قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والثلاثون

نزلت تيماء بتردد...
درجة درجة، و هي متمسكة بالحاجز الخشبي الأرابيسك للسلم...
تطول بعينيها بحثا، لكن دون جدوى...
وصلت تيماء الى مائدة الفطور الضخمة، و التي كانت تحمل على متنها كل ما لذ و طاب...
و الذي هو ابعد ما يكون عن تنصيف الفطور...
استطاعت أن تميز الأفراد الجالسين...
فبعد اسبوع كامل، باتت تعرف العديد من أفراد العائلة...

عمتها زهيرة، سيدة متوسطة العمر قوية الجسد و حادة النظرات دون حرج، و هي والدة عرابي...
و ها هو عرابي يجلس بجوارها، تظن أن عرابي هذا يعيش قصة حب دون بطلة...
فهو يحب من نفسه ليل نهار...
وسيم و بداخله طفل عابث، بعكس أمه الصارمة و التي تريد تزويجه لأفضل فتاة في العالم، وحتى إن وجدتها فلن تراها تليق به أيضا...

و هذا هو أمين ابن عمها راشد، أكثرهم عقلا و اتزانا، كما انه يتميز بابتسامة غاية في الجاذبية، وسامته رجولية و هادئة...

و هذا فريد ابن عمها غانم، الأكثر جنونا و طاقة، شقيق سوار و النصف رافعي و نصف هلالي...
إنه الألطف بينهم و الايسر تعاملا معه، لكنه أيضا الأكثر استفزازا...

أما هذا الشاب الضخم متجهم الوجه دائما، هو زاهر...
متجهم و غامض مثل أخته بدور، يبدو شديد القسوة و الجلافة، لا يتبادل أطراف الحديث و لا يبالي بمن حوله...
زاهر و بدور هما ولدي عمها ناصح، و هذا العم أكثر شدة من ابنه، يكاد أن يكون عنيفا و لا يعرف سوى الشدة في التعامل و الحمد لله أنه ليس متواجدا هنا الآن...
من الواضح أن هذه المائدة أعدت للأحفاد تحديدا، بينما خلت من الجيل الاكبر...

حين خطت تيماء خطوتين، لاحظها الجميع...
فنهض اثنين منهم وهما الإثنين الأكثر اهتماما من ذئاب الرافعية...
أمين المتزن، و عرابي العاشق...
أما زاهر فقد رمقها رافضا، لا تعلم ما الذي هو رافضه في الواقع!، لكنه ولد ليكون رافضا و معترضا...
و فريد لم ينهض من الأساس وهو يتناول ما بين الجبن و الفطير، و بين عسل النحل دون انتظار أحد، لكنه لوح لها بعفوية...
ابتسمت تيماء ابتسامة دبلوماسية و هي تقترب منهم قائلة بهدوء.

(صباح الخير)
سمعت عدة همهمات، أغلبها متجهم، باستثناء أمين و عرابي...
و قال عرابي على نحو خاص...
(صباح الخير يا تيماء، اخيرا اشرقت الشمس بنزولك!)
سعل فريد فجأة وهو يختنق بلقمة طعام وقفت في حلقه، الى أن نال ضربة من قبضة شقيقته سوار، و التي كانت قوية حتى تنفس أخيرا...
قالت سوار بنفاذ صبر
(على مهلك في الطعام، كنت ستلقى حتفك ضحية لقمة فطير، ثم الا يجب عليك انتظار جدك من باب الإحترام؟)
قال فريد دون تردد.

(أنا موقفي صريح يا سوار، آنا آتي الى هنا فقط لآكل و لست مستعدا للإنتظار و كل هذه الخيرات معروضة أمامي)
قالت سوار بصرامة
(حسنا أرني شجاعتك أمام جدك و أنت تعيد ما قلته للتو)
قال عرابي بابتسامة رائعة وهو يشير الى المقعد المجاور لمقعده...
(تفضلي يا تيماء، لا تقفي طويلا و نحن نناقش خط سير معدة ابن عمك، فقد يطول الأمر و هذا هو طبعه).

ابتسمت تيماء تلقائيا، لكن ابتسامتها بهتت و هي ترى نظرات عمتها زهيرة لها و هي ترمقها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، دون أن تنسى مصمصة شفتيها بتعجب نسائي شهير...
رفعت تيماء حاجبها و أخفضت نظرها تتحقق مما ترتديه، علها تكون قد نسيت ارتداء بنطالا أو قميصا، و هذا هو سبب امتعاض عمتها والدة عرابي...
لكنها لم تجد سوى العباءة الفضفاضة كما توقعت...
قال فريد ببراءة فجأة مزيحا الكرسي بجواره.

(تعالي يا تيماء و اجلسي)
بصراحة كانت تفضل الجلوس بجوار فريد، فهو بسيط جدا و لا تشعر بالحرج معه...
و هي لا قبل لها حاليا على تحمل نظرات عرابي و غزله العفيف...
و غزله العفيف هذا تعريفه في قاموسها الخاص.

هو الغزل الذي ينتهجه الشاب الشرقي في سبيل ايقاع فتاة الزواج التقليدي التي قابلها للتو، في سبيل حثها على الموافقة، و لا مانع من بعض العواطف و اعتراف سريع بالوقوع في الحب من اول نظرة، متعجبا من تصاريف القدر...
نظرت تيماء الى عرابي و ابتسمت برقة فغارت غمازتيها و هي تقول بلطف
(سأجلس هنا، لأنه أقرب)
رفع زاهر وجهه وهو يهتف متذمرا
(الن تنتهو من هذا الحوار العبثي؟، فلتجلسي بأي مكان و انجزي، تصدع رأسنا).

سقطت تيماء جالسة على الكرسي مجفلة من صوته و هي ترمقه رافعة جانب شفتها العليا مترافقا مع حاجبها الأيسر...
لكنها قالت باثقة الكلمات
(حاضر)
رمقهما عرابي بضيق، لكنه تراجع الى كرسيه و جلس فربتت امه على فخذه و كأنها تواسيه بعد هذا الرفض المتوحش لذاته المبجلة، و ربما كان الرفض الأول في حياته كلها...
انحنت تيماء على اذن فريد و همست بغضب مشيرة بعينيها الى زاهر المتجهم.

(ماذا به هذا المخلوق؟، لماذا يعاملني كأنني ناموسة مضروبة و ميتة على الحائط؟)
نظر فريد الى زاهر، ثم همس بخفوت.

(احتار الطب في تفسير سبب تجهمه و نقمته على الجميع، لقد ولد بهذا الشكل المعقد، يالفرحتك و هنائك لو تزوجت به، ستربحين فخر انتاج العائلة كلها من النكد و البؤس، فهو مثل أخته المعقدة الصغيرة بدور و والدهما المادة الخام للتجهم و النكد، و ياللسعادة، بدور مخطوبة لفخر المفسدين، راجح ابن عمران، بصراحة نسب يشرف، توكلي على الله و اختاري زاهر، سيجعل حياتك بؤسا من أجود الأنواع).

هزت تيماء رأسها مقشعرة مبعدة عن ذهنها تخيل نفسها متزوجة من هذا الجلف...
قال أمين بتهذيب مبتسما
(هل زال الألم تماما يا تيماء؟)
رفعت تيماء وجهها اليه و ابتسمت قائلة بلطف
(نعم، شكرا لك)
رفعت زهيرة وجهها و قالت بلهجة ممطوطة بنفور والدة الزوج المعروف، قبل حتى ان يتزوج ابنها بعد.
(كيف حال امك يا تيماء؟)
ارتفع حاجبي تيماء و هي تهمس في داخلها
أمي؟، أنا من أجريت الجراحة و ليست أمي!، الا انها قالت بهدوء مختصر.

(بخير، شكرا لك)
لكن زهيرة قالت
(لماذا لم تأتي معك؟)
ارتفع حاجبي تيماء اكثر...
لكنها قالت بوضوح و دون مواربة
(كيف تأتي الى هنا و بأي صفة يا عمتي؟، أمي مطلقة من والدي و لا يصح تواجدها هنا لعدة أيام في وجوده، ثم أنها لم تأتي هنا قبلا فلماذا تفعل الآن؟)
أومأت زهيرة برأسها في ميل غير مريح و قالت ببساطة أبعد ما تكون عن البساطة...

(نعم صحيح، لكن الوضع اختلف الآن، انت على وشك الزواج من أحد أبناء أعمامك، فكيف لعروس أن تأتي مسافرة وحدها و كأنها يتيمة!)
عم المكان صمت مريع، و رفعت سوار وجهها تنظر الى ملامح تيماء الجامدة بقلق، ثم نظرت الى زهيرة بضيق على هذا الإفساد المتعمد لروعة هذا الصباح...
لكن تيماء رفعت ذقنها و قالت بتعال متعمد.

(و هل العروس هي من تأتي لخطبة العريس يا عمتي؟، انا هنا للزيارة فقط، لكن من يريد أن يخطبني سيسافر خصيصا الى أمي، في بيتها، و حينها ستفكر في الأمر، )
امتقع وجه زهيرة بشدة و نفثت نفسا بدا الدخان الهادر، اما فريد فقال هامسا مبتهجا.

(أحسنت، أحسنت يا مصيبة عصرك، لم ينجح أحد في ايقاف عمتك زهيرة عند حدها من قبل و نجا أبدا، يقال أن قبو دارها يحتوى على عدة جثث مجهولة المصدر، على أن المرجح أنهم لأناس أثارو غضبها فسلطت عليهم هذا الشعاع الذي ترمقك به الآن، رحمك الله يا تيماء، كنت طيبة و مستفزة)
قاطعهم فجأة صوت سليمان الرافعي يقول بهيبة و قوة
(صباح الخير، أرى أن معظم أحفادي قد اجتمعوا).

رد عليه الجميع بابتسامات عديدة، لكن سليمان نظر الى تيماء مباشرة...
كانت ملامحه صارمة، لا يزال غاضبا عليها...
لكن عيناه كانتا مبتسمتين، حنونتين و كأنه سعيدا بنزولها أخيرا و مشاركة أحفاده المائدة للمرة الأولى بعد رحلة عمرها الطويلة بعيدة عن عائلتها...
وقفت سوار و قالت مبتسمة برقة
(صباح الخير يا جدي، تفضل اجلس مكانك).

ربت سليمان على وجنتها بحنو أثار غيرة تيماء قليلا، خاصة و أنه جلس و جلست هي في مكانها، و مكان سوار لم يكن بجوار زوجها سليم، بل كان كرسيا خاصا بجوار سليمان الرافعي، و كأنها زوجته، لا حفيدته...
رفع سليمان وجهه الى تيماء و قال بجفاء
(كيف حالك الآن يا ابنة سالم)
لم تبتسم و شعرت بالحزن داخلها، الا انها ردت بصلابة تشبه صلابته
(بخير، شكرا لك).

و على الرغم من تهذيب عبارتها المختصرة الا انه شعر بنبرة التحدي في صوتها، مما جعله يعقد حاجبيه أكثر بغضب أبوي...
قال محدثا سوار
(أين زوجك يا سوار و لماذا لست معه قبل موعد سفره؟)
قالت سوار مبتسمة
(تعرف سليم يا جدي، يحب أحيانا أن يخرج للتأمل في الطبيعة و اليوم و بما أنه مسافر أحس أنه سيشتاق الى الأراضي و جمالها، فأخبرني أنه سيطيل المكوث بها قليلا بعد صلاة الفجر)
تنهد سليمان قال بهدوء.

(و هل هناك من يماثل نقاء روح سليم، رضا الله عنه و أرضاه، لقد ربحت به يا سوار)
ابتسمت سوار دون كلام، لا تعرف لماذا شعرت فجأة بموجة من الأسى
و كأن شيئا ما قد قبض قلبها...
أخفضت سوار وجهها و همست تستعيذ من الشيطان، لكن عينيها ضاقتا بتفكير و شرود...
لطالما كان قلبها دليلها، و تلك القرصة شعرت بها يوم، يوم وفاة والدتها...
رفعت يدها فجأة الى جبهتها و هي تغمض عينيها بخوف...
حينها قال سليمان بقلق.

(ماذا بك يا سوار؟، هل أنت مريضة؟)
رفعت سوار وجهها الشاحب و ابتسمت قائلة
(لا يا جدي أنا بخير، لقد بكرت في الاستيقاظ، هذا كل شيء)
قالت زهيرة فجأة بلهجة قوية ذات معان عدة
(قد تكونين حامل يا سوار، عسى الله أن يطعم قلبك برؤية طفل لك بعد كل هذه السنوات من الانتظار)
ساد صمت متوتر سقط على رؤوس الجميع، بينما شعرت سوار فجأة في الرغبة في الانهيار بكاءا...
ربما كان هذا هو سبب في انقباض قلبها...

ذلك الحرمان الذي فرضته على سليم منذ سنوات...
علي الرغم من انها لم تفرض عليه شيئا و لم يفرض عليها شيئا، و أنه ما تزوجها الا كي يحميها من فرض راجح عليها كزوج...
الا أنها الآن تشعر بالألم، و فكرت ربما لو ضغطت على نفسها أكثر و في وقت أبكر...
ابتلعت غصة مؤلمة في حلقها...
بينما نقلت تيماء عينيها بغضب بينهما، ثم انحنت لتهمس لفريد مغتاظة.

(اليس من المفترض أن هذا السؤال يعد شيئا نسائيا و لا يصح القاءه أمام مجموعة من الرجال؟)
ارتفع حاجبي فريد و نظر اليها بتعجب، ثم همس مذهولا
(هذا يحدث في المدن عديمة الهيبة مثللكم، أما هنا فعليك معرفة أن معدل القاء هذا السؤال يقاس بعدد المرات في اللقاء الواحد، و كلما حصلت على عدد أكبر كلما زادت فرصتك في الإنجاب، معروفة)
ضحكت تيماء رغم عنها فرفعت يدها بسرعة تغطي بها ضحكتها الخافتة...

و كان سليمان ينظر الى ضحكهما و همساتهما بغضب و نفاذ صبر، كان يبدو متذمرا و غير راضيا...
علي عكس سوار التي نظرت اليهما و ابتسمت بسعادة لتهمس الى جدها مبتهجة
(انظر يا جدي، انظر كم هما منسجمان معا، يبدو أن تيماء ستختار أخي فريد و من ستجد أفضل منه)
زفر سليمان بعدم رضا وهو ينظر اليهما، فريد بالذات يستفزه أكثر من باقي احفاده...
يأخذ الامور كلها بتهريج و دون أي حس للمسؤولية...
همهم سليمان على مضض.

(هممممم، سنرى)
نظر سليمان الى زاهر و ابتسم متفاخرا بينه و بين نفسه، و تسائل لماذا لا تختار تيماء زاهر مثلا...
رجل مهيب، يقف الصقر على شاربيه، متجهم الوجه دائما مما يمنحه مقاما و مهابة بين الناس...
عاد ليهمهم بتفكير عميق راضيا
(هممممممم)
التفت فجأة الى تيماء و نادى بصرامة
(بنت يا تيماء، تعالي الى هنا بجواري على الناحية الاخرى).

فوجئت تيماء بطلبه الصارم، الا أنها لم تملك سوى القيام و أخذ طبقها، ثم اتجهت الى المقعد الخالي بجوار على الجهة الاخرى، رأسا برأس مع سوار...
و حين بقت مكانها تنظر اليه بصمت، نظر اليها و قال بصرامة
(ماذا تنتظرين؟، أكملي طعامك، هيا)
اخفضت تيماء وجهها، و راودها شعور غريب جدا...
شعور غامر بالفرح!
بهجة غريبة انتابتها، و جعلتها تشعر للمرة الأولى كم هي مرغوبة عن حق...

بداخلها طفلة تتوق للشعور بهذا الحب الرجولي المسمى أبوة...
و على الرغم من أنها استوت شابة ناضجة الآن...
الا أن مجرد طلب فظ من جدها جعلها ترتعش بسعادة حمقاء، رفعت تيماء وجهها لتنظر اليه...
و تذكرت المرة الأولى التي رأت بها سليمان الرافعي.

منذ خمس سنوات، (اقتربي يا فتاة، تعالي الى هنا)
قصفت تلك العبارة بصوت مرعب، مزلزل
تردد صداه بين جنبات البيت الذي تقف به...
صوت رجولي عميق و قد زاده العمر قوة لا العكس، جعلها تنتفض في مكانها و ترتعش...
كانت مطرقة الوجه، لا تستطيع الوقوف على قميها الحافيتين المتقرحتين...
ملابسها السوداء مغبرة و شعرها أشعث، و كل عظمة من جسدها تؤلمها من شدة الضرب...

حين ظلت مكانها صامتة ترتعش دون أن تجد القدرة على فك اصابعها المتشابكة أو التحرك...
هدر سليمان الرافعي مجددا بصوت اكثر سلطة و قوة وهو يضرب الأرض بعصاه بعنف
(قلت تعالي الى هنا، هل أنت صماء؟)
ارتجفت شفتي تيماء ببكاء صامت، غير قادرة حتى على اصدار صوت شهقاتها المرتعبة...
تقدمت بقدميها الحافيتين المجروحتين على سطح الأرض الناعمة ببطىء شديد...
الى ان وقفت ما أن رأت طرف عبائته الرجالية...
لكنها لم ترفع وجهها...

قال سليمان اخيرا بصوت قاسي مخيف
(ارفعي وجهك)
ارتفع وجهها ببطىء كي تنظر اليه، على الرغم من الرعب الذي كانت تعيشه في تلك اللحظة...
فمن الممكن أن تكون تلك هي آخر لحظات عمرها...
قد يرفع سلاحه و يفرغ طلقاته في رأسها، و يدفنها في هذه الارض دون أن يعرف عنها أحدا...
أخذت تشهق و هي ترتجف...
كانت تريد أن تتوب قبل أن تموت...

صحيح أنها ليست نادمة على حبها لقاصي ابدا، و ستظل تحبه لآخر لحظة في حياتها و التي تقترب أسرع مما تظن...
الا أنها كانت تريد الفرصة كي تتوب...
ستموت دون أن تتزوجه، ستموت بعد أن قلبها دون رباط شرعي بينهما...
تريد فرصة كي تتوب و ترتدي الحجاب، و لن تفعل ما قد يغضب ربها أبدا...
ربما لو منحت الفرصة فستتزوج قاصي على الفور، لكنها لن تفعل ما يغضب الله و تقسم على ذلك...
نظرت تيماء اليه أخيرا...

كان شكله غريب، و هيبته مخيفة، أكثر من والدها...
بل أن والدها لا يقارن به من الأساس...
نظراته حادة كنظرات الصقر وهو يرمقها دون رحمة، الى أن قال أخيرا بصوته المرعب
(كم عمرك؟)
ابتلعت تيماء ريقها دون أن تتوقف دموعها، الا أنها همست بصوت مذبوح
(تس، تسعة عشر)
ضيق سليمان عينيه وهو يتخلل جسدها المرتعش بهما، ثم قال أخيرا بخفوت خطر
(لقد أجرمت جريمة لا يمحوها الا الدم في بلدنا).

أطبقت تيماء جفنيها بشدة و سقط وجهها و هي تشهق باكية برعب
(ياللهي، أمي، أمي تحتاجني)
الا أن سليمان ضرب الارض مجددا وهو يهدر
(اخرسي)
خرست بالفعل، ووقفت مكانها مشبكة أصابعها مسقطة رأسها و هي تبكي و تبكي...
الى أن قال سليمان بنبرة تفيض شرا
(الى أي حد أخطأت؟)
تعالى صوت نحيبها الا أنه هدر كقصف المدافع
(أجيبي)
فصرخت بعنف و هي تسقط على ركبتيها
(لم أفرط بشرفي، لم أفعل، أقسم بالله و قد تأكد والدي بنفسه من ذلك).

صمت سليمان، لكن الشر زاد على ملامح وجهه و قال بنبرة مهينة وهو يشير اليها بالعصا قائلا بازدراء
(هل أنت راضية عن منظرك هذا؟، و ما تعرضت له من ذل؟)
بقت مكانها محنية الوجه و هي تبكي بعنف...
لكن جدها ظل صامتا طويلا الى أن قال أخيرا بصوت قاسي
(عذرك الوحيد هو أنك لم تجدي من يربيك، و هذا هو الشيء الوحيد الذي سينقذك).

رفعت تيماء وجهها المتورم الباكي و نظرت إلى وجه جدها الذي بدا و كأنه لم يعرف الرحمة قبل هذه اللحظة...
لكنها استطاعت الهمس بضياع
(هل ستعفو عني؟)
قابلت عيناه الغاضبتين عينيها المتقرحتين، ثم قال أخيرا بصوت غاضب عنيف.

(الخطأ أكبر منك بكثير، و هناك من هم يستحقون عقابا أشد من عقابك، لكن رغم ذلك فعلتك لن تمر على خير يا فتاة، ستنالين عقابا شديدا على فعلتك الفاجرة تلك، و ستتعلمين الأدب و معنى العفة منذ هذه اللحظة)
أخذت تيماء تمسح الدموع عن وجهها المكدوم و هي جاثية أرضا على ركبتيها. ثم أتتها الجرأة من مكان مجهول لتقول فجأة بشجاعة
(و ماذا ستفعل مع قاصي؟).

نهض سليمان من مكانه فجأة و عبائته تتحرك من حوله بهياج و بدا وجهه شديد العنف و هو يهدر واقفا أمامها كالطود...
(أتتجرأين على ذكر اسمه يا فتاة يا عديمة الأدب؟)
تحركت تيماء على ركبتيها حتى وصلت اليه و هتفت متوسلة بشجاعة غريبة.

(أرجوك الا تقتله، أرجوك، هو لم يفعل شيئا، أنا السبب، أنا من أردت الحصول على الاهتمام وهو أراد الزواج مني، كان خطأ متهورا، لكن أرجوك الا تقتله، ليس من العدل أن تعفو عني و تقتله، أنا السبب، اقتلني معه اذن كي لا تكون ظالما)
وقف سليمان يشرف عليها من علو بنظرات نارية غاضبة، ثم قال اخيرا بصوت غامض
(هذا الاسم ستنسيه للأبد، فهمت أم أمحيه أنا من الوجود؟).

شعرت تيماء في تلك اللحظة أن قلبها قد سقط و تحطم الى آلاف الشظايا، وأن روحها قد ماتت للأبد...
و همست أخيرا بصوت ميت
(فهمت).

(تيماء، أكملي فطورك)
افاقت تيماء من ذكرياتها المريرة على صوت جدها الخشن الصلب و الذي اضافت اليه السنوات بعض الوهن دون ان تفقده هيبته و سطوته...
نظرت إلى وجهه طويلا...
كانت تظن يومها أنه سيذيقها أصنافا من العذاب...
لكن الأيام التي تلت أثبتت لها أن العذاب رأته على يد والدها في آخر جريمة له معها...
حين أمر بذبحها على أيد همجية ازهقت دمها، و كسرت المتبقي من روحها...

ما رأته في الأيام الأخيرة لها في هذه البلد كان أعنف مما تستطيع أن تتحمله...
و كلما حاولت أن تنسى، تنتابها الرجفة من الذكرى البشعة في قساوتها...
و آخر ما تذكره دائما هو صوت سليمان الرافعي يصرخ على سالم و يوشك أن يبطش به بسبب فعلته التي ثأر بها لأبوته المهانة على يد ابنته و خادمه...
أخفضت تيماء وجهها الى طبقها و هي تبتلع مرارة الذكرى...
سمعت صوت أنثوي من خلفها يقول بخفوت ووداعة
(صباح الخير يا جدي).

رفعت عينيها لترى بدور خطيبة راجح آتية و هي تعرج قليلا، الى أن وصلت لجدها فناولها يده لتقبلها وهو ينظر اليها مبتسما برفق
ثم قال راضيا
(أهلا أهلا يا صغيرة، صباح الخير يا ابنتي، تعالي و اجلسي مكانك)
تقدمت بدور ببطىء حتى اقتربت لتجلس بجوار شقيقها زاهر المتجهم، لكن و قبل أن تجلس خاطبها زاهر بصرامة جافة
(ما الذي أخرك كل هذا الوقت؟، أين كنت؟).

ظهر التوتر و الإرتباك على وجه بدور البريء و الشبيه بوجوه الغزلان، ثم احمرت وجنتيها بشدة و جلست ببطىء و هي تهمس بتخاذل
(كنت أحضر حقيبتي لأستعد للعودة الى كليتي)
تذمر زاهر وهو يقول بجفاء
(الكلية، الكلية، من يسمعك يظن أنك من المتفوقات، بينما أنت في الحقيقة تتجاوزين كل سنة بشق الأنفس، فلا أعلم ما فائدة السفر ذهابا وعودة لفتاة مثلك).

بان الارتباك اكثر على بدور، الا انها لم تستطع الرد فنظرت الى طبقها بمنتهى السلبية...
مما جعل تيماء تشعر بالغضب على هذا الزاهر الجلف القاسي...
ماذا يظن أخته؟، بهيمة تربط في البيت الى أن يتم بيعها لاقرب مشتري؟
لكن سليمان هو من تكلم فقال بخشونة.

(لا تكلم أختك بهذه الطريقة يا زاهر في وجودي، بنات الرافعي لهن حق اختيار القدر الذي تردنه من الدراسة، فلا تقسو عليها، أختك تربيتها سليمة و لا خوف عليها حتى لو سافرت الى آخر العالم)
تذمر زاهر و ظهر الرفض على ملامحه. الا أنه لم سيتطع أن يعارض جده...
أما بدور فمع سماعها لما قاله جدها، فقد وقع على صدرها مثل نصل خنجر حاد، جعلها تفغر شفتيها المكتنزتين ألما...
بينما قال سليمان متابعا برضا.

(لا تتعجل الزواج، فقريبا يصبح الفرح فرحين، زفاف تيماء و بدور معا، سيكون عرسا لسبع ليال، سيحكي و يتحاكى عنه الجميع لسنوات طويلة)
اظلمت عينا تيماء و أخذت نفسا نافذ الصبر و هي تعاود اغماضهما كي لا يرى جدها انطباعها الرافض...
لا فائدة، جدها يأبى أن الإقتناع بأن هناك من قد يخالفه...
بينما بهت وجه بدور بشدة حتى حاكى وجوه الأموات، و أظلمت عيناها هي الأخرى مثل عيني تيماء...
لكن ظلاما باردا، مخيفا...

قال سليمان بقوة فجأة
(هل رأيت راجح يا بدور خلال الاسبوع الماضي؟)
اجفلت بدور و رفعت وجهها مصدومة من السؤال فقالت متلعثمة بخوف
(لا، لم، لست)
تطوع زاهر ليقول بقوة
(و أين ستراه يا حاج، نحن هنا في البلد و لسنا في الخارج)
زفر سليمان بقوة بينما غصت بدور في لقمة يابسة تمضغها بلا شهية، ثم همست بخوف
(لا، لم أره يا جدي منذ أن أوصلني الى هنا)
أومأ سليمان بوجهه ذو الملامح الغامضة...
ثم قال بصوت أجش.

(منذ أن حدثت المواجهة بينه و بين قاصي، ابتعد كل منهما، ربما كانا في حاجة لهذا الإبتعاد)
انتفض قلب تيماء بين أضلعها و هي تسمع اسمه أخيرا، ترى اشارة اليه بعد انقطاع لسبع أيام كاملة...
لكن الإشارة لم ترح قلبها...
بل أشعلت بها نيران الخوف، هل تواجه قاصي مع أخيه!
أخاه يبدو عنيفا كأسلافه، لكن تستطيع تيماء من المرة التي نظرت بها الى عينيه أن تؤكد بأنه عنفه لن يكون شريفا أبدا...
قال سليمان بصوت خافت...

(سيكون على كلاهما تقبل الآخر، عاجلا أم آجلا)
قال زاهر بتردد خشن
(اسمحلي يا حاج سليمان، لو كنت تريد رأيي فما حدث)
رفع سليمان يده لا يقبل بمتابعة الحوار، ثم قال بصرامة
(لا مزيد من الإعتراض يا زاهر، هذا وضع علينا التعامل معه)
صمت للحظة ثم رفع رأسه ليواجه الجميع، قبل أن يقول بصرامة.

(و هذا الكلام موجه للجميع، قاصي جزء من هذه العائلة حتى لو لم يكن له وصفا مسجلا في الاوراق، علينا تقبله شئنا أم أبينا، و لا أريد ان أسمع ان أحدكم قد تجاوز حدوده معه...
لا اطلب منكم الإعجاب به غصبا، لكن عليكم تقبله، هل كلامي واضح؟)
قال زاهر متجرأ فجأة و بصوت غامض
(لكن يا حاج، خطبته لمسك، أنا أرفضها لو سمحت لي)
رفعت تيماء وجهها مصدومة، و قد سقطت شوكتها في صحنها، محدثة صوتا عاليا مزعجا...

بينما اندلعت النيران في احشائها، تحرقها بتمهل عديم الرحمة...
الا أن عيني سليمان كانتا غامضتين وهو يقول بهدوء
(هل أخبرك والدك بهذه السرعة يا زاهر؟، حسنا لقد كان الموضوع بين عددا محدودا من الأفراد، لكننا لن نخفيه أكثر، قاصي يناسب مسك و هذا هو اغلى تعويض عندي يمكنني أن أمنحه اياه)
بدت ملامح زاهر غاضبة، رافضة، و قال بتوتر عنيف
(لكن يا حاج، مسك، مسك، إنه لا يليق بها).

ضيق سليمان عينيه وهو يراقب وجه زاهر بنظرة من يراه للمرة الأولى، ثم قال أخيرا بصوت غريب هادىء
(أنت تعرف ظروف مسك يا زاهر، ظروف خاصة، تجعلها احتمالا بعيدا كزوجة لأحد أبناء أعمامها، و هذا قضاء الله لا اعتراض عليه، لذا أرى أن قاصي بالنسبة لها سيكون راحة، و هي ستكون له عائلة)
تجهمت ملامح زاهر اكثر و أكثر، بينما شعرت تيماء أن النيران تندلع متجاوزة أحشائها الى سائر أطرافها...
مسك عائلة له، لقاصي؟

لا، العبارة ليست متناسبة...
هي وطن قاصي، هي وحدها أرضه...
هو من أخبرها بذلك...
و همس في أذنها بحرارة الهبتها
كم قتل من رجال دفاعا عن الأرض، و أنت أرضي يا تيمائي المهلكة. سأموت لأجلك.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة