قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والأربعون

بعد أربعة أشهر، و عشرة أيام
أول يوم بعد انتهاء عدتها، تمالكت نفسها و نزلت من جناحها أخيرا...
أربعة أشهر امتنعت فيها عن الكلام و اكتفت بالسمع...
كان الدار يعج بالبشر، ما بين عوييل النساء و عزاء الرجال، الى البدء في المناقشات المحتدمة و التي كانت أحيانا أصواتها تتعالى و تصل جناحها...
و هي ثابتة لا تهتز، و كأنها تحولت الى تمثال حجري، يراقب و لا يتحرك...

كانت الكارثة قد بدأت آثارها تهدد أمن البلدة بأكملها...
لكنها لم تهتم بالبلد، كانت حاليا أكثر أنانية في التفكير في احتراق صدرها الذي لا يخمد...
نزلت سوار السلالم و هي ممسكة بالسياج الخشبي...
هادئة مرتفعة الرأس، عيناها لا تحملان أي تعبير أو شعور، لا تحملان سوى القوة و العزم...
تعرف أن اليوم سيعقد اجتماع ضخم لكبار رجال البلد من العائلتين. في القاعة الكبرى...

و كلما نزلت درجة سمعت أصوات الرجال تصلها أكثر وضوحا...
حتى أنها استطاعت تمييز صوت ليث من بينهم، كانت نبرة صوته مميزة و يمكن تحديدها من باقي الأصوات...
وصلت الى الطابق الأرضي و اتجهت مباشرة الى القاعة التي يجتمعون بها...
و لامست الباب الخشبي الضخم و هي تضيق عينيها العسليتين كي تستمع جيدا...
الآن علا صوت جدها...
كان مرهقا، مثقلا بالحزن، الا أنه بدا كمن يغالب نفسه كي يستجمع آخر قواه وهو يقول بهيمنة...

(لقد هرب بعد ان ارتكب جريمته الخسيس، و لو كان ثأرا بحق لما كان هرب و لكان بقى رافعا رأسه بين الرجال، لو كنت تعلم مكانه و تخفيه يا ليث فأنت بهذا الشكل تنزل من قدر عائلتك)
علا صوت ليث يقول بسطوة.

(لست أنا من يخفي قاتلا بغير حق يا حاج سليمان، اننا نبحث عنه في كل ما كان، و كل ما عرفناه حتى الآن هو شهادة من رجلين برؤيتهما لما حدث، ثم اختفى فواز الهلالي من بعدها، و نحن لا نكف عن البحث عنه، لقد ترك خلفه زوجة و طفلين)
سمعت سوار صوت رجلا آخر و كأنه الشيخ اسماعيل يقول.

(هذه الحادثة ستفتح باب الدم من جديد، لقد ضاع من قبل رجالا أشداء بعد فعلة متهورة مثل تلك، لقد فقدنا في احداها خمسة رجال دفعة واحدة، و أربعة من العائلة الأخرى تلوهم باشهر قليلة، ترملت نساء و تيتمت أطفال، و فقد أمهات أولادها)
سمعت سوار صوت عصاة جدها و هي تضرب الأرض بقوة...

(الدم كان قد جف، و تشربته الأرض منذ سنوات طويلة، و بسبب هذا الخسيس فقدت أحب أبنائي و احفادي الى قلبي، لقد قتل فخر تلك العائلة، قتل سليم الرافعي)
أغمضت سوار عينيها و هي تلامس الباب كأنها تستند اليه خوفا من أن تسقط أرضا...
تحارب الدموع العنيدة التي تريد الإندفاع من عينيها و كانت حربا شعواء الى أن انتصرت عليها و ابتلعتها فانسكبت على قلبها و لم تذرفها عينيها...

أخذت نفسا عميقا بدا و كأنه يحفر في صدرها من شدة المه...
الا أنها عادت و فتحت عينيها و قد بدتا أقوى، و اكثر صلابة، فاقدتي لأي أثر للشفقة أو التخاذل...
عاد صوت الشيخ اسماعيل يقول
(يا حاج سليمان هون على نفسك، ما اجتمعنا هنا الا لنفكر في اغلاق هذا الباب من جديد قبل أن تتجدد الكوارث و يتيتم المزيد من الاطفال)
هدر صوت سليمان الرافعي مزلزلا...

(الكارثة حدثت و انتهى الامر، أحفادي مصممين على الأخذ بثأر ابن عمهم و أنا لا أستطيع منعهم)
هنا سمعت سوار صوت رجلا آخر، أستغرق منها الأمر عدة لحظات كي تعرف أنه مدير الأمن...
مدير الأمن بنفسه يحضر هذه الجلسة!
فقال بصوت حازم
(يا حاج سليمان أنت تعترف الآن باقبال احفادك على ارتكاب المزيد من الجرائم امامي، و القانون لن يتهاون)
ضرب الحاج سليمان الأرض مجددا وهو يهدر.

(و أين كان هذا القانون وهذا الخسيس يهرب بعد فعلته؟، و كيف أمنع أحفادي من ان يكونوا رجالا و ينالو ثأرهم، رافعين رؤوسهم)
هتف مدير الأمن يقول بقوة
(أنت ستخسر المزيد من أحفادك بهذا الشكل يا حاج سليمان، و هذا الثأر لن يجلب الا الخراب، و أما عن فواز فنحن نبحث عنه و لن نتهاون في ايجاده، الآن علينا أخذ ميثاق من العائلتين في ايقاف الأمر الآن و حالا)
ساد صمت مهيب في الداخل...

جعل سوار تستند الى الباب بأصابعها و تقترب أكثر، كي تسمع و عيناها تبرقان كالرخام الصلب دون حياة، بل بعزم لا يلين...
الى أن قال سليمان أخيرا بصرامة رغم الألم الظاهر في نبراته
(لا كلام الا بعد أن يظهر هذا الخسيس و يقدم كفنه بيده، حتى أبصق عليه و)
اختفى صوته بعد أن تحشرج و اختنق، و بدا و كأن القوة التي حارب لاستجماعها قد نفذت...
سمعت سوار صوت ليث يعلو ليقول بقوة.

(أنا لن أخفيه يا حاج، ولو وجدته فسأسلمه للعدالة بيدي، ثق بهذا)
علا صوت آخر يقول
(و منذ متى كنا نسلم أولادنا للشرطة؟، تلك الأمور تظل بيننا و نتعامل معها برجولة)
هدر صوت مدير الأمن ليقول بغضب
(أنتم لا تقدرون وجودي هنا و أنا لن أقف مكتوف الأيدي بهذه الطريقة، أرى ان يتم حسم الأمر الآن و حالا لأنني لن أسمح بالتغطية على المزيد من الجرائم مطلقا مهما كانت مسمياتها).

تصلبت عيني سوار أكثر و أكثر، و و بدت كعيني الفهود في قوتها و هي ترهف السمع...
الى أن قال الشيخ اسماعيل...
(لقد أخذنا عهد على كبار رجال عائلة الهلالي بالبحث عن فواز و ايجاده و تسليمه، على أن يتم عقد الصلح بين العائلتين و أخذ عهد من عائلة الرافعي بأن يتم وقف الدم قبل أن يبدأ)
قال صوت سليمان الذي بدا بعيدا، ميتا، فاقدا للروح
(أولم يبدأ الدم بعد يا شيخ اسماعيل؟، لقد بدأ بدم أغلى الناس، دم سليم ولد ولدي).

عادت سوار لتغمض عينيها و هي تهمس في دعاء لله أن يمدها بالمزيد من القوة كي لا تسقط الآن...
بينما قال الشيخ اسماعيل...
(ليس هناك دم أغلى من دم يا حاج سليمان، يشهد الله على معزه سليم رحمه الله لدى الجميع، لكننا الآن نحاول أن نمنع اراقة المزيد من الدماء، كفى هذه الأرض ألما، لقد كانت حروبا أنت شهدت عليها و على الوجع الذي ملأ كل بيت).

عم الصمت، فحفرت أظافر سوار في خشب الباب الضخم القديم و عيناها تبرقان ببأس شديد و هي توشك على الصراخ كي تدمر هذا الصمت المتهاون!
أخيرا سمعت صوت ليث يقول بنبرة غامضة
(أنا مستعد لتقديم الكفن بنفسي لو قبل الحاج سليمان بذلك)
اتسعت عينا سوار فجأة بنظرة مخيفة، بدت مذهولة أولا ثم لم تلبث أن أستوعبت ما نطق به ليث للتو فتحول الذهول خلال لحظات الى غضب وحشي، رافض!

أما في الداخل فكأن عاصفة هوجاء قد هبت بأعاصيرها ما أن نطق ليث بتلك الكارثة...
صيحات رجولية غاضبة و رافضة، بل و ذاهلة معنفة...
و طبعا كانت من رجال عائلة الهلالي...
لم تشعر سوار بنفسها و هي تهمس بصوت قاسي كالحجر
امنعوه، نعم امنعوه، والله سأفعل أنا قبل أن يفعل هو، ثأري لن أتركه لمن يحمل الكفن، أبدا، هدر أحد الأصوات بعنف و قسوة
(اسحب اقتراحك على الفور يا ليث، أتريد أن تحط من قامة عائلتنا بعد هذا العمر!).

ضاقت عينا سوار و هي ترهف السمع منتظرة أن تسمع رد ليث...
الا أن صوت مدير الأمن هو الذي تكلم قائلا بهدوء و تردد
(أرى أن هذا هو الحل الأمثل، و هو لا يحط من قدر السيد ليث أو عائلته بل على العكس سيحقن الدماء)
تعالت الصيحات الهادرة الغاضبة، حتى أن سوار سمعت صوت خطوات متسارعة و كأنها صوت خطوات خيول جامحة...
و استنتجت أن رجال عائلة الهلالي قد اتخذوا قرارهم بالنهوض و المغادرة...

فتراجعت بسرعة خطوتين و هي تتوقع فتح الباب في أي لحظة، الا أن صوت ليث هدر قائلا
(فليبق الجميع و لا يغادر أحد، لم ننهي كلامنا بعد)
الا أن صوت أحد رجال عائلة الهلالي قال بصرامة
(لا مزيد من الكلام يا ليث، سنرحل قبل أن تمرغ من كرامتنا في الوحل)
هنا تعالى صوت جدها سليمان الرافعي وهو يهدر بعنف زلزل جدران القاعة...

(الوحل سيمتزج بالدم حين أترك لأحفادي القيد كي ينالو ثأر ابن عمهم، أو ظننتنم أننا نحن من نقبل بالوحل الذي تتكلمون عنه!)
هتف مدير الأمن بعنف
(أنا مضطر في هذه الحالة الى محاوطة كلا الدارين بقوة من الأمن و هذا ليس بالشيء الجيد، أنا لن أتهاون فيما تهاون به من سبقوا فترة خدمتي هنا)
سمعت سوار صوت جدها يقول بصرامة وهو ينهض واقفا.

(اتخذ اجراءاتك، لعلها تفلح في منع النار التي اشتعلت في الصدور، و حولت الأنفس الى جمرات لا تهدأ، والله لو حاوطت البلدة كلها بألف قوة، فإنها لن تخمد تلك النيران أبدا، من راح هو سليم، سليم ابن ولدي صالح، و مقامه لدينا بعشرة رجال)
برقت عينا سوار و هي تخفض وجهها بينما حدقتاها مثبتتان على الباب المغلق، منتظرة، و صدرها ينفث نارا هوجاء...
سمعت صوت أحد رجال عائلة الهلالي يقول بقوة.

(لم نخف من قبل يا حاج سليمان و لن نفعل الآن، فلتفعل ما تراه و لتبدأ الحرب من جديد و ما فائدة الرجال اذن)
عندها هدر ليث قائلا
(بهذه البساطة!، و ماذا عن كل امرأة ستفقد زوجها او ابنها و الأطفال التي ستنشأ على الكره و حب الدم من جديد بعد فقدهم آبائهم!، جيلنا نحن لا يزال يعاني حتى هذه اللحظة و بعد كل هذه السنوات)
قال الرجل بخشونة
(هذا قدرهم يا ليث، قدر مكتوب و لا مفر منه)
هدر ليث مجددا بصرامة.

(هذا ليس قدر، هذا نيران عناد و غل لا تسمحون لها بأن تخمد، و قد ضاع بها الكثير ممن لا ذنب لهم، فكيف تقنعون عائلته بانه قدر بعد أن غذيتم الحقد بين العائلتين كل هذه السنوات!)
صرخ الرجل بصرامة
(توقف عندك و حالا يا ليث، انت تهين عائلتك بهذا الشكل، انت عار على العائلة و لو اتممت ما تنتويه من حمل كفنك، أقسم بالله سنتبرأ منك و تخرج من هذه البلد للأبد).

ساد صمت مشحون بطاقات من الغضب و النيران تكاد أن تلتهم الباب و تصل الى سوار التي كانت تستمع بعينين فاقدتين للحياة، صلبتين، قويتين، لا ترجفان...
سمعت صوت الرجل يقول اخيرا بصرامة
(سنغادر يا حاج سليمان، هذه الجلسة لن تصل الى نتيجة)
اسرعت سوار تبتعد عن الباب و هي تغطي وجهها، توليه ظهرها مختبئة عند أحد الأركان...
مختلسة النظر الى خروج الرجال غاضبين و غضبهم يكاد أن يلفح المكان بأكمله...

و خطواتهم تضرب الأرض كخطوات جنود جيش جرار...
و ما أن خرج آخرهم من باب الدار، حتى عادت ببطىء و دون صوت في اتجاه باب القاعة التي كانو بها للتو...
كان الباب مفتوح، و جدها يجلس مكانه مطرق الوجه، مستندا الى عصاه الواقف أرضا...
و أمامه لم يتبقى سوى رجلين فقط!
مدير الأمن، و ليث!
كان ليث يوليه ظهره، وهو ينظر الى البعيد، بينما مدير الأمن واقفا يواجهه الى أن قال بغضب.

(يجب انهاء تلك الكارثة قبل وقوعها يا حاج سليمان، علينا أن نضع ألمنا خلف ظهورنا حين يتعلق الأمر بمصلحة الجميع، و الثأر لم يكن مصلحة أبدا، بل كان نارا و خراب، أتذكر أن هذه هي كانت كلماتك لسنوات عديدة، حكم عقلك قبل قلبك يا حاج سليمان، و حكم قلبك فيما يخص غيرك لا ما يخصك)
و دون كلمة اضافية، تحرك ليخرج من القاعة فأولته سوار ظهرها سريعا الى أن انصرف...

ثم عادت لتنظر الى ليث بنظرات قاتمة، حولت العسل بعينيها الى بركتين من الحمم الداكنة...
كان قد التفت الى جدها و أخذ ينظر اليه طويلا بنظرات ساكنة حزينة، و حين تكلم أخيرا قال بصوت غريب، يقطر ألما و يحفر نقوشا من الوجع في هذا الجدار الصخري الذي لم تره متألما من قبل...

(سليم كان بالنسبة لي أكثر من أخي، لا ليس أخ، سليم كان الطيبة التي أستمدها منه كلما عدت الى هنا، كان خشبة الخلاص لكل من عرفه، و ألمي بفراقه أكبر حتى من قدرتي على التحمل)
امتلأت عيني سوار بدموع حارقة، الا أنها رفضت أن تسمح لها بتجاوز حدود عينيها، احجمتها بقوة ارادة جبارة...
بينما رفع سليمان وجهه ينظر الى ليث ليقول بصوت مجهد غريب
(و هل تترك حقه؟)
اظلمت عينا ليث و قال بصوت خافت قاسي.

(اخبرتك انني على استعداد حمل كفني و التعرض للخزي من عائلتي، و أما فواز فأنا سأسلمه للعدالة بيدي، لكن سليم لم يكن ليقبل بان يقتل من ليس له ذنب)
قال سليمان بصوت موجع
(تلك عاداتنا، و ولد ولدي غالي، أغلي من تقديم الكفن، أغلى بكثير. )
أخذ ليث نفسا أجشا خشنا وهو يرفع رأسه مغمضا عينيه، و كأنه يحاول الصمود أمام الم أكبر منه...
أمام هذا المقدار من الألم كان من الصعب جدا التعامل مع معضلة كمعضلة الثأر...

لكن كان عليه أن يوقفها قبل أن تبدأ...
فتح ليث عينيه و قال بخفوت
(لن تسمعني الآن يا حاج سليمان، مهما حاولت الكلام فأنت لن تسمعني، لكنني لن أوقف مسعاي في ايقاف نهر الدم قبل أن يتفجر، كفانا ألما)
خرج ليث من القاعة وهو مطرق الرأس، الا أن شيئا ما جعله يرفع رأسه على غير عادته...
و عندئذ رآها...
كانت واقفة على بعد منه متشحة بالسواد ووجهها مغطى، لكنه لم يكن ليخطىء عينيها أبدا...

تلك العينين العسليتين، اللتين واجهاتاه منذ أشهر قليلة، عيني الشهد الصافي
كانتا مختلفتين الآن، قاتمتين حتى بدا لونهما شديد القتامة...
همس قلبه باسمها، دون أن تصعد احرفه الى شفتيه، و استمر في النظر الى عينيها طويلا الى أن قال بصوت خافت و دون مقدمات
(لا تنظري إلى بتلك النظرة يا ابنة عمتي).

لم تحاول سوار الإنكار، و لم تبعد عينيها، بل ازدادت قتامتهما أكثر و أكثر، قبل أن تقول بصوت خافت، لا حياة به، فقط البأس، البأس الشديد
(لا تقدم على خطوة تقديم كفنك)
كان أمرا هادئا، واثقا، و كأنها ملكة اعتادت الأمر فتطاع...
صوتها جعل قلبه يرتجف بين أضلعه، ذلك الصوت الرخيم القوي رغم خفوته...
و حين تمكن من النطق أخيرا، قال بصوت خافت.

(هل تخشين من خزي سيطال عائلة الهلالي؟، أعرف أنك لا تقبلين للنسيم أن يمس اسم والدتك و عائلتها، التي هي عائلتك)
لم تتحرك سوار من مكانها، و لم ترتعش عيناها أو ترمش بهما...
بل نظرت الى عينيه طويلا قبل أن تقول بنفس الصوت الهادىء و الذي ازدادت نبرة الأمر به رغم خفوته
(أنا من عائلة الرافعي، و لا احمل لقب عائلة الهلالي، اسمي هو سوار غانم. الرافعي).

عقد ليث حاجبيه و بدا مجفلا للحظة من نبرتها الغريبة، فقال بخفوت متسائلا
(سوار!)
الا أنها قاطعته بصوت أكثر سطوة
(و زوجة سليم صالح الرافعي، اللذي قتله أحد رجال عائلة الهلالي، و الذي تنتوي انت أن تحط من قدرك في سبيل انقاذه!)
تسمر ليث مكانه و تصلبت ملامحه و قد وصلته الصورة كاملة...
لقد طعنته بأكثر الصور ايلاما، الا أن الألم الأكبر كان عليها، لا منها...

حبيبته القوية التي رباها على يده، تتوجع، تلك العينين القويتين تخفيان خلفهما نهرا من الألم...
لا يدري ان كان عليه أن يغار أم يربت على جرحها و يخبرها أنه كان على استعداد لدفع حياته و يبقى سليم لها لو أمكنه ذلك، فقط كي لا تتألم هذا الألم...
تمنى لو ضمها الى صدره و مسح دموعها التي ستنهمر حتما، حين يسمح هو لها بأن تتحرر من مقلتيها...

أغمض عينيه للحظة ثم أخذ نفسا عميقا ليرفع وجهه قائلا بصوت قوي لا يحمل تعبير واضح
(دعي الأمر للرجال يا سوار)
لم يعلم أنه بتلك العبارة قد أشعل بها نيران الغضب، فارتفع حاجبيها و رأى عينيها العسليتين تتسعان و هي تنظر اليه بوهج لم يلبث أن انفجر و هي تصرخ به فجأة
(هذا الأمر، يخصني، يخصني أنا يا ليث)
رفعت قبضة مضمومة لتضرب صدرها بكل قوة أمام عينيه الصامتتين المتغضنتين بألم و هي تتابع.

(هذا الوجع يخصني أنا، تلك النار تشتعل بصدري أنا، و أنت هنا لتقترح الحل الأمثل!، أي حل أمثل هذا يا ليث اللذي يجعلني أفكر بكم كرجال و أنسى دم زوجي!)
لم يرد عليها ليث، بل بقى صامتا ينظر الى عينيها بنفس النظرات الساكنة بوجع لا يختفي...
و حين فتح شفتيه، قال بصوت خافت، صلب
(يجب أن أغادر)
و امام عينيها المتسعتين الصارختين، تجاوزها و ابتعد دون كلمة اضافية...
فاستدارت لتصرخ بقوة
(ليث، توقف).

الا أنه لم يتوقف، و لم يستدر حتى اليها، فصرخت مجددا بكل قوة و عنف
(ليث)
الا أن صيحتها اختلطت بصيحة أخرى، كانت صيحة سليمان الرافعي الذي خرج من القاعة على صوت صراخها، فصاح بقوة
(سوار)
صمتت سوار ما أن سمعت صوت صيحة جدها، فوقفت في مكانها للحظة و هي تراقب خروج ليث من الدار، قبل أن تستدير لمواجهة جدها...
وجها لوجه واقفة امامه، تنظر الى عينيه و يبادلها النظر...

كانت تلهث بقوة، كتسابق في سباق طويل و لم ينتهي بعد...
الى أن قال جدها أخيرا بهدوء
(اصعدي الى جناحك يا سوار، ليس مكانك هنا على باب القاعة)
رفعت سوار ذقنها و هي تحدق به قبل أن تقول بخفوت
(مكاني بأي مكان، يخبرني بالحقيقة، أحتاج أن أعرفها يا جدي)
ساد صمت مشحون بينهما، قبل أن يطرق سليمان برأسه يحدق في الارض و يتشبث أكثر بقبضة عصاه ثم قال أخيرا بصوت غريب
(اصعدي الى غرفتك).

كانت انفاسها تبدو كشهقات هادر كهدير البحر، الا أنها سيطرت عليها بقوة، و اخذت نفسا قويا ثم لملمت طرف عبائتها لتستدير الى السلم و هي تسرع الخطى، تنهب درجاته نهبا، بينما عيناها لا تهدآن...
لا تعرفان الراحة...
وصلت سوار الى جناحها، فدخلته و صفقت الباب خلفها، لتستند اليه و هي تتنفس بسرعة، ناظرة أمامها بتصميم قبل ان تمد يدها و تنزع غطاء وجهها و حجابها بعنف و تلقي بهما على اقرب كرسي...

كانت تنظر امامها بعنف و حاجبيها منعقدان...
النار تزيد و تزيد، و الألم لا يطاق...
نظرت الى سريرها الضخم ذو الأربعة اعمدة، حيث كانت عباءة سليم ممددة هناك كما تركتها...
اخذت تنظر اليها عدة لحظات بصمت قبل ان تنهض على الباب و تتحرك اليها و عيناها لا تفارقانها...
و ما أن وصلت اليها حتى انحنت و أمسكت بها برفق، تتلمس أصابعها قماشها الناعم الجميل...

كان عطره الخاص لا يزال بها، و كم حمدت الله أنها لم تسارع بغسل تلك العباءة و أبقت على عطره بها يذكرها به دائما...
و كأنها ستنساه يوما!
رفعت عبائته الى انفها، تنهل من عطره و هي تغمض عينيها قبل أن تنخفض ببطىء لتجلس أرضا، مستندة الى الفراش بظهرها و هي لا تزال تحتضن العباءة بقوة الى قلبها علها تريح من وجعه قليلا...
سمعت طرقا على الباب...
الا أنها لم تفتح عينيها و لم ترد، و لم تبعد العباءة عن وجهها...

حينها فتح باب غرفتها ببطىء، و سمعت وقع أقدام تدخل ببطىء، قبل أن يجلس أحدهم بجوارها أرضا...
و شعرت بذراع حنونة و قوية تحيط بكتفيها...
حينها فقط مالت برأسها الى الكتف الصلب ترتاح عليه و هي لا تزال مغمضة عينيها، و مرت عدة لحظات قبل أن تقول بخفوت صلب
(أريد أن أشعر بسليم على كتفك يا فريد، هل يمكنني ذلك؟)
همس لها بخفوت أجش وهو يضمها اليه
(طبعا يمكنك، اقتربي مني).

ضمها فريد اليه و هي لا تزال محتضنة العباءة ترفض التخلي عنها، و ترفض حتى فتح عينيها كي لا تسمح لدموعها بالانهمار، ثم همست باختناق
(اشتقت اليه جدا، جدا)
شدد فريد على كتفيها بقوة اكبر وهو يهمس بصوت جاف متحشرج
(و أنا أيضا)
بقي يربت على ذراعها برفق كي يمدها بكل ما يستطيعه من دعم...
اما انفاسها فكانت متحشرجة و غير ثابتة، فقال فريد بخفوت
(ابكي يا سوار، لن ارتاح قبل أن أراك تبكين).

التقطت سوار نفسا جارحا، قطع رئتيها قبل ان تقول بصوت خافت مشتد كوتر على وشك الانقطاع
(لن أفعل، أختك لن تبكي يا فريد، أنا أقوى من ذلك. )
زاد فريد من ضمها اليه و لفها بذراعه الأخرى وهو يهمس لها بصوت مختنق
(لا، لست قوية يا سوار، أنت فقط تخفين ضعفك)
ضمت شفتيها و هي تتعذب كي تمنع انهيارها، ثم همست أخيرا
(ليس هذا وقت ضعف).

رفع فريد يده الى رأسها، يربت على شعرها برفق قبل أن يقبل جبهتها بقوة، حينها صدر عنها نشيج مختنق، التقطته اذناه فأمسك بوجهها يرفعه اليه لكنها أبت أن تفتح عينيها فقال فريد بخشونة متحشرجة
(انظري إلى حبيبتي)
فتحت سوار عينيها ببطىء تنظر الى عينيه المتألمتين، بينما كانت عينيها حمراوين منتفختين دون بكاء، من شدة ما ضغطت عليهما و خنقت بهما دموعا حارقة...
طال بهما الصمت قبل أن تقول بصوت قوي خافت.

(لماذا لا زلت هنا يا فريد، أربعة أشهر و أنت لا تذهب الى عملك، هل جننت!)
لم يترك وجهها وهو ينظر الى عينيها، ثم قال أخيرا بصوت صلب
(و من لي سواك بعد والدينا؟)
ابتسمت سوار الا ان ابتسامتها تداعت و سقطت، فرفت يديها و ربتت على كفيه فوق وجنتيها، قبل أن تقول بهدوء
(عد الى حياتك و عملك يا فريد، انا بخير، تعلم أن أختك مؤمنة بقضاء الله)
نظر اليها عدة لحظات ثم قال بصوت غريب
(هل انت كذلك فعلا؟).

اتسعت عينيها بصدمة و هي تقول بتأكيد
(استغفر الله العلي العظيم، بالطبع انا كذلك، كيف تسألني سؤال كهذا؟)
استمر فريد في النظر اليها دون ان يترك وجهها، ثم قال أخيرا ناظرا الى عينيها
(اذن الى ماذا تسعين؟)
عقدت حاجبيها و قالت بتردد
(ماذا تقصد؟)
قال فريد دون مواربة
(تريدين الثأر، أين ايمانك يا سوار)
قالت سوار بقوة هجومية مدافعة
(بل القصاص، و هناك فرق كبير)
قال فريد بصرامة.

(و هل عثر على الفاعل؟، أم تنوين أخذ الثأر من أي كان؟)
قالت سوار و هي تبعد يديه عن وجهها
(ظننتك تعرفني أكثر من ذلك يا ابن امي و أبي)
قال فريد دون أن يبتعد عنها
(لطالما كان بداخلك بحر لا قرار له، حتى أنا لم أبلغ عمقه)
صمت قليلا، ثم ضاقت عيناه وهو يقول بحذر
(هل تلومينني يا سوار؟)
ارتفع حاجباها و قالت بتردد
(على ماذا ألومك تحديدا؟)
قال فريد دون مقدمات.

(لأنك تعرفين رأيي جيدا، و انني لم أبادر بالصياح طلبا للثأر بيدي أو بيد غيري كما فعل أبناء أعمامك)
رفعت سوار ذقنها و قالت بهدوء
(عد الى عملك و حياتك يا أخي و لا تفكر في هذا الامر مجددا، لم أكن يوما ممن ينتظرون العون، أنا فقط أسمع، و أراقب، لكن لا أحتاج لأحد)
زفر فريد نفسا خشنا وهو يراقبها بعدم ارتياح قبل أن يقول بصرامة
(لن أغادر قريبا، هل لديك مانع؟)
قالت سوار بغضب.

(أنت تفسد حياتك بهذا الشكل يا فريد، الى متى ستبقى؟، الجميع عادوا الى أعمالهم و دارت الحياة في مسارها و لم تتوقف)
قال فريد بغموض
(و كأنك تلقين باللوم عليهم لذلك)
زفرت سوار بنفاذ صبر و هي تهز رأسها بعنف قائلة
(توقف عن هذا التحقيق المستفز يا فريد، أتراني في حال يسمح لذلك الآن!)
نظر اليها فريد بدقة و كأنه يحاول تخلل ذلك العقل الصلب المغلق، الا أنه قال في النهاية.

(لا بأس يا سوار، لن أضغط عليك أكثر، لكن ضعي في عقلك العنيد هذا شيئا واحدا فقط، أنا أخاك و لن أتركك لنفسك أبدا، و عليك تقبل هذا)
أظلمت عينا سوار قليلا، الا أنها قالت أخيرا بصوت خافت جامد لا يحمل اي حياة...
(افعل ما يحلو لك يا فريد، فقط اتركني، لا أريد الكلام في هذا الموضوع مطلقا، أريد البقاء وحدي، أحتاج لذلك).

نهض فريد من مكانه و قد بدا كارها لان يتركها، ثم وقف مكانه ينظر اليها من علو فأبعدت وجهها عنه باصرار، الى ان تنهد و قال أخيرا بصوت خافت
(أنا هنا يا سوار، كلما احتجت الى كتفي فقط تعالي، لن تجدي من يحبك و يخاف عليك اكثر مني)
ابتلعت سوار غصة مؤلمة في حلقها و هي تهمس باختناق دون ان ترفع وجهها اليه
(شكرا حبيبي، اعرف ذلك دون ان تقوله).

أومأ فريد بيأس، ثم تنهد ليغادر بعد أن نظر اليها نظرة طويلة حزينة، ثم أغلق الباب خلفه بهدوء...
أما سوار فقد بقت مكانها جالسة أرضا مبعدة وجهها الى أن سمعت صوت اغلاق الباب...
فقط عند هذه اللحظة رفعت العباءة الى وجهها الذي دفنته بها و هي تنشج بقوة و ألم، دون دموع!
فقد أخذت على نفسها عهدا...
بينما اخذت تهمس في القماش الناعم
(اشتقت اليك يا حبيبي، اشتقت اليك جدا).

رفعت وجهها المتورم أخيرا من شدة ما كتمت دموعها بصلابة، تنظر امامها بعينين منتفختين متورمتين...
ثم همست مجددا بصوت ميت
(أقسم بأنني لن أرتاح و لن يخمد سعير قلبي الا بالنيل ممن فعل بك هذا، و هذا عهد على يا أغلى الناس).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة