قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والعشرون

جالسا مكانه في رواق المشفى الطويل...
يميل الى الأمام وهو يستند بمرفقيه الى ساقيه، نظراته تحدق بالأرض بينما في صدره نفسا يتردد كالمرجل...
علي الرغم من أن الطبيب قد طمأنه الى أنها جراحة بسيطة لن تستغرق ثلاثين دقيقة...
الا أن الدقائق كانت تمر بطيئة كزمن سحيق، يترك آثاره على الجدران...
الصمت يحيطه من كل جهة، لا يقطعه سوى صوت انفاسه المتسارعة، و تكات ساعة معصمه التي كان يسمعها بوضوح...

رفع قاصي وجهه ينظر أمامه بملامح صخرية، و عينين مخيفتين...
لقد طال به الإنتظار جدا...
اندفع من مكانه قافزا فجأة وهو يهدر بعنف
(أريد أن أعرف ما يحدث معها الآن، فليجبني أحد في هذا المكان الميت)
خرجت احدى الممرضات تجري من غرفة في نهاية الرواق ووصلت اليه وهي تقول بلهجة آمرة
(سيدي من فضلك ما تفعله لا يناسب المشفى، هذه ثالث مرة تصرخ بها و صراخك يثير الفزع، سأضطر أن أحضر الأمن لإخراجك من هنا).

الا أن عيني قاصي توحشتا أكثر وهو يرفع قدمه ليركل أحد مقاعد المشفى فخلعت قاعدته و ألقيت بعيدا بصوت مزعج، بينما هدرمجددا بجنون
(دعيني أرى من يجرؤ على أخراجي من هنا)
هتفت الممرضة بقوة
(يا سيد ما تفعله هو الجنون بعينيه و أنا من ستتأذى بسببك لو سمع أحد صراخك، قريبتك تخضع لحراجة زائدة دودية لا أكثر، الأمر أسهل مما تتصور فقط اهدأ و سيخرج الطبيب حالا)
رفع قاصي يده يتخلل بها خصلات شعره وهو يقول بعنف هادر.

(قال نصف ساعة، و الآن مر أكثر من)
قالت الممرضة تقاطعه
(أقسم بالله لم تمر سوى عشرين دقيقة فقط، أرجوك اهدأ، أنا لا أستوعب حالتك، الم يتعرض أحد أقاربك لجراحة للزائدة من قبل؟)
أظلمت عيناه وهو ينظر الى الممرضة بينما صدره يتعالى و ينخفض بسرعة...
لا أقارب له...
لا أحد سوى تيماء، وهو لن يسمح لأي أداة حادة أن تجرحها أبدا...
أخذ قاصي نفسا خشنا وهو يضع يداه في خصره ليقول بخفوت أجش مضطرب.

(أعرف أن تلك الجراحة سهلة بالطبع، لست جاهلا)
تنهدت الممرضة و هي تقول برقة
(اذن هل تعد الا تصرخ مجددا. و ألا تكسر المزيد من مقاعد المشفى)
أطبق قاصي شفتيه وهو يقول على مضض
(لا بأس، لا بأس)
ابتعدت الممرضة بينما بقى قاصي مكانه ينظر حوله. قبل أن يرفع وجهه لاعلى مغمضا عينيه وهو يهمس بصوته الأجش المجهد
اخرجي الآن، اخرجي...
و كأنها سمعت نداءه الخافت.

فقد فتح باب حجرة الجراحة و خرج الطبيب فأسرع قاصي ليطبق على ذراعه وهو يقول بلهفة
(كيف حالها؟)
نظر الطبيب الى قبضة قاصي على ذراعه و التي كانت مشتدة دون أن يدرك ذلك، فقال الطبيب بلطف
(ليس من المفترض أن أجيبك بعد أن أزعجنا هتافك على مدار العشرين دقيقة الماضية، لكن اطمئن، إنها في خير حال و سيتم نقلها الى غرفة أخرى ما أن تفيق من التخدير).

ظل قاصي ينظر الى ملامح الطبيب دون أن يحرره او حتى أن يخفف من جنون ملامحه، فقال الطبيب بهدوء
(يمكنك ترك ذراعي الآن، حقا)
انتبه قاصي الى قبضته، فحرره معتذرا بصوت أجش غير مفهوم...
بينما التفت الطبيب مبتسما وهو يقول
(آه، ها هي قد خرجت)
انتفض جسد قاصي الضخم وهو يراقب خروج تيماء على السرير المتحرك، فهرع اليها لينحني اليها هاتفا بلهفة
(تيماء، هل تسمعيني؟)
هزت رأسها قليلا و هي تهمس بإختناق متأوهة و غير واعية.

(شيء ما يؤلمني، هناك سكين حاد في بطني)
رفع قاصي يده يريد أن يلامس جانب وجهها. الا أنه لم يلبث ان أعادها بجواره مجددا، ثم أخذ ينظر اليها طويلا
ملامحها شديدة الشحوب، ووحمة وردية تشبه الوردة تزين اسفل وجنتها، فتظهر اكثر مع شحوبها...
لكم عشق تلك الوحمة ذات أوراق الورد، و التي أشبعها تقبيلا ذات يوم خانته السيطرة...
همس قاصي بصوت مختنق
(لا بأس، سيزول الألم قريبا صغيرتي، سيزول).

بكت تيماء و هي تهز رأسها مجددا قائلة
(أخرجني من هنا أرجوك، أعدني الى امي)
ابتسم قاصي وهو يرها و كأنها قد عادت الى الثامنة عشر من جديد، و كأنها لم تكبر يوما واحدا...
فقال بصوت مبحوح
(تعافي سريعا و سأحملك بعيدا عن هنا، بعيدا جدا)
صمتت و هي تغمض عينيها، لا تزال تتأوه لكن خفت صوت تأوهها، بينما انحنى قاصي اليها ليهمس في اذنها
(فقط أنا و أنت)
ارتعشت شفتيها و همست بصوت بدا كالبكاء المختنق
(أنا و أنت!).

ابتسمت ملامح قاصي الخشنة وهو يهمس في اذنها
(نعم، فقط أنا و أنت)
بدأ العامل في تحريك سريرها كي يوصلها الى غرفتها، فاستقام قاصي ليبتعد ووقف ينظر الى ابتعادها بملامح فاقت الصخور صلابة، أما عيناه فقد خانتاه مجددا...

وقف قاصي ينظر من نافذة الغرفة الى الجبل الظاهر من بعيد...
أي مكان في هذه البلد يطل على تلك السلسلة من الجبال، تسبقها حقول خضراء واسعة ثرية الخير و الرزق...
ملامحه في تلك اللحظة بدت و كأنها نحتت من الصخر و بقت على هذا الحال
لم يعد بمقدوره التخفيف من صلابتها على مدى الأعوام السابقة...
تحركت تيماء من خلفه و هي مستلقية في سرير المشفى الضيق، ثم همست بإختناق من بين لحظات صحوها
(قاصي، أريد أمي).

لم يلتفت اليها قاصي، بل ظل واقفا مكانه خوفا من أن تخونه مشاعره ما أن يلتفت و ينظر اليها...
فقال بصوت أجش خافت
(سأتصل بها في أقرب وقت، نامي الآن)
تمتمت تيماء بكلمات غير مفهومة، ثم أغمضت عينيها متألمة و راحت في سبات عميق مجددا...
بينما بقى قاصي مكانه ينظر من النافذة الى البعيد...
كان بداخله طوفان لا يهدأ من سنوات طويلة...

يعلم الله أنه حاسب نفسه كثيرا على أنانيته في التمسك بها، لكن كان هذا أقصى ما يستطيعه
أن يحاسب نفسه فقط، دون أن يقدم على أي خطوة في الإبتعاد عنها...
و استمر به ذلك الحال من التمسك المتهور بها الى أن...
أنفجر كل شيء فجأة...

يومها اتصل بها وهو يبدو كالمجنون. و ما أن سمع صوتها الخافت حتى هدر فيها بجنون.

(يجب أن أراك، انزلي أنا أمام بيتك)
سمع شهقتها المتفاجئة، قبل أن تركض فرفع رأسه و كما توقف وجدها تبعد الستائر لتنظر اليها مصدومة و الهاتف على أذنها...
هتفت بحدة
(قاصي!، ماذا تفعل هنا في هذا الوقت؟، و لماذا لم تخبرني أنك ستأتي ليلا!)
الا أنه لم يكن في مزاج يسمح له بتبادل حديث تافه، فهدر مجددا
(انزلي حالا يا تيماء أو أصعد اليك)
قالت تيماء بتوتر
(الوقت متأخر نوعا ما يا قاصي، كيف أبرر لأمي الأمر الآن؟).

صرخ قاصي منهيا الموضوع
(الآن يا تيماء)
ثم أغلق الخط و استند الى دراجته مكتفا ذراعيه وهو ينظر اليها عبر النافذة بتحدي، و استطاع أن يلمح توترها بالإضافة الى صوتها المختلف قليلا، لكنها ابتعدت عن النافذة أخيرا...
و خلال خمس دقائق وجدها تخرج من المبنى و ملامح الإستياء بادية عليها، الا أنه لم يهتم بحنقها
بل أمسك بمقود الدراجة و نظر أمامه منتظرا بملامح جامدة خطيرة منتظرا الى أن وصلت اليه
فهتفت بغضب.

(بالله عليك ما هو الأمر الهام الذي يجعلك تسافر ليلا و تجبرني على النزول، اراهن على أن أمي ترانا من النافذة الآن و بالطبع ستمطرني بوابل من الأسئلة و التحقيقات عند عودتي)
لم يرد عليها سوى بكلمة واحدة، صارمة قاطعة
(اركبي)
ظلت تيماء تنظر اليه بتمرد و هي تود لو أن تستدير و تبتعد عنه كي يتوقف عن هذا التسلط الا أنها زفرت بحنق و هي تقفز خلفه، فأنطلق بالدراجة مبتعدا عن بيتها...

يداها كانت على صدره، و كان بإمكانها الشعور بنبضات قلبه العنيفة بكل سهولة
نبضات متوترة مضطربة...
وقف أخيرا على جانب طريق سريع بعد أن انحرف جانبا الى مكان شبه خال
نهض قاصي من مكانه و ألولاها ظهره بينما بقت مكانها تنظر اليه بصمت...
قبل أن تبدأ الحوار بصوت غريب
(يبدو أن الأمر فعلا خطير!)
استدار قاصي اليها يرمقها بملامحه الجامدة قبل أن يقول بهدوء خطير
(ماذا فعلت دون عملي؟).

ضاقت عيناها و عقدت حاجبيها و هي تنظر اليه، ثم قالت بغموض
(لم أفهمك، وضح كلامك)
ظل قاصي يواجهها بنظرات قاتمة الى أن قال أخيرا
(لقد رفضت أن أراك أمس، على الرغم من أنه لم يكن لديك محاضرات، لكنك خرجت من البيت، الى أين ذهبت؟)
ارتفعت احدى حاجبيها و هي تدقق النظر به قبل أن تقول ببطىء
(هل تراقبني؟)
استدار اليها كليا و يداه في خصره ليقول بمنتهى الصفاقة.

(إن أردت مراقبتك فسأفعل، و إن طلبت قائمة بجدول تحركاتك فسأحصل عليها)
ظلت تيماء تنظر اليه طويلا دون تعبير، ثم لم تلبث أن كتفت ذراعيها و هي تطرق بوجهها قائلة بغموض
(جيد)
عقد قاصي حاجبيه ثم هدر بقوة
(هذه ليست الإجابة إلى أنتظرها)
رفعت تيماء ذقنها و هي تقول ببرود
(هل تصرفاتي محل شك؟)
لمعت عيناه بشرر أشد خطورة، ثم أغمض عينيه وهو يقول
(هلا، أجبتني، رجاءا)
ابتسمت تيماء و قالت بخفوت.

(هذا أفضل، و لأجل أسلوبك المهذب سأخبرك أنه كان لدي موعد)
رفع قاصي وجهه اليها و ساد صمت متوتر، قبل أن يقول بصوت جامد كالهدوء الذي يسبق العاصفة
(موعد مع من؟)
لم تبتسم تيماء، بل ظلت تنظر الى عينيه طويلا، قبل أن تهز كتفيها لتقول بخفوت و جدية
(إنه أمر شخصي، لا أريد أخبارك).

حينها فقد قاصي السيطرة على أعصابه و اندفع اليها ليمسك بخصرها و يجذبها بعنف عن الدراجة الى أن كادت تسقط أمامه لولا أن تمسك بها و أوقفها على قدميها لكنه لم يهدأ و لم يتنازل بل هزها هادرا
(مع من كنت يا تيماء؟)
فغرت شفتيها و هي تراقب غضبا نادرا، غضبا لم ترى سوى حين أبرح زميلها ضربا...
كانت تلك المرات القليلة المجنونة حين يكون جنونه خطيرا...
لذا ظلت تراقبه قليلا قبل أن تقول بفتور خافت
(كنت مع أبي).

أجفل قاصي، و انحسر غضبه فجأة لكن ملامحه ازدادت جمودا وهو يقول بصوت غريب
(سالم الرافعي؟، لماذا، و منذ متى تقابليه دون علمي؟)
ابتسمت تيماء بسخرية قبل أن تقول بخفوت
(هل تخبرني أنك تغار من والدي؟)
زفر قاصي نفسا كاللهب لفح بشرة وجهها فأحرقها قبل أن يقول بصوت بدا، خائفا، متوترا لكن عنيفا
(اتركي التلاعب بالكلمات يا تيماء؟، منذ متى تقابليه و لماذا؟، هل عدت الى استجداء عطفه من جديد أيتها الغبية؟).

أظلمت عيناها بألم، الا أنه نفض الشفقة عن قلبه الى أن يعرف الحقيقة كاملة، فقالت تيماء ببرود
(كنت أظن أنك بت تعرفني أفضل من ذلك، لن أستجدي عطفه حتى لو كنت أزحف على وجهي، لقد نفضت تلك العواطف الساذجة منذ دهر)
سحب قاصي نفسا خشنا، قبل أن يقول بصوت آمر
(اذن لماذا طلبت مقابلته؟، هل احتجت الى المال مجددا؟، ألم أخبرك أن تطلبي مني أنا لو نفذ المال لديك!)
تجمدت ملامح تيماء و أبعدت وجهها عنه و هي تقول بصلابة.

(أنا ملزمة منه هو لا منك، سيظل اسمه مرافقا لإسمي في بطاقة هويتي، و أنا لن أقبل أن آخذ منك قرشا واحدا)
هدر قاصي بجنون وهو يمسك بذقنها ليعيد وجهها اليه
(تبا لك يا تيماء، بسبب كبريائك الغبي أثرت حفيظته في طلب المزيد من المال، من المؤكد أنه يتسائل الآن عن كيفية صرفك لكل هذه المبالغ)
عقدت تيماء حاجبيها بعدم فهم ثم قالت.

(على مهلك يا قاصي، لقد تخيلت شيئا و تتحدث بناءا على تخيلك، أولا أنا لم اطلب منه أي مال اضافي، ثانيا أنا لم أطلب مقابلته من الأساس، بل هو من فعل)
تسمر قاصي مكانه فجأة...
ثم قال تلقائيا بغموض خطير
(لماذا أراد مقابلتك؟، ماذا كان يريد منك)
أسلبت تيماء جفتيها و هي تتنهد بنفاذ صبر ثم قالت
(لا أريد أن أقول، من فضلك امنحنى بعضا من المساحة الخاصة لنفسي)
فشدد قاصي قبضته عليها وهو يقول من بين اسنانه.

(أنت تختبرين صبري اكثر من اللازم يا تيماء، انطقي حالا)
زفرت بتوتر و هي تدرك أن العواقب ستكون وخيمة، ثم هتفت بعصبية
(لا أريد الكلام، لا تجبرني)
الا أن قاصي هدر فيها بجنون
(انطقي)
حينها جن جنونها من ذلك الحصار فهتفت بغضب
(يريد أن يزوجني لأحد أقاربي، هل ارتحت الآن!)
و كما توقعت. شحبت ملامحه الصخرية، و تسمر مكانه و يداه تشتدان على ذراعيها بقوة، بينما اشتعلت عيناه ببريق متوحش...

أغمضت تيماء عينيها و هي تهمس يائسة
(ياللهي!، هذا ما حسبت حسابه)
الا أن قبضتا قاصي ازدادتا في ضغطهما بدرجة جعلتها تشهق بصمت، ففتحت عينيها لتهمس بتوسل
(قاصي أنت تؤلمني، ارجوك توقف عن هذا العنف، أهدا و خذ نفسا عميقا)
لكن قاصي كان في عالم آخر من الغضب وهو يقول بصوت خافت بطيء
(و بماذا أجبته؟)
نظرت الى عينيه و تنهدت مستسلمة بتعب، قبل أن تقول بفتور
(ماذا تعتقد بالله عليك؟)
صرخ بها مهددا
(تيماااااااء).

فصرخت هي الاخرى بغضب و هي تضرب الارض بقدمها
(تشاجرت معه و فقدت أعصابي، و كنت دنيئة جدا في التعامل معه، ثم نهضت و تركته)
ظل النظرات المشتعلة بينها و بين قاصي تنطلق دون هوادة أو رأفة، الى أن همست أخيرا بألم
(أنت تؤلمني، اهدأ أرجوك)
خفف قاصي من قبضته عليها تدريجيا، لكنه لم يحرر عينيها، بل ظل ينظر اليها بملامح عنيفة...
بداخلها يسكنها الخوف، بل تقسم أنه الرعب...

هزتها نظراته حتى النخاع، فرفعت كفها لتتلمس فكه الخشن و هي تهمس بحزن
(لا تقلق أبدا، أنت تترك خلفك رجلا حين تتركني في المواجهة، لن يجبرني أحد على فراقك)
أغمض عينيه وهو يقول بصوت أجش مختنق
(تيماء!)
عبست تيماء بقلق و هي ترى ملامحه الرجولية المرتعبة، فقالت بصوت أجوف
(ما الأمر يا قاصي؟، و لماذا كنت بمثل هذا الجنون قبل حتى أن تراني اليوم؟، هل حدث شيء؟).

ظل قاصي على ملامحه الجامدة بينما فتح عيناه ببطىء لينظر الى عمق عينيها...
ثم قال بصوت مجهد كصوتها
(لقد طلب مني والدك اليوم مراقبتك، و نقل تحركاتك بالتفصيل اليه، و معرفة من تواعدين)
شعرت تيماء أن ما سمعته للتو قد لطمها بقوة على وجهها، ففغرت شفتيها و هي تهمس بغباء
(ماذا؟، طلب منك ماذا؟)
نظر قاصي الى عينيها المصعوقتين طويلا قبل ان يقول بصوت أجش.

(طلبني للذهاب اليه، و أخذ يسألني عنك طويلا قبل أن يطلب مني مراقبتك لحظة بلحظة، حتى أنه أمرني بالسفر و الإستقرار هنا كي أعرف ان كنت تواعدين أحدا...
في البداية و في لحظة جنون ظننت أنه عرف بعلاقتنا، لكن لهجته الهادئة حين طلب مني أن أراقبك جعلت هذا الإحتمال مستحيلا)
ظلت تيماء تنظر الى قاصي طويلا، قبل أن تضحك بعصبية، ضحكة قهر و هي تقول بمرارة.

(اذن و بما أنني رفضت عرضه الكريم في تزويجي و الخلاص من همي، فمن المنطقي أن اكون أواعد احدا خلف ظهره)
قال قاصي بخفوت وهو ينظر الى عينيها محتضنا ذقنها في كفه
(هذه هي الحقيقة، اليس كذلك؟)
هزت تيماء رأسها بجنون و هي تهتف
(لا، ليست الحقيقة يا قاصي، حتى لو لم أراك أبدا، ما كنت لأقبل عرضه في تسيير حياتي بعد أن رماني لسنوات دون اي اعتبار لحاجتي اليه)
قال قاصي بصوت غريب مخيف
(النتيجة واحدة).

ألجمتها نبرته المخيفة، و نظرت الى عينيه المشتعلتين ثم قالت بخفوت
(لقد رفضت يا قاصي و انتهى الأمر، لا تخف، يقتلني خوفك هذا، أنت الجدار الصلب الذي أستند اليه، و لو رأيت الخوف بعينيك كما أراه الآن، أشعر و كأنني عارية في مواجهة رياح عاصفة)
قال قاصي بصوت أجش وهو يحتضن وجنتها بكفه القوية
(أتظنين أن الامر بهذه البساطة؟)
هزت كتفها و قالت مستسلمة بيأس.

(بالطبع لن يكون بهذه البساطة، سيحرمني أنا و أمي من دعمه المادي، و ستصب أمي لعناتها على المتبقي من عمرها، لكن ماذا بإمكاني أن أفعل؟، ماله وهو حر به)
نظر قاصي اليها طويلا قبل أن يقول بخفوت
(حين كنت طفلة، بكيت ذات يوم و توسلت إلى الا أكون السبب في ان يحرمكما والدك من المال، أما الآن)
مالت برأسها و هي تريح وجنتها أكثر على كفه، ناظرة الى عينيه لتهمس
(الآن أحببت رجلا، لن أقايضه بمال الدنيا كله).

التوت شفتاه قليلا وهو يتحسس وجنتها، فابتسمت له تطمئنه...
لكنها لم تخدعه، فقد استطاع رؤية تلك الهالات الزرقاء تحت عينيها، و شحوب وجهها و احمرار حدقتيها...
من الواضح انها أمضت ليلة أمس كلها تفكر في عواقب رفضها...
لقد ضحت تضحية أكبر مما يستطيع الكثيرين تقديمها، بخلاف أن غضب أمها على المحك أيضا...
ابتسمت تيماء لعينيه كي تخفف عنه و همست تداعبه مازحة.

(قد أضطر الى العمل أثناء الدراسة كي أعيل نفسي و أمي، لذا فستقل لحظات اجتماعنا أكثر مما هي قليلة بالفعل)
ابتسم ابتسامة حزينة، قاتمة لدعابتها، ثم قال بخشونة و بصوت مبحوح
(أوتظنين أنني قد أسمح لك بذلك؟)
ابتسمت له تيماء أجمل ابتسامة رآها في حياته، ثم قال بصوت غريب
(ليت الأمر كان بهذه البساطة يا تيماء، لقد دب الشك بصدر والدك)
عقدت حاجبيها و قالت بخفوت.

(و ما المشكلة؟، ستخبره أنك تراقبني و لم تجد ما يثير الشك)
حتى و هي تنطق بتلك العبارة كانت تشعر بتأنيب الضمير و تدني الأخلاق، لكن الأمر بالنسبة اليها منتهي...
ستتخذ أي وسيلة في سبيل الحفاظ على قاصي...
قال قاصي بصوت مشتد
(لن يهدأ و يطمئن، و لن يرتاح له بال قبل أن يتأكد من شكوكه، حتى لو كلف عشر غيري بتلك المهمة، و حينها سيعرف)
نبض قلبها بالخوف انعكاسا للخوف في عينيه، فقالت بقلق.

(فليكن اذن، لماذا أنت خائف يا قاصي؟، أنت تخيفني)
مد كلتا يديه ليحتضن بهما وجهها بقوة، قبل أن يقول ناظرا الى عينيها بعينيه العاصفتين
(الأمور في بلاد والدك لا تحل بتلك الطريقة يا تيماء، لو علم فقد يؤذيك، و بشدة)
رمشت بعينيها قليلا قبل أن تقول بصوت حذر
(ماذا تحاول أن تقول؟، هل ستتخلى عني بدافع الخوف علي؟، هل تفعل؟)
رأت لسانه يلعق شفتيه الجافتين بينما اشتعلت عيناه أكثر وهو يهمس بشراسة.

(محال، أنت لي، و لن تكوني لغيري مادام بصدري نفس يتردد، أنا على استعداد لأن أقتلك و لا تكوني لغيري)
ضحكت برقة، على الرغم من هول الكارثة العاصفة التي تحيط بهما و تهدد بسرقة فرحتهما...
ثم همست بحزن
(اذن ماذا سنفعل؟)
ظل ينظر اليها طويلا نظرات أثارت خوفها أكثر، قبل أن يقول بصوت غريب
(سنهرب)
فغرت شفتيها بذهول و هي تهمس
(ماذا؟، ماذا تقصد؟، لا يا قاصي أنا لم أصل الى هذا الحد بعد من الإنحدار).

الا أن قاصي قاطعها بصرامة قاطعة
(سنتزوج، و نهرب الى مكان بعيد فلا يعثر أحد على طريق لنا)
فغرت شفتيها أكثر، و اتسعت عيناها بذهول
و شعرت فجأة بأنها تطير على أجنحة ألف فراشة، بينما صدرها يقرع كطبول الحرب
فهمست ترتعش بعنف
(ماذا؟، هل أنت جاد؟، هل تتكلم بجدية؟، أقسم بالله سأقتلك إن لم تكن جادا)
ابتسم لها ابتسامة أطارت المتبقي من عقلها...
ثم قال بسخريته المعتادة و قد استعاد قناعه سريعا...

(ألن تتدللي قليلا و لو من قبيل بعض الكرامة!)
ضربت كتفه بقوة و هي تحاول الكلام، الا أن الكلمات اختنقت في حلقها و فوجئت بنفسها تبكي...
رفعت عينيها اليه و هي تعض على شفتيه المرتعشتين، فرفع أصابعه ليلاحق دموعها فوق وجنتها ثم همس بجدية
(هل هي دموع فرح أم حزن؟)
نظرت إلى عينيه دون تردد و همست باختناق
(أنظر الى عيناي و أجبني على سؤالك الغبي).

نظر الى عينيها بالفعل، لكنه لم يبتسم هذه المرة، بل طال به النظر اليهما وهو عاقدا حاجبيه...
اتسعت عينا تيماء هاتفة فجأة بصدمة
(قاصي، ماذا عن كليتي؟)
ساد صمت مهيب بينهما، لم يقطع سوى صفير الرياح و كأنها تدور في أنبوب أجوف...
و لم تستطع أبدا تفسير نظرات عينيه، أو اشتداد قبضتيه على ذراعيها مجددا...
و طال بهما الصمت المخيف، قبل أن يقول قاصي بنبرة غامضة.

(لن نستطيع نقل أوراقك الى نفس الكلية من جامعة أخرى يا تيماء، سيكون البحث عنك وقتها في منتهى السهولة)
وقع قلب تيماء أرضا و تفتت فجأة، و نظرت الى عينيه تطلب التوضيح...
الا أن الإجابة كانت واضحة لدرجة القسوة، فهمست بإختناق
(لكن، لكن)
صمتت، لم تجد ما تستطيع قوله، بينما كانت عينا قاصي تلاحقان كل حركة من ملامح وجهها...
تحاصران تعابيرها بوحشية...
فهتفت فجأة
(نستطيع السفر الى الخارج، و متابعة دراستي هناك).

أظلمت عيناه أكثر، على الرغم من ازدياد الجمر بهما، الا أنه جمر أسود، مر كالصديد المحتجز...
ثم قال بصوت لا تعبير به، يشبه صوت الرياح المحيطة بهما
(لا أستطيع السفر بمثل هذه السهولة، السفر للخارج يحتاج الى أوراق شديدة التعقيد)
صمت وهو يضيق عينيه، مهاجما عينيها الضائعتين، ثم قال يشدد على كل حرف كي تستوعب
(يحتاج الى هوية)
فغرت تيماء شفتيها بألم، و هي ترى اعترافه بأكثر ما يدمغ روحه المعذبة بوشم عقيم...

كانت تعلم أنه ليس ابنا شرعيا، استطاعت أن تستنتج ذلك من مؤشرات كثيرة...
الا أنها المرة الأولى التي يعترف لها بها صراحة و يضعها أمام المستقبل المخيف لهما...
أخذت نفسا مرتجفا وحاولت الابتعاد عنه...
الا ان ذراعاه احاطتا بخصرها تجذبانها الى صدره بقوة، فأصدرت أنين خافت متأوه و هي تهمس باسمه بصوت شبه باكي...
نظر اليها قاصي طويلا، ثم قال بصوت أجش خافت...
(تيماء!)
كان ينتظر قرارها...

و كانت تعلم بأنه شديد الأنانية، الا أن أنانيته لم تنبع يوما الا من واقع تملكه لها...
أطرقت وجهها، و تركت نفسها تستكين بين ذراعيه طويلا...
لا تعلم هل مرت ثوان أم دقائق، أو ساعة كاملة...
قبل أن ترفع وجهها اليه، لتنظر اليه طويلا ثم همست بإختناق
(ماذا تتوقع؟، سأترك العالم كله لأجلك طبعا)
و لم تستطع منع نفسها من الإنفجار بكاءا و هي تدفن وجهها بين كفيها...

الا أن قاصي أبعد كفيها عن وجهها بالقوة، و أمسك برأسها ليدفنها على صدره كي تبكي هناك وهو يضمها بين ذراعيه...

أظلمت عينا قاصي وهو يعود من ذكرياته القديمة الى منظر الجبل من بعيد...
تمر السنوات و لا يهدأ الشوق
تطول به الليالي المظلمة، و لا يرحمه عقله من سياط الذكرى...
شعر بها تتحرك على فراشها خلفه...
فاستدار ينظر اليها بصمت، كانت تتأوه قليلا. و هي تحرك رأسها يمينا و يسارا...
ثم فتحت عينيها أخيرا لتنظر الى السقف لعدة لحظات قبل ان تلتفت اليه وتلتقي عينيه مباشرة بعينيها الفيروزيتين...

واقفا أمام نافذة غرفة المشفى، و أشعة الشمس تنبعث من خلفه فتزيد من ضخامته و قتامة هيئته...
مما جعل صدرها يعلو و ينخفض بسرعة، و هي غير قادرة على قراءة تعابير وجهه الغامضة...
كانت يده منقبضة على شيء ما، الى جانبه، تعتصره...
وفجأة تركه يتدلى ببساطة...
فلحقته عينا تيماء ببطىء، لتتسعان فجأة بصدمة، و هي تتعرف على سلسالها، بل سلساله الذي أهداه لها منذ سنوات...

ساد صمت مرعب و تيماء تحدق به مصدومة غير قادرة على النطق أو الإعتراف...
فقال قاصي أخيرا بصوت أجش
(سلسالك القديم، سلمته الممرضة لي قبل تجهيزك للجراحة، كنت تخفينه تحت ملابسك كل تلك السنوات)
فغرت تيماء شفتيها المرتجفتين و هي تنظر اليه بنفس النظرات المرتعبة...
بينما السلسال يتدلى من قبضة قاصي و يتحرك يمينا و يسارا كالطعم...
كانت سرعة تنفسها تزيد من الألم مكان جرح الجراحة الذي لا يزال نابضا بالألم...

فنظرت مجددا الى السقف، تهرب من نظراته المحاصرة لها...
ثم قالت بصوت مختنق بائس
(أريد هاتفي، أريد الإتصال بأمي كي أخبرها أنني سأصل غدا)
ساد صمت مشحون، قبل أن يضحك قاصي ضحكة خشنة قاسية، ثم قال بهدوء ساخر
(أي غد يا صغيرتي؟، لن تتحركي من هنا قبل أسبوع بأوامر الطبيب)
اندفع راسها اليه و هي تشهق بذهول...
الا ان ألم الحركة المفاجئة جعلها تشهق ألما هذه المرة و تغمض عينيها بشدة...
قال قاصي بصوت جامد كالحجر.

(أنت تؤذين نفسك بهذا الشكل)
ظلت تحاول التنفس رغم الألم، ثم همست بصعوبة و تشنج دون أن تنظر اليه
(و هل البقاء هنا لن يؤذيني؟)
شعرت أن عيناه تحرقان بشرتها و تنفذان الى روحها المكشوفة أمامه، الا أنه قال بسخرية قاسية
(كنت تنوين الهرب، متسللة كالجبناء)
نظرت اليه بعينيها اللتين ازدادتا بريقا مدافعا رغم الإجهاد الظاهر عليهما، و هتفت بقوة.

(أنا لم اكن أهرب، لست متهمة بشيء أو مدينة لأحد بأي تبرير كي أهرب، انا ببساطة عائدة الى حياتي)
أوشكت نظراته المشتعلة على خنقها حية، الا أنه حين تكلم قال بصوت قاتم
(و لماذا لم تخبريني برحيلك طالما أنت شجاعة الى تلك الدرجة؟)
نظرت اليه و هتفت بتهور
(لا تملك أي حق علي، كي أخبرك بتحركاتي و خط سيري)
برقت عيناه ببريق متوحش ثم قال مبتسما نفس الإبتسامة القاسية.

(كنت أتذكر للتو كم كنت معنيا بتحركاتك، و لم تجرؤي يومها على معارضتي بنفس الوقاحة)
أظلمت عينا تيماء بنفس الذكرى التي طافت بينهما...
لكنها عادت و أبعدت وجهها لتقول أخيرا بإجهاد و ألم
(أريد هاتفي، رجاءا)
توقعت أن يرفض، الا أنه هز كتفه باستهانة، ثم أخرج هاتفها من جيب بنطاله و اقترب منها ببطىء كفهد يستعد للهجوم على فرسيته...
الا أنها رفضت النظر اليه الى أن مد يده بالهاتف أمامها دون كلام...

حينها رفعت يدها الجافة بفعل الجراحة، و كانت ترتجف بشدة و هي تتناول الهاتف متجنبة ملامسة أصابعه بمعجزة...
و لم يحاول هو لمسها، فأخذت الهاتف بعنف لكن لسوء حظها ما أن أمسكت بالهاتف حتى تعالى رنينه فجأة و كأنه تعرف الى صاحبته و لمحت عيناها اسم الدكتور أيمن...
فقفز الهاتف من يدها بذعر من المفاجأة و دار دورة قبل أن يسقط جانبها على الفراش، و رنينه بالإسم الواضح بينهما لا يقبل الجدل...

ضاقت عينا قاصي وهو يرى الاسم الرجولي، و لم يرفع عينيه الى تيماء و أدركت هي أنه يحاول جاهدا منع ردة فعله عنها...
لكنه قال أخيرا بصوت طبيعي
(لما لا تردين؟)
لم يخدعها هدوء نبرته، كان على وشك افتراسها في أي لحظة و هي تدرك ذلك...
فبقت ساكنة مكانها ترتعش...
لكنها صدمت حين أمسك قاصي بالهاتف ليرفعه الى اذنه و يقول ببساطة باردة كالجليد
(نعم!).

انتفضت تيماء و هي تحاول أن تمد جسمها لتطال الهاتف من بين أصابعه الا أنه أبعده عنها بملامح صارمة أما هي فتأوهت ألما لتضع يدها على الجرح تلهث بصعوبة...
بينما قال قاصي ببرود و تسلط
(تيماء لا تستطيع الكلام الآن، فلقد خرجت للتو من جراحة)
ظل قاصي يستمع الى الجانب الآخر و التوحش يزيد من ملامحه رعبا...
ثم نظر إلى تيماء اخيرا وهو يضيف مؤكدا بقساوة
(أنا ابن عمها).

ابتلعت تيماء ريقها بصعوبة و هي تنظر الى عينيه قبل ان تراه يغلق الخط دون تحية...
ثم القى الهاتف الى جوارها بإهمال...
و نظر إلى عينيها بلا تعبير قبل ان يقول بصوت خطير في بطىء حروفه
(سيأتي بنفسه، و كم أتوق الى مقابلته يا تيماء)
فغرت تيماء شفتيها مذعورة، بينما رفعت يدها لتتلمس صدرها المرتعش!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة