قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والخمسون

لا تقلقي، لن أتركك أبدا، عبارة قصيرة من مقطعين، كانت جواب السؤال و الرجاء...
كانت خاتمة فراق ووجع السنوات...
عبارة رافقت سفرهما معا الذي استغرق أكثر من عشر ساعات بالقطار...
عشر ساعات و هي تجلس وهو يجلس في مقابلها ينظر اليها...
يلتهمها بعينيه المفترستين...
كل تفاصيلها دون رحمة...
بينما الإحمرار يغزو وجهها أكثر و أكثر مع كل نظرة...

تحاول تجنب نظراته و تلتفت الى النافذة بجوارها و قلبها يخفق بعنف، لكن عينيه كالمغناطيس، تجذبانها بكل قوة لتعود الى حممهما خلال لحظات...
كانت الساعة أمامه تمر دهرا، وهو لم يكن أقل منها معاناة فمنظر يديه المنقبضتين على ذراعي مقعده كان ينبئها بالقوة الخرافية التي يمارسها كي يسيطر على مشاعره...
حتى أنه لم يتكلم أبدا خلال الساعات الطويلة، كان فقط ينظر اليها...

ينهل من جمال قدها الصغير، عائدا الى واحة عينيها لينهل منهما بعد ظمأ...
زفرت تيماء نفسا مرتجفا و همست و هي تبعد عينيها عنه بارتباك
(لا تنظر إلى بتلك الطريقة، هناك بشر حولنا و نظراتك يمكن ترجمتها بمنتهى الوضوح)
ارتفع احد حاجبيه ببطىء و قال بخفوت بطيء، لا تعلم ان كان ساخرا أم لا مباليا
(حقا!، و ماذا تقول نظراتي؟).

كانت الإبتسامة تحارب للظهور على شفتيها، لكنها كتمتها بصعوبة و أبعدت عينيها لتقول بخفوت و تحشرج
(أنت تعرف)
سمعت صوت ضحكة صغيرة خافتة، فنبض قلبها بعنف قبل أن تسمعه يقول
(هذا أقصى ما أستطيعه حاليا، لذا لا تحاولي استفزازي و ابقي صامتة للساعات المتبقية)
زفرت تيماء مجددا و هي تتلاعب بأصابعها بارتباك، تنظر في كل مكان متجنبة وجهه...
كلماته خطيرة و معناها أخطر و هي لا تريده أن يتجرأ أكثر...

فقالت أول ما خطر على بالها و هي معتقدة أنها تتكلم عفويا
(الطريق طويل جدا، لايزال أمامنا ساعات كثيرة)
ساد صمت متوتر مشحون قبل أن يقول قاصي بخفوت أجش
(نعم، لا يزال أمامنا ساعات طويلة، جدا)
عضت تيماء على شفتيها و هي تسمر عنقها كي لا تلتفت اليه، و صدرها يلهث نابضا بكل عنف...
حتى أنها بدأت تشعر بالدوار من شدة المشاعر التي تحيط بها دون رحمة، و قاصي لا يرحمها...

الى أن سمعته يقول أخيرا بخفوت هادىء، تتنافى صفة الهدوء به عن كل ما يخص قاصي
(هل أنت خائفة؟)
استوعبت سؤاله ببطىء، و طاف بذهنها طويلا...
هل هي خائفة الآن؟، في تلك اللحظة أم خائفة من ليلة قد تأتي أو لا تاتي...
ابتسمت تيماء بعصبية و قالت بخفوت
(قليلا فقط)
حينها رماها قاصي بسؤاله القوي دون تردد و قد بدت في عينيه نظرات جدية مهتمة
(خائفة مني؟)
فغرت شفتيها قليلا و هي تنظر اليه بقلب وجل، ثم همست بخفوت شديد، مرتجف.

(ل، لا)
ضاقت عينا قاصي و قال بجمود
(لا تبدين واثقة!)
ضحكت مجددا بعصبية فبدت خرقاء و هي تقول
(بلى أنا واثقة، توقف عن بث الخوف في قلبي)
نفذت عيناه الحادتين الى أعماقها بقوة سهم مصوب بمهارة، ثم قال أخيرا بصوت واثق بعد فترة طويلة
(سأفعل ما هو أفضل، سأعالج خوفك).

نظرت اليه تيماء بعينين واسعتين ضبابيتين، و تشابكت أصابعها بارتباك لكن و قبل أن تسأله عن معنى سؤاله رأته يتراجع في مقعده، مرجعا رأسه للخلف ثم أغمض عينيه قائلا ببساطة
(أقترح عليك أن تنامي الآن كما سأفعل أنا، فلدينا ليلة طويلة جدا)
نظرت اليه تيماء و هي ترى صدره المنتظم في التنفس بعكسها، لكنها على الرغم من ذلك كانت تشك في أنه نائم أو أنه سيستطيع النوم مطلقا...
الليلة طويلة جدا...

نظرت تيماء من نافذتها الى الأراضي الزراعية المترامية و قد بدأت الشمس في المغيب...
ضاعت نظراتها و هي تتسائل عن مصيرهما المجهول، هل سيعودان معا؟، أم سيفقد أحدهما الآخر مجددا؟
انتفض قلبها و هي تفكر في أنها قد تخسره و للأبد هذه المرة...
فبعض القوانين لا تعرف الفرصة الثانية...
شهقت تيماء دون صوت و هي تنظر اليه، حيث هو نائما أو متظاهرا بالنوم بهدوء...

مشبكا كفيه على صدره، يمد ساقيه الطويلتين العضليتين فكادتا أن تلامسان ساقيها على الرغم من أنها قد حرصت أن تبعدهما عن مرماه...
كانت تنهب الوقت و هي ترسم ملامحه في ذاكرتها طويلا، فقد تكون المرة الأخيرة...
شهقت بارتياع.

لا، كانت قد هتفت بكلمتها المذعورة همسا، فرفعت يدها الى فمها تكتمها و نظرت الى قاصي لكنه على ما يبدو قد نام فعلا، فتنهدت بارتياح، لا عجب في ذلك، فقد سافر ثلاث ساعات اليها ثم عادت في مثلها من أجل مسك و الآن هو في القطار منذ عدة ساعات لأجلهما معا...

فقط طفل صغير هو من سمع شهقتها و نظر اليها متسائلا، فابتسمت له تيماء بارتباك حزين تطمئنه، ثم أعادت عينيها الى قاصي تتأمله مجددا و كأنها لن تشبع منه أبدا...
دمعت عيناها رغما عنها فعضت على شفتيها و هي تغمضهما كي لا تنفجر في البكاء، ثم نهضت من مكانها ببطىء و هي تلتقط وشاحها الصوفي...

و اقتربت منه لتنحني و تغطيه بوشاح كتفيها دون أن تحدث صوتا، الا أنها لم تبتعد على الفور، بل ظلت منحنية تنظر اليه بضعف قبل أن ترفع يدها لتلامس بها مقدمة شعره الناعم فوق جبهته...
ذلك الشعر الذي عشقته دوما، و تلك الملامح الرجولية الخشنة الجذابة...
حتى ذلك الجرح الحديث بيد أخيه بدأت تحبه، بل تعشقه على الرغم من كرهها لليد التي فعلت ذلك بحبيبها!

كانت لمساتها كلمسات الفراشة، حرصت الا يشعر بها كي لا يستيقظ، و ما أن بدأت تستقيم حتى تعود الى مقعدها، حتى ارتفعت يده و قبضت على كفها فجأة!
فشهقت تيماء و هي تنظر اليه لتجد أن جمرتي اللهب تنظران اليها بلهيب ازداد توهجه، و يده تقبض على كفها الرقيقة بينما أصابعه تتحسس أصابعها...
ابتلعت تيماء ريقها و همست بخوف
(ابتعد يا قاصي، الناس، حولنا، أرجوك).

الا أن قاصي لم يرحمها، بل رفع كفها الى فمه و فتحها ليقبل راحتها بقوة أضعفت مفاصلها و عيناه على عينيها، و ما أن أوشكت على الإغماء حتى ترك يدها ليقول بصوت غريب
(عودي الى مقعدك، و لا تتهوري مجددا يا زمردة)
تراجعت تيماء بظهرها و هي ترتجف الى أن ارتطمت ساقيها بالمقعد فسقطت عليه جالسة فابتلعت ريقها و هي لا تزال تنظر اليه...

أما هو فقد أغمض عينيه مجددا متمسكا بوشاحها، الا أنه رفعه الى أنفه قليلا ليستنشق عطرها به، و على وجهه علامات رفض عقلها المتوتر تفسيرها...
نظرت تيماء مجددا الى النافذة و قد بدأ الظلام يزحف ببطىء و على استحياء...
متسائلة الى متى سيستمر هذا العذاب المضني من الترقب، بينما خادمها الآمر الناهي مستلقيا أمامها بتربص...
بعد عدة ساعات...
قفزت تيماء من مكانها على صوت قاصي وهو يقول بهدوء.

(هيا يا تيماء، آخر الركاب خرج من القطار، لم يتبقى الا نحن)
نظرت تيماء حولها و بالفعل رأت القطار خاليا، و كأنها كانت تحاول تأجيل الأمر المحتوم...
أعادت عينيها اليه و همست
(لا أريد يا قاصي، دعنا نعود أرجوك)
نظر اليها قاصي طويلا، قبل أن ينهض من مكانه مزيحا وشاحهها عنه، ممسكا به في قبضته و كأنه راية حرب ينوي غرسها في أرضه التي غزاها لاثبات ملكيته لها...
فوقف أمامها مشرفا عليها من علو، و قال بصوت صلب.

(لن نعود قبل أن ننهي هذا الأمر للأبد، لن نظل في تلك الرحلة أكثر، تلك نهايتها، فهل أنت معي؟)
و ليؤكد على كلامه مد اليها كفه القوية الخشنة ذات الخدوش و العروق...
نظرت تيماء الى كفه طويلا ثم رفعت عينيها الى عينيه، قويتين، مشتعلتين، عازمتين
حينها فقط أخذت نفسا عميقا، ثم وضعت يدها في كفه ليجذبها ببساطة حتى وقفت على قدميها...
فرفعت وجهها المستدير اليه، و ابتسمت بضعف و هي تهمس
(أنا معك).

جرها قاصي خلفه بقوة، و الوشاح لا يزال بيده...

و كأن القصر اختلف!
بدا منيفا، ضخما و مخيفا أكثر، ربما لأنهما يقفان امامه و لا يعلمان ماذا سيحدث خلال دقائق...
و ربما لأنها أصبحت تمتلك ما تخاف عليه، بعكس المرة السابقة التي كانت فيها فاقدة الروح و لا يهمها شيء...
الليلة عادت فيها تيماء الى دار الرافعية، و يقف قاصي بجوارها أمام الجميع...
نظرت اليه تلتمس بعض القوة، و كأنما قرأ الطلب في عينيها، فابتسم لها ابتسامة لم تطل الى عينيه و قال بخفوت شرس.

(أنا معك للنهاية)
ابتسمت له بضعف و هي ترى خوفه عليها في عينيه، فهمست
(و أنا كذلك)
حين دخل قاصي للقاعة الضخمة، تتبعه تيماء ناظرة حولها بحذر، كانت هناك حالة من التوتر في المكان...
تستطيع استشعار ذلك، حتى الآن لا تعرف السبب الذي جعل جدها يأمرها بالمجيء على وجه السرعة...
و كان قلبها منقبضا لما قد يحدث...
فقالت بخفوت هامس.

(قاصي، أظن أنه من الأفضل أن تنتظرني هنا و أنا سأذهب للبحث عن جدي، حتى الآن أنا لا أعرف السبب الذي يريدني لأجله، دعني أسمع منه أولا)
التفت اليها قاصي و قد بدت ملامحه مخيفة و عينيه حادتي النظرات وهو يقول بخفوت
(مستحيل، هل جننت؟)
الا أنها أمسكت بذراعه و هي تلاحظ تحفز جسده بوضوح ملتفتا اليها بكليته فهمست مترجية.

(قاصي أرجوك افهمني، جدي يردني بشيء هام و صوته كان مخيفا، أنا لا أريد جرحه قبل أن أعرف السبب الذي يريد رؤيتي لأجله، هذا الرجل أنا مدينة له على الرغم من كل شيء، كل ما أطلبه منك هو عدة دقائق فقط لا غيرها، و مع أي اشارة خطر سأصرخ منادية اسمك كما كنت أفعل دائما)
الآن لامست نقطة ضعفه و هذا ما رأته في عينيه بوضوح، فعقد حاجبيه بألم، الا أنها ابتسمت له و همست مكررة.

(فقط عدة دقائق، انتظرني هنا و لا تتكلم مع أحد)
ابتسم قاصي رغم عنه وهو ينظر اليها بعينين لم يصلهما المرح، و قال بصوت أجش
(سمعا و طاعة، أمي)
اتسعت ابتسامتها حتى ظهرت غمازتيها عميقتين، و نظر كل منهما الى عيني الآخر...
الشفاة تبتسم، أما الأعين فتحوي الخوف على الآخر...
أبعدت تيماء يدها عن ذراعه ببطىء و كأنها تسلخ نفسها عن جزء حي من جسدها و همست باختناق
(فقط عدة دقائق).

انزلقت يدها على ذراعه حتى وصلت الى معصمه، و رسغه، فقبض عليها بكفه قبل أن تهرب بها...
سمعت صوت قرقعة مفاصل أصابعها الهشة، الا أنها لم تبالي بالألم، فقد كانت تعرف أي حال يعانيه الآن...
جذبت كفها من يده اخيرا برفق، حتى امتثل و تركها على مضض، فسارعت تستدير عنه قبل أن تضعف و تترجاه مجددا أن يهرب بها من هنا...
و حثت خطاها على الجري دون هدى، تاركة اياه ينظر في اثرها بعينين تحترقان و صدر يخفق بعنف...

صعدت تيماء السلالم جريا حتى وصلت الى الباب الضخم لجناح جدها...
فوقفت أمامه تلهث و يدها على صدرها الخافق، تحاول تهدئة رعبها...
الرعب يتحول الى ذعر من مصير لا يعلمه الا الله...
الا أنها تماسكت في النهاية، و أخذت نفسا عميقا مرتجفا، لكن و قبل أن تطرق الباب، سمعت صوت فريد يقول من خلفها بدهشة
(تيماء!، متى وصلت؟)
استدارت تيماء من مكانها مندفعة و هي تنظر اليه عند بداية الممر يقترب منها...
فقالت بقلق.

(مرحبا فريد، هل كنت تعلم بقدومي؟)
وصل اليها فريد و قال بحيرة
(نعم، الجميع ينتظرك، لكن لم نعلم بوصولك)
رمشت تيماء بعينيها و هي تهمس و قد تضاعف قلقها
(لماذا ينتظرني الجميع؟)
عقد فريد حاجبيه و قال بغموض
(الم يخبرك جدك عن سبب قدومك؟)
ابتلعت تيماء ريقها و همست باعياء
(لا، لم يخبرني بعد، ما الأمر؟، أرجوك أخبرني)
تنهد فريد وهو ينظر أرضا يضع يداه في خصره بتوتر، ثم لم يلبث أن قالت بهدوء ناظرا اليها.

(يريدك أن تعجلي في الإختيار، اختيار زوجا لك)
اتسعت عينا تيماء بذهول، و هي غير مستوعبة لما نطقه فريد للتو، و حين رأت علامات الجدية على وجهه هتفت همسا
(و هل هذا وقته؟، لديكم حالة وفاة هنا و جدي لا يزال يفكر في الأمر و يطلبني على وجه السرعة كي أسرع به؟)
قال فريد بصوت خفيض
(هناك ما جد في الأمر يا تيماء)
عقدت حاجبيها و صمتت تنظر اليه، يبدو قلقا غير راضيا، فقالت بتوتر و أعصابها تكاد أن تنهار.

(ماذا؟، ما الجديد؟)
مط فريد شفتيه بتوتر، ثم نظر الى عينيها قائلا
(جدك سيخبرك حين تدخلين اليه، لكنني سأنصحك بمن تختارين، اختاري زاهر، لو تأزم الأمر كثيرا فاختاري زاهر ابن عمك حاليا)
اتسعت عيناها أكثر و أكثر، و فغرت شفتيها...
كانت تهز رأسها بغباء و هي غير متفهمة فاقترب منها فريد خطوة و قال بجدية
(اسمعيني الآن جيدا، اختيارك لزاهر سيمنحك الفرصة كي تتهربي من قانون جدك حاليا، فزاهر سيرفضك ما أن تختاريه).

عقدت تيماء حاجبيها و هتفت بغضب أنثوي
(يرفضني!، ذلك الجلف الفظ يرفضني أنا؟، و هل سيجد من هي أفضل مني؟ و هل هناك من ستقبل به من الأساس؟)
هتف فريد همسا بقوة
(نعم سيرفضك يا غبية، زاهر ينوي الزواج بالفعل، الا أنه ينوي الزواج من اثنتين، و لو تزوج بك فلن يستطيع حينها الجمع بينكما)
هزت تيماء رأسها و هتفت همسا بشراسة.

(المختل ينوي الزواج باثنتين و لا يريدني احداهما!، بالله عليكم لماذا اهملتم علاجه حتى الآن؟، كان من المفترض أن يدخل الى مصح عقلي منذ زمن)
زفر فريد و همس بجدية
(هو يريد الزواج و الحصول على أطفال، و يريد في نفس الوقت فتاة أخرى لا يمكنها أن تنجب، لأنه يريدها منذ سنوات و قد سنحت له الفرصة أخيرا)
كان العالم يدور من حول تيماء و يجعلها تبدو كطفل غبي يقف في منتصف الطريق لحظة اضاءة اشارة المرور الخضراء...

و قبل أن تسأل، أجابها فريد ببطىء كي تستوعب
(يريد الزواج من مسك، و لن يستطيع الجمع بينكما)
الكثير من المعلومات!
بل الكثير من الجنون!
بل الكثير و الكثير من البلايا. واحدة تلو الأخرى حتى أصبح اسم عائلة الرافعي مرتبطا بالنسبة لها بالبلايا القاتمة الكحلية...
ما أن فغرت تيماء شفتيها و تكلمت حتى همست بغباء ذاهل
(الوغد عديم التقدير، عديم التحضر و المتأخر عن البشرية كلها، السافل عدو المرأة)
همس فريد بقوة.

(أفيقي يا تيماء، ليس هذا وقت مناصرة قضايا المرأة)
هزت تيماء رأسها بقوة و هي ترفع يدها الى جبهتها محاولة استعادة اتزانها، ثم أشارت بغباء الى باب الجناح و همست
(يجب، يجب أن أدخل، لا مفر)
استدارت تيماء لتدخل الا أنها عادت و نظرت اليه و سألته بتوتر
(كيف حال سوار؟)
ضاقت عينا فريد وهو ينظر اليها علمت أن هناك المزيد من الأخبار السيئة، الا أن فريد قال بجمود.

(سوار بخير، لا تزال تحت تأثير الصدمة الا أنها لا تستسلم أبدا)
أومأت تيماء برأسها بعدم فهم، ثم همست بخفوت شارد
(سأمر بها للإطمئنان عليها ما أن أخرج من جناح جدي، هذا إن خرجت أصلا)
نظرت تيماء الى عيني فريد فابتسم لها متعاطفا، الا أن عينيه كانتا رافضتين لما سيحدث...
لكن تيماء أبعدت وجهها و شجعت نفسها و طرقت الباب...
ثم دخلت حين سمعت صوت جدها يدعوها للدخول...

دخلت تيماء الى ذلك الجناح، الجناح الذي ودعت به جدها منذ أربعة أشهر و اكثر قليلا...
كان متعبا، مقسوم الظهر بعد وفاة سليم...
بدت سنوات العمر على وجهه يومها و بدا غير قادرا على الإستقامة لوداعها...
يومها قبلت يده و دموعها على وجنتيها، تهمس له بأنها ستغادر مضطرة، فهي لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الألم، و امها تحتاج اليها...
أما اليوم...
فقد رأته كسليمان الرافعي الذي عرفته دائما...

كان جالسا في كرسيه الضخم الوثير بجوار النافذة، ممسكا بعصاه كالعادة...
مهيب الملامح، صلب القسمات، عيناه كعيني صقر طاعن في السن الا انه لا زال صقرا جارحا...
استطاعت بلمحة واحدة رؤية والدها يجلس بالقرب منه...
فالتقت أعينهما للحظات...
الوجع القديم...

ذلك الوجع كلما التقت أعينهما، ذلك الرجل الذي نبذها طفلة و ذبحها مراهقة، و قتل أنوثتها و جعل منها شبح امرأة باهتة أسيرة لذكرى مريرة لم يرد بها سوى ايقاع أشد درجات الذل و الهوان...
أبعدت تيماء عينيها عن عيني سالم الصارمتين، و نظرت الى جدها تهمس بخفوت
(السلام عليكم يا جدي، لقد وصلت).

التفت سليمان الرافعي ينظر اليها و قد بدت تعابير وجهه صعبة القراءة، ثم مد كفه اليها، يدعوها أن تقترب منه و تقبلها، قائلا بخشونة
(تعالي يا صغيرة، اقتربي)
حسنا انها تكره أن يدعوها جدها الى فعل ذلك، لكنها تغاضت عن امتعاضها و اقتربت منه تتجنب النظر الى والدها و جثت على ركبتيها أمامه تقبل كفه ثم رفعت وجهها الشاحب اليه...
مد سليمان كفه الخشنة يلامس بها وجنتها الناعمة كوجنات الأطفال ثم قال بصرامة.

(لماذا لم تخبرينا بساعة وصولك كي أرسل عبد الكريم اليك بالسيارة؟، كيف وصلت وحدك؟)
ارتبكت تيماء بقوة و رمشت بعينيها قبل أن تقول بسرعة كي لا يطيل في هذا الحوار
(لا بأس جدي، حين وصلت للمحطة وجدت احدى سيارات الأجرة الخاصة بالسفر أوصلتني الى هنا سريعا، لم أجد الوقت كي أهاتفك، دعك من هذا الأمر و أخبرني عن صحتك)
قال سليمان بهيبة و صلابة
(الصحة ملك لمانحها، أتركي صحتي الآن و استمعي إلى جيدا).

أخذت تيماء نفسا عميقا، و رددت عدة آيات في سرها كي تسيطر على الذعر بداخلها مستعدة للكارثة المحدقة بها...
ثم قالت بخفوت و هي تختلس النظر الى عيني والدها الغاضبتين...
(جدي، هناك ما س)
الا أن سليمان قاطعها ليقول بصرامة و غضب.

(لقد تأخرت جدا فيما طلبته منك يا فتاة، تأخرت جدا، و الآن نحن في مزنق بسبب دلالك، كان عليك اختيار أحد أبناء أعمامك منذ أشهر و الإنتهاء من الأمر سريعا، الا أنك ماطلت و تهربت الى أن حدث ما حدث)
عقدت تيماء حاجبيها و قالت بخفوت
(ما الجديد يا جدي؟، هذا هو ما أنتظر سماعه منذ وقت طويل)
زفر جدها زفرة قوية قبل ان يقول بقوة.

(عقدنا جلسة صلح كبيرة بين عائلتي الرافعي و الهلالي طلبا منهم لإنهاء الثأر، جلسة حضرها كبار البلدة و شيوخها، انتهى الأمر بعقد زواجين متبادلين، شاب و فتاة من عائلتنا، لشاب و فتاة من عائلتهم، و قد طلب يدك احد شباب عائلة الهلالي بعد أن رآك في حفل الزفاف مع سوار)
تركت تيماء يد جدها ببطىء و هي تنظر اليه بوجه باهت، ميت، ميت من شدة ما أطاح بها من هذه العائلة...

بقت جاثية أمامه أرضا و كأنها ترجو العفو عن شيء لم ترتكبه...
و ما أن وجدت صوتها أخيرا حتى قالت بصوت لا حياة به...
(امنحني الفرصة كي أفهم هذا يا جدي، في البداية كنت تصر على أن أتزوج من أحد أبناء أعمامي، أما الآن فأنت مستعد لتزويجي لابن عائلة أخرى ايقافا للثأر؟)
بدت عينا جدها غريبتين عليها و هما تنظران الى عدم استيعابها الذاهل، الى أن قال أخيرا بصوت أجش هادر القوة.

(الذنب ذنبك، لقد تأخرت في الإختيار، و قد رآك احدهم هناك و انتهز الفرصة ما أن بدأ عرض الأمر في عائلة الهلالي)
زفر جدها بغضب و كبت و هو ينظر من النافذة الى الليل القاتم الممتد أمامه، ثم قال أخيرا بصوت متعبا، غاضبا و عنيفا.

(لازلت بعيدة كل البعد عن مجتمعنا، تجهلين أحكامنا و قوانيننا، تجهلين معنى الدم، تجهلين معنى تجاهل الثأر، تجهلين الحرب الطاحنة بداخل رجلا مثلي، تقتله الرغبة في الأخذ بثأر حفيده بينما الحكمة تأمره أن يتغاضى عن نار الدم الحارق بصدري، و يعمل على الصلح صاغرا)
نظر سليمان الى وجه تيماء الذي كان يهتز باشارة نفي غير مفهومة، ثم قال متابعا بقسوة.

(أبناء أعمامك يريدون الثأر، وحينها يضيعون واحدا تلو الآخر ما بين سجن و قتل)
فغرت تيماء شفتيها المرتجفتين و هي تنظر الى جدها بعينين مبللتين بدموع قهر حارقة، ثم رفعت يدها الى صدرها اللاهث و همست بعدم تصديق
(و كان القرار أن أكون أنا الحل؟، أنا دون غيري؟، أنا التي لم أرى من هذه العائلة سوى النبذ طوال سنوات عمري!)
استدارت على ركبتيها و هي لا تزال جاثية أرضا تنظر الى وجه والدها القاسي و صرخت فجأة بعنف...

(أنت، أنت، تجلس الآن صامتا، بارد القلب و الشعور و أنت تقدمني بمنتهى البساطة كضحية لايقاف الثأر، و تنتظر مني الموافقة بهدوء و طاعة؟، حتى الآن لازلت الرجل الأكثر فظاعة و قسوة في حياتي، لم ترفع يوما اصبعا للدفاع عني، بل رفعت يدك لتقتلني، و الآن تجلس صامتا!)
نهض سالم من مكانه مهتاجا وهو يصرخ بعنف
(احترمي نفسك يا عديمة الحياء، أنت لازلت كما أنت، قذرة).

نهضت تيماء على قدميها و هي ترتجف من شدة الغضب لتصرخ بعنف أكبر
(أنا قذرة!، أنا قذرة!، نعم أنا قذرة لأنني لم أجد أبا يتولى أمر تربيتي يوما، أنت تخليت عني و فضلت اختي و جعلت منها ابنتك الوحيدة)
صرخ بها والدها وهو يرفع سبابته في وجهها هادرا.

(أنا لم أتخلى عنك يوما، كنت تحيين مع امك حياة مترفة، لم ينقصك أبدا شيئا، كنت أعطيك مثل ما اعطي مسك تماما، لكن أنت وضيعة النفس منذ صغرك، لا ترين الا ما بيد غيرك و تنتقمين حين لا تحصلين عليه، انتقمت مني وواعدت خادما عندي و مرغت رأسي بالوحل، و تريدين مقارنتك بمسك!، شتان، شتاااااااااان)
كانت فاغرة فمها بينما الدموع تجري على وجهها الأحمر من شدة الغضب و هي غير مصدقة لما تسمع.

حتى بعد كل هذه السنوات!، لم يشعر ولو بذرة ذنب لتخليه عنها!، ذرة، فقط ذرة لتجعلها تشعر بالآدمية في حياته...
صرخت تيماء و هي تنشج بنحيب قوي
(لم تمنحني ما تمنيته طوال حياتي، وجودك بجواري، لكان أهون لي أن تموت، أن أدعو لك و أبكي على قبرك، لا أن تنبذني و كأنني قطة مصابة بالجرب، تركلها بقدمك كلما اقتربت منك، أتتذكر كم مرة توسلت لك بها أن أقابلك، أمكث معك، أو حتى أراك من آن لأخر...

و الآن تخبرني أنك أعطيني مثل ما أخذت مسك؟، مسك التي لا تزال تجلس على ركبتيك في سنها هذا!)
صرخ بها سالم بقوة و قد انتفخت أوداجه و أحمرت العروق في عنقه من شدة الغضب
(أعطيتك ما استطعت اعطاءه، لم أستطع المزيد، لم أملك المزيد)
عضت تيماء على شفتيها المرتجفتين و هي تشهق بنحيب عنيف، ثم همست باعياء
(لم تستطع المزيد؟، لم تستطع حتى رؤيتي، أخبرني فقط لمرة واحدة بحياتك، هل أحببتني يوما؟، هل فعلت؟).

ساد صمت مروع بينهما، كان سالم ينظر اليها بعينين غائمتين، فتح فمه، الا أنه عاد ليغلقه و هو يبتلع غصة بحلقه...
حينها فقط رفعت تيماء كفيها تغطي بهما وجهها و هي تبكي بعنف هاتفة من بين كفيها
(ياللهي!)
أما سليمان فقد كان مخفض الوجه وهو يستند الى عصاه بكفيه و جبهته، غير قادر على النظر اليهما...
نبتة فاسدة، ولديه، عمران و سالم، لذا فمن الطبيعي ان تكون براعمهما تحمل مرضا غير قابل للعلاج...

كان قاصي ينظر الى أنحاء القاعة المهيبة...
يداه في جيبي بنطاله وهو يراقب تلك الزوايا و الأركان بنظرات غامضة...
تلك الزوايا التي شهدت على الكثير من الظلم، كان هو البطل بمعظمه...
لم يقاسمه البطولة سوى شخص واحد...
تيمائه، أرضه المهلكة...
أقسم أن يعود و عاد...
أقسم أن ينال الثأر لأمه، لكن وجود تيماء أخره، و درعه كان سليم...
و ماذا حدث الآن؟..

مات سليم و خرج عمران، و عادت الأيام لتجري بين تلك الجدران و الزوايا و كأن شيئا لم يكن...
همس قاصي بصوت خافت مخيف
(فلتجري الأيام حاليا، لا بأس)
خسر الكثير الا أنه ربح تيمائه، و كان هذا الربح هو القوة التي ستمنحه الطاقة و الإنتظار...
استدار يرفع وجهه الى حيث اختفت تيماء، الا أنه رآى سوار تقف أمامه بباب القاعة...
كانت تبدو كشبح، فقد فقدت الكثير من وزنها و باتت شاحبة الوجه و هشة الجسد...

لكن العينين العسليتين لم تفقدا ذرة من قوتهما الجبلية، صلبتين و قاسيتين...
اقترب قاصي منها و قال بصوت خافت
(سيدة سوار، هل أنت بخير؟)
رفعت سوار ذقنها و نظرت إلى قاصي طويلا قبل أن تقول بخفوت و دون مقدمات
(لماذا أحضرت تيماء الى هنا يا قاصي؟)
ضيق قاصي عينيه و تحفزت عضلات جسده وهو يستشعر القلق لكنه قال بحذر
(إنها المرة الأخيرة، لن أحضرها الى هنا مجددا سيدة سوار)
قالت سوار بلهجة جليدية...

(لن تكون الأخيرة يا قاصي، الم تفهم بعد؟، إنها الآن تواجه نفس ما واجهته أمي منذ سنوات طويلة، يريدون التنازل عن دم زوجي بها)
أخرج قاصي يديه من جيبي بنطاله ببطىء، وهو ينظر الى سوار بملامح أخذت تتجمد و تتشنج...
و عينين تتسعان تدريجيا، ثم نظر الى حيث اختفت تيماء فجأة...
ووجد قدميه تتحركان ببطىء دون ارادة منه...

و أخذت خطواته تتسارع فجأة الى ان بدأ يعدو وهو يصعد السلالم كل درجتين معا مناديا بقوة و صرامة عنيفة هادرة...
(تيماااااء، تيماااااااااء. )
وصل الى الرواق المؤدي الى جناح جده، و هناك وجدها!
وقف قاصي مكانه لاهثا وهو ينظر اليها واقفة في الرواق، مستندة بكتفها الى الحائط و تبكي كطفلة بوجه متورم، فغر شفتيه وهو يراها تنزلق على الحائط حتى جلست أرضا و اخذت تبكي و تبكي...

حينها اندفع اليها و ما أن وصل حتى جثا بجوارها و امسك بكتفيها يهزها قليلا وهو يقول بخوف
(ماذا حدث يا تيماء؟، ماذا فعلوا بك؟)
رفعت تيماء وجهها الأحمر اليه و نظرت اليه طويلا و هي تبكي بصمت، قبل أن ترفع يديها و تمسح بهما وجهها و همست باختناق.

(يريدون تزويجي برجل، لا أعرفه و يحملونني دما مستقبليا في عنقي إن لم أوافق و قالو كلاما غريبا لم أفهمه، و أبي، أبي لم يتحرك للنطق بكلمة و ما أن نطق حتى قال أنني قذرة و انني)
كانت عينا قاصي تتوحشان مع كل كلمة تنطق بها، على الرغم من انها كانت تهذي بكلمات متبعثرة...
و دون أن يرد عليها نهض و جذبها من ذراعيها بقوة حتى أوقفها على قدميها ثم أمسك بكفها و جرها خلفه بقوة...

اتسعت عينا تيماء و هي تنظر اليه مدركة بأنه يتجه عائدا بها الى جناح جدها...
حاولت التشبث في الأرض بقدميها و هي تهمس بهلع
(انتظر يا قاصي، انتظر الأمر لا يحتمل الآن)
الا أنه كان في حال من الهياج جعلته يبدو كالمجنون، و يوشك على قتل أحدهم...
وصل الى الباب المفتوح فأمسكت تيماء بإطاره و هي تهمس بتوسل مذعور
(لا تفعل الآن، أرجوك، لا تفعل).

الا أن قاصي جذبها بكل قوة و عنف حتى تركت اطار الباب و تعثرت فكادت أن تسقط أرضا الا أنها تماسكت وهو يجرها خلفه مجددا حتى وقف أمام جدها ووالدها...
ساد صمت صادم بين أربعتهم...
سليمان الرافعي ينظر الى قاصي بصدمة عنيفة، لم تلبث أن تحولت الى غضب جارف وهو يرى كف قاصي الممسكة بيد تيماء دون حياء أو أدب...
بينما كان سالم في حالة من الذهول، عاجزا عن النطق أو التصديق...

أما سليمان فكان أول من تمالك ذهوله و هدر بقوة
(اترك يدها يا ولد، كيف تتجرأ على التصرف بهذا الشكل الوقح)
حاولت تيماء نزع يدها من كف قاصي بذعر، الا أنه لم يسمح لها بل شدد يده عليها بقوة عنيف وهو ينقل عينيه بين سليمان و سالم بنظرات نارية قاتلة تتوهج بجنون
هجم عليه سالم صارخا بغضب
(ابعد يدك عن شرفي أيها القذر، الا تمتنع عن غدرك أبدا).

لكن سالم كان أوهن من أن ينتصر على قاصي الذي قبض على مقدمة قميصه دون أن يحرر كف تيماء و جذبه بعنف ليهمس بشراسة من بين أسنانه الشبيهة بأسنان قرش جائع
(تيماء ليس قذرة، و الشيء الوحيد الذي يحميك من غضبي هو أنك والدها لحسن حظك و سوء حظها)
دفعه بقوة فتعثر سالم للخلف حتى كاد أن يقع، فهمست تيماء بارتياع
(ياللهي، ياللهي اجعل هذه الليلة تنتهي)
الا أن صوت قاصي قصف كالرعد.

(تريدون منها أن تكون تتزوج لإنهاء الثأر بين العائلتين؟، بأي حق تحكمون؟، أي ضمير لديكم؟)
نهض سليمان من مكانه بعنف فارتج كرسيه من خلفه وهو يهدر بعنف
(اخرس يا ولد و أخرج من من هذا الدار حالا، اترك كف حفيدتي قبل أن أفرغ اعيرة سلاحي كلها بصدرك)
صرخت تيماء بذعر، الا أن كف قاصي شدت على كفها بقوة محطمة...
و هدر متابعا.

(كنت اتوقع هذا من الجميع الا منك يا، جدي، لكن لا تقلق لن أنطقها مجددا، لأنني لا أريدها، ما أريده سأمد يدي و أختطفه بنفسي)
رفع كف تيماء أمام عيني سليمان و سالم الذاهلتين و تابع صارخا
(مثل كف تيماء التي أمسكها تلك في قبضتي)
صمت قاصي للحظة يلتقط أنفاسه الهادرة، ثم لم يلبث أن صرخ بقوة زلزلت ارجاء المكان
(يؤسفني أن افسد خطتكم، فلقد سبقتكم، لقد عقدت قراني على تيماء ظهر اليوم و انتهى الأمر).

جلس سليمان على كرسيه ذاهلا، بينما اتسعت عينا سالم و بهت وجهه تماما كمن فقد القدرة على استيعاب الموقف...
أما تيماء فقد أخفضت وجهها و هي تتشبث بذراع قاصي و تختفي خلفها مرتجفة بصمت...
قال سليمان اخيرا بصوت مخيف
(هل هذا صحيح يا فتاة؟، هل تزوجته دون ولي؟)
ظلت تيماء على صمتها ووجهها مطرق أرضا لعدة لحظات، قبل أن ترفعه أخيرا لتنظر الى جدها بصمت بائس ثم همست.

(و من كان وليي يا جدي؟، لم يكن هناك سوى قاصي، دائما و أبدا)
انعقد حاجبي سليمان بشدة و قال بصوت مهزوم خشن
(اخرجي من هنا، لا أريد أن أراك مجددا)
هتف سالم بجنون
(كيف تخرج يا حاج سليمان، سأقتلها، سأقتلهما معا)
لم تكن تعلم ان كان والدها لديه سلاح في تلك اللحظة، الا أنها كانت تعرف بأنه صادق و أن السلاح لو كان بيده حاليا لقتلهما دون تفكير...
لذا و دون تردد تركت ذراع قاصي و وقفت أمامه و هي تقول برعب.

(اقتلنا معا اذن، لم أعد أهتم، لقد مررت بهذا الموقف من قبل، على الأقل أنا الآن أدافع عن زوجي)
الا أن يد قاصي التي لا تزال ممسكة بكفها دون رحمة، جذبتها للخلف حتى تعود و تحتمي خلفه ووقف في مواجهتهما ينظر اليهما بصمت قاتل وهو يقول
(انتهت المقامرة بها، فلتبحثوا عن غيرها لقوانينكم، تيماء قدرت لي منذ البداية و أنا لن أتركها)
ساد صمت ثقيل عليهم و تهاوى رأس سليمان وهو يقول أخيرا
(عقد زواجك هذا باطل).

ابتلعت تيماء غصة في حلقها و همست باختناق
(العقد الباطل يا جدي هو ما كنتم سترغماني عليه، لقد قطعت عليكم السبيل لاحتجازي و اجباري و أنت تعلم أنك كنت لتفعل ذلك)
ظل سليمان مطرق الرأس غير قادرا على النطق، بينما قال سالم بصوت بشع النبرة.

(اكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو انجابك، منذ اليوم الأول و أنا أعرف بأنك ستكونين وصمة عار لي، كنت تتمنين هذا منذ طفولتك، متمردة و لا تعرفين الأخلاق، ترفضين كل قانون، و الآن تتزوجين من ذلك الحقير عديم الأصل، و الذي لا جذور له، و تغمرين نفسك في المستنقع معه لا لشيء الا لاذلالي)
نظرت تيماء الى قاصي بهلع بعد أن نطق والدها بتلك الكلمات المسممة، و كانت تعرف بأنه قد ضربه في مقتل...

فرأت الألم يعصف بعينيه، و القسوة تزداد في ملامحه، أما أصابعها فقد سحقت بين أصابعه الفاقدة للإحساس بشكل مهدد بكارثة...
حينها قالت أخيرا و بقوة تدافع عن زوجها بكل قلبها العاشق الأمومي.

(هذا ما تتخيله أنت، الحقيقة أنك أصبحت خارج دائرة اهتماماتي منذ سنوات عدة، لقد تزوجت قاصي لأنه الرجل الوحيد الذي رعاني و اهتم بي، و ليس بي فقط بل بمسك أيضا، حتى أنت لم تستطع ابقائه بعيدا عنها في مرضها، صلته بنا أنت بدأتها لكنها تعمقت و غرست جذورا صارت اقوى من أن تستطيع اقتلاعها، أنت منحت له الجذور التي لا يمتلكها يا أبي)
رفع سالم عينيه الى عيني قاصي و قال بصوت شديد الخفوت.

(أفعى، أفعى و ربيتها ببيتي فطالت و بثتني من سمها)
أظلمت عينا قاصي بشدة و التوى حلقه، الا أن تيماء كانت هي المشددة على قبضته هذه المرة، ثم ربتت على ظهر كفه و همست
(أتركني للحظة فقط يا قاصي، فقط للحظة)
نظر اليها قاصي بنظرة فارغة و كأنه لا يراها، حينها جذبت تيماء كفها برفق و اتجهت الى جدها ببطىء، متعثرة فوق البساط الشرقي الثمين القديم...

حذرة لأي حركة من والدها، تعرف بأنها قد تكلفها حياتها و حياة قاصي...
الا أنها كانت عازمة على أن تدافع للنهاية عن حبها، لذا وصلت الى جدها و عادت تجثو أمامه، تنظر اليه بصمت و قد ظهرت عليه الضربة الثانية بعد موت سليم، فشعرت بوجع بائس يعتصر قلبها...
لكنها همست بصعوبة و تردد...

(جدي لقد جئنا اليك بأرجلنا، نعلم بأننا قد لا نخرج من هنا أحياء، و مع ذلك جئنا، لسبب واحد فقط، أنا لا أريد أن يكون عقد زواجي باطلا، أرجوك أن تكون وليي، لا تتخلى عني)
رفع سليمان وجهه اليها، ينظر الى عينيها بنظرات فقدت للمحبة القديمة، ثم قال أخيرا بصوت جامد كالحجر
(أنت من تخليت عن عائلتك كلها لأجله)
شعرت تيماء بأنه قد صفعها، الا أنها هتفت بحرارة.

(الأمر أكبر من ذلك يا جدي، كان هو عائلتي الوحيدة، لا أستطيع أن أتزوج رجلا آخر بينما عمري كله الا قليلا قضيته و أنا أتمنى الزواج بقاصي، لقد اهتم بي في أكثر أيامي وحدة، ليس من العدل أن تحكم بقتلاعه مني و زرعه في قلب مسك. لمجرد أنني الارض التي ستأتي لأبي بالوريث، هذا ليس عدلا، كيف لأخت أن ترى الرجل الذي ترغب في الزواج منه متزوجا من أختها، و هي تتزوج ابن عم لها. و تدور دائرة الحرمان و البغض بين أربعتنا، و تبقى الأرض، نحن أهم من الأرض يا جدي، قلوبنا أهم من الأرض و من عادات بالية منذ جدود الجدود، أرجوك افهمني).

نظر جدها اليها طويلا ثم قال بهدوء
(هل انتهيت؟)
زفرت تيماء بيأس و بقت جاثية مكانها أرضا، مطرقة الرأس و كفيها على ركبتيها باستسلام...
ثم همست بألم
(نعم انتهيت)
نهض جدها واقفا أمامها، فرفعت وجهها تنظر اليه من مكانها أرضا، تحاول السيطرة على ذعر ضربات قلبها بينما هو ينظر اليها من علو ثم قال بصوت جاف خالي من المشاعر
(سأكون وليك)
انتفضت تيماء مكانها و صرخ سالم غاضبا، الا ان سليمان رفع يده و هدر بقوة فجأة
(كفى).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة