قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والأربعون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والأربعون

كانت مسك تعمل على حاسبها مساءا بعد يوم طويل...
كان من المفترض أن ترتاح، الا أن الراحة تجلب لها القلق و التفكير، لذا فكرت في العمل كي ترهق به نفسها فترتمي متعبة في النهاية و تنام مباشرة...
رفعت مسك هاتفها لترد بعد أن سمعت رنينه، وصلها صوت تيماء تقول بخفوت
(مرحبا مسك)
توقفت أصابعها عن العمل و هي ترفع حاجبها لتقول بدهشة قليلا
(آه، تيماء، اتصال غير متوقع، مرحبا).

زفرت تيماء و هي تشعر بمدى برود مسك و عدم ترحيبها، بل و غرورها أيضا...
الا أنها تحاملت و أجبرت نفسها على القول بفتور
(أنا، أعتذر عن الإتصال في مثل هذا الوقت، لكنني كنت أريد سؤالك عن شيء هام)
قالت مسك ببساطة و هي تتابع العمل على حاسوبها بيدها الحرة...
(ماذا تريدين؟)
زمت تيماء شفتيها بحنق، لكنها قالت بصلابة
(كنت أود سؤالك عن، عن قاصي، كيف يمكنني ايجاده؟).

رفعت مسك حاجبها و ابتسمت بسخرية بينما هي تتابع عملها، لكنها قالت باختصار
(لماذا؟)
اتسعت عينا تيماء بغضب فهتفت حانقة قبل أن تستطيع منع نفسها
(أمر شخصي، من فضلك)
قالت مسك بلهجة مستفزة
(أمر شخصي بينك و بيني خطيبي حبيبي؟، كيف يكون ذلك؟)
تعرف تيماء جيدا ان مسك ما أضافت كلمة حبيبي تلك الا لتستفزها، و قد بالغت كثيرا...
لكن ما شغل بال تيماء في هذه اللحظة...
ألم يخبر قاصي مسك بخططه في الزواج منها هي؟

هل كان ينوي الزواج منها تاركا لمسك أمر فسخ الخطبة أمام جدها؟
لا، لا تظن أن قاصي بهذه الدناءة...
لم تعرف ان كانت سعيدة لأن أسرار قاصي الشخصية ليست مع مسك، أم تعيسة لأنه لم يخبرها بعد بفسخ تلك الخطبة العقيمة...
أخذت تيماء نفسا متوترا قبل أن تقول ببرود.

(لا أظنك ستتمين هذه الخطبة يا مسك، بل أنا متأكدة من ذلك، لذا كفي عن التلاعب، هلا أخبرتني عن مكانه رجاءا، مرة واحدة قومي فيها بمساعدتي بعد أن ختنتني المرة الماضية و تركتني في محطة القطار وحيدة)
قالت مسك بلامبالاة...
(لا اعرف مكانه)
ضاع أمل تيماء الأخير، الا أنها قالت بشك
(الا ترينه مطلقا؟، الا يتصل بك؟)
قالت مسك بعفوية.

(بلى يتصل بي كثيرا، لكنني لم أره منذ الاجتماع العائلي، لكن و بما أنك قد سألت اليوم بالصدفة، فأنا سأراه غدا، فلدينا موعدا هاما)
فغرت تيماء شفتيها و استقامت جالسة لتهتف بقوة
(ستريه غدا؟)
قالت مسك ببساطة
(نعم، سيمر بي أمام مقر الشركة ظهرا ليصطحبني)
كانت تيماء تشعر بالجنون مما تسمع...
و ما اشد خطرا من جنون امرأة تغار على عشقها الوحيد...
لذا قالت بوقاحة غاضبة
(أي موعد هذا؟، الى أين ستذهبان؟).

رفعت مسك حاجبيها و توقفت يدها عن العمل لتقول فجأة ببرود
(موعد يخصني، لا شأن لك)
الا أن تيماء هتفت بغضب جارف
(أنت، انتما، لا يمكنكما)
ظلت مسك تستمع الى هتافها المتعثر المذهول الغاضب، قبل أن تقول ببرود جليدي
(أقترح أن تغلقي الخط الآن كي تنامي، علك تتحلصين من تلك الشحنة السلبية المسيطرة عليك، الى اللقاء)
أغلقت مسك الخط مباشرة، لتنظر تيماء الى الهاتف بذهول و هي تهمس لنفسها.

لقد أغلقت الخط!، لقد أغلقا الخط بوجهي كليهما في ليلة واحدة، و لديهما موعدا سويا غدا!، برقت عينا تيماء بشيطانية و هي تهتف بجنون
(تبا لك يا قاصي، لو كنت تظن بأنني سأصبح لعبة في يدك مجددا فأعد التفكير، غدا لنا لقاء، لقاء مغبر فوق رأسيكما معا ان شاء الله)
أما مسك فبعد أن أغلقت الخط مع تيماء...
تراجعت في مقعدها تشرد قليلا و هي تفكر في الغد...
لماذا تبدو قلقة كل هذا الحد؟

كانت قد سلمت أمرها لله منذ وقت طويل، و باتت متصالحة مع الأمر بشكل صحي...
الا أنها الآن تشعر بالتوتر...
و لا تعلم لماذا تحديدا؟
في اليوم الذي تم تشخيص حالتها بالسرطان، شعرت مسك فيه بالذهول، الصدمة...
ثم انتابتها نوبة من الصراخ المجنون...
لماذا أنا؟، لماذا أنا؟، لم تصدق أن تنقلب حياتها هكذا في لحظة واحدة!
تلك الحياة البراقة التي يعد كل يوم منها حفلا غنائيا سعيدا...

لم تفكر يوما بأنها قد تمرض مثل باقي من تتعاطف معهم...
عاشت أياما عصيبة، مرتعبة فيها من الموت...
لا تريد فقدان حياتها، فهي لم تشبع منها بعد...
تريد الزواج بحبيبها، و انجاب الكثير من الأطفال له...
تريد العمل و تحقيق أهدافها...
لا تريد خسارة شعرها الذي حسدها عليه الجميع...
و استمر رفضها للبلاء عدة أيام، تعد نقطة سوداء في حياتها كلها...
الى أن بدأت تهدأ، و تبقى مع نفسها قليلا، ثم تسألها.

و لماذا لست أنا؟، ماذا أزيد عن المبتلين كي أرفض و أتبجح؟، حينها بدأت السكينة تتسلسل اليها، و بدأت تتمسك بالأمل و الرغبة في الشفاء...
المحاربة...
لكن الخوف من الموت لم يختفي...
كانت ترتعب من أن تفقد حياتها بسرعة...
فقد كان لديها ما تخاف عليه...
لكن بعد أن ضربتها الصدمة التالية، و هي ارتباط خطيبها بأعز صديقة لها!
حينها تغير كل شيء...
كم تضائلت الدنيا في نظرها، علا قدر أناس و اهبط قدر آخرين...

لم تعد تخشى الموت، بل سلمت أن لا أحد يملك تقرير عمره زيادة أو نقصانا...
و باتت لديها نظريات في مدى مكانة البشر في حياتها، و في حياة أنفسهم...
أفاقت مسك على صوت جرس باب شقتها...
فعقدت حاجبيها و هي تتسائل عن القادم في تلك الساعة...
لكنها نهضت من مكانها لتفتح الباب...
حينها صدمت برؤية، غدير...
كانت واقفة أمامها بالباب بكامل أناقتها...

شعرها القصير مصفف كإبر حادة مدببة، و سترتها الجلدية الزرقاء الزاهية تظهر نحافة خصرها على بنطالها الأسود الضيق و كعبي حذائيها العاليين...
من الواضح أنها بذلت مجهودا ضخما في التحضير لأناقتها قبل أن تقرر زيارتها!
تمالكت مسك نفسها سريعا و ابتسمت ببرود و هي تقول
(وقت غريب للزيارة يا غدير!، و دون اتصال مسبق؟، تعرفين أننا لم نعد كالأول، تأتين بأي موعد و دون اذن و كأن البيت بيتك!).

ابتسمت غدير ببرود مماثل و هي تقول
(لا داعي للإهانة يا مسك، لم آتي الى هنا كي نجدد الماضي السعيد، لدي كلمتين و سأغادر بعدها فورا)
رمقتها مسك من أعلى رأسها و حتى أخمص قدميها بتعالي، قبل أن تقول بسخرية مترفعة
(تبدوان كلمتين بالغتي الأهمية كي تأتين بمثل هذا التأنق و في مثل هذه الساعة!)
مالت غدير برأسها و هي تقول بغرور مقصود.

(لم أتأنق خصيصا يا مسك، هذه هي أنا الجديدة، بات هذا هو طرازي الحالي، غدير القديمة لم يعد لها وجود)
صدرت عن مسك ضحكة ساخرة مستهينة قبل أن تبتعد عن الباب قائلة ببرود
(تفضلي، لكن اختصري رجاءا، )
دخلت غدير تتهادى أمامها الى ان وقفت في منتصف غرفة الجلوس تتأملها ببرود و بعينين فاقدتي للمودة...
بينما مسك تراقبها بسخرية، الى أن استدارت غدير اليها قائلة بقوة.

(دون مقدمات يا مسك، ابتعدي عن أشرف، فهو لم يكن لك منذ البداية، و لن يكون)
ارتفع حاجبي مسك و هي تقول بدهشة تمط شفتيها
(هل هاتين الكلمتين هما ما جئت لأجله؟، لا جديد اذن، سبق و قلتها من قبل، لكن عامة شرفت يا غدير، الى اللقاء و اغلقي الباب خلفك)
برقت عينا غدير و هي تقول بصرامة.

(بل لدي بعد الكثير يا مسك، زوجي لن يسقط لأجلك، كما سقط لأجلي من قبل، أتدرين لماذا؟، لان حبه لك كان وهما، واجبا مقررا عليكما تم تحفيظكما اياه منذ الصغر، لذلك وقع بحبي مع أول فرصة)
ابتسمت مسك دون تعبير و هي تنظر اليها بدقة، ثم قالت ببساطة
(نعم، أول فرصة استغليتها في مرضي و سرقته)
قالت غدير بهدوء، مشددة على كل حرف
(الرجل الذي يحب حقا، لا يسرق، و لا يبعده مرضا أيا كان بل على العكس).

ابتسمت مسك و قالت ببساطة مشيرة اليها متظاهرة بالبراءة
(أنت محقة، صدقا، أتفق في هذه النقطة معك تماما، لكن فاتك شيئا)
صمتت للحظة ثم مالت الى غدير تقول بتركيز
(أنه قد يندم مثلا، يعاود الاتصال بي بحجة الاعتذار، يخبرني كم هو متألم لما فعله، يطلب مني أن نكون أصدقاء، تتطور صداقتنا شيئا فشيئا، يخبرني بمشاكل حياتكما الخاصة مثلا)
امتقع وجه غدير و فقدت اتزانها للحظة، قبل ان تبتسم مسك قائلة بصوت ماكر.

(أخبره أنني أفهمه جيدا، و ربما كان السبب هو مديرك في الشركة و الذي تخرجين من مكتبه باكية عادة!)
فغرت غدير شفتيها قبل أن تقول مسك متاوهة و كأنها تذكرت شيئا هاما، واضعة اصبعها على فكها
(بالمناسبة!، أتدرين أن أمجد الحسيني تقدم لخطبتي؟)
عند هذه النقطة ترنحت غدير مكانها و قد شعرت بالدنيا تميد بها فجأة، فقالت بخفوت متداع
(لا، لا يمكن أن يحدث هذا!)
قالت مسك بنفس البراءة.

(بلى حدث، و تقابلنا سويا خارج العمل للتعارف أكثر ولولا حالة الوفاة لكان طلب يدي من أبي)
بهت وجه غدير تماما، و هي تنظر بعيدا بنظرات زائغة...
بينما ابتسمت مسك بخبث و غمزت قائلة بنعومة
(هل تحبينه؟)
شهقت غدير و هتفت فجأة فاقدة السيطرة على نفسها
(لا أسمح لك)
قالت مسك ببرود و تعالي.

(بلى ستسمحين، فأنت في بيتي و أنا من يسمح أو لا يسمح، هل هناك شيء آخر تريدين اخباري به قبل أن تغادري مشكورة، اظنك الآن قد اطمئننت على زوجك العزيز مني)
ابتلعت غدير غصة مؤلمة في حلقها و هي لا تزال تنظر بعيدا، ثم نظرت الى مسك تقول بخفوت
(نعم، جئت لأخبرك بأنني، حامل، لذا لا، تحاولي)
شعرت مسك و كأنها قد تلقت لكمة بمعدتها، لكن شيئا لم يظهر على وجهها المرتفع بكبرياء، فقالت بهدوء جليدي.

(مبارك لك يا غدير، اطمئني لن أحاول، لن أكون سوى نفسي و سنرى ان كان زوجك سيسقط من تلقاء نفسه أم لا، حينها فقط قد تتاكيدن من حبه لك و تتوقفين عن ملاحقة كل امرأة ينظر اليها بتلك الطريقة المثيرة للشفقة)
ارتجفت شفتي غدير و استدارت لتغادر، الا أن مسك قالت بهدوء توقفها
(آه صحيح نسيت، أنا متأذية نفسيا من والدتك جدا!، كنت أظنها تغيرت)
انتفضت غدير تنظر اليها و هي تقول بذهول
(أمي؟، هل قابلتها!)
قالت مسك آسفة.

(آها نعم، بنفس اليوم الذي رفضت استقبالها في العمل، وجدتها جالسة تبكي على الرصيف تستنجد بالمارة، حينها لم أستطع التخلي عنها لأجل العشرة فاصطحبتها معي للبيت و فعلا بقت معي لفترة، لكن بعد أن سافرت لأجل واجب العزاء، و عدت، اكتشفت أنها قد سرقت الكثير من مشغولاتي الذهبية و مبلغا من المال)
ترنحت غدير قليلا، الا ان مسك قالت بهدوء بارد
(لا تقلقي يا غدير، لن يعلم أحد بذلك، فلقد اعتدت الإلتقاط خلفك).

اوشكت على انهاء عملها لكنها كانت في حاجة الى بعض الأوراق من غرفة العاملين لذا فضلت الذهاب اليها بنفسها قبل ان يصل قاصي...
اقتربت من الباب المفتوح فوجدت أسماء جالسة مكانها، و كانت تبكي أما بعض العاملين كانو جالسين معها و يقومون بتطييب خاطرها...
علي الفور تسمرت مسك و تشنجت عضلاتها، و هي تتذكر قريبتها الطفلة الصغيرة المصابة باللوكيميا...
هل ماتت؟
بهت وجه مسك و هي تراقبهم، فدخلت بساقين متباطئتين...

لكنها سمعت أسماء تقول من بين بكائها
(المسكينة الصغيرة، بدلا من أن تقضي وقتها في اللعب مثل باقي الاطفال، تتنقل من مشفى لآخر، وخز إبر و أدوية و عقاقير، و لم نبدأ في العلاج بعد، كل يوم آخذها بين ذراعي و لا أتمالك نفسي من البكاء، حتى ننام سويا)
تنفست مسك بغضب و راحة...
لكن غضبها ازداد و تفجر و هي ترى الجميع يطيبون من خاطرها...
و ملامح التعاطف تعلو وجوههم، و البعض منهم يقدم لها الحلوى و العصير!

زمت مسك شفيتها و دخلت المكان و هي تقول بصرامة
(ماذا يحدث هنا؟، ألم ينتهى وقت الراحة منذ فترة طويلة؟)
انتفضت أسماء واقفة، بينما وقف معها الباقين وهم يشعرون بالتوتر...
تكلم أحدهم قائلا بارتباك
(أسماء كانت منهارة قليلا، لذا كنا نواسيها)
هنا انفجرت بها مسك و هي تهتف بغضب.

(تضيعون وقت العمل لأن أسماء منهارة؟، ما شاء الله، و انت يا سيدة أسماء، لماذا أنت منهارة؟، مريضة؟، تعانين من اي خلل بصحتك؟، تعانين من دواء مجهد و عناء طويل؟، الإجابة هي لا، أنت ببساطة من المفترض أنك مسؤولة عن طفلة مريضة تعاني، و هذا من سوء حظها، فبدلا من ان تمنحينها الأمل، فإنك تبثين الخوف بداخلها كل ليلة و هي تنام على منظر عويلك و بكائك، أتعرفين ماذا أنت؟، انت مجرد فتاة راغبة في الظهور بمظهر البطولة و الشقاء، و امثالك يثيرون تقززي).

ساد صمت رهيب المكان و الجميع ينظرون اليها و كأنها مجنونة...
حينها اكتشفت مسك عمق التهور الذي انفجرت به للتو!
أطرقت برأسها و هي تشعر بالإختناق فجأة قائلة بخفوت
(أنا)
لكنها لم تجد ما تنطق به، فاستدارت لتغادر بسرعة، لكنها ما ان فعلت حتى اصطدمت بآخر شخص تتمنى رؤيته...
رفعت وجهها الشاحب الى أمجد، الذي كان واقفا في الباب ينظر اليها...

و من نظراته الصارمة الغاضبة، بات واضحا أنه سمع الجنون الذي تفوهت به للتو...
لم تعد مسك قادرة على تحمل نظراته أكثر، فتجاوزته خارجة بسرعة و صوت كعبي حذائيها يملأن الرواق الرخامي برنين عصبي...
كانت تسمع صوت خطواته خلفها بوضوح...
و كلما أسرعت، تسارعت خطواته تلاحقها...
حينها استدارت اليه و هتفت بغضب
(ماذا تريد مني؟، لماذا تلاحقني؟).

توقف أمجد مكانه ينظر اليها بصمت بينما الغضب البارد لم يتبدد عن وجهه، الى أن قال أخيرا بصوت خافت
(أنت نقمة على كل حياة تدخلينها)
أجفلت مسك من قساوة كلماته فتراجع وجهها قليلا، الا أنه تابع بنفس الصوت الخافت القاسي
(بغرورك التافه، و عليائك الوهمي و تسلطك على من هم اقل منك، و عدم مراعاتك لآلام غيرك، ما انت الا شابة مدللة تافهة مغرورة)
اقتربت منها خطوتين وهو ينظر الى عينيها، ثم قال بفتور.

(حين سألتني أمي عنك، أخبرتها بأنك قاسية، لديك قشرة صلبة لا يمكن لأحد تخللها، لكنها أجابتني بشيء واحد، أن من لها مثل هذه القشرة الصلبة، ليست بقادرة على ايذاء أحد، لكنني اكتشفت الآن مدى طيبة قلبها و سذاجة شعورها، أنت لا تستمدين قوتك المجوفة الا من ايذاء الآخرين)
ابتلعت مسك ريقها و رمشت بعينيها و هي تشعر بالدوار فجأة، فسقطت على الجدار من خلفها، الا ان أمجد سارع بالامساك بها قبل ان تسقط ارضا...

و حين اوقفها على قدميها ابعد شعرها المتناثر عن وجهها بيده وهو يقول بقلق
(مسك، هل أنت بخير؟)
هزت مسك رأسها قليلا قبل أن تقول بخفوت
(نعم، نعم أنا بخير)
قال أمجد بقوة
(تعالي آخذك الى الطبيب)
رفعت مسك رأسها و قالت بسرعة
(لا، لا أنا بخير، في الواقع ابن عمي سيصطحبني الى الطبيب بالفعل فنحن على موعد)
عقد أمجد حاجبيه و هو يبعد يديه عنها بسرعة قائلا بتعجب
(زوج غدير!).

رفعت عينينها العنبريتين اليه و هي ترى غضبه المفاجىء و المختلف عن غضبه الأولي...
و تسائلت عن مدى معرفته بشجرة العائلة، عن طريق غدير!
لكنها حين تكلمت قالت بجهد
(لا، في الواقع ابن عم آخر)
نظر اليها أمجد مدققا، وهو يضع يديه في جيبي بنطاله قائلا ببرود
(كم ابن عم لديك بالضبط؟)
ابتسمت مسك و هي تقول بصدق
(الكثير جدا، أكثر مما استطيع عده)
سمعت رنين هاتفها في جيب تنورتها، فأخرجته تنظر اليه ثم قالت بخفوت.

(ها هو قد وصل)
ابتعدت مسك عنه و هي تستند بيدها الى الجدار كي لا تقع، فما كان منه الا ان سار بجوارها وهو ينظر اليها بقلق
(هل انت متاكدة بأنك قادرة على الخروج وحدك؟)
أومأت برأسها دون أن ترد، فنظر اليها بطرف عينيه شاعرا بنفس الضيق الغريب...
يشعر بالمتعة وهو يؤذيها نيلا لحق من تطاول عليهم، ثم لا يلبث أن يشعر بالضيق و الندم بعدها...
قال أخيرا بجفاء
(سأرافقك على أي حال).

أمسكت تيماء بمقود سيارتها و هي تنتظره أمام الشركة التي تعمل بها مسك...
كانت تغلي غضبا و غيرة...
اصابعها تطرق بعصبية على المقود و هي تضع كل الاحتمالات الممكنة لموعده مع مسك...
لكن ايا كان الموعد، فهي لا تقبل...
منذ اليوم لن تقبل بتلك التخاذلات منه، و بما أنه أعادها الى حياته فليتحمل اذن...

رفعت تيماء و تسمرت أصابعها على المقود ما أن لمحت وجه قاصي خلف مقود سيارة، يقودها من بداية الطريق، و دار بها حتى و قف أمام مدخل الشركة...
كان يضع نظارة داكنة على عينيه!
هل يتأنق كذلك؟
شعرت تيماء في تلك اللحظة ان اي سيطرة قد تعلمتها في حياتها قد اختفت فجأة...
حاولت التقاط انفاسها و العد الى العشر كي لا تتهور...
الا أنها لم تستطع، كانت طاقة الغضب بداخلها تتزايد و تتضاعف...

التفتت تيماء الى مدخل الشركة و رأت مسك خارجة منه بأناقتها الملفتة، يرافقها أحدهم...
شعرت تيماء بأنها تقف وحيدة منبوذة في سيارتها الصغيرة على قارعة الطريق في الجهة المقابلة...
لكم اشتاقت اليه!
و ما بين هذا الإشتياق المضني و بين الغضب العنيف كانت أعصابها على حافة الإنهيار...
أدركت بأنها ستتهور خاصة وهي تراه يبتسم لمسك من تحت نظارته السوداء ابتسامة هادئة، مشجعة!
تقبلتها مسك و حيته بابتسامة أجمل منها...

حينها قامت بتشغيل سيارتها و تحركت بها تدور في الطريق حتى وصلت الى نفس الصف، خلف سيارة قاصي تماما!
لم يكن قد انتبه الى وقوفها خلفه بعد، فحركت عصا السرعة و هي تتراجع للخلف قليلا، ثم عادت و تقدمت بكل قوتها حتى ضربت مؤخرة سيارة قاصي بمقدمة سيارتها...
انتفض قاصي مكانه وهو يهدر غاضبا ناظرا في مرآته...
الا أنه ذهل حين رأى وجه تيماء الشرس مواجها له في المرآة...

قبل أن تتراجع بسيارتها، ثم تتقدم مرة اخرى بكل قوتها و تضرب مؤخرة سيارته و هي مبتسمة بغضب!
صرخ قاصي بجنون وهو يخرج من سيارته صافقا الباب...
بينما كان مسك و امجد يراقبان ما يحدث بذهول
و مسك تشهق عاليا واضعة يدها على فمها، فهتف أمجد بعجب
(هل اطلب الشرطة لها؟)
كان قاصي قد وصل اليها ففتح بابها، و امسك بذراعها يجذبها بقوة حتى اخرجها من السيارة بعنف...

كادت تيماء أن تسقط أرضا و هي تتعثر أثناء خروجها الا أنه أحكم الإمساك بذراعها...
ثم خلع نظارته الداكنة ليصرخ بها بقلق حقيقي
(هل أنت بخير؟)
تاهت عينا تيماء في عينيه، فقد كانتا حمراوين بلون الدم، و زاد الجرح القطعي بوجهه من قساوة ملامحه أكثر...
ذقنه غير حليقة و قد بدأ شعره يستطيل مجددا!، بالكاد يلامس ياقة قميصه الأنيق...
كان يشبه القراصنة بجدارة...
و كان يشبه أيضا رجلا يتألم، منذ أشهر...

شعرت بقبضة من الألم تطبق على قلبها لاجله، الا أنها قالت بفتور
(أنا بخير، لا تقلق)
عندها دفعها قاصي الى أن ارتطمت بالسيارة وهو يصرخ فيها كالمجنون
(هل أنت مجنونة؟، غبية حمقاء، ماذا تظنين نفسك فاعلة!)
كان امجد و مسك قد وصلا أليهما فأمسكت به مسك تقول بقوة
(ابتعد عنها يا قاصي و كفى فضائح)
لكن قاصي كان كمن أفلت لجام غضبه، فصرخ في تيماء وهو يهزها
(هل خرس لسانك الآن؟).

كانت تيماء تنظر اليه من عينيها المرتفعتين اليه كعيني قطة شرسة موشكة على نبش وجهه بأظافرها...
لذا صرخت هي الاخرى
(لم و لن أخرس يا قاصي، لقد تعبت منك و من أسلوبك الملتوي في التعامل معي، بينما تقدم لمسك كل الدعم الذي تحتاجه)
نظر أمجد حوله و قد بدأ الناس في التجمع على هذا الشجار، ثم نظر الى مسك قائلا بتوجس
(ألن تعرفينا يا مسك، لعل النفوس تهدأ قليلا)
قالت مسك بتوتر
(هذه تيماء، أختي الصغيرة، و هذا هو قاصي).

لم تكمل مسك باقي التعارف، فقد تطوعت تيماء و سبقتها و هي تنظر الى أمجد مبتسمة بوحشية قائلة
(ابن عمها، و خطيبها)
توتر المكان أكثر و اشتعل، بينما تسمرت مسك مكانها و فغرت شفتيها بذهول...
أما امجد فقد نظر اليها بصدمة، و سأل بصوت غريب
(هل انت مخطوبة؟)
نظرت اليه مسك لا تدري ماذا تقول، فما كان منه الا أن نظر اليها نظرة محتقرة، قبل أن يبتعد و يتركهم لجنونهم...
أما قاصي فصرخ في تيماء مجددا بعنف.

(أنت قليلة الأدب و مجنونة، و فضلا عن هذا كله معتوهة)
اما تيماء فلم تتخاذل بل ضربت الأرض بقدمها و هي تصرخ من بين دموعها
(و أنت أكثر من عرفتهم تلاعبا بمشاعر البشر، هل أنت سادي؟، الا تعرف الظروف التي مررت بها لتتركني كل تلك الفترة بمفردي، الا تعلم أنني بت أسكن وحدي الآن لان)
قاطعها قاصي صارخا وهو يهزها بعنف
(لأن أمك تزوجت، عرفت للتو، فقد ممرت بها، بك، قبل مجيئي الى هنا، و فتح لي ذلك البغل عاري الصدر).

اربكتها الصدمة...
فسكنت مكانها و هي تنظر اليه من بين دموعها، تلهث بعنف، و لم تجد سوى ان تقول بصوت واه ضعيف
(الا زال عاري الصدر منذ أربعة أشهر!، من الواضح أنه مختلا نفسيا)
هتف بها قاصي بجنون
(اخرسي)
أما مسك فقد صرخت هي هذه المرة بعنف
(بل اخرسا أنتما الاثنين)
ثم استدارت ناظرة الى تيماء بنظرة تجمد الماء في منابعه، و قالت ببرود و كبرياء.

(كان هذا موعد الكشف الدوري بعد الشفاء من مرض خبيث، وهو اول كشف لي لذا كنت متوترة، هل ارتحت الآن؟)
تمنت تيماء في تلك اللحظة لو انشقت الأرض و ابتلعتها، فهمست بصوت مرتجف
(أنا)
الا أن مسك قاطعتها و هي تقول لقاصي بثقة و ترفع
(أنا سأذهب وحدي يا قاصي، و ابقى أنت معها فمن الواضح انها هي من تحتاج المساعدة، لا أنا)
هتف قاصي بغضب
(لن اتركك وحدك، فلترحل هي وحدها عسى أن ترتطم بعامود انارة يريحنا منها).

نظرت اليه تيماء بنظرات متألمة بحق، الا أن قاصي قابل نظراتها بأخرى مجافية، غير قابلة للصفح...
حينها قالت مسك بهدوء
(لا بأس يا قاصي، أحتاج لفعل هذا بمفردي، لعل هذا أفضل لي، أراك لاحقا)
ثم غادرت دون حتى أن تلقي نظرة على تيماء، التي كانت بدورها واقفة مكانها ناظرة الى أرض كتلميذة مذنبة...
حينها قال قاصي بصوت جليدي خافت، مرعب...
(اغلقي سيارتك و اتركيها هنا، ستأتين معي حالا).

ترددت تيماء قليلا ثم همست بصوت ضائع وحيد
(الى أين)
التفت اليها قاصي ليقول بهدوء غريب
(سأفعل ما كان على فعله منذ سنوات طويلة، سأتزوجك، و حينها سأعمل على شفائك من تلك النوبات، حين تدركين أخيرا و يستوعب عقلك الغبي انتمائنا لبعضنا)
نظرت اليه تيماء فاغرة فمها و هي تشعر أن الكون من حولها أصبح كعجلة دوارة في مدينة ملاه صاخبة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة