبضت يداه قليلا على المقود وهو يميل برأسه الى الأمام قائلا بصدمة
(أليست هذه،؟، هل يعقل هذا؟)
انتفض رأس غدير و هي تنظر الى حيث ينظر، الا أنها من لهجته عرفت دون شك من يقصد...
و بالفعل...
رأت مسك واقفة أمام البوابة تنظر الى البعيد و كفاها في جيبي سترتها...

رفعت غدير يدها الى جبهتها بتوتر، بينما قال أشرف وعيناه لا تغادران مسك...
(هل هذه مسك؟، متى وصلت و ماذا تفعل هنا؟، أليس من المفترض أن تكون عند جدي الآن؟)
ظلت غدير صامتة و هي تلامس شعرها القصير باصابع متشنجة...
فنظر اليها اشرف ليقول بعصبية
(غدير، أنا أحادثك، هل تعرفين بوجود مسك هنا؟)
زفرت غدير بقوة و هي تقول بعصبية
(لماذا كل هذه الحدة يا اشرف؟، نعم كانت هنا لكن لم نجد الفرصة كي نتكلم، هلا ابتعدنا رجاءا؟).

نظر أشرف اليها بغضب ثم نظر الى مسك مجددا يتأملها مليا وهو يقول بقوة
(لا أستطيع تركها هكذا، من الواضح أن السيارة ليست معها، سأذهب لأحضرها و نقلها بطريقنا)
انتفضت غدير و هي تقول بحدة
(لقد سبق و عرضت عليها الا أنها رفضت، فلا تذهب اليها)
انعقد حاجبيه بشدة و نظر اليها بشك قائلا
(هل تحادثتما؟، ماذا قالت و بما تكلمتما؟، هل سألتك عني؟).

أغمضت غدير عينيها و هي تحك جبهتها من جديد بينما النفس في صدرها تحول الى آتون مشتعل يغلي
لقد عادت مسك الى حياتها،
زادت مسك من ضم سترتها و هي تنظر الى السماء الرمادية بلون داكن...
من الواضح انها ستمطر في اي لحظة...
و لا سيارة أجرة واحدة تقبل الوقوف، بالإضافة الى أن سيارة الأجرة الخاصة و التي سبق أن طلبتها بالهاتف لم تصل أيضا، من الواضح أن الطرق شديدة السوء الآن...

تنهدت مسك و هي تزفر نفسا قاتما كلون تلك السماء...
من المفترض الآن أن تكون في فراشها، مع نفسها، تغمض عينيها و ربما، تبكي قليلا...
الا أنها فتحت عينيها بتصميم و رفعت وجهها و هي تهمس لنفسها
ولى زمن البكاء يا مسك، لن أسمح لك
شعرت فجأة بقطرة باردة سقطت على وجنتها، فاتسعت عيناها و رفعت يدها تتحسسها و هي تهمس
هل أبكي؟، الا أن عيناها كانت جامدة بلا دموع، فرفعت وجهها لأعلى لترى أنها ما كانت سوى البداية.

فقط بدأت القطرات في التساقط بشدة و بسرعة أكبر...
الى أن فتحت السماء أبوابها فجأة بدأ هطول المطر!
ضحكت مسك رغم عنها و هي تهز رأسها يأسا، لتهمس مبتسمة بألم
هل سيكون اليوم أصعب من ذلك؟، عادت لتبتسم برقة و هي تهمس
لو كان قاصي هنا لوصل خلال لحظات كي يقلني، حبيبي أكرمه الله، لطالما تحملني، عادت لتتنهد و هي تنظر الى البعيد...
تذكرت المرة الاولى التي عرفت فيها بعلاقة قاصي و تيماء...

جاءت بالصدفة البحتة و كانت كارثة...

كانت قد خرجت من النادي و انتظرت مثل انتظارها الآن، دون أن تصل سيارة والدها...
فاتصلت بقاصي كما تفعل دائما حين تحتاج شيئا...
رد عليها صوت أنثوي متصلب، فعقدت مسك حاجبيها و هي تقول
(عفوا، يبدو أنني قد اخطأت الرقم، هل هذا هاتف قاصي الحكيم؟)
ساد صمت متوتر، قبل أن تسمع نفس الصوت لكن أكثر تشنجا
(نعم هو، هل يمكنني أن اعرف من أنت؟).

عقدت مسك حاجبيها و هي تشعر أن الصوت أقرب الى صوت طفولي لفتاة تحاول تغييره بنبرة أخرى...
لكنها قالت باستعلاء واضح
(طالما أن هذا هو هاتف قاصي فمن المؤكد أن اسمي قد ظهر لديك، الآن من أنت؟)
ساد الصمت مجددا قبل أن تقول الفتاة على الجانب الآخر
(اسمعيني جيدا، أنا حبيبته. صديقته، خطيبته، يمكنك أن تختاري المسمى الذي تشائين، لكن النتيجة واحدة، انا لا أرحب باتصالك به و لا خدمته لك).

ارتفع حاجب مسك حينها و بهتت ملامحها قليلا قبل أن تقول بصوت غامض
(اذن أنت تعرفين عني الكثير عكس ما ادعيت!، من أنت بالضبط؟)
هتفت الفتاة بقوة
(لن تهمك معرفة اسمي، المهم أنني لا أريدك في حياة قاصي، هو ليس خادمك و حتى و إن كان فأنت تتجاوزين حدود الخدمة بحميمية لا أرتاح اليها)
ضاقت عينا مسك و هي تعض على باطن شفتها قبل أن تقول ببرود
(لما لا تتحلين ببعض الشجاعة و تواجهيني؟).

هتفت الفتاة بقوة متخلية عن نبرة المختلفة التي كانت تتحدث بها
(أنا أواجهك الآن و أطلب منك الإبتعاد عن رجلي)
اتسعت عينا مسك قليلا، لكنها سمعت هتافا أجش من الجانب الآخر، و كان صوت قاصي يهتف بجنون
هل جننت؟، ثم هتف بفتاته مجددا و سمعته مسك يقول بصرامة
قلت اصمتي حالا، ثم لم يلبث أن كلم مسك قائلا بتوتر ملحوظ
(أنا معك يا مسك)
حينها لم تتردد و هي تقول بلهجة باترة.

(أريد رؤيتك حالا، حالا يا قاصي أو سآتي أنا الى بيتك).

و خلال دقائق كان قد وصل اليها على دراجته البخارية...
رمقته مسك وهو ينزع الخوذة عن رأسه لتلتقي أعينهما...
كان الإتهام في عينيها واضحا، وهو يقترب منها و عيناه لا تحيدان عن عينيها
الى أن وصل اليها فقالت بقوة دون مقدمات
(لقد وثق أبي بك، حملك أمانة و أنت خنتها)
سحب قاصي نفسا طويلا وهو يجابه عينيها دون أن ينطق، عيناه كجمرتين مشتعلتان بينما حاجباه منعقدين
فهتفت بصوت أكثر قسوة.

(أنت تصادق أختي يا قاصي، كيف أمكنك فعل ذلك؟ كيف استطعت خيانة الأمانة بهذا الشكل؟)
أخذ نفسا آخر أعمق وهو ينظر بعيدا، قبل أن يقول بجمود
(هذا يعتمد على معنى تلك الصداقة التي تقصدين)
هتفت مسك بذهول و غضب
(لا تخدع نفسك يا قاصي أو تحاول حتى أن تخدعني، صداقة أي علاقة، ارتباط، ويعلم الله الى أين وصل مداه!)
هدر قاصي فجأة بعنف
(لا تزيدي يا مسك، اياك، اياك)
هتفت مسك بجنون.

(أنا أعرفك جيدا يا قاصي، أنت لست مثال البراءة و قد كانت لك العديد من الصداقات قبلا، فالي أين وصلت علاقتك بتيماء؟، هل)
هدر قاصي بجنون متوحش
(اصمتي يا مسك)
الا أن مسك جابهته بكل شجاعة و هي تهدر بمثل قوته
(أنا لست تيماء الصغيرة. التي يمكنك أن تصمتها بكلمة اصمتي، كما سمعتك في الهاتف، أنا مسك الرافعي يا قاصي، و لن أصمت قبل أن أعرف الى اين وصلت علاقتك بتيماء و منذ متى؟).

نظر الى عينيها المتهورتين، ثم قال بصوت غريب
(و هل تصدقيني اذا أخبرتك أن ما تخافين منه لم يحدث؟)
صمتت و نظرت الى عينيه طويلا، كانت ملامحه مجنونة، عاصفة و عيناه أعتى عاصفة...
ملامحه كانت تخبرها بأنه يعاني...
لكنها كتمت إحساسها بالرغبة في منحه العذر، أي عذر، فقالت بصلابة
(كانت معك، ترد على هاتفك بأريحية و تخبرني بكل صفاقة ووقاحة أنك، رجلها! ).

التوت شفتاه في شبه ابتسامة رغم عنه، مجرد التواءة خانته و تصاعدت الى زاوية شفتيه...
لكن مسك لمحتها فهدرت بجنون
(لا تتجرأ على الضحك، أنا جادة)
لم تختفي التواءة شفتيه، بل ظلت مكانها على الرغم من أن جمرتي عينيه لم تنطفئا...
كان بهما عنف المشاعر و نوعا من، الخوف!
هل قاصي خائف؟
قاصي لم يعرف الخوف يوما، و لا تظنه أبدا خائفا على نفسه...
فلطالما عرض نفسه للموت دون أن يأبه...

قال قاصي أخيرا بخفوت دون أن تحيد عيناه عن عيني مسك
(لا أعلم منذ متى، إنه السؤال الذي لم أجد له جوابا أبدا)
كانت أنفاس مسك متوترة و هي تقف أمامه مكتفة ذراعيها، صدرها يعلو و يهبط بجنون
لكن ملامح قاصي كانت تلجم جنونها...
إنه يبدو كما لم تراه يوما، كما لم تعرفه أبدا...
لم تسمعه يتكلم عن فتاة من رفيقاته بتلك النبرة من قبل مطلقا...
أخذت نفسا متوترا قبل أن تقول متهمة.

(كانت مجرد طفلة حين أحضرتها لتقابلني في المرة الأولى بينما كنت أنت شابا، بل رجلا، فكيف استطعت فعل ذلك؟)
ضاقت عيناه بشدة، و ابعد وجهه مجددا وهو يقول بصوت أجش
(أنت تضغطين على الجرح بلا رحمة يا مسك)
هتفت بقوة و استياء
(بل سأفعل اكثر إن لم تخبرني كيف طاوعك ضميرك على هذا، و الى ما تريد الوصول اليه)
رفع قاصي عينيه الى عيني مسك العنيفتين، ثم قال بصوت حاد قوي و مسيطر
(أختك هي الفتاة الوحيدة بحياتي).

ساد صمت غريب بينهما، وبين أعينهما حربا من الكلمات المتقاذفة...
الى ان قالت مسك ببرود
(و هل من المفترض أن أصدق ذلك؟)
قال قاصي بلهجة قاطعة
(ستصدقين، لكن قبلا أريد منك وعد، لا تخبري أباك، و لا تخبري تيماء أنك تعرفت على صوتها، أنا أقف أمامك الآن و أموت رعبا، أموت رعبا من أن يطالها أذى، و أنت الوحيدة يا مسك التي قد تسمعين مني اعترافا مماثلا).

ظلت مسك تنظر اليه طويلا بملامح جامدة، لكن بعينين تسجلان كل لمحة من تعابير وجهه و عينيه...
ثم قالت ببرود متوتر
(اذن ماذا لو أمرتك بأن تبتعد عنها كي لا يطالها الاذى؟)
ساد صمت مشحون بعد أن أطلقت أمرها العنيف، و كلا منهما ينظر الى عيني الآخر محاربا
الى أن قال أخيرا بهدوء خطير
(للمرة الأولى لن أنفذ أوامرك يا مسك، لن أتركها أبدا)
انزلت ذراعيها و اتسعت عيناها و قالت بصوت واه.

(لكنك ستتبب بأذاها اليوم أو غدا أو بعد غد، هل تعرف معنى ما تفعله بالله عليك؟)
ضاقت عينا قاصي و ازدادت سرعة حركة صدره، قبل أن يقول بصوت ميت أجش
(تيماء قبلت المجازفة)
اتسعت عينا مسك ارتياعا و لوحت بذراعها و كأنها تشير الى تيماء في غيابها هاتفة بعنف
(إنها طفلة، لا تدرك ما تجازف به)
حينها رفع قاصي وجهه و ابتسمت عيناه دون شفتيه، و قال بخفوت ملجما الباقي من كلماتها
(تيماء ليست طفلة، إنها امرأة، و هي تخصني).

أفاقت مسك من ذكرياتها البعيدة و هي تبتسم بحزن متذكرة عبارة قاصي التي جعلتها تبتلع المتبقي من كلماتها
و تنظر اليه مصعوقة...
لم تتخيله يوما عاشقا متيما بهذا الشكل...
ابتسمت مسك بحزن أكبر و هي تهمس
متيما بتيمائه، ما جعلها تصمت حينها هو حبها لأشرف، كانت تعرف معنى الحب جيدا و لقد رأته في عيني قاصي جليا
كانت تظن أن الحياة منصفة معها فمنحتها حبها دون أي مشقة و بمباركة الجميع.

لذا أشفقت على قاصي و تيماء من ظروفهما الصعبة...
و وجدت قلبها يخبرها أن قاصي صادقا في حبه، و أنه لا يتلاعب بأختها رغم أنانيته...
عادت لتبتسم بمرارة و هي تنظر حولها لتكتشف أنها قد تبللت تماما، من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها
الا أنها لم تهتم مطلقا، بل ظلت واقفة مكانها بإباء تنتظر أي سيارة اجرة...

وجدت فجأة سيارة تقترب منها و تقف أمامها مباشرة لم تتبين قائدها الا بعد أن فتح زجاج النافذة المجاورة وهو يقول بهدوء
(هل أقلك الى مكان؟)
نظرت الى وجه أمجد المبتسم بسخرية خفية، بينما الماء يقطر من شعرها على وجهها، و من ملابسها
فزمت مسك شفتيها قبل أن تجبر نفسها على القول
(لا شكرا، طلبت سيارة أجرة و انا أنتظرها)
قال أمجد عبر النافذة
(إن كانت آتية من الطريق الرئيسي فهي لن تصل على الأرجح، لأنه مغلق).

رمقته مسك بنظرة قاتمة تتناقض مع عينيها العنبريتين، و كم تسلى هو بنظرتها الغاضبة قبل ان تقول بصلابة
(شكرا، و لا أريد أن أزيد أكثر)
أوشك على تركها و لتبتل حتى يصل الماء الى عظامها فتتجمد...
لكنه رآى رجلا يقترب منها بتوتر، و عيناه تراقبانها بتدقيق قبل أن يقول بصوت رجولي
(هل هناك مشكلة؟)
تسمرت مسك مكانها و تبلدت ملامحها تماما و هي ترفع وجهها الى الرجل الذي خاطبها للتو...

و استطاع أمجد التعرف عليه فلقد رآه عدة مرات من قبل...
إنه أشرف زوج غدير...
و هو الخطيب السابق لمسك الرافعي...
ضيق أمجد عينيه وهو يرى ملامحها التي بهتت فجأة و شفتاها اللتين ارتعشتا للحظة قبل ان تطبقهما في خط مستقيم كي تخفي ارتعاشهما، و تضع قناع البرود على عينيها...
حينها فتح امجد بابه و خرج غير مباليا بالأمطار الغزيرة وهو يقول بهدوء
(لا تعاندي، ستمرضين بوقوفك بهذا الشكل).

رمقه أشرف عاقدا حاجبيه، ثم قال بجمود
(أنا سآخذها معي، شكرا لعرضك)
ربما كان أشرف قد رآهاه هو الآخر عدة مرات، الا أن لا تعارف شخصي بينهما...
رفع أمجد عينيه الى عيني مسك البارتين بخواء، ثم قال بتشديد متجاهلا كلام أشرف
(هل انت متأكدة؟)
ارتفع حاجبي أشرف بغضب هائل في تلك اللحظة وهو يرى هذا المتبجح يتجاهله عن عمد...
فقال بقوة و صرامة
(أنا ابن عمها، فلا تقلق).

رمقه أمجد بنظرة لا مبالية أقرب الى الإهمال، بينما نظر أشرف الى مسك قائلا بقوة
(هيا الى سيارتي يا مسك، لا تقفي هكذا)
رفعت مسك عينيها دون أن تنطق الى حيث أشار...
فلم ترى فخامة السيارة، و لا لونها المميز...
لم ترى سوى وجه غدير التي كانت تنظر اليهما بعينين في نفس جمود الزجاج المغطى بالماء...
و على الرغم من أن ماء المطر قد أخفى الكثير من معالم وجهها
الا أن مسك استطاعت أن ترى ذلك الجمود البارد في عينيها...

حينها رفعت وجهها الى أشرف و رمته بنظرة أشد جمودا و هي تقول ببرود
(سأستقل السيارة مع السيد أمجد، اذهب الى زوجتك يا أشرف لا تتركها اكثر)
و بكل خيلاء فتحت باب سيارة أمجد المجاور لها ثم جلست و أغلقته خلفها بهدوء أمام عيني اشرف الغاضبتين...
ارتفع حاجبي أمجد من تلك العنجهية التي تتصرف بها مسك الرافعي و كأنها تملك المكان و السيارة...
فتنهد آخذا نفسا طويلا محاولا التحلي بالصبر...

ثم رمق اشرف بنظرة قصيرة، غير مرحبا بامثاله في الحياة...
وللحظات تقابلت نظرات أشرف و أمجد لفترة أطول مما ينبغي، شابها البرود و ملامح من القسوة
قبل أن يدخل أمجد الى السيارة وينطلق بها تاركا أشرف خلفه لا يزال واقفا تحت ماء المطر و يداه في جيبي معطفه، يراقب انصراف السيارة بنظرات غريبة...
التقط أمجد عدة محارم وهو يتنفس بغضب ليحاول يائسا أن يجفف قميصه الذي تبلل تماما تحت سترته المفتوحة
فتمتم غاضبا
(رائع).

سمع صوتها الموسيقي و هي تهمس فجأة بفتور
(عفوا!)
التفت اليها فوجد ان ملامحها الرخامية من المرمر ترمقه بلا تعبير معين...
أقسم أن عيناها الجامدتان تحملان الألم في بؤرتهما السوداء العميقة، بعيدا، بعيدا جدا في أعمق زوايا قلبها...
فتنهد قائلا...
(من الرائع تشريفك لسيارتي المتواضعة، على الرغم من أنها لا تليق بك)
قالت مسك بفتور و هي تنظر من زجاج النافذة بجوارها
(أرى ذلك).

اتسعت عينا أمجد بذهول وهو ينظر الى جانب وجهها المبتعد عنه، ثم لم لبث أن هز رأسه وهو يضحك بخفوت، ليركز عينيه على الطريق واعدا نفسه ان يلقي بها في أقرب وقت ممكن...
الا انه لم يستطع أن يمنع نفسه من النظر اليها مجددا...
ملاحقا خط فكها المثلث الناعم و هي تراقب المطر بلا تعبير معين...
إن كانت غدير استطاعت أن تؤلمه قليلا، فمن المؤكد أن ذلك المدعو أشرف قد آلمها كثيرا بفعلته على الرغم من قوتها الظاهرة...

لقد فقدت النطق تماما ما أن رأته أمامها، ولن يستطيع خداع نفسه بأنه قد رآى عجزها للحظة خاطفة قبل أن تستعيد قوتها و عنفوانها المتعالي من جديد...
قال أمجد بهدوء
(الى أين نتجه؟، مسك)
لم ترد مسك على الفور فظن أنها لم تسمعه و حين أوشك على أن يلقي عليها السؤال مجددا، سبقته و ردت بنفس الفتور دون أن تلتفت اليه
(شقتي في وسط المدينة)
مط أمجد شفتيه مستاءا من برودها، الا أنها صعقته أكثر و هي تتابع دون أن تنظر اليه.

(و أنا لا أرحب بنطقك لاسمي مجردا)
انتفض رأسه ينظر اليها مذهولا من تلك الوقاحة و العجرفة، وهو الذي أنقذها للتو من موقف لا تحسد عليه...
لكنه تمالك نفسه وهو يقول بنفس البرود لكن بنبرة أكثر تسلطا
(و نحن خارج أوقات العمل الآن، لذا سبق و اخبرتك أن لي حرية نطق اسمك مجردا خارج أوقات العمل الرسمية)
التفتت اليه مسك بسرعة و هي تقول بغضب
(اذن أفضل أن تنزلني هنا و حالا)
تأوه أمجد هاتفا
(بالله عليك انضجي قليلا).

انضجي!، هل قال ذلك للتو؟
اتسعت عيناها و هي تقول بعنف
(عفوا!)
الا أنه كان قد وصل الى نهاية صبره وهتف بقوة
(و توقفي عن كلمة عفوا الغبية تلك)
هتفت مسك و هي تستدير اليه بكليتها الآن
(أنزلني هنا حالا)
الا أن أمجد هتف بصرامة
(توقفي عن تلك التصرفات و حاولي قول كلمة شكرا، الا ترين أن قميصي قد تبلل بالكامل بسببك!)
انخفضت نظرات مسك تلقائيا و هي ترى أن قماش قميصه الأنيق قد التصق بصدره من شدة البلل...

بينما رمقها هو مستاءا، الا أنه لاحظ تبلل شعرها تماما و الذي تساقط من ربطته الى أحد كتفيها...
رفعت مسك عيناها اليه في تلك اللحظة...
فوجد أنهما كانتا مبللتين...
عيناها الشبيهتين بحبتي اللوز، واسعتان كعيني ظبي و مبللتين على الرغم من جمود ملامحها...
فألجمه منظرهما...
نظر اليها للحظتين قبل أن يعيد عينيه الى الطريق عاقدا حاجبيه بشدة...

و يداه منطبقتان على المقود بينما اخفضت مسك وجهها و التفتت تنظر من النافذة مجددا، و مرت عدة لحظات قبل ان تقول بصوت جامد اجوف
(شكرا، هل ارضتك الكلمة الآن!)
اتسعت عيناه وهو ينظر اليها، بينما زاد انعقاد حاجبيه، قبل ان يعيد نظره للطريق قائلا بغضب مكتوم
(جدا)
و دون كلمة أخرى زاد من سرعة السيارة وهو يتوق الى التخلص منها في أسرع وقت ممكن...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة