قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والأربعون

إن كانت للأمور أن تتأزم، فالأحداث التالية كانت مثالية لذلك...
كان ليث يظن واهما أنه يستطيع اعادة سوار الى البيت دون علم أحد، لكن ليس و ميسرة يمتلك قلبها كل هذا القدر من الحقد...
لذا و اثناء تواجدهم في المشفى، أتى كلا من جدها وشقيقها فريد الذي دخل اليها مباشرة و ملامح الغضب و القلق تعلو وجهه، وراجح...
و حدثت مشادة بينهما، انتهت بأن نزل الخبر على رأسه كالصاعقة...

خبر تقدم راجح للزواج منها، و حذره من أن يقترب منها...
بقى ليث مكانه ينظر الى كل من راجح و الحاج سليمان بصمت محاولا الوصول الى الحقيقة...
لكنه لم يحصل على جواب قاطع...
فسأل الحاج سليمان مباشرة بصوت خافت مخيف
(هل هذا حقيقي؟)
لم يرد الحاج سليمان على الفور، بل قال بعد فترة طويلة بصوت مجهد
(هذا أمر يخص عائلتنا يا ليث، و أنت تحديدا كفرد من عائلة الهلالي لا يحق لك التدخل بعد أن كنتم السبب في أن ترملت حفيدتي).

ساد صمت مشحون طويل، حينها قال راجح بصوت ساخر
(أظن أن هذا أبلغ رد لك، حاول أن تستوعبه كي لا تفقد رأسك و نحن أهل لذلك، سوار ستكون زوجتي، و لو اقتربت منها مجددا)
و كأن الزمان يعيد نفسه...
نفس العبارة و نفس الشخص، و نفس الحبيبة...
حينها قال ليث بصوت خافت...
(قبل أن يتوفي سليم رحمه الله، أوصاني على زوجته، و يومها سألته عن السبب، على الرغم من وجود عائلتها كاملة، الآن فقط عرفت السبب).

ارتفع حاجبي سليمان قليلا، و كأن ذكر سليم قد هزه شخصيا...
لكن و قبل أن يرد، قال ليث متابعا
(لكن أريد اخبارك شيئا يا حاج سليمان، أنا لن أخذل وصية سليم، حتى لو فعلتم أنتم، و سوار لن تكون له و لو على جثتي)
اندفع راجح صارخا يريد الهجوم عليه الا أن الحاج سليم هتف بقوة
(كفى يا راجح، سنرحل الآن)
كان فريد قد خرج من الغرفة وهو ينظر اليهم و على وجهه ملامح تنذر بالشر، لكنه قال بهدوء غريب.

(حالة سوار لا تسمح بخروجها على الفور، و أنا لن أسمح لها بالتحرك خطوة واحدة و قسما بالله لو تكلم اي منكم كلمة اخرى فسأحضر الأمن و أعمل على طرده خارج المشفى)
نظر كلا من الحاج سليمان و راجح الى فريد بذهول، وحاول راجح الاعتراض الا ان سليمان قال بصرامة آمرا
(هيا بنا يا راجح، كفانا ما نالنا من بنات الرافعي حتى الآن).

أما سوار فمنذ أن افاقت و علمت بفقدانها لجنينها فقد التزمت الصمت تماما، بدت ملامحها شاحبة مجهدة و لا تعبر عن شيء...
تنظر الى الجميع بصمت دون أن تأبه، أو أن تهتم...
اقترب منها فريد و جلس بجوارها على حافة سريرها يضمها اليه و يقبل اعلى رأسها، ثم همس في اذنها.

(أعلم أنك كنت تحبين هذا الوغد يا سوار منذ سنوات، و أنا لا أريد في هذه الحياة سوى سعادتك، لكن اعذريني، فسعادتك ليست معه و لن أسمح لك بالزواج منه، حتى لو كرهتني)
كانت على نفس ملامحها الباهتة و نظرتها الصامتة للبعيد، فظنها لا تزال تحت تأثير الصدمة و أنها لم تسمع شيئا، الا أنها بعد فترة قصيرة همست بصوت ميت
(ألم أخبرك أنك لم تعرفني بعد حق المعرفة يا ابن أبي و أمي).

جرت قدميها الى شقتها الصغيرة التي استأجرتها منذ حوالي أربعة أشهر!
كانت شقة تناسب راتبها الذي تتقاضاه من الجامعة، لا أكثر!
فمنذ أن عادت من بلدة والدها و جدها الى مدينتها و صدمتها الفاجعة، حتى خرجت من شقتها جريا لتبحث عن شقة جديدة...
حتى الآن لا تزال تتخيل صدمة هذا اليوم...

حين عادت من السفر تجر حقيبتها بتعب، نفسها حزينة مثقلة بسبب ما مرت به من احداث كانت أكبر من احتمالها، فما أن اطمئنت على سوار و أنها لن تنهار قريبا حتى قطعت أول تذكرة لتغادر من فورها...
يومها دقت جرس الباب منتظرة ان تفتح والدتها...
و فتح الباب، لكن ثريا لم تكن هي من فتحته...
بل شاب في عمرها تقريبا، أو أكبر ببضعة أعوام!

يومها رمشت تيماء و هي تنظر الى ذلك الشاب عاري الصدر الواقف أمامها بوقاحة، فتراجعت خطوة تتأكد من رقم الشقة و الطابق، و حين تأكدت بما لا يسمح الشك...
عادت لتنظر اليه و قالت بصوت أجوف و هي مستعدة للصدمة
(من أنت؟)
بدا الشاب الضخم مترددا وهو يقول بصوت الدفاع
(أنا من يجب أن أسألك نفس السؤال)
هتفت تيماء فجأة بغضب
(هذا بيتي)
بدا الشاب مجفلا قليلا، الى أن سمع صوتا من الداخل يناديه، كان صوت أمها!، ثريا!

و التي خرجت من غرفة النوم على ما يبدو ترتدي قميص نوم يليق بعروس شابة و لا يناسب عمرها أبدا، مظهرا الكثير من جسدها، جسد أمها!
بهت وجه تيماء، بينما تسمرت ثريا مكانها و هي تلمح تيماء عند الباب المفتوح!
اقتربت ثريا بأقدام ترتجف من الباب، حتى وقفت و قالت بصوت مرتجف و حدقتين مهتزتين
(تيماء!، لم تخبريني بالأمس أنك قادمة اليوم).

كانت تيماء تبدو شاحبة كشحوب الأموات و هي تنظر الى أمها بذلك القميص العاري، و لم تستطع النطق سوى بكلمة واحدة فقط
(نعم!)
لكن صوتها لم يلبث أن اختنق و اختفى تماما، فصمتت و هي تنظر الى عيني ثريا المتخاذلتين...
تنحنحت ثريا و همست بخفوت
(تعالي يا تيماء، ادخلي)
تقدمت تيماء لتدخل، الا انها فوجئت بذلك الثور يقف أمامها و يسد الباب فرفعت عينيها الضائعتين اليه، حينها هتفت أمها به بغضب.

(اذهب أنت الى الداخل، و اخبرتك مئة مرة الا تفتح الباب، هل أنت راض الآن؟)
لا تعلم كيف انتابتها حالة من الضحك الهيستيري و هي تسمع تأنيب أمها؟
ماذا كانت تتوقع إن لم يفتح الباب؟، ان تخفيه في الشرفة مثلا؟
رمشت تيماء بعينيها لتبعد عنهما دموع الضحك المجنون، بينما التفتت اليها ثريا و قالت بخفوت بعد اختفاء هذا الشاب من أمامهما، الى الداخل!
لقد دخل الى الغرف، غرف النوم؟
هل يستخدم غرفتها؟
شتمت تيماء غبائها...

بالطبع لن يستخدم غرفتها، فمن الواضح أنه يستخدم غرفة نوم أمها!، ياللهي!
ابتلعت تيماء تلك الصدمة التي جمدتها كلطمة قوية، ثم توجهت للداخل كغريبة، خجولة...
فجلست على حافة الأريكة في غرفة الجلوس تنظر الى ثريا التي جلست أمامها بارتباك...
ودت لو صرخت بها
رجاءا اخفي جسدك أو غطيه باي شيء عني، فأنت أمي رغم كل شيء
الا انها تماسكت و أبقت وجهها أرضا، مشبكة كفيها في حجرها الى أن تكرمت ثريا و قالت بخفوت و توتر.

(قبل اي شيء، أريدك أن تعرفي بأنه، زوجي)
أغمضت تيماء عينيها للحظة، ثم التقطت نفسا متحشرجا و هي تحاول الإفاقة من الصدمة تلو الأخرى...
لتقول بخفوت أحمق
(آه، هذا جيد، مطمئن)
أخفضت ثريا وجهها بخجل و صمتت و كأنها غير قادرة على الكلام، و حين طال الصمت، رفعت تيماء وجهها تنظر اليها...

كانت ثريا تبدو أكبر سنا، على الرغم من جمالها الا ان الخطوط و التجاعيد بدت واضحة تحت عينيها، و عنقها ليس أملسا، و العروق الزرقاء في ساقيها بدت بارزة أكثر...
لكن على الرغم من كل هذا الوضع المخزي لكليهما، فقد شعرت تيماء بالشفقة عليها و من الموقف الذي لا تحسد عليه...
لذا نظرت اليها قليلا قبل أن تقول أخيرا بخفوت
(فقط أخبريني يا أمي لماذا هو؟، لماذا رفضت العم ابراهيم وهو رجل مناسب و يتمناك منذ سنوات؟).

رفعت ثريا عينيها الى عيني تيماء المحدقتين بها طويلا، ثم قالت أخيرا
(أتريدين معرفة السبب؟، لأنه شاب يا تيماء، لا أريد رجلا أناوله أقراص الدواء، أنا أريد شابا يعيد إلى بعض السنوات التي ضاعت من عمري، و يشعرني بأنوثتي)
أي أنوثة تلك؟
هل ثريا من الحماقة بحيث تظن أن ذلك الطفل يشعر بها كأنثى؟
هل هي عمياء تماما؟
فقط رجل من عمرها هو من يشعرها بالأنوثة عبر احتياجه الحقيقي لرفقتها...

أطرقت تيماء بعينيها الجامدتين قبل أن تقول بفتور
(منذ متى؟، و لماذا تزوجت في الخفاء؟)
رمشت ثريا بعينيها و همست بخجل مرتبكة
(منذ اسبوعين فقط، بعد سفرك بعدة أيام)
ارتفع حاجبي تيماء بصدمة و قالت
(و لماذا اذن كنت تهاتفيني و تبكين و تسألين عن موعد عودتي بكل هذا الألحاح مدعية أنه ليس هناك من يعتني بك؟)
رفعت ثريا عينيها الى تيماء تقول بصدقة و دفاع
(أنا فعلا كنت محتاجة اليك، هل ظننت أنه قادر على الإعتناء بي؟).

ارتفع حاجبي تيماء و قالت بعدم تصديق
(هل تتوقعين مني خدمتكما؟)
أغمضت ثريا عينيها و هي تهز رأسها قائلة
(أمر الخدمة يمكن تدبيره بخادمة يا تيماء، ليس هذا ما أتحدث عنه، أنا أتحدث عن كل حياتي، أنا معتمدة عليك كليا، أحيانا أشعر و كأنك أنت هي أمي لا العكس)
ابتلعت تيماء غصة مؤلمة في حلقها و هي تطرق برأسها قبل أن تقول بجمود
(حسنا، نعود للسؤال الاول، لماذا تزوجتما في الخفاء و تعرضان نفسيكما لتلك الشبهة؟).

نظرت اليها ثريا بدهشة و كأنها تتعجب سذاجة السؤال، ثم قالت ببساطة
(خوفا من أن يمنع عنا والدك و جدك المال بالطبع، هل نسيت شرط والدك؟)
لا تعلم تيماء كم ظلت تنظر الى أمها طويلا و كأنها تتأملها للمرة لأولى، ثم قالت بصوت بارد كالجليد
(أفهم من ذلك أن هذا الطفل الذي تزوجت منه لن ينفق عليك و تنويان الإنفاق من مال أبي دون علمه!)
عقدت ثريا حاجبيها و قالت بغضب و توتر.

(لماذا تظهرين والدك و كأنه الضحية؟، هل نسيت ما فعله بنا؟)
نهضت تيماء من مكانها ببطىء و نظرت الى ثريا لتقول بهدوء
(لم أنسى يا أمي، لكن كان عليك اخباري انا على الأقل قبل أن تتزوجي، كنت لأخبرتك وقتها أن جدي سيمنع عنا المال في كل حال، لأنني أرفض الزواج من عائلة الرافعي، حوارات طويلة لم أجد الوقت و الفرصة كي أقصها عليك و على ما يبدو أنني لن أجده مطلقا)
اتسعت عينا ثريا بذعر و هي تنهض واقفة، تهتف.

(ماذا؟، كيف سيمنع المال؟، أخبريني التفاصيل)
نظرت تيماء نظرة ذات مغزى الى المرر المؤدي الى غرفة النوم و حاربت الدموع في عينيها و هي تقول بفتور
(ليس هذا وقت كلام يا، أمي، عودي الى زوجك وأنا سأرحل، و لن أزعجكما)
هتفت ثريا بخوف
(ترحلين، الى أين ترحلين يا تيماء؟، هل جننت؟، لن تغادري لأي مكان، هذا بيتك و رامي لا يقطن هنا)
فغرت تيماء شفتيها و قالت تردد الأسم
(رامي!).

أغمضت عينيها و هي تهز رأسها قليلا، ثم نظرت الى أمها لتقول بقوة
(لا يا أمي لم يعد هذا بيتي، أنا سأتدبر أمري و تمتعي انت بشهر عسلك)
ابتعدت تيماء عن أمها المرتعبة، لكن ثريا هتفت بتوسل
(لكن يا تيماء من أين سنحصل على المال منذ اليوم؟)
توقفت تيماء مكانها، ثم التفتت الى أمها لتقول بهدوء
(عليك أن تتدبري أمرك أنت و، رامي، بعد أن تزوجتما في الخفاء)
هتفت أمها بقوة و غضب.

(هل تعاقبينني يا تيماء؟، هل نسيت أنك سبق و فعلتها و هربت مع خادم من خدم والدك بغية الزواج في الخفاء؟، على الأقل أنا ناضجة، أضعت عمري كله في تربيتك وحدي بعد أن تخلي أباك عنا، و الآن تعاقبينني؟)
ظلت تيماء تنظر الى ثريا و كأنها تتلقى منها صفعات واحدة تلو الأخرى...
لكن دون ألم، و كأن ثريا تصفع جثة هامدة، فقالت أخيرا بفتور.

(خطأي دفعت ثمنه غاليا يا امي، و لم تحركي اصبعا لنيل حقي، و لازلت أدفعه حتى الآن لأنني أدرك بأن كل انسان مسؤول عن عواقب أفعاله، و هذا ما عليك فعله الآن، تحمل عواقب فعلتك)
بهت وجه ثريا و بدت مذعورة كفتاة مراهقة القيت للتو في الطريق بلا ملابس تسترها...
فأبعدت تيماء وجهها و استدارت تنوي المغادرة، الا انها توقفت عند الباب و التفتت الى أمها لتقول رافعة حاجبها بتعجب.

(رامي!، لا حول و لا قوة الا بالله، ماذا كان يعيب العم ابراهيم؟)
استدارت تيماء و غادرت البيت و هي تغلق الباب خلفها، لتغمض عينيها مطلقة النفس المرتجف الذي حبسته طويلا...
و دون أن تدري وجدت نفسها تبكي فجأة دون صوت...
كانت تنشج و تبكي و قد ارتعشت شفتيها كفتاة صغيرة دون أن تصر صوتا، و حين فتحت عينينها الحمراوين، وجدت حقيبة ملابسها التي كانت قد تركتها قبل ان تدخل الى الشقة...

و كأن الحقيبة كانت تنتظرها لتغادر بها و تبتعد دون أن تحتاج الى الدخول الى هناك مجددا...
ابتسمت تيماء بمرارة لمنظر الحقيبة الوحيدة الواقفة بإباء في الطابق أمام المصعد...
فتحركت اليها تجرها و تغادر تلك الشقة التي كانت بيتا لها يوما...
عادت تيماء بذاكرتها من هذا اليوم و تلك الذكرى الصعبة لتجد نفسها مستلقية على الأريكة الوحيدة الموجودة في الشقة التي استأجرتها...

كل يوم تطوف ذكرى منظر أمها الاخير في ذهنها و يجعل نفسها تموج بالشفقة المذلة عليها...
و يقشعر جسدها و هي تتخيل طفلا غبيا يلامس أمها و يشاركها الفراش!
رفعت يدها لتمسح دمعة طرفت من زاوية عينيها...
مضت حوالي أربعة أشهر و هي تقطن بمفردها، تعيش حالة من التقشف المادي لم تعرفها قبلا...
فهي الآن تعيش على راتبها فقط و الذي يطير معظمه في ايجار الشقة على الرغم من صغر اسمها.

الحقيقة أن المكسب الوحيد من تلك العائلة كان عبارة عن الرفاهية المادية التي أجبر جدها والدها الا يقطعها أبدا...
كانت مرتاحة تنظر الى السقف على الرغم من أن روحها أبعد ما تكون عن الراحة...
تاهت نظراتها بعيدا و هي تهمس
(اربعة أشهر يا قاصي؟، اربعة أشهر اختفيت بهم مجددا)
تأفتت بتعب و هي تلوم غبائها على التسليم له سريعا، مجددا...
و ها هو ابتعد و تركها فريسة لذئاب الرافعي...

لكنها تعرف أنه يتألم، وفاة سليم أوقعت بنفسه شيئا لم تستطع تفسيره...
شيء جعله يهرب من العالم بأسره...
تأوهت بعذاب و هي تتذكر الليلة التس سبقت وفاة سليم و التي قطعت بها وعدا بأن تكون زوجة لقاصي على أن يقنع جدها...
لكن ها هو اختفى، لم يقنع جدها و لم يتقدم لطلب يدها حتى!
ضربت جبهتها بقوة و هي تغمض عينيها هامسة من بين أسنانها بغضب
(ياللغباء يا تيماء، الى متى، فقط أخبريني الى متى ستظلين رهينة لديه).

لكنها كانت تعلم أنها غير منصفة تماما...
فتحت عينيها و هي تتأوه مجددا، ناظرة الى السقف، شاعرة بألم في صدرها يحرقها عليه
فإن كانت قد عاشت شهورا صعبة، لكن قاصي عاش شهورا أصعب منها...
و مع ذلك فهو لم يتخلى عنها تماما...
علي الرغم من أنها لم تسمع صوته خلال الأربعة أشهر، الا أنه كان موجودا، موجودا لكنه غير قادر على النطق...
نظرت الى ساعة الحائط، فانتفض قلبها معلنا عن قرب موعد اتصاله...

لم تكد تفكر في هذا الا و علا رنين هاتفها بجوارها، فزغرد قلبها الغبي و هي تنتفض جالسة لترد على الرقم الغريب الذي يكلمها كل يوم في نفس الموعد و يظل صامتا...
لا يفعل شيء سوى سماع صوتها...
أحيانا ينطق اسمها، مرة يسألها عن حالها!
مرات كثيرة يتعمد الصمت و كأنه غير قادر على الكلام ثم يغلق الخط...
ردت تيماء على الاتصال و هي تعلم بأنه لن يجيبها كالعادة فقالت بخفوت
(مرحبا).

رفعت عينيها الى السقف و هي تستمع الى صوت أنفاسه القوية التي تستطيع تمييزها جيدا...
فتابعت قائلة لا تنتظر ردا
(هل سنظل نلعب لعبة المراهقين تلك طويلا؟، ماذا تريد أن تثبت بالضبط؟، أنك طفل و غير قادر على تحمل الفواجع؟، حسنا لقد أثبت لي هذا بوضوح، ماذا بعد؟
أم أنك تريد أثبات تلاعبك بي و ما أن سلمت لك حتى ابتعدت مجددا!)
ساد صمت طويل ثم قالت تيماء بخفوت.

(أكره أن أقاطع حدادك، لكن أريد اجابة على سؤال واحد فقط، ماذا تريد مني يا قاصي؟)
تنهدت حين شعرت بنفسها تحادث الحائط و لا جواب شاف ستحصل عليه...
لكن فجأة سمعت صوته يقول بخفوت
(أحتاجك، أحتاجك تيمائي، ربما كان هذا دوري)
اتسعت عيناها بذهول و دون أن تدري أغروقتا بالدموع المترقرقة و هي تسمع صوته المتحشرج و الذي بدا أكثر وهنا مما ظنت، فشدت أصابعها على الهاتف و قالت بقوة
(أين أنت، اخبرني بمكانك و سآتي اليك).

سمعت صوت أنفاسه مجددا وودت لو توسلت اليه كي يخبرها بمكانه، الا أنها فضلت الا تفعل، فقاصي بخلاف جميع البشر، كلما زاد الضغط عليه فر كالزئبق...
لذا أمسكت لسانها عن المزيد من الرجاء الى أن قال أخيرا بخشونة
(ليس الآن تيمائي، قد تفرين مني و هذا هو ما لن أطيقه)
رمشت تيماء بعينيها و قالت بقوة صارمة
(لو كنت أردت الفرار منك لفعلت بقوة أكبر يا قاصي، لكنني عدت اليك و بملىء ارادتي، فلا تخذلني مجددا).

سمعت صوت نفسه المتحشرج قبل أن يقول
(ها أنت تتحدثين عن الخذلان مجددا)
زفرت تيماء مجددا بنفاذ صبر قبل أن تقول بشراسة
(أنا أهددك من مغبة خذلاني، هناك فارق)
ضحك قاصي بخفوت، فاغمضت تيماء أخيرا و هي تهمس براحة
(أخيرا ضحكت يا قاصي)
لم يرد على الفور ثم قال بخفوت
(أنا متعب، أريد الإرتماء بين أحضانك، الآن، الآن يا تيماء)
ابتلعت ريقها و قلبها يعزف ألحانا، ثم همست بصوت مرتجف
(هل كان يعني لك الكثير؟).

كانت تقصد سليم، و لم يتظاهر هو بعدم معرفة قصدها، فقال بصوت أقسى مما توقعت
(كان الدرع الذي يحميني من سواد روحي)
ارتجفت تيماء لعبارته الخافتة البطيئة، و شعرت بالخوف يدب في أوصالها، الا أنها قررت التغاضي عن هذا الخوف و رميه بعيدا و هي تقول بخفوت
(يموت القلم و تبقى الفكرة، من المؤكد أنه قد ترك بك أثرا تحتمي و تتمسك به)
سمعت صوت حلقه يتشنج و كأنه يبتلع ريقه بصعوبة، فهمست بقلق
(قاصي!)
قال قاصي بصوت متحشرج.

(أنت لا تفهمين، الفكرة بداخلي سوداء و لا ألوان أخرى لها، أما هو فكان يمنعني و لا ييأس، كان بعض الرحمة المتبقية بداخلي)
عاد الخوف ليشملها مجددا، ليست خائفة منه على الرغم من أنها تعرف ندوب روحه و تفاصيله الممزقة منذ سنوات، و ما يترتب عليها من تصرفاته الغير مسيطر عليها احيانا، و لهذا السبب يبتعد عنها كل فترة...
كي يحميها من ان ترى المزيد، و يحمي نفسه من الا يراها و هي تفر منه!
هكذا قال...

بدأت تفهم الآن أكثر و أكثر، فأغمضت عينيها و هي تهمس بخفوت شديد
آه يا حبيبي، لم تظن انه قد سمعها فقال بتوتر
(ماذا قلت للتو؟)
اتسعت عيناها بذعر و سارعت تقول
(لم أقل شيئا)
الا أن قاصي قال بخشونة آمرة
(بلى قلت، و سمعتها)
زفرت دون صوت بينما احمر وجهها بشدة، ثم قالت باختناق مغيرة الموضوع
(اذن هل سأراك، هناك الكثير مما أريد أخبرك به عن حياتي)
قال قاصي فجأة
(لنتزوج)
اتسعت عيناها بذهول و همست
(ماذا؟)
هتف قاصي بقسوة.

(لنتزوج يا تيماء، أحتاجك، أحتاج لأن أضمك بين ذراعي، بشدة)
ارتجفت شفتي تيماء و هي تقول بصوت خجول على استحياء
(أنت، أنا، أنا واقفت و أنت لم تتقدم لطلب يدي من جدي كما وعدتني)
كان هذا محرجا جدا بالنسبة لها بعد كل هذه الأعوام من الفراق، فلم تعد المراهقة المتهورة الجريئة، بل باتت تشعر بالحرج و الكبرياء...
الا أن قاصي قال بصرامة على الرغم من الإجهاد في صوته.

(بوفاة سليم سيتأخر كل شيء يا تيماء، لن يقبل سليمان الرافعي بمناقشة الأمر حتى، هذا لو كان في الأمر مناقشة من الأساس، تيماء، جدك لن يقبل بهذا، فاستسلمي)
كانت على وشك التردد، التخاذل، الا أنها شعرت بالغضب فجاة
انها تعاني الكثير و عليه تقدير ذلك، عليه الانتظار من أجلها لو تطلب الأمر...
انها تخاطر بالكثير، و ماذا يقدم هو؟
أغمضت تيماء عينيها و هي تحاول اخراج نفسها من دائرة الحقد عليه...

عليها أن تعيش عشقها أخيرا...
عليها مداواة نفسها...
و ما أن فتحت شفتيها لتجيبه حتى هدر بها فجأة بقوة
(كما تشائين عليك اللعنة)
و قبل أن ترد مذهولة، كان قد صفق الخط في وجهها!
نظرت تيماء الى الهاتف بصدمة، ثم همست
لا يزال هو كما هو!، لم يتغير أبدا!
تلاشت الصدمة و حل محلها الغضب العنيف و هي تلقي بالهاتف جانبا شاعرة بالنقمة عليه و على مدى أنانيته و تسلطه...

زفرت بقوة و هي تكتف ذراعيها ناظرة الى الشقة الصغيرة الخالية من حولها...
عضت تيماء على شفتيها و هي تشعر بالوحدة تعتريها، فثريا رغم كل عيوبها الا انها كانت المعين لها على الشعور بالغربة و النبذ في هذه الحياة...
لكنها في النهاية كانت ككل من عبروا حياتها فاختاروا حياتهم في النهاية...
الا قاصي...
علي الرغم من أنانيته، الا أنه أخلف توقعاتها و لم يتخاذل و يتركها، بل عاد اليها متمسكا بحقه فيها...

نهضت تيماء من مكانها ببطىء لتحكم غلق باب الشقة و النوافذ، كي تقضي ليلة بائسة وحيدة اخرى...
و ما ان ارتدت منامتها و حضرت كوبا من الحليب لتجلس في سريرها شاردة...
حتى فكرت في الذهاب الى قاصي بنفسها كي تسترضيه، فقط هذه المرة فهو يمر بوقت عصيب...
لكنها و قبل أن تطلبه من جديد رأت اسم ثريا تتصل بها فزفرت بنفاذ صبر، الا أنها ردت عليها في النهاية قائلة بفتور
(نعم يا أمي).

ردت عليها ثريا بصوت خافت متردد
(كيف حالك يا تيموءة، اشتقت اليك)
ردت تيماء بصوت خال من المشاعر تقرر أمرا واقعا...
(أنت تحتاجين الى المال يا أمي)
قالت أمها بصوت موجوع
(لا تتصرفي معي بتلك الطريقة يا تيماء، الا تصدقين أنني اشتقت اليك؟، أنا لا أنظر بأي مكان في الشقة الا و رأيتك به)
قالت تيماء و هي ترفع عينيها للسماء.

(أصدقك يا أمي، و انا أيضا اشتقت اليك على الرغم من حنقي عليك، الا أنك على الرغم من ذلك تحتاجين الى المال)
ساد صمت متوتر فابتسمت تيماء ابتسامة ساخرة خالية من المرح قبل أن تقول بخفوت
(أمي، هل أنفقت كل ما أعطيتك اياه في بداية الشهر؟، ألم أوصيك أن تقتصدي لأننا الآن نعتمد على راتبي فقط؟، ليس معي مال يا أمي أقسم لك)
ترددت ثريا ثم قالت بخفوت.

(الوضع لن يفلح بهذا الشكل يا تيماء، من نخدع؟، أنا و أنت لم نعتد تلك الحياة المتقشفة)
قالت تيماء ببرود
(لديك رجلا ينفق عليك يا امي، أي أنك نظريا افضل حالا مني)
لكن أمها قالت بأسى
(لا تبدأي في هذا الامر مجددا يا تيماء، تعرفين أنه لن يفلح في ذلك)
قالت تيماء بامتعاض و تقزز
(اذن بماذا يفلح غير ذلك يا، امي)
صمتت ثريا بخزي و تخاذل، بينما شعرت تيماء بالنفور يملأ جسدها، الا انها قالت بعد فترة بصوت خال من العاطفة.

(عامة دعينا من أمر زوجك الغالي، صدقيني أنا أفعل أقصى ما أستطيع يا أمي و لا أملك المزيد)
قالت ثريا بتردد
(ألم يرسل والدك أو جدك أي مال؟)
قالت تيماء دون تردد
(لم أتحقق من الأمر، الا انني واثقة يا أمي، فجدي كان واضحا و غير متعاون اطلاقا، و أنا لن أحرج نفسي بالطلب)
قالت ثريا بتردد أكبر
(لكن يا تيماء)
قاطعتها تيماء بعنف
(لا يا ثريا، لن أطلب منهم مالا مجددا)
صمتت ثريا عدة لحظات ثم همست بترجي.

(لماذا، لماذا لا تفكرين جديا في عرض جدك و تقبلين بالزواج من احد أبناء أعمامك يا تيماء، إنها فرصة لا تعوض، تتمناها الكثيرات و ستنقلنا الى مستوى آخر تماما)
اتسعت عينا تيماء و فغرت شفتيها، بينما شعرت بثقل كبير في قلبها، و ضمور في احساسها بالعاطفي تجاه أمها في تلك اللحظة...
لم تصرخ و لم تغضب، لن تنهار حتى...
بل قالت بمنتهى الهدوء
(لا، لن يحدث، و لا تحاولي مناقشة الأمر أكثر)
قالت ثريا بتوسل
(لكن يا تيماء).

الا أن تيماء هتفت بقوة و غضب
(لااااا)
ساد الصمت لعدة لحظات قبل أن تقول ثريا بصوت ضعيف
(كنت سأقترح أن تعودي للسكن معي، و بذلك توفري قيمة الإيجار العالي، نحن أولى به)
ظلت تيماء تنظر أمامها بلا اي تعبير سوى الغباء و بعض البلاهة...
ثم لم تلبث أن قالت بصوت غريب
(الى اللقاء يا أمي، أنا متعبة و أحتاج الى النوم، سأرى ما استطيع تدبيره لك غدا الا أنه سيطون مبلغا ضئيلا جدا، الى اللقاء).

و أغلقت الخط على صوت نداء أمها اليائس...
ظلت تيماء مكانها مستلقية تنظر الى السقف بعينين جامدتين واسعتين، قبل أن تبكي فجأة دون سبب معروف...
أمها و تعرفها منذ سنوات طويلة، لم و لن يتغير طبعها، الا أنها طيبة القلب...
هي فقط طفولية و مادية قليلا، لماذا تبكي الآن؟
ابتلعت غصة في حلقها و همست و كأنها ترد على سؤالها
(أشعر بالوحدة، أشعر بالنبذ، أشعر، أريد)
صمتت قليلا و قد اختنق صوتها قبل أن تهمس بشرود حالم.

(أريد رؤية قاصي، أريده كعائلتي الوحيدة، هو بالفعل عائلتي الوحيدة التي ابتعدت عنها لسنوات من الإغتراب و ها أنا عدت اليها من جديد)
لم تدري من أين ظهرت تلك الإبتسامة الوردية الحزينة...
ابتسامة جميلة أظهرت غمازتيها، فرفعت يدها تمسح دموعها قبل أن تمسك الهاتف و تعاود الاتصال به...
لكن هاتفه كان مغلقا!
لقد أغلقه و هرب!
تأففت تيماء من تلك التصرفات التي كبرت عليها، فهي لم تعد تمتلك الطاقة لها بعد...

ظلت تيماء تفكر بطريقة تصلها به، الى أن وصلت في النهاية الى نتيجة واحدة غير مرضية...
غير مرضية اطلاقا، بل حارقة و موجعة...
أمسكت بهاتفها و بامتعاض هاتفت مسك!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة