قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والثلاثون

رمشت تيماء بعينيها و ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم رفعت وجهها الشاحب و قالت بفتور ميت
(أي ظروف خاصة؟)
نظر سليمان اليها و كأنه متفاجئا بكلامها بعد صمت طويل، قائلا
(ماذا؟)
ردت تيماء بنفس الفتور
(ذكرت للتو يا جدي أن مسك لها ظروف خاصة تجعل قاصي هو الأنسب لها، أي ظروف تلك التي تجمعهما؟)
ضاقت عينا سليمان أكثر و اكثر، كانت نبرة تيماء بها اتهام قديم، عمره خمس سنوات...
لكنه أجاب بهدوء و وقار.

(أنت كنت بعيدة، لا تعرفين الكثير مما حدث لأختك، لقد أصيبت مسك بورم خبيث أثر على قدرتها على الإنجاب، لهذا تركها خطيبها و انهارت حياتها فجأة، الا أن كل همنا كان علاجها فقط دون الإهتمام بشيء آخر، لقد ظلت لأشهر تعالج بالعلاج الكيماوي خارجا، و كان قاصي هو من بقى بجوارها دائما بناءا على طلبها لم يتركها للحظة، هذه الأشهر قربت بينهما، و في نفس الوقت باعدت بينها و بين حلم الإنجاب).

انتهى سليمان من سرد الأحداث الأليمة بهدوء خافت...
بينما شعرت تيماء في تلك اللحظة أن مطرقة قد سقطت على رأسها و هشمتها...
امتلأت عينيها بالدموع فجأة دون أن تذرفها، و هزت رأسها بصدمة و هي تهمس ذاهلة بارتياع
(سرطان!)
اطرق سليمان بوجهه و قال بخفوت
(قدر الله و ما شاء فعل)
شعرت تيماء في تلك اللحظة بالعالم يدور من حولها بسرعة رهيبة، و صراخ مدوي يصم أذنيها...
فهزت رأسها و همست بصوت مختنق و هي تنهض واقفة.

(اعذروني، أشعر بالدوار، أريد أن أستلقي بغرفتي قليلا)
نهضت دون أن تسمع ردا و أسرعت الخطا متعثرة بطرف عبائتها السوداء...
و الصراخ المدوي يطوف بها بجنون ممزقا صدرها بعنف و دون رحمة...
بدت كلمات جدها في أذنها كصراخ لا يرحم...

لقد ظلت لأشهر تعالج بالعلاج الكيماوي خارجا، و كان قاصي هو من بقى بجوارها دائما بناءا على طلبها لم يتركها للحظة، هذه الأشهر قربت بينهما، و في نفس الوقت باعدت بينها و بين حلم الإنجاب، و كان قاصي هو من بقى بجوارها دائما بناءا على طلبها لم يتركها للحظة، هذه الأشهر قربت بينهما،
سرطان، سرطان، ارتمت تيماء على فراشها و هي تبكي بعنف، تلومهم جميعا، جميعهم...
هذا ليس عدلا، ليس عدلا...

جالسة خلف مكتبها تعمل على حاسوبها النقال...
كانت مستغرقة في العمل الشاق منذ ساعات طويلة دون أن تأخذ دقيقة من الراحة...
كان العمل عبارة عن دوامة تبتلعها كل يوم و تلقي بها في نهاية النهار كجثة هامدة على سريرها...
و هذا ناسبها جدا...
هذا هو النمط من الحياة الذي كانت تريده...
لا يترك لها أي فرصة لحكايا القلب، أو المزيد من الإحساس بالغدر...
هذه هي الحياة المثالية بالنسبة لها...

فتح باب مكتبها فجأة بكل عنف و دون استئذان...
فانتفضت مسك مكانها و هي ترفع وجهها لترى أمجد الحسيني يقتحم مكتبها بملامح مكفهرة...
الى أن ألقى أمامها على سطح المكتب ملفا ورقيا و قال بعنف و فظاظة
(هل يمكنك تفسير معنى هذا؟)
كانت مسك لا تزال مسمرة مكانها، غير مستوعبة لهذا الهجوم الوقح...
الا انها تمالكت نفسها سريعا و قالت بمنتهى البرود.

(بما أنك أنت من اقتحمت مكتبي للتو دون اذن، فعليك شرح ما تريد تفسيرا له اولا، و ثانيا تبرير هجومك الغير مسموح به في مكتبي الخاص)
اظلمت عينا أمجد بنظرة لم تراها مسك من قبل...
كان وجهه يرتج من الغضب و لم يسبق لها أن رأته منفعلا حتى...
مر أسبوع كامل منذ أن بدأت العمل هنا معه...
كان يعاملها خلال السبعة أيام بمنتهى الصلف و البرود...

لاحظت أنه أنيق التعامل مع الجميع، لطيف وودود بما يتجاوز كل الحدود العملية، بدءا من أكبر منصب و حتى أصغر عامل...
يقوم بتدليل العاملين حد الفشل...
الا هي...
كان يصل عند حدودها و يتحول الى شخص في منتهى انعدام الذوق...
لكنها في الواقع لم تهتم كثيرا...
طالما أنه لم يتجاوز حدوده معها فهي خير قادرة على التعامل مع أمثاله...
و تجاهل كل محاولات استثنائها في التعامل تزيد من غضبه اكثر...
لكنه اليوم كان مختلفا...

كان يبدو غاضبا بطريقة مخيفة لغيرها، لكن ليس بالنسبة لها...
تكلم أمجد وهو يميل اليها ليستند الى سطح المكتب بكفيه، حتى أصبح وجهه مقابلا لوجهها قائلا بازدراء حقيقي
(من تظنين نفسك؟)
عقدت مسك حاجبيها قليلا امام تلك الطاقة العنيفة من الغضب الأسود الموجهة لها شخصيا...
لكنها تمالكت نفسها للمرة الثانية و قالت ببرود
(عفوا!)
كلمتها الباردة المعتادة كانت كفيلة لافقاده آخر ذرات السيطرة على نفسه فهدر في وجهها بقوة.

(توقفي عن قول تلك الكلمة الغبية التي لا تعني شيئا سوى أنك لا تجدين نفسك قادرة على المواجهة)
عند هذه النقطة قفزت مسك من مكانها تنتفض بجنون و هي تهتف مشيرة الى الباب بغرور
(هذا يكفي، أخرج من مكتبي حالا و الا ناديت الأمن لك)
صرخ بها أمجد بصوت جهوري في نبرة واحدة أجفلتها
(اجلسي مكانك)
ارتبكت ملامح مسك أمام تلك الصيحة الرجولية الحازمة...

من يظن نفسه؟، و لماذا هي صامتة؟، لماذا لا تمسك بأقرب شيء و تضرب به جبهته...
صرخ أمجد صرخة أخرى أكثر صرامة
(اجلسي)
وجدت مسك نفسها تجلس دون ارادتها الحرة، الا أنها رفعت وجهها تنظر اليه بصمت و تراقب هذا الجنون القاتم لشخص عرف ببروده، و انتابها الفضول لمعرفة السبب إلى أثار جنونه الى هذا الحد...
قالت مسك اخيرا بنبرة جليدية تثير الإعجاب.

(هل تظن نفسك الآن أكثر رجولة بعد أن علا صوتك؟، اسمحلي علو صوتك و صراخك أضعفك بنظري جدا، خسارة)
ضاقت عينا أمجد و انقبضت كفاه على سطح المكتب وهو يلاحق ملامحها بنظرات كالسهام...
نظرات غريبة للغاية...
نظرات من يقوم بتحليل حالة خاصة و مستعصية أمامه...
و هذا الشعور اغضبها و كأنها فأر تجارب...
تكلم أمجد أخيرا و قال بصوت هادىء أخيرا، الا أنه بدا أكثر اهانة من صراخه...

(هل أراحك ما قلته الآن؟، ربما تنتظرين مني كهمجي أن أتعدى عليك أو أضربك مثلا فاقدا السيطرة على اعصابي كي يمكنك ايقافي بواسطة الشرطة)
رفعت مسك حاجبها الرفيع الأنيق و قالت ببرود
(أستطيع فعل ذلك الآن، لقد منحتني أكثر من فرصة، لكن لأن حظك سعيد اليوم، لقد أثرت فضولي لمعرفة سبب غضبك الهمجي هذا، فهلا جلست و ابتعدت عن مجال أنفاسي كي نتكلم بهدوء؟).

شعرت بانفاسه تحرق الجو من حولها، فضاقت عينيها هي الاخرى و سيطرت على نفسها كي لا تخدشة بأظافرها...
تراجع أمجد أخيرا، لكنه لم يجلس، بل رمقها بنظرة مزدرية، ثم استدار عنها يوليها ظهره و يتجه الى النافذة و كأنه يأنف من النظر اليها...
ثم قال أخيرا بصوت قاس كالرخام المصقول، جارح الحواف
(انظري الى الملف أمامك).

أرادت أن ترميه بالملف فيضرب مؤخرة رأسه بكل قوتها و أوشكت على الرفض ببلادة الا ان فضولها تغلب عليها، ففتحت الملف و طالعته من فوق أنفها المتعالي و تحت نظارتها...
ثم لم تلبث أن رفعت حاجبيها بتعجب حقيقي و نظرت اليه متسائلة بعدم تصديق
(هذه دراسة اقتراحي الذي قدمته الى مجلس الإدارة و تمت الموافقة عليه، هل هذا ما أثار غضبك؟، بالله عليك هل أنت واع لنفسك؟، ظننتك تشك بأنني ارتكبت جريمة!).

التفت اليها أمجد مندفعا، يراقبها عن بعد بعينين غير مستوعبتين، حارقتين...
ثم قال أخيرا بصوت غريب، اجش و باهت...
(الا تعدين تسريح عشرين عاملا في الشركة، و مئة من عمال المصنع جريمة؟
مئة و عشرين فردا، كل منهم يعيل أسرة، أي أن مئة و عشرين أسرة ستفقد مصدر دخلها بين ليلة وضحاها...
ان لم تكن تلك جريمة؟، فكيف تكون الجرائم من وجهة نظرك؟).

كانت مسك لا تزال جالسة مكانها تنظر اليه غير مستوعبة بعد، ثم قالت اخيرا بلهجة عملية باردة
(لا أصدق أنني اسمع هذا الكلام من شخص يحتل مثل منصبك و يشهد له الجميع باتقانه لعمله و تفوقه به، سيدي الفاضل نحن لا ندير مجمع خيري، لو كان كذلك لكنت تفهمت وجهة نظرك...

المئة و عشرون عاملا لا أنظر اليهم على أنهم حالات انسانية، أنا أدرس طاقاتهم و أقرر إن كانو مصدر فائدة أم مجرد أماكن مشغولة و مهدرة، نحن هنا قطاع خاص، لأشخاص وضعوا أموالهم في هذا المكان كي يتم استثماره...
ليست وظيفتي هي اعداد تقرير اجتماعي لما يخص كل اسرة، أنا فقط أقوم بعملي)
التوت شفتي أمجد وهو يقول بسخرية سوداء
(ماذا توقعت؟، هل تخيلت للحظة أنني قد أخاطب بك أي ذرة انسانية متواجدة بداخلك؟، عبثا!).

شعرت بالإهانة تستفزها و تشعل وجنتيها الا انها لن تسمح له بافقادها لأعصابها، لذا تراجعت للخلف و شبكت اصابعها فوق ركبتيها و هي تقول ببرود
(ها أنت تتكلم عن الإنسانية و تحول الأمر الى موضوع شخصي، لم تستوعب كلمة مما نطقت به للتو)
نظر اليها أمجد طويلا...
كانت ترتدي حلة بيضاء، و شعرها الناعم مجموع في ضفيرة قصيرة مرتاحة تلامس كتفها الأيمن...
كبريائها يزيدها جمالا و أناقتها مصدر خطر على كل من يراها...

الا أن روحها تحمل سوادا لا يناسب هذا المظهر الخارجي الرائع مطلقا...
لقد ضاق بها جميع العاملون هنا منذ اليوم الأول بسبب تعنتها و معاملتها لهم بمنتهى الإهانة...
و تلقائيا أصبح يعاملها بنفس المعاملة، معاملة من هم أدنى...
الغريب في الامر أنه ما ان يعود الى بيته مساءا، يجد نفسه شاعرا بالذنب...

لم يسبق له أن عامل امرأة على هذا النحو من قبل، وهي جديدة في هذا المكان وهو لم يسهل لها الأمور مطلقا، و مع ذلك لم تشكو لأي أحد كأي فتاة مدللة مرفهة كما ظنها...
لذا كان يقرر كل مساء أن يكون في اليوم التالي أكثر لطفا معها...
لكن ما أن يراها حتى تستفزه احدى تصرفاتها و يعاود معاملتها بطريقة أكثر سوءا...
كان يتعامل معها بطريقة غير احترافية اطلاقا وهو يعرف ذلك...

لكن منذ متى كان يتعامل مع البشر على أنهم مجرد أدوات في مجال عملي يتطلب الاحترافية...
كان هذا هو أحد أكبر عيوبه في العمل وهو يعترف بذلك...
لكنه استطاع أن يتحايل على هذا العيب و يخفيه مقارنة بعمله المعروف بالكفاءة منقطعة النظير...
اليوم صباحا ما أن وصل ووجد القرار الخاص على سطح مكتبه...
شعر فجأة بثورة عارمة تهدر في أعماقه...
بهذه البساطة!
من تظن نفسها؟

تكلم أمجد أخيرا و قال بهدوء جليدي متابعا كلامها الأخير
(الموضوع فعلا شخصي و قد خيبت أملي كثيرا)
انعقد حاجبيها متفاجئة...
أولا، هل كان لديه أمل بها؟، هذه معلومة جديدة تماما، لكن فليبلل امله و يشرب ماءه عله يختنق بشربة منه و يموت و ترتاح من صلافته...
ثانيا وهو الأهم...
لماذا يدعي أن الأمر شخصي؟، ما مصلحتها؟
رفعت مسك ذقنها و قالت ببرود
(هل تتهمني أن لي أغراض خاصة في الأمر؟).

رفع أمجد أحد حاجبيه و لم يحيد بعينيه عن عينيها و هو يقول بصوت غريب، قاسي و مزدري
(أليس لك أي أهداف شخصية في الامر؟)
ازداد انعقاد حاجبيها و فغرت شفتيها قليلا و هي تهز وجهها غير مستوعبة، ثم قالت أخيرا بحذر ناري
(أنا استلمت العمل منذ اسبوع فقط، و قبلها كنت أعمل في الخارج، لما قد يكون لي هدف خاص في الأمر؟، هل أريد احضار افراد عائلتي مثلا لشغل المناصب الخالية؟).

ظل أمجد ينظر اليها الى أن قال أخيرا بصوت خافت أكثر قسوة
(أتعلمين ماذا، ظنتتك شخصية مختلفة، ظننتك مثيرة للإعجاب بثقتك الزائدة بنفسك، لكن تبين لي أن تلك الثقة ما هي الا قناع رخيص تخفين خلفه نفسا مهتزة لا ترغب الا في الإنتقام)
فغرت مسك شفتيها بذهول...
و همست دون تفكير.

(هل أنت مجنون؟، صدقا؟، هل أنت مجنون؟، بدأت أشك في أنك غير متزن عقليا اطلاقا و تنتابك الهلاوس بين الحين و الآخر!، أي قناع و أي انتقام!، لماذا أنتقم من مجموعة من العاملين؟)
ابتسم أمجد ابتسامة ساخرة سوداء محتقرة، ثم قال أخيرا بصوت غريب
(واجهي نفسك بتلك الأسئلة و احصلي على الجواب بنفسك، لأنني في كل الأحوال قدمت ورقة مفادها أنه إما أنت و إما أنا في هذا المكان).

اتسع فمها اكثر و تأكدت الآن من انه مجنون تماما، فقالت بعدم تصديق
(هل ستترك العمل لمجرد اقتراح و دراسة قمت بتقديمها. بينما القرار الحقيقي صدر من مجلس الإدارة؟، لا أعلم كيف وظفوك من الأساس و هذه هي ردات فعلك على الخلافات، أنت انسان متطرف!)
ابتسم باستهانة وهو يقول بقسوة
(اقنعي نفسك بهذا ضمن سلسلة الإقناعات التي تستيقظين و تحفظينها دون كلل مع كل صباح).

اندفع أمجد خارجا من مكتبها أمام عينيها الذاهلتين، الا أنه استدار اليها قبل أن يخرج و قال بلهجة غريبة
(تلك الفتاة الصغيرة أسماء التي تعاملينها بمنتهى الإحتقار، ترعى ثلاث أطفال، وهم أطفال أختها التي توفيت منذ خمس سنوات، أحد هؤلاء الأطفال تم تشخيص اصابته باللوكيميا منذ فترة)
شعرت مسك أنها قد تسمرت مكانها، و بهتت ملامحها تماما بينما تهدلت شفتاها بشرود غريب...
لكن أمجد لم يلاحظ ذلك بل تابع بمنتهى القسوة.

(و احذري ماذا، اسمها ضمن قائمة العمال اللذين تقرر تسريحهم من العمل)
صمت للحظة ثم ابتسم ساخرا وهو يقول
(آآه اعذريني، لقد نسيت أنك لا تعدين تقريرا انسانيا عن حالة كل عامل، سامحيني لأنني عطلتك بمثل هذه الامور التافهة)
خرج أمجد من المكتب مندفعا، بينما بقت مسك جالسة مكانها تنظر الى الفراغ بملامح، تشع ألما...

وصلت مسك الى بيتها أخيرا، تجر ساقيها بتعب و تخاذل...
غرتها الطويلة منسابة بعد ان تحررت من ضفيرتها القصيرة و لامست فكها بحرية...
عيناها بركتان من العنبر القاسي، مشوب بحزن في عمقه...
اليوم كان مرهقا نفسيا الى حد الرغبة في اغراق نفسها بحوض الاستحمام...
ذلك الحقير أمجد...
الحقير الذي صبت عليه لعناتها منذ خروجها من العمل، هو السبب في حالتها المأساوية تلك...

لقد انهارت و عليها ان تهدىء من نفسها، وحيدة بشقتها الخالية...
فتح المصعد أبوابه، الا أنها شهقت ما أن بادرتها فتاة بالهتاف مرحة
(مسك، يالها من صدفة سعيدة، كيف حالك؟)
نظرت مسك الى الفتاة بقنوط...
في الحقيقة هي شابة ودودة، تماثلها عمرا، مبتسمة باستمرار...
تقطن بنفس الطابق الذي يضم شقة مسك...
اسمها وفاء، متزوجة و لديها طفلة جميلة صغيرة...

انتقلت وفاء و زوجها و طفلتها الى هذه الشقة أثناء وجود مسك في الخارج...
و ما أن عادت مسك من السفر حتى سعت وفاء الى التعرف عليها
كانت ممتنة لمسك جدا...
لأنها و بعد تبادل حديث يائس قصير، قدمت لها خدمة و توصية الى طفلتها الصغيرة في مشفى خاص باهظ الثمن...
طفلتها كانت تعاني من حالة معينة و تحتاج الى علاج مبكر...

و مسك لها علاقات قوية بادارة هذه المشفى و المالكين لها، لذا قامت بمساعدتها و من يومها و تلك الشابة تتمنى لو تستطيع أن تحمل مسك من على الأرض و توصلها الى شقتها كل يوم...
وفاء لطيفة، الا أن أسئلتها كثيرة جدا و بدأت تتصف بالتطفل
كانت تسألها عن مكان عملها ووظيفتها ووظيفة والدها و اسمه، حتى شعرت مسك بضرورة تجنبها قليلا...
لكنها كانت اليوم اكثر ارهاقا من محاولة التزام الحزم معها، لذا ردت باجهاد.

(مرحبا يا وفاء، أنا بخير كيف حال طفلتك الآن؟)
ردت وفاء مبتهجة بامتنان و أعين دامعة
(مهما قلت لن أوفيك حقك أبدا)
أغمضت مسك عينيها و حكت جبهتها باعياء و هي تهمس
(وفاااء ليس مجددا رجاءا)
أسرعت وفاء بالقول
(لا بأس، لا بأس، اسمعي، لي عندك رجاء خاص، ما رأيك لو نخرج سويا في يوم خلال الاسبوع القادم)
فتحت مسك عينيها و قالت بخفوت
(كنت أتمنى حقا يا وفاء، لكن كما ترين أنا أعود من عملي بوقت متأخر مرهقة للغاية).

قالت وفاء بلهفة...
(يوم عطلتك، رجاءا يا مسك، أنا أحتاج لها جدا)
تنهدت مسك بتعب و لم تستطع ان تفكر بشكل سديد، لذا قالت باستسلام
(لا بأس فليكن يوم العطلة اذن، هاتفيني و نتفق على الساعة)
ابتعدت مسك، بينما أسرعت وفاء الى شقتها و ما ان أغلقت الباب خلفها حتى اخرجت هاتفها طلبت رقما ثم انتظرت و قالت بسعادة.

(نعم يا خالتي، لقد اتفقت على موعد مع جارتي، و كما اتفقنا ستأتيان بمحض الصدفة، و عسى الله أن يتمم على خير، إنها عروس لن يجد مثلها أبدا).

دخلت مسك مرهقة و رمت حقيبتها جانبا...
ثم القت بنفسها على احد المقاعد و هي تخلع حذائيها و ترمي بهما بعيدا، انحنت الى الامام و هي تدلك قدميها المتعبتين من الكعب العالي...
لكن رنين الهاتف جعلها تتوقف فجاة و تنظر الى حقيبتها الملقاة بعيدا...
زفرت مسك بقوة و هي تهمس بغضب
(لماذا لا ينتهي هذا اليوم؟، ماذا يريد الجميع مني؟، لماذا يلاحقني الجميع، أريد الوحدة، فقط أنشد الوحدة).

نهضت من مكانها بغضب و انحنت لتلتقط حقيبتها و انتزعت منها هاتفها لترد بحدة
(ألوووو، من معي؟)
ساد صمت قصير قبل ان تسمع الصوت الرجولي الذي تعرفه جيدا، يصلها خافتا
(نفس الرقم يا مسك؟)
تسمرت مسك مكانها، و دارت حول نفسها قليلا، ثم توقفت وسألت بخفوت جامد رغم معرفتها بالجواب
(أشرف؟)
ساد نفس الصمت القصير، ثم قال بخفوت
(كيف حالك يا مسك؟)
أطرقت مسك بوجهها لتنظر ارضا، ثم قالت ببرود
(بخير حال، كما رأيتني تماما).

قال أشرف بتردد
(بدوت جميلة، جدا)
رفعت مسك وجهها بملامح جامدة كالصخر، و أنف مرتفع، الا أن صدرها كان يؤلمها بعنف...
ثم قالت بلا تعبير
(شكرا لك، يبدو كذلك فعلا)
ساد الصمت مجددا، فقال اشرف بصوت حازم رغم خفوته
(يجب أن اراك يا مسك، أحتاج أن أتكلم معك، رجاءا لا تخذليني)
علت شفتيها ابتسامة ساخرة حزينة، ثم سألت بصوت ناعم ذو نغم مميز
(اخذلك؟)
كانت نبرتها واضحة، الا أنها لم تثنيه فقال مندفعا.

(مسك أريد الكلام معك قليلا، أنت لا تزالين ابنة عمي رغم كل شيء، على الأقل لأجل صلة القرابة)
جلست مسك على المقعد ووضعت ساقا فوق الأخرى بأناقة، ثم قالت بهدوء و ثقة
(لم أكن أنوي أن أستثنيك من حياتي كابن عمي يا أشرف، لو كنت حضرت الإجتماع العائلي لكنت رأيتني و تكلمت معي، لكنك تخلفت عن الحضور)
قال أشرف بصوت مكبوت
(تعرفين موقفي يا مسك، لم أكن أستطيع الحضور)
ابتسمت مسك و قالت بخفوت ساخر
(نعم، أعرف موقفك).

قال أشرف مستغلا هدوئها الذي لم يتوقعه و تهذيبها، فقال برجاء
(هلا تقابلنا بأحد المقاهي؟، رجاءا)
قالت مسك بصوت حازم
(يبدو أنك لم تعرفني يا أشرف رغم السنوات الطويلة، صحيح أنك ستظل ابن عمي دائما، الا أن هذا لا يعني خروجي مع رجل متزوج، دون علم زوجته)
أضافت العبارة الاخيرة مشددة على كل حرف، و كما توقعت سمعت صوت أنفاسه المترددة...
لذا قالت بلهجة هادئة لا تحمل أي تعبير
(اتركها للظروف يا أشرف، يوما ما سأسمعك).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة