قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخمسون

هل تتكلم الآن؟
منذ ما يقرب من الساعة وهو يدور بالسيارة و هي تجلس بجواره في صمت تام، لا تجرؤ على النطق...
فلقد اقترفت غلطة لا تغتفر...
علي أنها لم تسامحه بعد، لكن على الرغم من ذلك فهي لن تغفر لنفسها ايذاء مشاعر مسك بتلك الطريقة...
لكن من أين لها تعرف و هما الإثنين يعملان على اشعال النار بها و كأنها لعبة بين أيديهما، يتسليان بها!
أخذت تيماء نفسا مرتجفا و هي تنظر اليه بطرف عينيها...

تتأمل وجهه الجانبي...
ملامحه غاضبة و اكثر، لم تهدأ ذرة من غضبه، بل بدا اكثر صرامة...
عيناه، عيناه شديدتي الإحمرار و هذا أكثر ما اوجع قلبها عليه!
هل بكى خلال الأشهر الماضية؟
ترى هل كان وحيدا يبكي موت سليم!، ذلك الشخص إلى كان ينظر اليه على انه درعا يحميه من شرور نفسه كما اخبرها!
كانت تشك في أن يستطيع قاصي البكاء أبدا...
لكنها الوحيدة التي تعرف جميع الصراعات بداخله، و تعرف أن اختبائه ليس بيده...

يختبيء فقط حين يفقد القدرة على اخفاء مشاعره، ضعفه...
فيسقط قناعه الساخر!
فهل تساقطت دموعه مع سقوط القناع الساخر؟
تأوهت تيماء بعنف و هي تتخيل ذلك الرجل الضخم، و الذي تملأه الجروح الجسدية، من شفتيه و وجهه و حتى صدره، و جروحا أكبرو افظع بداخله...
تخيلته كطفل يبكي وحيدا!
لا يمنحها الحق في أن تكون بقربه. تعانقه، تضمه الى صدرها، لأنه يخشى أن تفر منه!
كم هي عمياء؟

و ما حركتها سوى غيرتها متناسية روحه الغير سوية في آلامها...
و من هنا استمدت القوة أخيرا لتهمس بصوت حنون
(قاصي!)
رأت أصابعه تنقبض على المقود بقوة حتى ابيضت مفاصل أصابعه بشدة، و اشتدت ملامحه أكثر و توترت قبل أن يقول بصوت قاسي صلب
(اخرسي)
ضمت تيماء شفتيها المرتجفتين و هي تطرق برأسها، فشبكت أصابعها و تلاعبت بهما بصمت، قبل أن ترفع عينيها اليه و تهمس مجددا
(قاصي).

و كان نفس الرد، لكن الإختلاف هنا هو أنه التفت اليها وهو يقول بصوت غاضب أشد صلابة...
(اخرسي)
لكن بعد أن خرجت الكلمة من شفتيه بعنف، التقطت عيناه الدموع الحبيسة في حدقتيها...
كانت كصفحة بحيرة هادئة، عمقها اللون الفيروزي لعينيها...
حينها توترت ملامحه، و رقت عيناه قليلا، الا أنه ابعد وجهها سريعا ما أن ابتسمت له بارتجاف...
فابتلعت ريقها بصعوبة قبل أن تقول بخفوت
(لم أستطع تمالك نفسي).

ارتفع حاجبي قاصي و التفت اليها ليصرخ بجنون
(لم تستطيعي تمالك نفسك؟، بهذه البساطة!، أنت، انت، أنت)
بدا و كأنه غير قادر على كبت العنف بداخله و لا يجد الوصف المناسب لها، فصمت للحظة، قبل أن يصرخ بغضب
(عمياء، معتوهة)
هنا انفجر غضب تيماء بعد ان ضغط عليها أكثر مما يجب.

(توقف عن اهانتي، أعلم أنني تهورت و اخطأت، الا ان هذا لا يمنح لك الحق في اهانتي، خاصة و انك السبب الأساسي فيما فعلته، هل نظرت لمرة واحدة للطريقة التي تعاملني بها؟، هل أنت الاعمى أم أنك تتعمد معاملتي بتلك الطريقة كي تنتقم مني لسبب مجهول مريض في نفسك تجاهي)
نظر اليها نظرة صدمتها، الا أنها كانت نظرة صامتة، وسرعان ما اعاد وجهه الى الطريق دون أن يرد
و قد اكتسى وجهه بقناع صامت جامد...
فتابعت تيماء هاتفة.

(أحيانا أشعر بأنك، أنك)
صمتت و قد اختنقت الكلمات في حلقها فصمتت تنظر من نافذتها مبعدة وجهها عنه، و مرت عدة لحظات قبل أن تسمع صوته الصلب الغير واضح المعالم يقول بجفاء
(بأنني ماذا؟)
تنهدت تيماء و هي تضع أصابعها على فمها المرتجف...
لا تعلم كيف تشرح له، كيف تشرح له أنهما تغيرا تماما عما كاناه منذ سنوات، و في نفس الوقت لم يتغيرا...

مازال كل عشقها له مستحيلا، و على الرغم من ذلك فهي تحارب الرياح، و تحفر في الأمواج...
كيف تشرح له؟، و طالما أنها تحتاج الى الشرح فهذا يعني مدى بعدهما عن بعضهما...
قالت أخيرا بخفوت يائس، بعد فترة طويلة
(ها أنا أعود لكوني المراهقة المدللة الغيورة على حبيبها، بينما أختها الوحيدة تخضع لكشف ورم خبيث، أستطيع استنتاج ما تفكر به الآن)
ساد الصمت بينهما لعدة لحظات، قبل أن يسألها قاصي بخفوت.

(و ما هو ما أفكر به الآن؟)
زفرت تيماء بقوة ثم صرخت بعنف
(توقف عن اجابة كل سؤال بسؤال، هذه طريقتك دائما كي تتهرب من الرد)
صمتت و هي ترتجف من شدة الغضب، تشتمه في سرها كي لا تتهور اكثر و تضربه بأي شيء...
لكنها لاحظت أن السيارة تباطئت الى ان وقفت الى جانب الطريق...
ظلت تيماء على موقفها، توليه ظهرها ناظرة من نافذتها الجانبية...
فقالت بصوت جامد دون أن تنظر اليه على الرغم من ارتجاف قلبها و انتفاضه في آن واحد.

(لماذا توقفت بالسيارة؟)
قال قاصي بخشونة
(انظري إلى حين أكلمك)
قالت تيماء ببرود دون أن تنظر اليه
(و هل تكلمت؟، اعذرني فأذني تعاني من غباء مفاجىء)
زفر قاصي بضيق قبل ان يقول بتعجب
(هل يسمحون لك حقا بتدريس الطلاب في الجامعة؟، هذه كارثة تعليمية أتعلمين ذلك؟، تدريسك للأجيال الحديثة يعد جريمة في حق البشرية)
نظرت اليه بامتعاض و هي تقول باختناق.

(لا أحتاج الى رأيك الظريف، هلا أعدتني الى سيارتي الآن. لا يزال أمامي طريقا طويلا للعودة، فأنا لا أرى الطريق جيدا في الظلام)
ظل قاصي ينظر الى عينيها طويلا، حتى ارتبكت و احمرت وجنتيها، لطالما كان قادرا على النفاذ الى أعمق أعماقها بهذا الإقتحام، دون طلب، دون استئذان...
ثم قال بخشونة على الرغم من النظرة العميقة بعينيه
(سافرت ثلاث ساعات كي تضربين مؤخرة سيارتي، أيتها المعتوهة!).

رمشت تيماء بعينيها تبعدهما عن حصار عينيه، و ازداد تشابك أصابعها الخرقاء، بينما كان قلبها ينبض بسرعة كأرنب يلهث...
لكنها همست بخفوت
(بل سافرت كي، أراك، لكن رؤيتي للبسمات بينكما طار بالبقية المتبقية من تعقلي)
للحظات ظنت أن عينيه قد ازدادتا توهجا، حد الاشتعال، الا أن ملامحه ظلت جامدة أمامها بلا تعبير...
تحرك قاصي ببطء، و رأت يده ترتفع تجاهها، فانتفضت مذعورة تتراجع للخلف الى ان التصقت بالباب خلفها...

الا أنه أمسك ضفيرة صغيرة من الضفائر المتراصة على نهاية وشاح رأسها، و لفها حول اصبعه دون أن يحرر عينيها من سطوة عينيه...
فهمست باختناق و هي ترتجف فعليا
(اتركني)
لم يمتثل لأمرها، و لم يتحرك من مكانه وهو يقول بخفوت
(أنا لا امسك بك)
ابتلعت ريقها بصعوبة و همست باختناق أكبر
(أترك حجابي)
ايضا لم يحرر حجابها، أو عينيها، بينما قال بخفوت جاف خشن
(ألازال شعرك سلكيا متجعدا كما كان؟).

عقدت حاجبيها و هتفت بعنف رغم تحشرج نبراتها
(لا دخل لك، ثم أنني راضية عنه و عن نفسي تماما)
حتى و هي تنطق تلك الكلمات لم تستطع السيطرة على عينيها من الإنحدار على شعره الملامس لياقة قميصه الاسود، بدا وسيما على الرغم من الجروح و قساوة الملامح...
به جاذبية لا تختفي بتشوه و لا تنقضي مع سنوات العمر، جاذبية تنبع من داخله مرافقة للألم القابع هناك...
قال قاصي أخيرا بصوت أكثر خفوتا.

(لم تكوني يوما راضيا عن أي شيء يخصك، بيتك، عائلتك، والدك، حتى اسمك، أتتذكرين هذا تمارا!)
رفعت عينيها الفيروزيتين الى عينيه القاتمتين النافذتين الى أعماقها، فهمست باختناق
(الا زلت تتذكر هذا؟)
قال قاصي بنفس الصوت الأجش
(و هل أنسى أي شيء يخصك؟، كنت تتخلين عن اسمك بكل حماقة، تلك الأرض الرحبة التي أملكها، أرضي)
أطرقت بوجهها قليلا بينما عزف قلبها الحانا على أوتار صوته الخافت...

عجزت عن النطق تماما، بينما تابع قاصي وهو يجذب تلك الربطة الصغيرة حول اصبعه اكثر
(شيء واحد فقط كان يخصك، و كنت راضية عنه تمام الرضى)
صمت عدة لحظات الى ان رفعت عينيها الى عينيه مجددا فقال مباشرة
(أو الأصح، شخصا واحدا، يخصك)
ابتلعت تيماء ريقها فتشنج حلقها بقوة، بينما هي تراه يترك طرف وشاحها ليضم قبضته و يربت بها على قلبه مرتين...

أنت تخصينني، كانت عيناها شاردتين في حركته القديمة، مسحورتين بها، و همست بنعومة
نعم، كانت كالمنومة مغناطيسيا و هي تنطقها!
لحظة، هل نطقتها فعلا؟، هل عبرت شفتيها و سمعها؟
من المؤكد أن هذا هو ما حدث لأن شفتيه ارتفعتا قليلا في ابتسامة تماثل العمق بعينيه...
سارعت تيماء بابعاد وجهها عنه و تحشرج صوتها و هي تهمس باختناق
(هلا أعدتني الى سيارتي، رجاءا، يجب أن أسافر الآن).

الا أن قاصي لم يكن ليتركها، بل قال بصوت غريب
(سافرت الي، و سافرت اليك، و تقابلنا في النهاية، فهل تتخيلين أن أتركك؟)
ابتلعت الغصة في حلقها و قالت مرتبكة و هي تحاول جاهدة تجنب النظر الى عينيه الحراقتين المحاصرتين لها...
) أخبرتك بأننا، أنني لا أرى الطريق جيدا في الظلام)
سمعت ضحكة خشنة صدرت من عمق حلقه، جعلتها ترتعش أكثر بينما قال بخفوت.

(و تظنين أنني سأسمح لك بالسفر بعد هذا الإعتراف؟، على الرغم من رغبتي العارمة في ضربك و تأديبك على فعلتك الشنيعة، الا أنني أكره أن أراك محطمة على الطريق قبل زواجنا)
تجرأت على رفع وجهها اليه و هي ترى نظرات الصدق في عينيه فقالت متلعثمة
(أنت، انت لم تقصد ما قلته عن كوننا س، س)
رفع قاصي حاجبيه و قال ببراءة يتمم جملتها المتبعثرة
(سنتزوج؟، الآن و حالا؟، بلى قصدت).

شحب وجه تيماء و همست بنبرة حاولت جعلها حازمة قدر الإمكان
(لا، أنت واهم)
الا أن ابتسامته التي بدت كابتسامة فهد مفترس جعلتها ترتجف أكثر و هو يقول ببساطة
(بل أنا متأكد، كان عليك التفكير في الأمر قبل السفر الى هنا و كسر مصباحي سيارتي، فهذه غلطة لا تغتفر، لو كنت رجلا لضربتك، لكن و بما أنك امرأة، امرأتي، تيمائي، فيمكنني الإستفادة من وجودك و الزواج منك)
زفرت تيماء نفسا مرتجفا و هي تهمس بغضب متداعي.

(كن جادا، لا يمكننا فعل ذلك بهذه الطريقة!)
لم يفقد قاصي ابتسامته وهو يقول ببساطة و ثقة
(بلى يمكننا و سترين)
رمشت تيماء بعينيها و هي تنظر حولها في تلك السيارة الضيقة، و كأنها تحاول البحث عن مهرب، ثم همست بتوتر
(لا يمكننا، أنا لست مستعدة، كل شيء حدث بسرعة، و نحن لم نتعافى بعد، من كل ما حدث لنا، أنت واقع تحت تأثير وفاة صديقك، و أنا، أنا في حالة انعدام وزن منذ ان رأيتك بعد كل تلك السنوات!).

لم تعلم أن ابتسامته كانت تزداد عمقا مع كلماتها الخرقاء الاخيرة، الا أنها بدت و كأنها ضائعة في حالم خرافي بعيد، ثم قالت بخشونة محاولة متابعة حججها
(أمي، لا يمكنني الزواج هكذا دون)
اختفت ابتسامة قاصي و قست عيناه وهو يتابع كلماتها التي خفتت و صمتت غير قادرة على المتابعة...
(أمك، صحيح، لكنها تزوجت و أصبحت لها حياة مستقلة و أنت كذلك).

هبطت كتفي تيماء فجأة بشعور مفاجىء من الخيبة، سكنت ملامحها و هي تنظر بعيدا عنه، بينما كان هو يراقبها بدقة...
ثم قال بخفوت
(لم تخبريني عن ردة فعلك عند معرفتك بزواجها)
فغرت تيماء شفتيها قليلا و هي شاردة، ثم لم تلبث أن هزت كتفيها بلامبالاة و هي تقول بفتور
(انصرفت بهدوء، لا يمكنني لومها، فلقد أضاعت شبابها و من حقها أن تسعد في حياتها)
قال قاصي بخشونة
(و هل سيسعدها هذا الطفل؟).

ابتلعت ذلك الطعم الصدىء بحلقها و هي تقول بخفوت
(هذا خيارها و هي تبدو سعيدة به)
ظل قاصي مكانه ينظر اليها طويلا قبل ان يقول بهدوء
(يمكنك البكاء أمامي، لماذا تحجمين دموعك؟ أنه أنا، قاصي)
هزت تيماء كتفيها مجددا و هي تبدو باردة لتهمس بخفوت
(أنا لن)
لا تعلم ماذا حدث لها فجأة...

فقد اختنقت الكلمات الكاذبة بحلقها و تحشرج صوتها فضاع تماما و هي تشعر فجأة بلسعة الدموع الحارقة بعينيها، و شهقة بكاء تصاعدت فجأة الى شفتيها فغطتهما بيدها و هي تغمض عينيها بقوة لتجد نفسها تنخطر في بكاء قوي...
استمر بها الحال عدة لحظات و هي تبكي بصوت عال الى ان رفعت كفيها مستسلمة و اسقطتهما بيأس، و هي تهز رأسها هاتفة باختناق.

(لا أعلم ماذا يحدث لي؟، لم أكن أعاني يوما من المشاعر الهيستيرية بهذا الشكل المخزي!، لا أعلم ماذا جرى لي منذ أن عدت و قابلتك)
قال قاصي بخفوت و عيناه تلتهمانها
(الا تعلمين؟، لقد عدت الى بيتك، وطنك، و هنا يمكنك النحيب و الصراخ كما تشائين، طالما كان ذلك على صدري، عيناك تدركان ذلك و لهذا تسلمان حصونهما و تبكيان أمامي)
رفعت تيماء عينيها الحمراوين اليه، فاغرة شفتيها المنتفختين من البكاء كالأطفال...

وجهه القاسي، و عينيه المعذبتين...
اختصرتا الزمن و عادا بها سنوات مضت...
كانت تحاول الكلام، تحاول النطق...
حينها لم يترك لها قاصي المزيد من الفرص، بل قال بصوت آمر
(سنتزوج اليوم)
بهت العالم من حوله، و اصبح صورة ضبابية غير واضحة العالم و تبقى هو بألوانه الصاخبة المتوهجة، يكاد أن يغشى عينيها و قلبها...
ووجدت شفتيها تتحركان و تهمسان
(سنتزوج اليوم)
ابتسمت عيناه لها طويلا، و توهج الجمر بهما قبل أن يقول بخفوت.

(يبدو أنك أحسنت بالمجيء على أية حال، فقد وفرت على الأيام الطويلة من الإقناع)
ابتسمت تيماء له واحدة من اجمل ابتساماتها، بينما عينيها لا تزالان مبللتين بالدموع...
فتحشرجت أنفاسه وهو يشعر بها هنا، قريبة من صدره، على بعد أقل من خطوة فقط...
و خلال ساعات سيسحق تلك الخطوة البائسة التي ظلت بينهما كآلاف الأميال...
لا تعلم كم استمرت لغة الحوار بينهما، بين أعينهما...

الا أن رنين هاتفها أفسد تلك اللحظة و قد بدا كطنين مزعج، جعلها تنتفض بذعر، بينما اجفل قاصي ليهمس شاتما وهو يبتعد عنها لينظر امامه، و يداه على المقود...
و دون انتظار قام بتحريك السيارة و ملامح العزم بادية على وجهه...
أما تيماء فكانت ترتجف بقوة و هي تضع الهاتف على أذنها لترد بخفوت، محاولة جعل صوتها ثابتا قدر الإمكان...
انتفضت فجأة و هي تستقيم مكانها، هافتة كلص ضبط بجرم مشهود
(جدي).

كان الذعر قد بدا على وجهه فتركه شاحبا مرتجفا بشكل مثير للتعاطف، فنظر اليها قاصي مجفلا...
كانت باهتة الملامح خائفة و أصابعها متشنجة على الهاتف، و كأن جدها يراها بالفعل...
جعله منظرها الغريب يشعر بشيء يقبض على صدره بقوة، و غضب عارم يتفاعل بداخله...
لم تبد في تلك اللحظة كأستاذة جامعية، لم تكن كشابة ناضجة، بل بدت كطفلة تعرضت الى شيء فظيع، قاتم، شديد القتامة...

لم يحتمل قاصي منظر رعبها فأشار اليها كي ترد دون أن يتكلم...
انتفضت تيماء لاشارة قاصي فأخذت نفسا مرتجفا و هي ترد بخفوت...
(نعم، نعم معك يا جدي، أنا بخير، طمئنني على صحتك الآن)
كان قاصي يقود السيارة بعصبية، بينما كل عضلاته متوترة و أذنه تلتقط كل حرف تنطق به تيماء...
فقالت بخفوت ترد على جدها
(اعرف أنني قصرت معك يا جدي حين سافرت سريعا، لكن كان، كان لدي عمل و لا أستطيع ترك أمي أكثر، و).

واضح أنه قاطعها في الحديث فصمتت و هي مطرقة الوجه، و نظر اليها قاصي بطرف عينيه فوجدها تهز ركبتها بسرعة و توتر...
كانت خائفة، وجوده بجوارها لم يبث فيها الأمان، بل على العكس، يزيدها رعبا!
و هذا الشعور بعث في نفسه نارا موقدة من حمم و شظايا...
الا أنه تمكن ببراعة من اخفاء انفعالاته خلف ذلك القناع الجامد الناظر للطريق يسمعها ترد بإجفال
(اليوم؟، لماذا يا جدي هل حدث شيء؟).

نظر اليها قاصي بقوة. فارتعشت و أبعدت وجهها عنه لتهمس الى جدها بتعثر
(الأمر ليس بهذه البساطة يا جدي، لدي عمل لم آخذ منه طلبا للإجازة، ثم، ثم أن السفر يتطلب حجزا أولا)
باتت تيماء في اسوأ حالاتها و هي تنظر حولها في كل مكان باستثناء قاصي الذي كان يحاصرها بعينيه كحيوان صغير مرتعب و محجوز بأحد الزوايا...
فقالت بتوتر و
(جدي هل أنت بخير؟، لماذا تريدني على وجه السرعة؟).

تعالى صوت جدها فأبعدت الهاتف عن أذنها قليلا و هي تغمض عينيها بينما سمعه قاصي بوضوح وهو يهدر قائلا
(أريدك هنا ما أن تجدي حجزا لتذكرة طائرة أو قطار، أفهمت أم أبعث اليك أحدا من أبناء أعمامك ليحضرك)
نظرت اليى قاصي الذي برقت عيناه و رأته يفتح فمه الا انها وضعت اصبعها على فمها و اتسعت عيناها بذعر، و لولا هذا الذعر في عينيها لكان قد اختطف الهاتف من أذنها و رد على جدها مثبتا ملكيته لها، حقه بها...

لكن ذعر تيماء كان نقطة ضعفه، هو الشيء الوحيد الذي منعه...
قالت تيماء بصوت خافت مرتجف
(جدي، الأمر صعب أنا)
صرخ بها جدها مرة اخرى
(الموضوع حياة أو موت يا تيماء، تحملي مسؤولياتك و احملي نفسك الى هنا حالا)
ثم أغلق الخط!
نظرت تيماء الى الهاتف بنظرة واسعة فارغة، ثم نظرت الى قاصي الذي كان ينقل عينيه بينها و بين الطريق و هما تشتعلان، بينما ملامحه تزداد قساوة بدرجة مخيفة...
فقالت بصوت غريب.

(جدي ليس في حال جيد، يبدو أن الأمر خطير فعلا!)
قال قاصي بصوت جامد مهدد و خطير، كان يهددا حرفيا...
(خطير أو غير خطير، لن يكون أخطر من محاولة اقناعي)
رفعت تيماء حاجبيها و قالت بخفوت أجوف
(اقناعك!)
نظر اليها قاصي نظرة غاضبة موجزة وهو يقول بصوت مخيف
(ماذا ظننت؟، أن أسمح لك؟، أتعرفين أن جدك على الأرجح يريد الضغط عليك كي تختاري سريعا ليتم انهاء الأمر!)
هزت تيماء رأسها قليلا غير قادرة على التفكير بشكل سوي...

ثم لم تلبث أن قالت بقليل من المنطقية على الرغم من صوتها الذي لا زال مرتجفا
(لا، لا أظن ذلك يا قاصي، لن يفكر جدي في زواجي في هذه الفترة بعد وفاة زوج سوار رحمه الله، هذا لا يصح و لا يناسب العادات)
نظرت اليه حين لم تجد منه ردا فلاحظت الحزن القاتم الذي ظلل عينيه، فشعرت بقلبها يهفو اليه و يضمه خارج صدرها، حينها قالت بخفوت رقيق
(آسفة قاصي، لم أقصد ايلامك).

نظر اليهالا بطرف عينيه نظرة غريبة هزتها من خارجها و حتى أعمق أعماقها، ثم قال بصوت خافت كئيب
(أحقا لا تقصدين ايلامي؟، اذن لا تجادليني بعد الآن، )
فغرت تيماء شفتيها الصغيرتين و هي تنظر اليه بصمت و عشق ظنته مات مع الأيام، ثم قالت بخفوت و تردد.

(أظن، أظن أنه يجب على الذهاب يا قاصي، جدي صوته غريب و هو متعب منذ وفاة سليم و قد تركته في صحة متعبة، لا أستطيع التخلي عنه لكن أنا استطيع الدفاع عن نفسي ضد أي شيء لا أرغبه)
نظر اليها قاصي طويلا، ثم اعاد عينيه إلى الطريق ليقوا بصوت غريب
(سنذهب معا اذن)
اتسعت عينا تيماء بذهول و ارادت الصراخ معترضة، مرتعبة، مذعورة مما قد يحدث...
الا أنها...
صمتت قبل ان تصرخ، و ظلت صامتة مكانها...

تنظر اليه و قد أدرك قلبها فجأة...
أدرك أنها لم تعد تخاف بعد الآن، لن تخاف فهي لم تعد في التاسعة عشر...
لن تخاف الا في غيابه فقط...
سمعت لحنا خافتا يعزف في اذنيها وهو يقتنص اليها النظرات الغاضبة الحازمة...
قالت تيماء بخفوت متردد
(قاصي)
الا أنه قاطعها بصوت خفيض خطر
(لا تحاولي، لقد أوقعت نفسك بقبضة يدي و أنا لن أحررك أبدا).

وجدت الأبتسامة طريقها الى شفتيها رغم عنها، هذا التملك الفظ، تلك النبرة الآمرة بحصرية لا يملكها غيره، لكم اشتاقت الى كل هذا!
لكنها تمكنت من القول بخفوت
(لا أريدك الذهاب الى هناك يا قاصي، هناك ما قد، ما قد يوجعك و أنا لا أريد ذلك)
ظل قاصي على نفس الملامح الجامدة، بينما تحولت عيناه الى زجاج قاسي حاد قادر على ان يبتر من يقترب منه، ثم قال أخيرا بصوت ميت
(لم يعد هناك ما يوجعني سوى اخذك مني أنت أيضا).

صمت لينظر اليها نظرة جانبية أفزعتها وهو يقول متابعا
(فهل تنوين انزال هذا الوجع بي؟)
قالت تيماء بحرارة كي تخفف تلك القسوة من ملامحه الصلبة
(لست أنا، هناك ما لا تعرفه، بعد وفاة سليم، لقد)
صمتت و هي لا تعرف كيف تصوغ الأمر له و هي تعرف جيدا العواقب، الا أن قاصي تكلم اخيرا دون ان ينظر اليها بصوت غامض غير مقروء.

(تقصدين أن سليمان الرافعي قد أفرج عن، عمران، و أنه وقف بجواره و بجوار أعمامك كتفا بكتف! و كأن شيئا لم يكن!)
اتسعت عينا تيماء و بهت وجهها تماما تنظر الى ملامحه الحجرية و كأن روحه المعذبة هي كائن سريع الإختفاء خلف تلك القوقعة الصلبة...
فهمست بخفوت
(هل عرفت؟)
قال قاصي بصوته الميت
(أنا اعرف كل شيء، و أكثر، )
ظلت تيماء تنظر اليه طويلا قبل أن تقول بصوت خافت متألم...

(أنا لن أسمح لك بالذهاب، لا أريدك أن تتقابل معه، أو معهم)
نظر اليها قاصي و قال ببساطة
(و انا لن أسمح لك بمقابلتهم مجددا وحدك، كان هذا عهدا أخذته على نفسي منذ أن تركتك ووثقت بهم قديما)
ابتلعت تيماء غصة مؤلمة في حلقها و همست باختناق
(لم يكن عليك، لم يكن عليك أن تثق بهم فيما يخص القوانين).

أظلمت عينا قاصي و لم يرد، بل لم يستطع النظر اليها و مواجهة عينيها العاتبتين، الا أنها رأت حلقه يتحرك بصعوبة و كأنه يحارب ذكري قاتمة تأبى ان تتركه...
حينها قالت تيماء مغيرة الموضوع كي تصرفه عن الم هي السبب به، حتى و ان كانت هي الضحية...
(لا تذهب معي يا قاصي)
ارادت ان تكون صارمة، حازمة...
لكن من اين جاءت تلك النبرة المتنهدة المتوسلة، ذات الحنين الصافي!
ترى هل لمح الرجاء في نبرتها؟

نعم على ما يبدو، لأنه التفت اليها، يدقق بعينيها بنظرة ابلغ من الكلام...
ثم قال أخيرا بصوت قطع أنفاسها اللاهثة
(لا تقلقي، لن أتركك أبدا).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة