قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والأربعون

في مكان آخر، كانت حربا أخرى محتدمة...
حيث كان زاهر يهتف بغضب.
(لا أعلم كيف يوقفنا الحاج سليمان حتى الآن!، حتى أننا تلقينا العزاء في وفاة سليم!، أنا لا أستطيع السير في البلد الا و الجميع ينظرون إلى بطريقة مخزية)
رفع عرابي وجهه الى وجه زاهر العنيف بصمت وهو جالسا مكانه مستندا بمرفقيه الى ركبتيه بتوتر...
و حين طال صمته نظر اليه زاهر قائلا بقوة و غضب.

(لماذا أنت صامتا؟، منذ ساعة و أنا أحادثك و أنت لا ترد!)
قال عرابي بتوتر
(ماذا تريد مني القول؟، لا أفهم في تلك الأمور، لقد انتهت قبل مولدي و لا أعرف ما المتوقع منا الآن!)
برقت عينا زاهر بغضب جنوني وهو يقول بعنف.

(المتوقع منك أن تكون رجلا، تشعر بالدم يغلي في عروقك و تهب تطالب بالثأر لدم ابن عمك، حتى و ان كنت لم تعايش الثأر من قبل، أم ستتخاذل مثل ولدي أعمامك المثيرين للشفقة، أمين الذي عاد الى عمله و لم يهتم، و فريد الذي يلازم أخته ليل نهار كالنساء!، شيء يثير الغثيان في هذا الدار، و الآخر راجح الذي اختفى و لا نعرف له مكان كي يتهرب من المسؤولية)
استقام عرابي قليلا و قد شعر بالإهانة و فتح فمه يريد الرد بغضب...

الا ان صوتا آخر، هادئا، متكاسلا، قال بسخرية
(لو انتظرت قليلا لما تهورت و اتهمتني من الإختفاء، فأنا لن أغادر هذا المكان قريبا)
التفت زاهر ينظر إلى راجح الذي كان يقف مستندا بمرفقه الى مقبض الباب يراقبهما بعينين متكاسلتين...
فهتف زاهر يقول بحنق
(اين كنت اذن، لم نراك منذ ايام، و ماذا عن ذلك الذي جعله جدنا اخا لك بالقوة، اين هو اذن بما أنه أخاك).

عند هذه النقطة استقام راجح من مكانه و برقت عيناه كعيني شيطان وهو يقول بصوت خافت كفحيح افعى تهدد بالشر...
(اياك، اياك، ان تلقب ابن الحرام. بأخي، مطلقا)
اشتعلت عينا زاهر وهو يواجه راجح بتحفز مستعدا للشجار، بينما زفر عرابي بنفاذ صبر
(بالله عليكما، فيما تتشاجران الآن!، لنركز في تلك الكارثة التي تنتظرنا)
قال راجح بصوت بارد
(أي كارثة، أنتما تعقدان الأمور جدا)
قال زاهر من بين أسنانه.

(ياللدمك البارد، الا تعتريك رغبة و لو ضئيلة في الثأر لدم ابن عمك!)
ارتفع حاجبي راجح وهو يقول مبتسما ابتسامة باردة، غامضة
(الثأر!، ظننتك أكثر تحضرا من هذا يا زاهر، لا، أنا لن أطلب الثأر و تضييع حياتي خلف القضبان أو الموت، أنا أريد الحياة، أريد الاستمتاع بها، و لدي خططا أهم من الثأر و أكثر جدية، و نفعا لذكرى ابن عمك رحمه الله)
ضاقت عينا زاهر وهو يقول غير مرتاحا.

(ماذا تقصد؟، أي خطط تلك التي قد تنفع سليم رحمه الله أكثر من الأخذ بثأره!)
ساد صمت متوتر لعدة لحظات قبل أن يضع راجح كفيه في جيبي بنطاله و ينظر الى عيني زاهر مباشرة و يقول ببطىء و بمنتهى الوضوح
(أسرة ابن عمك، زوجته التي تركها شابة، أنا أنوي الزواج بها)
و كأنه قد ألقي بقنبلة من الذهول و الصدمة و الصمت!، عمت المكان و نزلت فوق رؤوسهم كالصاعقة.

ففغر عرابي فمه بذهول وهو ينظر الى زاهر الذي كان قد تسمر مكانه كتمثال من الصدمة...
و ما ان استوعب ما قيل، حتى هز رأسه قليلا ليقول بخفوت مخيف
(ماذا قلت للتو؟، تتزوج من؟)
لم يحيد راجح بعينيه عن عيني زاهر المخيفتين وهو يقول بهدوء
(ابنة عمك سوار، لن نتركها أرملة شابة دون زواج، و أنت تعلم أنها ستتزوج عاجلا أو آجلا).

مرت عدة لحظات من الصدمة قبل أن ينفجر زاهر أخيرا بعنف ووحشية وهو يقبض على مقدمة قميص راجح بكلتا كفيه صارخا
(هل جننت أم أنك متعاطيا صنفا من المخدرات!، هل نسيت أنك متزوج من اختي؟)
أبعد راجح كفي زاهر عن قميصه بالقوة و دفعهما بعيدا وهو يهدر بقوة
(الشرع يسمح يا زاهر، كما أنني كرجل متزوج، تناسب ظروفي ظروف سوار تماما)
أمسك به زاهر مجددا و هزه بقوة وهو يصرخ بجنون.

(و من سيسمح لك!، اختي لن تكون لها شريكة أبدا و ماذا ينقصها كي تقبل بوضع كهذا!)
ابتسم راجح ابتسامة غريبة غامضة و قال بهدوء
(أنا متأكد أن بدور لن تمانع، و سترضخ، لرغبات زوجها، فهي لا ترفض لي طلبا أبدا، خاصة و انني لا أفعل ما لا يرضي الله مطلقا)
هزه زاهر بكل قوة وهو يصرخ بعنف
(على جثتي، لن يتم هذا أبدا، أبدا).

قفز عرابي من مكانه و هو يحاول جاهدا أن يفك كفي زاهر الحديدتين عن قميص راجح محاولا تهدئته وهو يقول بتوتر و قلق
(اتركه يا زاهر، لا نريد أن يصل صوتنا الى جدك و يعلم أننا نتشاجر على موضوع زواج بينما دم ابن عمك لم يبرد بعد)
هز زاهر راجح بعنف وهو يهدر بقوة و جنون
(قل هذا للحقير الذي تجرأ على اخبارنا عن عزمه الزواج من ابنة عمه بينما زوجها لم يرتح في قبره بعد، و الأدهى أنه يخبرني أنا بالذات، شقيق خطيبته).

كان راجح هادئا تماما، مبتسم الوجه، يبدو لا مباليا بجنون زاهر، بل أنه حتى لم يحاول رفع يدا لابعاده...
و ما أن صمت زاهر قليلا يلتقط انفاسه الهادرة، حتى قال راجح ببساطة
(نعم أخبرك أنت بالذات يا زاهر، و كنت أظن أنك أكثر من سيقدر موقفي، بما أنك ستفعل المثل)
عقد زاهر حاجبيه فجأة وهو يضيق عينيه قائلا بحذر و غضب
(ماذا تقصد؟)
ابتسم راجح أكثر، وهو ينظر الى عيني زاهر بكل قوة و تحدي ثم قال بهدوء
(ابنة عمنا مسك).

ازداد انعقاد حاجبي زاهر بشراسة وهو يهز راجح قائلا بغضب
(لا تذكر اسمها على لسانك لو كنت ستسيء لها)
ضحك راجح بتسلية وهو يبعد قبضتي زاهر عن قميصه بالقوة، ثم تحرك بأريحية في القاعة وهو يتمتع باشعال المزيد من التوتر فيها قبل أن يستدير الى زاهر ناظرا الى عينيه قائلا دون مواربة
(أنت تنوي الزواج من ابنة عمك مسك، اليس كذلك؟، كان هذا سرا قديما لم تستطع اخفاؤه)
تصلبت عينا زاهر بنظرات هادرة قبل أن يقول بصوت غريب.

(و ما المشكلة في ذلك؟، و ما دخلك أنت؟)
تظاهر راجح بالبراءة وهو يرفع حاجبيه هاتفا ببساطة
(لا مشكلة مطلقا، لكن لي دخل كبير في الأمر، أخبرني ماذا تنتظر؟، الست تنتظر أن تتزوج واحدة من بنات أعمامك، صغيرة و قادرة على الإنجاب لتكون العروس المناسبة لك، ثم بعد فترة مناسبة تعود و تتزوج مسك؟)
أتسعت عينا عرابي بذهول وهو ينقل أنظاره بينهما، بينما تسمر زاهر مكانه، بينما قال راجح متابعا ببساطة.

(و على الأرجح تنوي الزواج من نورا أخت أمين، رغم أنها تصغرك بالكثير، الا أنها كقطة صغيرة و مناسبة تماما)
هنا تحول ذهول زاهر الى غضب جارف وهو يندفع اليه ينوي ضربه، الا أن عرابي دخل بينهما بسرعة و محاولا ايقاف جنون زاهر و تهوره، بينما بقى راجح مكانه مرتاحا دون حركة، ينظر اليه مبتسما و كأنه يتسلى، الى ان قال في النهاية.

(لن تستطيع منعي من شيء تعتزم الإقدام عليه يا زاهر، كما أنني أخبرتك أن اختك لن ترفض لي رغبة، فلما لا تترك هذا الأمر و لا تتدخل به، و تركز على حياتك، و زيجتيك)
هدر زاهر بقوة
(أتركني يا عرابي سأقتله)
الا أن راجح ضحك وهو يقول بهدوء
(أخبرني يا زاهر، هل تستطيع التخلي عن الوريث؟، أم تدفن رغبتك في مسك ابنة عمك؟، أيهما تختار؟)
سكت للحظة، ثم ابتسم ابتسامة تشع مكرا و خبثا وهو يقول بنعومة.

(أم كليهما؟، تستحقها يا ابن عمي، تستحق أن تغترف من الحياة كل ما تتمناه)
كان زاهر ينظر اليه لاهثا بجنون، و لم يدرك أن عرابي لم يعد ممسكا به، و كان بإمكانه الهجوم على راجح و قتله، لو أراد!
صعدت الى السطح في عتمة الليل...
كانت تحتاج الى بعض النسيم، بعض الراحة من الألم الذي يعتصر صدرها...
ذلك الألم المحمل بالغضب...
وقفت مكانها مرتفعة الرأس، وشاحها يتطاير من حول رأسها بنعومة...

كانت و كأنها تسمع صوت سليم يهمس لها...
إنها حتى تسمع ابتهالاته، صوته واضح و ليس من محض تخيلها أبدا، فأغمضت عينيها و ابتسمت...
لتهمس بعد فترة طويلة
(أسمعك، اسمعك)
الا أن صوت سليم انقطع فجأة، تاه عنها، حاولت أن ترهف السمع فلم تجده فعقدت حاجبيها بألم...
حينها سمعت صوتا آخر، صوتا تعرفه جيدا...
صوتا باتت تنفر منه، صوت رجولي يقول من خلفها
(كنت أعلم أنني سأجدك هنا).

تسمر جسدها و تصلبت أطرافها، الا أنها لم تلتفت على الفور، بل ظلت واقفة مكانها تلتقط نفسا عميقا قويا، قبل أن تعدل من وشاحها دون أن تغطي وجهها...
ثم استدارت اليه اخيرا...
وقف راجح مكانه ينظر اليها مبهورا...
لا تزال بنفس جمالها...
ذلك الجمال الذي كان من حقه هو، هو وحده دون غيره...
الا تدري كل لحظة جحيم عاشها وهو يتخيل غيره يلامسها، يقبلها، ينهل من شفتيها الشهيتين...

جحيم لم يهدأ و وعود بالإنتقام منها على تلك النار المستعرة التي ألقته بها، بقلب قاس...
سنوات وهو غير قادر على نسيان تلك الفرس الجامحة التي امتلك قلبها ذات يوم، و كان بإمكانه امتلك لجامها...
تكلم اخيرا يقول بصوت يرتجف ببريق يثير القشعرة بالنفس
(كنت أعلم أنك ستأتين الى مكان لقائنا، لم تنسيه، لم تنسيني للحظة واحدة خلال تلك السنوات).

لم ترتجف سوار و لم تتحرك من مكانها و هي تنظر اليه بنظرات فارغة، لا تحوي نبض حياة...
ثم قالت أخيرا بصوت جامد
(كان دوما مكاني، و أنت من كنت تلحقني الى ان سميته بمكاننا، كذبت الكذبة و صدقتها)
ضحك راجح عاليا ثم قال ناظرا اليها بعينين تبرقان، تلتهمان ملامحها التهاما
(تحاولين دوما اقناع نفسك بما يخالف قلبك، لما لا تستسلمين يا سوار و تعرفين ان لا مفر لك من حبك لي؟).

لم تتحرك و هي تنظر اليه بصمت، ثم قالت اخيرا بصوت جاف
(ما أحقرك، أين كنت تخفي كل تلك الحقارة قديما!)
لم يفقد راجح ابتسامته و لم يشعر بالإهانة، بل اقترب منها خطوة ليقول بخفوت
(هل ازيدك من الحقارة ما يرضي نفسك؟، ستكونين لي يا سوار اخيرا، لقد وضع القدر كلمته دون جهد مني، هل أدركت الآن أنك قدري مهما طالت السنوات؟).

شعرت سوار بغثيان رهيب يكاد أن يفتك بها، لكنها تحاملت على نفسها و تماسكت كي لا تترنح أمامه، و قالت بخفوت يشبه صفير النسيم الليلي من حولهما
(الا تخجل؟، الا تمتلك ذرة من ضمير انساني يجعلك رجلا لمرة واحدة بحياتك!)
أيضا لم يفقد ابتسامته، بل ظل ينظر اليها بتفصيل دون خجل وهو يقول بنفس الخفوت
(فيما يخصك لا أمتلك أي خجل، أنت حقي الذي أضعتيه و أضعت سنوات من عمرنا بسبب عنادك الغبي).

همست سوار من بين شفتيها بنبرة بطيئة مشمئزة
(اخرس)
اقترب منها خطوة اخرى وهو يقول بهدوء، لكن بجدية بعد أن ألقى بابتسامته المتسلية وكأنه قد فقد التسلية أخيرا...
(لن أخرس، منذ اليوم ستسمعينها مني كل يوم و كل ليلة، أنت ملكي، بجسدك الفاتن و روحك المقاتلة، و شعرك الليلي الطويل و الذي سيفترش وسادتي قريبا).

لم يدرك أنها كانت قد انحنت فجأة و بمنتهى السرعة التقطت احدى قوالب الطوب اللبن التي كانت ملقاة أرضا، لتنهض بقوة فرس تقفز الحواجز و تقذفه بها بعنف فأصابت جبهته بمنتهى المهارة!!
صرخ راجح وهو يمسك بجبهته النازفة و التي قطرت دما على الفور...
(أيتها المجنونة!).

لكنها لم تنتظر لتسمع المزيد من هذيانه، بل جرت بسرعة تتجاوزه و غدا سيكون لها تصرف آخر معه، الا أنها ما أن مرت به حتى انتفض و استقام و قبض بكفه على ذراعها بقوة يوقفها...
برقت عينا سوار بشراسة و هي تنظر الى ملامحه الشيطانية في ضوء القمر، و همست بصوت مرعب
(ارفع يدك عني).

الا أن راجح لم يرفع يده، بل زاد من قبضته حتى اتسعت عيناها ذهولا و هي تنظر الى ذلك الوجه النازف و الذي ينظر اليها ببريق ما بين الشهوة و الأمتلاك، ثم همس أخيرا
(ستكونين ملكي قريبا جدا يا سوار، و سأعاقبك على كل ما فعلته، أعدك بذلك)
حاولت سوار ضربه بشراسة، الا أنه كان أسرع منها و التقط يدها قبل أن تسقط على وجهه و كبلها تماما ليقول أمام عينيها المتسعتين ووجهها المرتفع اليه...

(لقد طلبتك للزواج اليوم من جدي)
تسمرت سوار مكانها فجأة، و أتسعت عيناها بذهول أكبر و هي تستوعب ما نطق به...
فما كان منه الا أن ابتسم لملامح وجهها المصدومة، فقال مستمتعا بسادية...
(نعم، لقد حجزتك قبل أن يسبقني أحد، و لقد صمت جدك، لم يستطع الرد، أخفض وجهه و صمت، هل يخبرك هذا عن رده؟)
كانت نظراتها تشبه نظرات انثى النمر و هي تدور في قفص محكم، لا مفر لها...
و ساد بينهما الصمت الطويل...

قبل أن تواجهه بهدوء، هامسة و هي تشدد على كل حرف
(لن يحدث يا راجح، لن اكون لرجل غير سليم أبدا و لو كنت أنت آخر رجل في هذا العالم لن أكون حلالك أبدا)
ظهر الغضب المجنون في عينيه للحظة دون أن يستطيع السيطرة عليه، الا أنه خلال لحظة تمكن من اخفاءه و ضحك ضحكة صغيرة ساخرة خالية من المرح وهو يتشرب جمال ملامحها الشرسة المرتفعة اليه، ثم قال أخيرا ببساطة.

(سنرى، سنرى يا سوار، عودي الى سريرك الخالي و اقنعي نفسك بذلك)
ترك ذراعها يدفعه بقوة، فانتزعته و هي تهمس بتقزز
(انت قذر، و لو تجرأت على لمسي مجددا أقسم أنه لن يرضيني وقتها سوى قطع يدك)
ابتسم راجح ابتسامة قاسية دون أن يرد، و نظر اليها و هي تبتعد عنه في الظلام...
الا أنه نادى بهدوء قبل أن ترحل.

(بالمناسبة، ابن خالك الشهم، الذي جاء الى هنا يمثل دور البطولة، ما هو الا جبان و مستعد لتقبل العار على أن يتحمل عواقب الثأر كالرجال، لقد أوهمكم بأنه لم يجد فواز الهلالي، بينما هو في الحقيقة يخفيه في داره، استعدادا الى مساعدته في الهرب للخارج)
تسمرت سوار مكانها في الظلام دون أن تستدير اليه...
و كأن خطا من الثلج قد سرى في عمودها الفقري فمنعها من الحركة تماما بعد ان سمعت ما قاله راجح...

بقت واقفة كتمثال حجري قاسي العينين، وهو خلفها ينظر اليها متشفيا، جائعا، نهما لها...
الا انها في النهاية أجبرت ساقيها على التحرك بهدوء، بكل كبرياء، و عزم...
أما راجح فقد استدار الى السماء المظلمة و زفر بقوة وهو يهمس بجنون
تبا لك يا سوار، اقترب وقت الحساب، اقترب الوقت الذي أستعيد فيه ما هو ملكي،
دخلت سوار الى غرفتها و أغلقت الباب قبل أن تستند اليه مغمضة عينيها تتنفس بسرعة...

و ظلت مكانها الى أن سمعت صوت آذان الفجر...
حينها فتحت عينيها، و بدت و كأنهما عينين جديدتين، اكثر بريقا و اصرارا...
فتحركت بهدوء الى حمام غرفتها كي تغتسل و تتوضأ، و بعد أن أنهت صلاتها بقت مكانها ممسكة بالسبحة الخاصة بسليم و هي منتظرة لأول شعاع في السماء...
و خلال ساعات قليلة...
كانت قد خرجت متسللة الى اسطبل الخيول و هي تعلم أن اللجوء الى عبد الكريم طلبا للسيارة هو أمرا مستحيلا...

لذا ما أن دخلت الاسطبل حتى أمرت العامل بهدوء و ثبات
(أريد فرسا قوية، سأخرج للتنزه بها قليلا)
وقف العامل ينظر اليها بذهول و بدا مرتبكا من دخولها المبكر الى الاسطبل، ثم قال بتوتر
(لكن، لكن، هل يعلم الحاج سليمان بذلك يا سيدة سوار؟)
ارتفع حاجب سوار و ظلت ملامحها على هدوءها و هي تقول
(ماذا قلت؟، هل ترفض أم أنك تريد التحقق من جدي؟)
ارتبك الصبي وقد احمر وجهه بشدة، الا أنه قال بسرعة.

(أعتذر يا سيدة سوار، لم أقصد، سأ، سأجهز الفرس، حالا)
استدار عنها متوترا لا يعلم كيف تتصرف، بينما بقت هي واقفة مكانها هادئة رافعة رأسها...
تعلم جيدا أن فكرة خروجها بعد فترة العدة مباشرة غير مقبولة أبدا و منتقدة...
الا أنها لم تهتم، لتنجز ما تريده ثم ستكون مستعدة تماما للعاصفة التي ستهب بعدها...
نظرت سوار الى الفرس التي اقتربت منها، فرفعت يدها تتلمس أنفها بهدوء و بعينين جامدتين قويتين...
قبل أن تهمس لها.

لقد علمني سليم ركوب الخيل على ظهرك، أتتذكرين؟، لقد كبرت قليلا يا فتاة، لكنك لم تشيخي بعد كي لا تثأري له، رفعت سوار قدمها و أمسكت بالسرج جيدا قبل أن تعتليها...
و خلال دقائق كانت قد انطلقت بها، خارجة من بوابة دار الرافعية...

مع بداية الصباح...
كان ليث لا يزال جالسا مكانه بصمت، ينظر الى البعيد دون أن يغمض عينيه منذ الأمس...
لم يستطع النوم وهو يتذكر نظرات سوار اللائمة، و صوتها ذو النبرة الرخيمة و الذي حفر في قلبها ألما أكبر من ألمها...
أرجع رأسه للخلف وهو يغمض عينيه، محاولا قدر امكانه تخليص أفكاره منها و التركيز على حل لتلك المعضلة التي تعيشها البلدة...
لكن لا فائدة، تعود و تسيطر على تفكيره و تحتل خياله...

همس أخيرا بصوت خافت متعب
(أما آن الأوان بعد يا ليث!، الى متى، الى متى)
سمع طرقا سريعا على باب القاعة التي يجلس بها ففتح عينيه و قال بهدوء
(ادخل)
دخل أحد الحراس من الواقفين على بوابة داره يقول متوترا
(صباح الخير يا سيد ليث، أعتذر عن الدخول في مثل هذا الوقت المبكر، لكن هناك زائرا لك)
عقد ليث حاجبيه وهو يقول
(زائر في مثل هذا الوقت؟، من يكون؟)
قال الرجل مرتبكا.

(السيدة سوار الرافعي ابنة عمتك، لقد جائت على ظهر فرس و تريد رؤيتك)
كان ليث قد فقز من مكانه ما أن سمع اسم سوار و اسرع يخرج من القاعة قبل حتى أن يكمل الرجل كلامه...
و ما أن خرج من الدار حتى تسمر مكانه وهو يراها بالفعل!
كانت سوار على ظهر الفرس، مكشوفة الوجه، تنظر الى عينيه مباشرة دون أن تحيد بعينيها عنهما...
انتاب ليث غضب جارف وود لو ضربها على تهورها.

ماذا تفعل تلك المجنونة!، و كيف تتجرأ على الخروج أمام الناس بهذا الشكل!، سيطر على غضبه بمهارة وهو يصرخ في احد الرجال بأن يأخذ الفرس الى الاسطبل الخاص به...
ثم نظر الى عيني سوار بعينين صارمتين وهو يهتف بصلابة
(انزلي يا ابنة عمتي، تفضلي)
قفزت سوار من على ظهر الفرس و ترنحت قليلا، الا أنها امسكت بالسرج كي تستعيد توازنها و تتوقف الأرض عن الدوار بها قبل أن يلاحظ أحد...

اخذت نفسا عميقا تحارب به اعيائها ثم رفعت وجهها و استدارت الى ليث...
تسمر ليث مكانه وهو يواجه تلك النظرات الغريبة منها...
انها المرة الاولى التي تنظر اليه بمثل تلك الطريقة...
نظرات جعلت العسل في عينيها يتجمد...
ثم قالت أخيرا
(أريد محادثتك في أمر هام)
زم ليث شفتيه بغضب الا انه قال بصوت هادىء من بين اسنانه
(تفضلي بالدخول، لا تقفي هكذا)
دخل ليث اولا، تاركا لها أمر اللحاق به...

و بالفعل دخلت خلفه، تنظر الى قامته الصلبة بعينين جامدتين الى أن قادها للقاعة التي كان يجلس بها للتو...
فتح الباب و دخل دون أن ينظر اليها، و كانت هي خلفه...
وقف ليث أمام احدى النوافذ ينظر الى الأراضي الواسعة، و هو يحاول التعامل مع حقيقة أن سوار تقف هنا خلفه، في داره...
المكان الوحيد الذي تمنى وجودها به...
و في نفس الوقت يحاول السيطرة على غضبه منها...
لا يصدق أنه، أنه لا يزال يغار عليها حتى الآن...

من كل عين لمحتها و هي آتية على ظهر الفرس كملكة متوجة بكل جمالها!
والله لو الأمر يعود له لضربها على ما فعلته...
الا أنه لا يملك الآن سوى أن يبقى مكانه عاجزا، محاولا السيطرة على العنف المكبوت بداخله...
وضع يديه في جيبي بنطاله وهو ينظر شاردا من النافذة، ليجد ابتسامة قد زحفت الى شفتيه رغم العاصفة التي تتلاعب بروحه...

ابتسامة لا محل لها من الإعراب، سوى أنها هنا تقف خلفه تماما و لو أمكنه أن يوقف الزمن عند هذه اللحظة لفعل...
سمع صوت حفيف عبائتها من خلفه، لقد كانت تتحرك...
ترى ماذا تفعل؟، و مع ذلك لم يستدر اليها، الى أن سمع صوت سمره مكانه و أرسل قبضة من جليد الى صدره...
كان صوت اعداد السلاح!
لا يمكنه أن يخطىء هذا الصوت مطلقا و قد علمها بنفسه فعل ذلك...
التفت اليها ببطىء...

كانت سوار قد فتحت عبائتها و اخرجت السلاح الآالي الذي كانت تخفيه على ظهرها...
و الآن هي توجهه اليه مباشرة!
لم يجفل ليث، و لم يتحرك من مكانه، بل ظل واقفا ينظر اليها بهدوء الى ان قال أخيرا
(ماذا تنتظرين؟، أطلقي أعيرتك، ها هو صدري الرحب مفتوح لك)
الا أن سوار لم تتحرك وهو تهتز عضلة من ملامحها و هي لا تزال على وقفتها ممسكة بالسلاح الآلي بكلتا ذراعيها توجهه اليه، ثم قالت أخيرا بهدوء
(لم آتي لأقتلك).

ابتسم ليث، ابتسامة ليست بالسعيدة أو بالحزينة، بل هي ابتسامة لها وحدها...
ابتسامة لسوار لا غيرها، ثم قال بخفوت
(اذن لماذا أتيت؟)
قالت سوار و السلاح لا زال مصوبا اليه
(أريد فواز الهلالي حالا)
نظر ليث الى عينيها العسليتين و لمح حبات العرق التي تتلألأ هعلى جبينها الناصع...
ثم قال بهدوء
(طلبك ليس هنا يا سوار، لقد أخبرتك بذلك بالأمس)
ردت عليه سوار بصوت أكثر جمودا.

(أعلم انك تخفيه هنا في بيتك، و انك تعمل على تهريبه للخارج)
لا يزال واقفا، هادئا...
حتى انه لم يخرج كفيه من جيبي بنطاله، ثم قال بهدوء
(من أخبرك بذلك لا يريد سوى اشعال المزيد من النيران بينك و بين عائلتك، عائلة وهدة الهلالي، امك)
قالت سوار من بين أسنانها
(لا تبدأ بذكر أمي الآن يا ليث كي تبتزني عاطفيا، أريد فواز الهلالي و لن أخرج من هنا قبل ان أجده أمامي).

أخرج ليث يديه من جيبي بنطاله و مد ذراعيه يقول ببساطة
(لا علم لي بمكانه، لذا ليس أمامك غيري، يمكنك أخذ ثأرك مني)
استمرت حرب الأعين بينهما الى ان قالت بصرامة و صوتها يرتفع
(لا أريد الثأر، أريد القصاص)
قال ليث وهو ينظر الى عينيها
(أعلم)
الا أن سوار صرخت فجأة
(لا، لا تعلم، لو كنت تعلم لما اخفيته عني، لم أتخيل أن تفعل ذلك)
قال ليث بصرامة رغم خفوت صوته
(لا أخفيه يا سوار، الدار أمامك، ابحثي بكل شبر منها لو أردت).

أغمضت سوار عينيها للحظة قبل أن تفتحهما و هي تنظر الى عيني ليث المدققتين بها و قالت بهدوء مرتجف قليلا
(أرجوك، لم أرجو أحدا من قبل، و لم أظن أن تجبرني على ذلك)
عقد ليث حاجبيه قليلا و قال بصوت غريب
(سوار، انت لست بخير)
ابتسمت...
ابتسمت سوار ابتسامة أقرب الى ضحكة مريرة دون صوت، ثم قالت أخيرا و هي ترفع حاجبها
(اعذرني، زوجي قتل بيد واحد من عائلة أمي، و ابن خالي يخفيه، لذا أعتقد أنني لست بخير تماما).

قال ليث بصوت غامض
(أنا لا أخفيه، و مع ذلك ها أنا أمامك، أطلقي أعيرة سلاحك الى صدري فقد علمتك الأمساك به و التصويب)
سمع صوت زوجته ميسرة يأتي من عند الباب فجأة و هي تقول
(ما الذي يحدث هنا؟)
الا أنها و ما أن رأت سوار في وقفتها ممسكة بالسلاح و توجهه الى صدر ليث حتى ضربت صدرها و صرخت عاليا...
حينها هدر ليث بقوة
(تراجعي يا ميسرة و عودي الى غرفتك، حالا).

الا أن ميسرة بدأت تولول و تنادي على رجال الدار و الحراس...
أما ليث فهتف الى سوار
(لا تلتفتي خلفك، ابقي سلاحك موجها الي)
كان يعلم أنها في حالة غير طبيعية، و أصابعها غير ثابتة على السلاح...
و هذا السلاح الذي تمسك به سلاح آلي، لو أهتزت أصابعها على زناده فستحدث كارثة ستتعدى قتله هو وحده الى عدد لا بأس به...
لذا قال بصرامة و بصوت هادىء بطيء، آمر
(اخفضي السلاح يا سوار).

الا أنها لم تخفضه، بل ابقته موجها اليه، فقال مجددا بنبرة أشد وطأة
(أخفضي السلاح يا سوار فأنت لا تريدين أذية أشخاص لا ذنب لهم)
همست سوار بصوت متداعي
(أخبرني بمكانه، أرجوك)
لكن حين شعرت بأنها غير قادرة على الإمساك بالسلاح أكثر، أخفضته ببطىء و حذر الى ان وضعته أرضا، و ما أن بات في أمان...

حتى رفعت حدقتيها الى ليث المذهول قبل أن تغيب عنها الدنيا و تستلم للدوامة المظلمة التي ابتلعتها مرحبة بها، كي تريح من ألم روحها، و جسدها النازف!
صرخ ليث بقوة
(سوااار)
و لم يشعر بنفسه الا وهو يندفع الى جسدها المسجى أرضا بعد أن سقطت أمامه...
انحنى اليها يربت على وجنتها الشاحبة بقوة وهو يهتف
(سوااار، سوااار، اجيبيني، سوااار).

لكن دون ابطاء، كان قد حملها بين ذراعيه و نهض بها، ليهتف في أحد الرجال اللذين نادتهم ميسرة
(استدعوا الطبيب حالا).

(حالة اجهاض، يجب نقلها للمشفى)
نظر ليث الى الطبيب الذي أخبره بذلك بعد ان فحصها و خرج من الغرفة...
ثم تابع يقول
(من الواضح أنها قامت بمجهود عنيف أو حركة قوية، لكن يجب نقلها الآن لأنها تعاني من نزيف قوي)
كان ليث مكانه ينظر الى الطبيب بدون تعبير، و كأنه لم يسمعه، و لم يفهمه، أو أن الكلام لم يكن موجها اليه...
و ما أن فتح فمه، حتى قال بعدم تركيز
(آآه، نعم، نعم).

غادر الطبيب بينما بقى ليث مكانه غير واعيا...
سوار كانت حامل!، سوار كانت حامل!
أغمض عينيه و استند الى الجدار من خلفه، بينما رفع يده الى صدره بقوة...
ياللهي ما هذا الألم الذي يعصف به في تلك اللحظة و كأنه لم يكن مدركا أنها كانت متزوجة، وحلالا لرجل آخر...

أما ميسرة فقد دخلت الى غرفتها و صفقت الباب من خلفها، تدور بها كالمهووسة و هي تهمس بشراسة
(كانت حامل!، كانت حامل!، بإمكانها الحمل!، ماذا ينقصها اذن؟)
صرخت ميسرة بقوة و غل
(ماذا ينقصها؟، تزوجت و حملت و رجلين واقعين في هواها، ماذا ينقصها؟، إنها تمتلك كل شيء، كل شيء)
رفعت وجهها فجأة تنظر الى نفسها في المرآة...
كانت ملامحها قد تحولت الى شكل مشوه شرس، و همست الى صورتها بصوت غريب.

(يا معتوهة!، و أنت التي ظننت أن موت زوجها كان بسبب ما فعله الشيخ من سحر، الآن فقط انتبهت أنها أصبحت حرة، أصبحت حرة، امرأة حرة و بامكانها الحمل!، اما أنت!)
أخفضت نظرها الى بطنها المسطحة، فمدت يدها تعتصرها فجأة بكل قوة و على الرغم من ذلك لم تشعر بأي ألم و هي تعاود النظر الى عينيها الشرستين، و تقول.

(مغوية الرجال باتت حرة و نائمة في دارك، رحمها خصب و مستعد لاستقبال المزيد من الأجنة، و زوجك واقف على بابها ينتظر اشارة منها، قلبه معلق بهواها و لا يملك نسيانها)
استدارت ميسرة و استندت الى طاولة الزينة تنظر الى البعيد بعينين ناريتين غريبتي الحقد و الغل...
ثم همست بصوت واه
(ماذا أفعل بها أكثر؟، بداخلها شيء يقاوم السحر و يقلبه الى صالحها!، تماما كما قال الشيخ و تحتاج الى سحر أسود، من أسوأ الجن).

زفرت نفسا لاهبا و هي تخفض وجهها بينما صدرها يحتقن بالكره، البغض، الرغبة في الذهاب اليها و قتلها...
فتح باب الغرفة فجأة ودخل ليث، ينظر الى ميسرة التي كانت لا تزال مكانها مستندة الى طاولة الزينة...
فرفعت رأسها اليه، تنظر الى عينيه دون كلام، و كان هو يحدق بها و قد سرت في جسده رعشة من تلك الروح السوداء المرتسمة على ملامحها...

الا أنه لم يكن في حال يسمح له بسؤالها، فقال بخفوت و بصوت ميت لا يحمل أي حياة...
(سآخذ سوار الى المشفى، ثم أتدبر أمر عودتها الى بيتها دون معرفة أحد من عائلة الرافعي)
صمت لعدة لحظات، قبل أن يقول بهدوء آمررغم نبرة التعب في صوته و التي التقطتها اذنها و ترجمتها الى قصائد في عشقه لسوار
(ميسرة، انا احذرك من ان يعلم أحد بما حدث، لمرة واحدة كوني أهلا للثقة، هذه الأمور لا مجازفة فيها).

ظلت على صمتها و هي تنظر الى عينيه بعينيها المخيفتين دون رد، فتنهد بصمت وهو يخرج من الغرفة...
حينها تحركت ميسرة من مكانها، و هي تهمس بوحشية
(اعذرني يا ابن عمي، أوامرك ليست مجابة هذه المرة، فلتبقى بجوارها الآن، قبل أن تفقدها للأبد).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة