قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والستون

خرجت من بوابة الكيلة و هي لا ترى أمامها...
كانت تشعر بنفسها تسير بأقدام مطاطية، جسمها ينتفض داخليا بشحنات باردة كالجليد...
بينما العالم يبدو في عينيها في تلك اللحظة أضيق من ثقب ابرة صدئة...
سارت على غير هدى عدة خطوات، الى أن أمسكت كف بذراعها تديرها الى رجل طويل، عرفته قبل أن ترفع عينيها الى وجهه...
لكنها فعلت. رفعتهما الى عينيه، كانت تحتاج في تلك اللحظة الى التحقق منهما...

نظرت تيماء بعينيها المشوشتين الى عيني قاصي المظلمتين، و حاجبيه المنعقدين...
نزولا الى الخطوط المشتدة حول فمه...
نعم هو، لا مجال للوهم و الخداع بعد الآن...
تكلم قاصي أخيرا قائلا بصوت خشن
(تعالي معي)
الا أن تيماء سمرت قدميها في الأرض و هي تنظر اليه بصمت، ثم لم تلبث أن قالت بصوت غريب.

(تذكرت لتوي اليوم الذي خرجت فيه باكية من مكتب العميد بعد أن صفعني على وجههي، لم أندم يومها رغم الإهانة، لأنني كنت أدافع عن وجودك في حياتي، نفس الأحداث و نفس السيناريو، مع فارق واحد ضخم، وهو أن الصفعة هذه المرة كانت بيدك أنت)
ازداد انعقاد حاجبيه، و ازدادت الخطوط حول فمه عمقا، بينما جذبت هي ذراعها بالقوة من كفه، لتبتعد عنه...

و ما أن نطق باسمها، حتى استدارت اليه صارخة غير آبهة بالطلاب المتحركين من حولهما...
(ابتعد عني، ابتعد عني مرة واحدة و للأبد، أنا، أكرهك، أنا أكرهك)
و دون أن تنظر الى الطريق عبرته مسرعة، فسمعت صوت مكابح عالية لدرجة أنها غطت أذنيها بكفيها بينما السيارة تتوقف على بعد خطوة واحدة منها مع أصوت شهقات عالية...
لكن أعلاها كان صوت قاصي الذي صرخ هادرا
(تيمااااااااااااء).

أبعدت تيماء كفيها عن أذنيها و هي تنظر الى الطريق و السيارة المتوقفة، و الطلاب المتجمهرين...
بينما لم تلتقط عيناها من بين كل هاؤلاء، سوى قاصي الذي ارتمى مستندا بظهره الى عامود انارة و قد وضع يده على صدره مغمضا عينيه للحظة، ملتقطا نفسه...
لذا و قبل أن تسمح له باستغلال الفرصة، كانت قد جرت الى سيارتها، و انطلقت بها...
لا تبتغي سوى حذفه من حياتها...

تقدمت ثريا الى باب الشقة حيث الرنين الرتيب لا يتوقف...
و ما أن فتحت الباب، حتى وجدت تيماء واقفة به تنظر اليها بصمت، و بعينين فارغتين غريبتين...
تكلمت ثريا قائلة بقلق
(تيماء؟، ما الذي أتى بك الآن؟ ألم تخبريني بوضوح في آخر اتصال بيننا أنك لا تريدين أي تواصل بيننا في الفترة الحالية؟)
فتحت تيماء شفتيها و هي تنظر الى امها طويلا، ثم تكلمت بخفوت هامسة.

(ارجوك لا تخذليني، أرجوك، أحتاجك الآن أكثر من احتياجي لأي شخص آخر و أكثر من أي وقت مضى، لا أريد سماعها، لا أريد سماع عبارة ألم أحذرك، أرجوك لا تخذليني، فأنا على حافة الموت انهيارا)
تقطعت آخر أحرف كلماتها و اختنقت في حلقها و هي تشهق فجأة بالبكاء، قبل أن ترتمي في أحضان أمها التي تلقتها بين ذراعيها هامسة برعب و هي تشدد على ابنتها
(ماذا حدث؟، ماذا حدث؟).

الا أن تيماء كانت أكثر ضعفا من أن تتكلم في تلك اللحظة، كل ما أرادته هو أن تبكي على صدر أمها للمرة الأولى في حياتها...
لاحقا، كانت ثريا تجلس على أريكة مريحة و ساقيها تحتها، بينما رأس تيماء مرتاحة على ركبتيها بعد أن راحت في سبات عميق من شدة التعب و البكاء...
الا أنها تمكنت من اخبار أمها بما حدث في كلمات منتحبة...

ما عاد يهمها ان تداري عن الجميع أفعال قاصي بعد الآن، لن تفعل، فهي بشر في النهاية و كانت لتموت لو لم تخرج ما في جعبتها و تحكيه الى أمها شاهقة منتحبة...
ظلت ثريا تمشط شعر تيماء بأصابعها طويلا و هي تنظر اليها في نومها...
إنها المرة الأولى التي ترى فيها تيماء منكسرة بهذه الصورة...
لطالما كانت تيماء الصخرة التي تستند اليها، رغم انها ابنتها، الا انها كانت الظهر الذي تستند اليه و بدونه تضيع...

لقد كانت تيماء دائما أقوى من عشرات الرجال في الصلابة و الوقوف أمام عثرات الحياة...
حتى في محنتها مع عائلة والدها منذ سنوات...
انتابتها حالة من الصمت و الرعب لفترة، قبل ان تنهض على قدميها، اقوي و أصلب عودا...
لكن الآن...
لقد انكسرت طفلتها و كان هذا واضحا على سقوطها بين ذراعيها بعد كل هذا العمر...
لأن هذه المرة من كسرها هو حب عمرها...
قاصي الذي حذرتها منه دائما...

استمرت ثريا في مداعبة شعر تيماء لعدة دقائق أخرى و على ملامحها علامات من الغموض الممتزج بالإصرار...
ثم نهضت اخيرا و ازاحت رأس تيماء بحرص و استبدلت مكانها بوسادة أراحت عليها رأسها مجددا...

ابتعدت ثريا و هي تفرك أصابعها بتفكير طويل، ثم استدارت تنظر الى تيماء نظرة أخيرة، قبل ان تذهب الى هاتفها، تنظر اليه بنظرة مترددة، لكنها لم تلبث أن اتخذت قرارها و طلبت رقما و انتظرت و الهاتف على أذنها، الى أن ردت أخيرا بصوت خافت حاسم
(كيف حالك يا سالم، أنا ثريا).

لا تصدق أنا جالسة هذه الجلسة!
مسك الرافعي...
أهذه هي نهايتها؟، منذ متى كان الزواج هو كل مبتغاها؟
منذ أن تركها أشرف و هي عازفة عن الفكرة من الأساس نظرا لظروفها، هذا بخلاف الجرح الذي خلفه أشرف...
أما مؤخرا!، تحديدا و منذ أن عادت للاستقرار و العمل هنا، و هي تشعر بتغيير تدريجي بها...
الى أن وجدت نفسها توافق على مقابلة زاهر الرافعي لها، تمهيدا للكلام بينهما، بعد أن طلب يدها للزواج من والدها...

جلست بأناقة واضعة ساقا فوق أخرى، في المقهى الأنيق الذي تواعدا على اللقاء به أمس، بعد أن أتصل بها للمرة الأولى...
تراقبه بتأني و هي هادئة تمام الهدوء على عكسه، ذقنها مرتفعة فطريا و دائما...
بينما هو يبدو متململا، نافذ الصبر، ينظر حوله في كل مكان، و يتجنب النظر الى عينيها...
قالت مسك أخيرا بصوتها الهادىء
(هل هناك مشكلة يا زاهر؟، أراك غير مرتاحا).

حين وجهت الكلام له اضطر اخيرا الى النظر اليها و كأنه عبء ثقيل عليه...
إنه لا يجيد التعامل مع النساء تماما، و هذه أول ملاحظة تدركها منذ زمن بعيد...
رد زاهر متبرما
(لم يكن هناك داع للمقابلة في مكان عام، هكذا أمام الناس بوجه مكشوف، لا حياء و لا أدب)
ارتفع حاجبي مسك و هي تسمع نبرته الفظة...
هل أهانها للتو فعلا أم أنها تتخيل فقط و تتحامل عليه...
زمت مسك شفتيها و قالت مبتسمة ابتسامة متحفظة.

(و هل كان لديك بديل؟، والدي سافر و أنا وحدي في البيت، فماذا كنت تقترح؟)
رد زاهر متبرما وهو ينظر اليها بطرف عينيه
(لا أرى داعي لطلبك مقابلتي، لقد سبق و طلبت يدك من عمي سالم و دخلت البيت من بابه)
ارتفع حاجبيها أكثر الآن، لكنها تمسكت بصلابة أعصابها و قالت بهدوء
(أرى أن من حقي الجلوس معك قليلا قبل أن اتخذ قراري، أم أنك تعتبر موافقتي أمرا مسلما به؟)
رفع زاهر عينيه اليها...

و استقريتا على وجهها للمرة الأولى منذ أن جلسا، حينها ارتبكت مسك و هي تلمح فيهما الجواب قبل أن يرد، و لكنه رد بصوت خشن متردد
(أنت لست شخص يسهل أن يتصف أي شيء يخصه بأنه، مسلم به يا بهية عائلة الرافعي)
احمرت وجنتي مسك و هي تبتسم رغم عنها قائلة
(بهية عائلة الرافعي!، ما هذا اللقب؟)
رد زاهر بخشونة وهو يتأملها، عينيها و ملامحها حتى تململت
(لا لقب آخر لك غيره، بهية كالفرس العربية الأصيلة، منذ صغرك).

راقبته مسك طويلا، ثم سألته بهدوء
(هل أنت معجب بي يا زاهر؟)
انعقد حاجبيه و ارتبك قليلا ثم قال متجنبا الرد المباشر
(و لماذا تقدمت لطلب يدك إن لم أكن)
تذمر وهو يهمهم و كأن الكلمة الطيبة تخرج من فمه بخروج الروح، الا أن مسك أصرت و سألته
(قصدت قبل هذا، منذ وقت طويل مثلا؟)
هتف زاهر بخشونة
(استغفر الله، كنت على ذمة رجل آخر، ما تلك الأسئلة عديمة الأدب؟)
ردت مسك هذه المرة متعجبة
(هل تشتمني يا زاهر أم أنني أتوهم؟).

عقد حاجبيه و ارتبك اكثر ثم قال على مضض
(حاشاك يا ابنة عمي، لكنك بصراحة تسألين أسئلة جريئة، و حياتك كلها متحررة، تحتلف عن حياة بناتنا)
راقبته مسك وهو يتململ في مقعده...
لم تكن قد أمعنت النظر فيه من قبل على الرغم من أنه ابن عمها، لو رأته تعرفه، الا أنها لم تتمعن في شكله...
كان شكله، بعيدا قليلا عن أهل الحضر...
شاربه الكث، و ملابسه الغير عصرية، الا أنه يتمتع بشكل مقبول نوعا...

نعم مقبول، الا أنه للأسف، من الواضح أنا لا تشعر تجاهه بأي جاذبية جسدية...
علي الرغم من أن تفكيرها هذا يعد محرجا و جريئا، الا أنها كشابة ناضجة، قد شعرت بهذه الجاذبية من قبل تجاه أشرف، و من بعده لم تشعر بها مجددا
الا...
أسبلت مسك جفنيها و صورة أمجد تترآى لها...
هزت رأسها قليلا و هي تبعد تلك الصورة عن رأسها، محاولة التركيز مع زاهر الجالس أمامها...
ثم ردت عليه تقول بهدوء.

(أنا شابة على وشك اتمام عامي السابع و العشرين يا زاهر، لم أعش في البلد بينكم، لذا من الطبيعي أن تختلف حياتي عن حياة فتياتكم، و شابة في مثل عمري عليها أن تنحي الخجل جانبا حين يتقدم شخص للزواج منها، و تسأل عن كل ما يثير فضولها تجاهه)
قال زاهر محتدا...
(الخطأ في هذا خطأ عمي سالم سامحه الله، هو من أبعدك أنت و أختك عن عاداتنا و تقاليدنا، لتتربيا على قيم مختلفة)
قالت مسك ببساطة.

(اذن لماذا تريد الزواج مني طالما نحن مختلفي النشأة الى هذا الحد؟)
رفع عينيه اليها، و بدا و كمن أسقط في يده، فظل صامتا طويلا، ثم قال أخيرا باستسلام
(القلب و ما يريد يا ابنة عمي)
ارتبكت مسك مجددا، الا أنها ابتسمت بصمت...
علي الرغم من غياب الجاذبية الجسدية، الا أنها لا تستطيع انكار بعض الايجابيات به...
فهو على الأقل رجل محترم لا يعرف العبث و لا يقبل الحرام، و معجب بها...

بل على ما يبدو أنه أكثر من معجب بها...
تنهدت مسك و هي تنظر من نافذة المقهى الأنيقة الى الطريق الهادىء...
تحاول استخلاص بعض التشجيع من عبارته الأخيرة كي تتقبل الأمر...
الا أنها انتفضت فجأة على صوته وهو يهتف مناديا النادل
(أين الشاي يا ابني؟، نحن هنا منذ نصف ساعة و لم يصل بعد!، أما لو كنا قط طلبنا طعاما لكان وصل في يوم آخر)
احمر وجه مسك بشدة و هي تنظر حولها بحرج و قد بدأ الجميع في النظر اليهما...

أتى النادل مسرعا وهو يحمل صينية عليها قهوة مسك، و الشاي الذي طلبه زاهر...
نظر زاهر الى الشاي، ثم قال باستياء
(شاي بخيط!، اليس لديكم شاي ثقيل. نعناع، أي شي يعدل من التركيز!)
رد النادل مبهوتا
(ليس لدينا سيدي)
زفر زاهر بغضب و قال بتذمر
(حسنا اذهب، هي جلسة ليس لها داعي من بدايتها، لكن هي تحكمات و السلام)
بهتت ملامح مسك و هي تمسك بمقعد الكرسي بكفيها رافعة حاجبيها...
هل ستتزوج هذا الرجل فعلا؟

رفع زاهر وجهه المتجهم ينظر اليها ثم قال باستياء
(ماذا؟)
رفعت مسك ذقنها ثم قالت بهدوء متزن من بين أسنانها
(سلامتك)
رد زاهر بفظاظة
(سلمك الله)
ثم رمى الملعقة جانبا فأحدثت ضجيجا مزعجا...
زفرت مسك بنفاذ صبر، الا أنها تمالكت نفسها ثم قالت ببرود
(اذن، متى ستتزوج أختك؟)
ارتسم عبوس شديد على وجه زاهر دون أن يرد، فقالت مسك باهتمام
(هل هناك مشاكل في زواجها؟)
رد زاهر بسرعة و صرامة
(لقد طلقت بدور من راجح).

عقدت مسك حاجبيها و اتسعت عيناها بصدمة قائلة
(ماذا؟، متى؟، و لماذا؟)
رد زاهر باختصار
(طلقت ليلة زفاف سوار من ابن عائلة الهلالي)
قالت مسك بعدم فهم
(لكن كيف و ما علاقتها بالأمر، لماذا يتم طلاقها في نفس الليلة؟)
رد زاهر بغضب مكبوت ووجه ممتقع و خزي مرتسم على ملامحه
(بدون تفاصيل غير مهمة يا ابنة عمي، لقد طلقت بعد كل هذه الفترة من عقد القران، و حسبت عليها خطبة، لا حول و لا قوة الا بالله).

ردت مسك بخفوت محاولة أن تلطف من الجو
(هي الرابحة يا زاهر، أنت أعلم الناس براجح ابن عمك، ليس مريحا ابدا، و بدور تستحق من هو افضل)
هتف زاهر بغضب...
(لكن حسبت عليها خطبة، و هذا يقلل من شأنها)
عقدت مسك حاجبيها بشدة و قالت بنفاذ صبر
(هل هذا هو كل ما يهمك؟، أنها احتسبت عليها خطبة!)
أجابها زاهر محتدا.

(أنت لا تفهمين مدى سوء الأمر عندنا في البلد، أنت تحيين هنا حياة، لا رقيب عليها و لا حسيب أما في البلد فالأمر يختلف، و الفتاة التي تطلق بعد عقد قرانها تقل فرصها في الزواج)
حسنا عليها الآن أن ترى هذا الجانب من زاهر ان كانت تفكر جديا في الزواج منه...
هذا واقع و نشأة، لا يمكنها تجاهل طريقة تفكيره و نظرته للأمور...
لذا قالت أخيرا بصوت خافت بطىء و شارد...
(عامة، عسى أن يعوضها الله خيرا منه. ).

ارتشف زاهر من كوب الشاي الخاص به، و ساد صمت طويل بينهما...
الى أن قالت مسك بتردد...
(زاهر، أنت، أنت تعرف ظروفي السابقة، اليس كذلك؟)
رفع وجهه اليها ثم وضع الكوب على الطاولة بقوة وهو يقول بغضب
(لا حول و لا قوة الا بالله)
عبست مسك و هتفت بحدة
(ماذا؟، ماذا، لماذا أنت مستاء دائما؟)
هتف زاهر بغضب
(لماذا تتحدثين عن رجل لم تعودي على ذمته الآن؟)
زفرت مسك هي الأخرى و هي تهز رأسها يأسا قائلة مثله و قد عيل صبرها.

(استغفر الله العظيم، و من ذكر شيء عنه!، لو تتحلى بالقليل من آداب الحديث و تنتظر و تفهم أولا)
نظر اليها زاهر و قال بفظاظة
(و ماذا قصدت اذن بظروفك السابقة؟، أي ظروف أهم من زيجة سابقة؟)
ارتبكت مسك، الا أنها قالت بهدوء
(الأهم يا زاهر، مرضي و عدم قدرتي على الإنجاب)
توقف زاهر عن الحركة، و نظر الى كوب الشاي بصمت، فقالت مسك بتوجس
(أنت تعلم، اليس كذلك؟)
رد زاهر دون أن ينظر اليها.

(أعلم بالطبع، مرضك، كان صدمة لنا يا ابنة عمي)
رقت ملامح مسك، ثم قالت بهدوء
(شكرا لقلقك يا زاهر)
قال زاهر بصوت أجش وهو يتجنب النظر اليها، (رغبنا في زيارتك و أنت كنت ترفضين)
قالت مسك و هي ترتشف قهوتها
(أنت تعلم أن الأمر حساس لأي امرأة، لكن شكرا لك على اهتمامك)
ظل زاهر صامتا ثم قال بصوت خافت أجش
(و ردت لنا الروح بشفائك يا بهية عائلة الرافعي)
ابتسمت مسك رغم عنها، ثم قالت و هي تتأمله عسى أن تنجذب اليه بالقوة.

(شكرا لك يا زاهر، أقدر لك هذه الكلمات جدا)
صمتت قليلا ثم قالت بتصميم مكررة
(و ماذا عن عدم قدرتي على الإنجاب؟، هل ترضى بها؟)
أظلمت عينا زاهر قليلا، الا انه قال متجنبا النظر اليها
(من الواضح أنني أقبل بها، و الا ما كنت تقدمت لك و طلبت يدك للزواج)
قالت مسك باصرار أشد و هي تلاحق كل ذرة من ملامحه
(و مع هذا أريد سماع الإجابة مباشرة منك يا زاهر، أتضحي بأبوتك من أجلي؟، انا شخصيا لست مصدقة حتى الآن).

رفع وجهه و نظر اليها ثم قال بصوت أجش
(لو تعلمين مكانتك داخلي يا بهية، لصدقت على الفور)
تراجعت مسك ببطىء في مقعدها و هي تنظر الى زاهر بعين جديدة...

رجل مثله و في ريعان شبابه، يضحي بأبوته من أجل أن يحظى بها!، ترى ماذا تريد أكثر من هذا في الزواج؟، الجاذبية الجسدية المفقودة، لا تقارن بالتضحية التي يقدمها زاهر، و ربما كان هذا تعويض الله لها، أطرقت مسك بوجهها و هي ترتشف قهوتها بصمت، و في داخلها تنهيدة كبيرة، لا تعرف ان كانت ارتياحا و رضا، أم مجرد استسلام...

بالعودة الى ليلة زواجهما، منذ عدة أيام،
خرجت سوار من غرفتها و هي تلف وشاحها الأسود حول رأسها، بينما كان ليث ينتظرها خارج الغرفة مباشرة...
أجفلت للحظة و هي تراه واقفا على الباب، فتراجعت، خطوة...
الا أنه تقدم تلك الخطوة منها وهو يقول بصوت عميق كي يهدىء من روعها بعد ما تعرضت له
(لا تخافي، إنه أنا)
قالت سوار بصوت ثابت رغم شحوب وجهها
(لست خائفة، أنا فقط متفاجئة من وقوفك هنا على باب الغرفة).

رد ليث بصوت قوي، مشتد
(لم أكن لأتركك للحظة و هذا الحقير لا يزال متواجد في البيت)
كانت عيناه تترصدان ملامح وجهها بنظرات صريحة لم تعتدها منه من قبل، جعلتها توتر...
ليس من حقه أن ينظر اليها بتلك الطريقة في مثل تلك الظروف...
الا يكفي أنه، قبلها!
حتى الآن لا تصدق أنها قد سمحت له بتقبيلها...
لا تعلم كيف حدث هذا...
لحظة انهيار منها جعلته يتلقف شفتيها بنهم لم تعرف مثله من قبل...

لقد أصابها الدوار بعد خروجه عدة مرات...
ليس هذا ليث أبدا، ليس ليث هو من يستغل لحظة ضعفها و يعاملها بتلك الطريقة...
كان بداخلها غضب بدأ يتقد مع استجماعها لقوتها ووعيها بالتدريج...
غضب منه و غضب أكثر من نفسها...
لقد انتهك حرمة هاتين الشفتين، فان كانت زوجته، فلقد سرع في الزواج بها انقاذا للموقف...
بينما لم يكد نصف العام يمر على مقتل زوجها و لم يأخذ احد بثأره...
(غطي وجهك).

أصدر ليث أمره بصرامة، فرفعت وجهها تنظر اليه، و فجأة شعرت بالتمرد يجتاحها فقالت برفض
(أنا لا أغطي وجههي)
كان ليث يستعد للحركة، الا أن عبارتها جعلته يتسمر مكانه، ليلتفت اليها فجأة، ينظر اليها بنظرة غريبة، فيها القليل من البأس، ثم قال بهدوء حاول الا يظهر فيه توتر مشاعره
(أنا الآن زوجك يا سوار، و إن طلبت منك أن تغطي وجهك فستفعلين، رجاءا)
كانت سوار تنظر اليه وهو يتكلم...

نبرة التملك بدأت تظهر في صوته، ترى متى سيتصرف بما يمليه هذا التملك؟
رفعت وجهها ثم مدت يدها تلتقط حافة وشاحها، لتثبته حول وجهها و هي تنظر اليه، منتظرة منه أن يسبقها، الا أنه كان واقفا مكانه ينظر إلى عينيها بنظرة غريبة، و كأنه يتحاور معها حوار سري...
لا تعرفه هي، بدا و كأنه يتآمر مع عينيها في صمت...
أسبلت سوار جفنيها و هي تتململ، فأخذ ليث نفسا عميقا ثم مد لها يد كي تتقدمه...

تحركت سوار بجواره بتردد، بينما قال ليث بهدوء وهو ينظر حوله بعينيه، خوفا عليها من النسيم الملامس لها
(سنستقل سيارتي ذهابا للدار في صمت، لن يكون هناك دفوف أو هودج نظرا للظروف، و لقد توقفت الأعيرة النارية، فاطمئني)
ظلت سوار صامتة، و هي تسير بجواره، فتوقت ليث...
حينها اضطرت للتوقف ناظرة اليه بتساؤل...
ظل ينظر الى عينيها لعدة لحظات ثم قال بخفوت.

(لو كان الأمر بيدي يا سوار لأقمت لك عرسا لسبع ليال كاملة، ما حدث كان خارجا عن ارادتي)
ردت سوار بهدوء خافت
(سبق و نلت عرسي يا ابن خالي، زواجنا الآن ما هو الا ظرف خارج عن ارادتنا فلا تفكر في تلك المظاهر)
أظلمت عينا ليث قليلا و تسارع نفس غاضب في صدره، الا أنه تمالك نفسه وهو يزفر بتعب أخيرا...
ثم قال بصوت أجش خافت...
(أنت مخطئة يا سوار، أنا)
الا أن سوار قاطعته و هي تسأل باهتمام.

(أين فريد؟، أريد رؤية أخي قبل ذهابي، لماذا لم يأتي للإطمئنان على أخته)
رأت ملامحه تتصلب وهو يقول
(فريد لديه ما يشغله، ينال ممن مس شرف أخته)
فغرت سوار شفتيها و هتفت فجأة بهلع
(ماذا لو قتله؟، أريد رؤية فريد حالا)
للحظة تداخلت الأفكار في رأس ليث...
هل خوفها المفاجىء هذا على فريد وحده، أم أنها لا تزال...
أغمض ليث عينيه وهو يهمس بصوت مكتوم
استغفر الله العظيم، هتفت سوار بقلق و هي تمسك بساعده فجأة بقوة.

(لماذا أنت صامت يا ليث؟، أين فريد؟، أريد رؤيته قبل أن يتهور)
أخفض ليث عينيه ينظر الى قبضتها القوية كالرجال على ساعده، ثم رفعهما الى عينيها الواسعتين القويتين، فيهما من الشجاعة ما ينقص لدى الكثير من الرجال...
لكن و قبل ان يجيبها، انتفضت سوار على صوت راجح وهو يصرخ عاليا صرخة تردد صداها في أرجاء البيت الخاوي
(سوااااااااااااااااااار، سوااااااااااااار).

فغرت سوار شفتيها و نظرت الى ليث و هي ترفع يدها الى صدرها تسأله بهلع
(ماذا يحدث؟، هل يعذبونه؟)
لم تتحرك عضلة في ملامح ليث الصلبة الرخامية، لكنه قال في النهاية
(الا ترين أنه يستحق العذاب؟، لقد منعني جدك بالقوة من الدخول اليه، آمرا أن ينال منه شقيقك، لا غيره)
عاد صوت راجح يصرخ مزلزلا الجدران
(سوااااااااااااار)
أغمضت سوار عينيها و هي تحاول ابعاد هذا الصوت الشبيه بعواء حيوان مفترس يحتضر.

الا أن ليث لم يترك لها الفرصة كي تخاف عليه، ولو حتى من باب الشفقة و الإنسانية...
فمد يده يمسك بكفها بقوة...
مما جعلها تفتح عينيها و تنظر اليه مجفلة، فصدمتها عيناه الصلبتان، صقريتان و لا تسمحان بالرفض كجواب...
فجذبها خلفه وهو يسرع الخطى، بينما هي تركض ورائه و عبائتها ترفل خلفها...
قالت سوار بقوة
(انتظر، أريد رؤية أخي، لن أرحل بدون أن أراه و أتكلم معه)
لكن ليث قال بصرامة دون أن يبطىء.

(اخبرتك أن شقيقك لديه ما يشغلك، اما أنت، فقد انتهت اقامتك في هذا البيت، و ستعودين الى بيت عائلتك، ستعودين الى بيت وهدة الهلالي).

منذ دقائق، جالسا على الأرض وهو يلهث قليلا، ثم رفع يده يمسح الدم عن زاوية شفتيه بظهر كفه...
بينما عيناه المحتقرتين، تنظران الى راجح المرتمي أرضا، مكدوم الوجه و الجسد
كانت معركة استمرت لاكثر من ساعة...
و لم يكن راجح، بالخصم الذي تسهل هزيمته...
لكن حين يتعلق الأمر بشرف اخت رجل...
يتحول حينها الى وحش مفترس لينهش من لحم الحقير الذي تجرأ و انتهك كرامتها و حرمتها...

نظر فريد الى راجح، ثم تحامل على نفسه و نهض بصعوبة رغم الاصابات المتفرقة بجسده...
ليقترب منه ببطىء
و ما أن وقف بجواره مشرفا عليه، حتى بصق عليه وهو يهتف بتقزز
(أيها الحقير عديم الشرف، والله لولا أن القتل ليس منهجي لدفنتك حيا، ليأكلك دود الأرض، فحتى السلاح شرف لا تستحقه)
جثا فريد على عقبيه بجوار راجح الذي كان يحرك وجهه بصعوبة ناظرا الى فريد بملامحه الغاضبة العنيفة...

لم يتخيل ان يستطيع فريد الأصغر منه سنا هزيمته جسديا في اي يوم و لأي سبب...
الا أنه تكلم اخيرا بصعوبة وهو يبصق دما من فمه مع كل كلمة
(لقد نلت حقك، و حق شقيقتك، و الآن دعني اخرج اليها، يجب ان اعقد قراني عليها في التو، سوار لن تكون، آآآآه)
لم يستطع راجح متابعة كلماته المتعثرة، حين قبض فريد على عنقه بقبضة من حديد و بكل قوة
فجحظت عيناه و شعر بنفاذ الهواء من رئتيه تدريجيا، بينما همس فريد من بين شفتيه.

(استطيع الآن بحركة بسيطة واحدة قتلك و اراحة العالم من شرك، و سأفعلها لو حاولت الخوض في سمعة اختى مجددا، أفهمت)
أومأ راجح برأسه بصعوبة و عيناه تتسعان أكثر، لكن فريد لم يرتاح بعد و لم يشفي غليله...
بل اقترب منه و همس بتشفي
(كما أنني لم أخبرك بعد، لقد عقد قران على ليث منذ ساعة و انتهى الامر)
ترك فريد عنق راجح...
و الذي ظلت عيناه على اتساعهما و هو يهمس بهذيان، يسعل من الألم على عنقه...

(انت تكذب، أنت تكذب، لم يحدث. )
ابتسم فريد بتلذذ وهو يقول
(بلى، سوار الآن في طريقها الى بيت زوجها)
أغمض راجح عينيه، قبل أن يصرخ بوحشية و احتضار...
(سواااااااااااار، سواااااااااااااااااار)
أما فريد فقد كان ينظر اليه مبتسما بتقزز، يستمتع بصراخه الوحشي و الذي لم يشفي غليله بعد...
بعد فترة قصيرة...
سمع فريد طرق على الباب، ووصله صوت جده يقول
(افتح يا فريد، افتح حالا).

استقام فريد على قدميه، ثم اتجه الى الباب كي يفتحه، فنظر سليمان بتجهم اليه ثم نقل عينيه الى راجح المرتمي ارضا. يصرخ كالوحوش المحتضرة...
فقال سليمان
(هل انتهيت منه؟)
رد فريد بعنف
(لن يكفيني فيه أيام بعد ما تجرأ عليه)
رفع سليمان كفه و ربت على كتف فريد قائلا
(ليس الآن يا ولدي، هناك ما هو أهم)
ثم استدار و قال آمرا بتجهم
(ادخلوا).

دخل أولا عمران الرافعي و الذي ارتعب على ولده الملقى أرضا بفظاعة، تبعه والد زاهر و بدور الذي كان ينظر الى راجح باحتقار و رغبة في القتل، ثم تلتهما، بدور، ثم زاهر
دخلت بدور الى الغرفة تعرج بتعثر و هي غير مستوعبة بعد لما يحدث...
كل ما تعرفه أن والدها آتاها متجهما غاضبا و أمرها أن تتحضر كي تأتي معه لأمر هام...
كان قلبها يخفق بعنف خوفا، الا أن خوفها تحول الى ذعر و هي ترى راجح و ما أصابه...
صرخت بدور بعنف.

(راااااااااجح)
و حاولت الجري اليه، الا أن والدها أمسك بذراعها وهو يصرخ فيها
(اثبتي مكانك، اياك و الاقتراب منه)
وقفت مكانها و هي تنظر الى راجح بذهول و رعب، بينما اقترب زاهر وهو ينوي الهجوم عليه
(ايها القذر، سأقتلك)
لكن صوت سليمان الرافعي قصف عاليا
(انتظر يا زاهر، انتظر)
نظر سليمان الى راجح و قال بنيرة جامدة ميتة
(الق يمين الطلاق على بدور)
شهقت بدور عاليا و الذعر يرسم أبشع صوره على ملامحها...

بينما بدى راجح كالميت وهو ينظر الى الجميع، الى أن وقعت عيناه على بدور المرتعبة و التي كانت تهز رأسها بتوسل...
الا أنه فتح شفتيه و قال بوضوح و عيناه في عينيها
(أنت طالق)
ضربت بدور وجنتها بعنف و عيناها تتسعان بهلع...
و لم تتوقف صفعات الذعر على وجهها، الا أن أحدا لم يلحظها خاصة و ان صوت سليمان تعالى بعنف
(و الآن، احمل ولدك و غادرا هذه الأرض يا عمران، لا عودة لكما أبدا).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة