قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والستون

أريد رؤيتك، رجاءا لا ترفضي، أحتاج للكلام معك، رسالة مختصرة جدا، و مع ذلك كان التوسل يكاد أن يفيض بوضوح من كل حرف منها...
تكاد تسمع صوته المحبب وهو ينطق بتلك الكلمات بينما تنحني عيناه الكحيلتان في رجاء جذاب كما كان يفعل دائما كلما تدلل عليها و أراد منها شيئا...
أعادت مسك قراءة الكلمات المختصرة مجددا و التي وصلتها في رسالة على هاتفها منذ أكثر من نصف ساعة...

و لم ترد، فقط ظلت تنظر اليها بصمت و هي متكئة في كرسيها الوثير بشقتها، و ساقيها تحتها بنعومة مريحة...
عيناها تبرقان بلمعان حزين...
و بحركة رتيبة من اصبعها، فتحت ملف الصور المخزنة على هاتفها، الى أن وصلت للصورة المطلوبة...
صورته...
أشرف الرافعي، صورته القديمة التي كانت تحملها معها، ظلت تنقلها من هاتف الى اخر دون أن تمحوها حتى الآن...
كانت في حاجة الى تلك الصورة، لذا حرصت على ألا تضيع منها...

كلما شعرت بتخاذل أو ضعف يتملكها كانت تنظر الى صورته المحببة الى عينيها...
حينها فقط تتملكها القوة من جديد و يذهب التخاذل أدراج الرياح، و هي تنظر الى عينيه المبتسمتين بشقاوة و الكحل الرجولي بهما طبيعي...
ابتسمت مسك ابتسامة صغيرة و اصبعها يتحرك برفق على تلك الملامح الشقية الوسيمة...
لطالما رأته الأكثر وسامة بين أبناء أعمامها، و أكثرهم سحرا...

كان مرحا و يفيض بالجاذبية، و لديه حس بالتملك لا يملك أحد أن يقاوم جبروته، الا هي...
رغم صغر سنوات عمرها كانت دائما تضع حدا لهذا التملك و العنجهية، فيسريان على الجميع و لا يسريان عليها.
لأنها مسك سالم الرافعي...
و رغم حبها له و عشقها اللامحدود، الا أن كبريائها كان لها قانون لا تكسره أبدا...

كانت تتصرف معه بثقة مطلقة، ثقة في نفسها أكثر من ثقتها في حبه، لم تتخيل مطلقا أن يغدر أشرف بها يوما، أن يكسر قلبها...
و يسحق كبريائها بتلك الصورة عديمة الرحمة كما فعل، و لماذا؟، و لأجل من؟
فتحت مسك شفتيها ببطىء و همست بخفوت و كأنها تكلم الصورة بخفوت
(لأجل من؟، غدير؟، صديقتي التي كانت تشاركني الوسادة في ليال كثير، نقضيها في ضحك و أحاديث لا تنتهي!، كيف أخفيت عني قدرتك الهائلة على الخيانة؟).

صمتت و هي تنظر الى الصورة التي كانت تنظر اليها بنفس الابتسامة الشقية و الملامح الرجولية الجذابة، و كأنها تسخر منها...
فضاقت عيناها و همست بصوت أكثر خفوتا...
(هل أدعي انها السبب في خيانتك؟، أم أدعي أن مرضي هو السبب؟، أي عذر أمنحه لرجل سمح لأخرى بأن تسرقه؟)
عادت لتصمت من جديد، و اصبعها يتحرك على حاجبيه المستقيمين بخط طبيعي مشطور...
ثم قالت بخفوت و كأنها تحادثه شاردة.

(أنا اعرف أنك ستعود ذات يوم، هذا شيء أنا متأكدة منه، و قد لا تراه أنت لأنك استسلمت الى نوبة جعلت منك أعمى، ضرير لا يبصر الا تلك اليد التي امتدت بخبث لتلامسك، لكنك في النهاية ستعود و حينها لن أملك شيء لأقدمه لك، لقد انتظرت طويلا كي أرى هذا اليوم الذي تأتيني فيه خائبا نادما، لكن على ما يبدو أن هذا اليوم سيتأخر قليلا بعد، لذا ليس أمامي سوى أن أتوقف عن انتظاره و المضي قدما بحياتي، على الاعتراف ان رؤيتك نادما لن تصلح الصدع الذي احدثته في داخلي).

أرجعت رأسها للخلف و نظرت الى السقف بصمت...
الى أن رن هاتفها تماما كما توقعت...
ارتسمت على شفتيها ابتسامة باردة، ناعمة، دون ان تخفض عينيها الى الهاتف في يدها، و انتظرت مستمعة الى رنينه المستمر، و كأنه لحن يشجيها الى أن تكرمت في النهاية و أخفضت رأسها لترفع الهاتف و ترد باتزان دون أن تفقد ابتسامتها الهادئة
(مرحبا أشرف)
كان باستطاعتها أن تسمع التوتر الحاد في صوت أنفاسه قبل أن يقول بصوت متصلب.

(أنت موجودة اذن و متفرغة للرد، لماذا لم تجيبي رسالتي؟)
ارتفع حاجبيها و لم تحرك عضلة من جسدها المتراخي ثم ردت ببساطة
(أجيب أو لا أجيب هذا أمر يعود إلى يا أشرف، حتى لو كنت متفرغة، الا أنني لست مضطرة للتبرير، ثم أن الرسالة لم تنال اعجابي، لقد أخبرتك من قبل أنني لا أقبل بما تطلبه)
هتف أشرف بنفاذ صبر
(أنا لازلت ابن عمك يا مسك، لا تجعلي مني غريبا، ثم أنا أريد الكلام معك في أمر هام).

التوت ابتسامة مسك قليلا و هي تقول بهدوء
(أنت من جعلت نفسك غريبا يا أشرف، ليس خطأي)
سمعت صوت زفرته واضحة فانتظرت بملامح جامدة و الهاتف على أذنها الى أن قال في النهاية بصوته المتملق الذي تعرفه جيدا
(أنا فقط أحتاج للكلام معك يا مسك، رجاءا)
تمطت مسك مكانها و انزلت ساقيها من على الكرسي على مهل ثم قالت بنعومة
(حسنا تكلم، أنا أسمعك)
ساد صمت قصير، قبل أن يقول بحذر
(لن يفلح الكلام في الهاتف، أريد أن، أراك).

للحظة شعرت بالكلمة و كأنها تتوهج ببريق خاص تعرفه، بريق افتقدته منذ سنوات...
لكم طلبها منها بنفس النبرة، و كان جوابها أن تبتسم بخجل و تعده باللقاء وقتما يشاء...
لم تكن تعلم في تلك اللحظة أن المرارة قد حولت ابتسامتها الى ابتسامة حزينة ملتوية...
لكنها فتحت فمها و همست أخيرا بفتور
(لا أستطيع، هذا غير لائق)
لكن أشرف لم ييأس، بل على العكس، لقد لمح بعض التراجع في صوتها، فقال بلهفة.

(بلى، بلى يا مسك، أنا أريد أن أراك، إما أن توافقي أو آتي الى شقتك)
أطرقت مسك بوجهها و قالت بخفوت
(لن أفتح لك الباب)
حينها رد عليها بصوت، كانت تعلم أن خلفيته ابتسامة مترددة
(لن تبقيني خلف بابك المغلق يا مسك، ليس بعد كل تلك السنوات)
شعرت بالرغبة في اقفال الخط، الا أنها تمالكت أعصابها و ردت ببرود
(بلى سأفعل، و خاصة بعد كل تلك السنوات، لم يعد اغلاق الأبواب أمرا صعبا بالنسبة لي).

ساد صمت طويل بينهما، و كل منهما يضع الهاتف على أذنه، كان هو ينظر الى البعيد شاردا، بينما هي لا تنظر لأبعد من خطوة واحدة، كأنها عينيها قد تحولتا الى نظرة من زجاج هش، بارد، جامد...
الى أن قطع أشرف الصمت أخيرا قائلا بخفوت
(أين ألقاك؟)
أين ألقاك؟، سؤال بسيط قاطع، به من الغرور و العنجهية ما يجعلها قادرة على رمي الهاتف بعيدا، الا أن فضولها هذه المرة كان اكبر من ان تفعل ذلك...

كانت تريد لقائه بالفعل، تريد أن تسمع ما يود قوله، و كأنها تنتظر شيء ما، لحظة انتظرتها طويلا، لكنها لا تزال متأخرة...
فتحت مسك شفتيها و قالت أخيرا بهدوء خافت، بلا تعبير أو حياة
(يمكنني الخروج وقت الراحة من العمل غدا و لقائك في المقهي الملاصق له)
لم تتوقع ان يجيبها بتلك السرعة و اللهفة
(سأكون هناك)
قالت مسك و هي تبعد شعرها الناعم عن وجهها بأصابعها الطويلة ببطىء.

(لكنني أخبرك الآن أنها ستكون دقائك معدودة، اتفقنا؟، و الآن اعذرني مضطرة الى اغلاق الخط. )
ساد الصمت للحظة قبل أن يناديها بقوة
(مسك!)
لم تتغير ملامحها و هي ترد عليه بجمود
(نعم)
تردد لعدة لحظات قبل أن يقول بنعومة
(شكرا لك)
حينها ابتسمت، ابتسمت نفس الابتسامة المائلة، ثم قالت ببرود
(العفو).

أغلقت مسك الهاتف ووضعته جانبا بينما تراجعت في مقعدها مجددا لتنظر الى السقف، بينما أصابعها تتحرك في خصلات شعرها بشرود، من منبته و حتى اطرافه و كأنها تختبر طوله...
بداخلها باب أغلقته منذ فترة طويلة، صفقته بمعنى أصح تجاه أي انسان يحاول أن يمس جزءا من روحها دون ارادتها...
و قد برعت في هذا حتى الآن...
لماذا اذن تشعر و كأنها...

لم تستطع أن تسأل نفسها السؤال، لأنها سمعت صوت رنين الباب، فعقدت حاجبيها ممتنة لهذه المقاطعة و كأنها قد وصلت بأفكارها الى منطقة غير مرغوبة، نظرت مسك بحيرة الى ساعة الحائط...
كانت تشير الى السادسة مساءا، و لا تعلم من يمكنه القدوم في هذا الموعد...
نهضت بتثاقل لتفتح الباب، الا أنها تسمرت و هي ترى الزائرتين الغير متوقعتين على الإطلاق...

ظلت مسك على وضعها جامدة الملامح قليلا، واسعة العينين و هي تنظر الى وجه جارتها وفاء...
و التي كانت تقف في الباب...
كانت مترددة و مرتبكة، الا أنها كانت مبتسمة...
لكن مسك لم تهتم بها قدر اهتمامها بالمرأة التي تقف خلفها...
لقد كانت هي نفسها والدة أمجد التي سبق و قابلتها!
المنطقة الغير مرغوبة!، لا تعلم لماذا عادت تلك العبارة الى القفز أمام عينيها...
تكلمت وفاء بحرج و قالت.

(مساء الخير يا مسك، كيف حالك؟ اعذرينا ان كنا قد طرقنا بابك دون موعد، لقد كانت خالتي في زيارة لي، و رغبت في النزول اليك لاقاء السلام، هل عطلناك عن شيء؟)
كانت مسك لا تزال صامتة بملامح جامدة تماما كالرخام، بينما وفاء تكثر من حديثها الودود، و ما أن صمتت و طال الصمت حتى ارتبكت قائلة
(هل فعلنا؟، هل عطلناك عن شيء هام؟).

للحظات لم ترد مسك عليها، بل كانت تنظر الى المرأة المتوسطة في العمر و المبتسمة تلقائيا على الرغم من أنها لا تبصر، ملابسها بنفس الذوق، بسيطة و بألوان هادئة...
قد تكون راقية الخامات الا أنها بسيطة التصميم جدا دون أي ميزة خاصة...
أما ملامحها فقد كانت ترسم الرضا و التفاؤل، لا غير...
أبعدت مسك عينيها عن المرأة اخيرا و نظرت الى وفاء قائلة بفتور.

(أنا أرتاح عادة في مثل هذا الوقت، لذا، لا، لم تعطلاني عن شيء هام)
اتسعت ابتسامة وفاء و ظلت منتظرة على الباب، الى أن رفعت حاجبيها ناظرة الى مسك في تساؤل...
فارتفع حاجبي مسك بنفس التساؤل و كأنها تنتظر ما ستقوله!
فقالت وفاء بمودة
(هلا سمحت لنا بالدخول لعدة دقائق؟)
ارتفع حاجبي مسك اكثر و كأنها صدمت من الطلب المباغت، فمالت بعينيها جانبا الى شقتها ثم أعادتهما إلى الزائرتين قائلة ببرود و اختصار على مضض.

(طبعا، تفضلا)
ابتعدت عن الباب ووقفت جانبا و هي ممسكة به بينما الغضب بدأ في الانتشار بداخلها على نحو متهور!
ما تلك الصفاقة!
كيف تأتيان الى الزيارة دون موعد مسبق؟، ما هذه التصرفات البدائية!
بدأ دمها يغلي على مهل بينما وجهها جامد القسمات...
تنظر الى وفاء التي كانت ممسكة بكف والدة أمجد و هي تساعدها قائلة
(على مهل يا خالتي، احذري).

لكن و ما أن مرت بها والدة امجد حتى رفعت يديها فجأة و تحسست كفي مسك الى أن امسكت بذراعيها قبل أن تشدها اليها قائلة بحرارة
(حبيبتي، تعالي الى أحضاني، دعيني أتنشق هذا العطر الطيب، كيف حالك يا حبيبة أمك)
اتسعت عينا مسك و هي تنخفض بالقوة اثر جذب السيدة لها بلهفة...
فأغمضت عينيها منتظرة أن ينتهي هذا العناق، لكنه طال و كأن تلك السيدة كانت تنتظرها منذ زمن طويل و قد عثرت عليها أخيرا...

ابعدت مسك نفسها عن والدة امجد ببطىء، و هي تنظر الى ملامحها البشوشة الغير مبصرة، ثم قالت بجمود
(تفضلي)
أمسكت السيدة بكف مسك و قالت بحبور
(ساعديني أنت)
ارتبكت مسك و عقدت حاجبيها، الا انها لم تملك سوى الإمساك بكفها و مساعدتها لتدخل بحذر بينما قالت وفاء مازحة
(من أكثر منك حظا الآن يا مسك!، لقد نلت شرف مساعدة خالتي الجميلة بناءا على طلبها الخاص و هذا نادر جدا، لقد بدأت أشعر بالغيرة).

من منك أكثر حظا!، لكم شعرت مسك بالغيظ و الغضب في تلك اللحظة...
و كان التزامها الصمت يعد ارادة قوية منها...
أغمضت عينيها للحظة و هي تأخذ نفسا عميقا كي تسيطر على أعصابها. ثم قادت والدة أمجد ببطىء الى أن ساعدتها على الجلوس الى أقرب أريكة، و ما أن همت بالإبتعاد، حتى تشبثت بها السيدة و جذبتها قائلة
(الى أين أنت ذاهبة؟، تعالي و اجلسي بجواري).

جلست مسك بجوارها رغما عنها و غضبها الداخلي يتزايد شيئا فشيئا، بينما تلك المراة لا تقبل بأن تفلتها أبدا...
اما وفاء فجلست على كرسي مقابل و هي تقول
(لقد أصرت خالتي على رؤيتك هذه المرة)
نظرت مسك اليها قائلة بعدم فهم
(هذه المرة!)
أومأت وفاء قائلة
(نعم، كانت تريد المجىء معي كي تقوم بواجب العزاء منذ أشهر، لكنني أخبرتها أنك لست مستعدة)
آآآه نعم لقد تذكرت...

بعد وفاة سليم، لقد اتصلت بها وفاء مرارا كي تأخذ منها موعدا لتقوم بواجب العزاء، الا أن مسك كانت تتهرب منها، حتى توالت الأشهر فتوقفت وفاء عن المحاولة...
حسنا لكن هذا ليس عذرا لهما كي يباغتاها بهذه الزيارة المفاجئة دون موعد، و كأنه فرض بالقوة!
ربتت والدة أمجد بكفها الحنون على ركبة مسك و هي تقول بلطف
(البقاء لله يا حبيبتي، لقد حزنت جدا للخبر)
التقطتت مسك نفسا غاضبا...
لكم تكره المجاملات الاجتماعية!

كيف يمكن لامرأة ان تحزن لوفاة ابن عم فتاة لم تقابلها سوى مرة واحدة، بينما لم ترى المتوفي اطلاقا...
ما تلك المبالغة!
أبقت مسك على هدوءها الظاهري دون أن تجيب فتابعت المرأة برفق حزين
(هل ترك الفقيد أطفال من بعده؟)
ارتبكت مسك من السؤال المفاجىء، لكنها قالت بصوت مكتوم
(لا، لم يكن له أطفال)
تنهدت والدة أمجد و قالت بحزن.

(لا أعلم إن هذا أكثر رحمة لزوجته، فلم يتيتم لها أطفال، أم أحزن لحالها في بقائها وحيدة قبل أن تحظى بطفل يملأ حياتها و يعوضها عن فقدها لزوجها)
صمتت و هي تتنهد بتعاطف ثم قالت
(عسى الله الا يحرم أحدا من الذرية، و يعوضها خيرا بصبرها على الإبتلاء)
أطرقت مسك بوجهها دون أن تجيب، لقد قررت التزام الصمت تماما...
لكن ملامحها كانت كئيبة، و كانت هذه الزيارة هي آخر ما توده في هذا اليوم تحديدا...

تطوعت وفاء لتقول بلطف
(كفى حديثا عن هذا الموضوع يا خالتي، لقد بان الحزن على وجه مسك و نحن لم نأت اليوم كي نجدد أحزانها)
ارتفع حاجبي والدة امجد و اتسعت عيناها بحنان أمومي مفاجىء، فرفعت كفها الى أن لامست وجه مسك، فاحتضنت ذقنها و هي تقول بحرارة و لطف
(لا يا حبيبتي، لا تحزني، إنه طريق و الكل يجتازه، رحمه الله و اسكنه فسيح جناته)
لم ترد مسك مجددا، فشدتها السيدة بلطف و هي تقول مبتسمة
(تعالي الى حضني يا قمر).

أغمضت مسك عينيها و هي تتشنج، هامسة لنفسها بتوتر و غضب
كفى عناقا، كفى، لا أطيقه...
الا أنها وجدت وجهها يرتاح على كتف المرأة بحنان و هي تربت على شعرها قائلة...
(كم أنت جميلة يا حبيبتي، تبدين كالبدر)
رفعت مسك ناظرة اليها قليلا بدهشة، فضحكت وفاء و هي تقول بخبث
(لا تتعجبي هكذا يا مسك، لقد وصفك أمجد لها بالتفصيل و خالتي لم تتوقف يوما منذ أن تقابلنا في المرة الأخيرة عن طلب رؤيتك، لكن الظروف لم تكن سانحة).

احمرت وجنتي مسك قليلا، و الغضب في داخلها ينتشر و ينتشر، مرسلا ذبذبات خطيرة في الجو...
لذا و حقنا للدماء، حاولت النهوض قائلة بأدب بارد
(لحظة واحدة)
الا أن والدة أمجد أمسكت بكفها قائلة
(الى أين أنت ذاهبة؟)
زفرت مسك دون صوت و قالت بصبر على وشك النفاذ
(سأحضر لكما مشروبا، ماذا تفضلان؟)
نهضت وفاء من مكانها و هي تقول ببساطة
(ارتاحي أنت يا مسك، أنا سأعد الشاي)
اتسعت عينا مسك و هي تقول بصدمة
(لا، لا، من فضلك اجلسي).

الا أن وفاء قالت مبتسمة و هي في طريقها للمطبخ بالفعل
(أنا مصممة، أنا أعرف طريق المطبخ فشقتك كشقتي، ارتاحي انت و تبادلي الحديث مع خالتي)
فغرت مسك و هي ترى وفاء تتحرك في شقتها بأريحية و دون خجل
فهمست لنفسها
ما الذي يحدث؟، ما تلك الجرأة الأقرب للوقاحة؟، لكن كف والدة أمجد أعادتها الى وعيها و هي تربت على ركبتها فالتفتت مسك اليها و هي تسألها
(كيف حالك يا حبيبتي؟، اشتقت اليك).

زمت مسك شفتيها بنفاذ صبر و قالت من بين أسنانها
(لم نتقابل الا مرة واحدة فقط، هل معقول أن تشتاقي إلى سيدتي؟)
اتسعت ابتسامة المرأة و قالت ببشاشة
(أولا لا أريد سماع كلمة سيدتي تلك، أنا أسمي أم أمجد، و لك أنت فقط، يمكنك أن تدعينني بخالتي مثل وفاء، لكن لو أردت من الآن يمكنك أن تدعينني بأمي)
هتفت مسك مصدومة قبل أن تستطيع منع نفسها
(أمي!)
رقت ملامح والدة أمجد أكثر و قالت بحنان.

(خرجت من فمك بطعم السكر، ما أجملها منك)
تنهدت مسك و هي تنظر بعيدا و قد بدأ توترها يهدد بأن يفضحها، فقالت والدة أمجد متابعة
(ثانيا وهو الأهم، إن لم أشتاق الى عروس ابني فلمن أشتاق اذن؟، اشتاقت لك الجنة يا حبيبتي)
التف رأس مسك بقوة لتنظر اليها، ثم هتفت هذه المرة بصدمة
(عروس ابنك!، لكن)
قاطعتها أم أمجد بحنان.

(لقد تأخرنا في طلب يدك من والدك، لكن الظروف التي مرت بها عائبتك لم تكن مناسبة، لذا تحججت اليوم كي آتي و اراك)
حكت مسك جبهتها و هي تقول بخفوت
(ياللهي!)
الا أن أم أمجد قالت بنعومة
(منذ وقت طويل، لم أشعر بولدي أمجد يتحدث عن فتاة كما سمعته يتحدث عنك)
رفعت مسك وجها مرتبك قليلا و قالت بفتور
(حقا!، كيف)
ابتسمت أم أمجد لتقول برقة و هي تربت على كف مسك.

(لمست في صوته اهتماما خفيا، حاول أن يخفيه عني، الا أن أذني المرهفة التقطته، لقد بدأ ولدي يكبر في العمر و أنا أكثر، و لا امنية لي في الحياة سوى أن أحمل طفله بين ذراعي قبل أن أموت)
امتقع وجه مسك فسارعت الى خفضه و هي تقول بجمود
(نعم، حقك)
قالت أم أمجد مستبشرة.

(لا أفكر في شيء تقريبا منذ أشهر سوى في هذا الطفل الذي انتظره، الغالي ابن الغالي، ابن حبيب عمري، أريد أن أراه سعيدا مرتاحا في بيته و مع عروسه، لقد تعب من أجلنا كثيرا و آن له أن يرتاح)
ظلت مسك صامتة، ناظرة الى البعيد، لكنها لم تدرك بأن كفها الحرة كانت تغطي كف ام امجد و كأنها تطلب الدعم من انسانة غريبة...
قالت أم أمجد بهدوء و أمل
(هل تفكرين في ترك عملك يا مسك؟).

ارتفع حاجبي مسك و هي تنظر اليها، ثم قالت بعدم فهم
(ماذا؟، بالطبع لا، لكن لما السؤال؟)
ابتسمت أم أمجد بخجل و قالت
(كنت أتمنى لولدي ربة منزل، متفرغة لتربية أطفاله، ليس تزمتا مني، لكن انت ترين وضعي، لن يمكنني المساعدة كثيرا و كم يحزن هذا قلبي، حين أسمع عن الجدات و ما يقدمنه من مساعدات الى أحفادهن، أشعر بالشفقة على أحفادي)
ضحكت أم أمجد فجأة بحنان و قالت متابعة.

(هل تصدقين هذا!، أنا لا أتخيل وجودهم فحسب، بل أنني أشفق عليهم ايضا و أتمنى لهم جدة أكثر نفعا مني)
ازدادت شحوب وجه مسك، و غارت عينيها في نظرة شاردة طويلة، بينما تابعت أم أمجد قائلة برقة
(فهمت من أمجد أن، والدتك متوفية)
ابتلعت مسك الغصة في حلقها و قالت بصوت متزن الا أنه بدا مختنقا قليلا
(نعم والدتي متوفية، منذ سنوات).

لا تذكر بأنها أخبرت أمجد عن ذلك، لكنها لم تشغل بالها كثيرا عن كيفية معرفته بوفاة والدتها...
أما والدته فضمتها الى صدرها قائلة
(يا حبيبتي، رحمها الله، اعتبريني والدتك من اليوم، كنت أتمنى أن أكون أكثر نفعا، لكن ما باليد حيلة، الحمد لله على كل حال، لقد تحمل أمجد عبء مساعدتي لسنوات طويلة، قلبي راض عنه و عنك يا حبيبتي)
رفعت مسك ذقنها و التقطت أنفاسها قائلة بحزم زائف
(هل يعلم السيد، هل يعلم أمجد بزيارتك؟).

اتسعت ابتسامة والدته اكثر بخبث و هي تقول
(لا، لقد تهورت من نفسي حين لم اطيق الإنتظار أكثر)
أومأت مسك بوجهها و هي تقول بصوت مكتوم
(نعم، كما توقعت)
ثم رفعت وجهها و نظرت الى السيدة قائلة بهدوء
(لكن كيف وصلت الى هنا اذا لم تمانعي في السؤال؟، على ما أعتقد أن أمجد لا يزال في العمل، تركته هناك منذ ساعتين و كان لديه المزيد من الأوراق عليه انجازها)
ابتسمت ام امجد اكثر، ثم قالت بخبث.

(احضرتني مهجة ابنتي، شقيقة أمجد، أنا لدي ثلاث أبناء، أمجد هو الأكبر و مهجة و مصطفى)
بهتت ملامح مسك و قالت بتوجس
(اخته؟، و أين هي؟)
أجابتها أم أمجد قائلة
(تنتظرنا في شقة وفاء، لم نرد أن نثقل عليك بزيارة ثلاثتنا، على أنها أكثر منا حماسا و هي على الأرجح الآن تتقلب على الجمر كي تراك)
اصدرت مسك صوت واهي يبدو كضحكة باهتة، ثم قالت بلا تعبير
(كم هي مراعاة منك سيدتي)
اجابتها ام امجد بتصميم حاسم...

(خالتي، أو أمي أفضل)
ردت مسك بقوة قليلا
(خالتي أم أمجد، اسمعيني للحظة رجاءا)
لكن أم أمجد قاطعتها أخيرا قائلة بمرح
(مهجة متزوجة و لديها أربعة أطفال، أمجد يطلق عليهم جيش التتار)
ارتفع حاجبي مسك و قالت
(أربعة!، ألم تتسرع قليلا في مثل هذا العدد!)
ضحكت أم أمجد و قالت بحنان.

(لقد خسرت الكثير من صحتها بالفعل، زوجها كان يريد الأطفال كلهم متقاربي الأعمار و حين بدأ وضعهم المادي يتأثر، سافر للعمل في الخارج و تركها هنا هي و اطفالها، لكن أمجد يتحمل مسؤوليتها هي و اطفالها و يساعدها دائما، و يخبرها باستمرار مهونا عليها الأمر، أن أطفالها هم الجيل الجديد لأسرتنا الصغيرة وهو يريد لتلك الأسرة أن تكبر و يتزايد عدد أفرادها، انه يعشق الأطفال، لو تريه يلعب معهم، ستظنين بأنه قد عاد طفلا صغيرا، لقد حمل المسؤولية منذ وقت طويل بعد وفاة والده رحمه الله، و لم يعش الكثير من طفولته و مراهقته، لقد ربى اخويه و اصبح لهم والدا لا أخا).

كانت مسك تنظر اليها بنظرات فارغة، ثم اجابت في النهاية بكلمة واحدة فقط
(نعم)
ترددت أم أمجد قليلا ثم رفعت أصابعها و لامست شعر مسك و قالت بخجل
(الا تفكرين في الحجاب يا مسك؟)
ارتفع حاجبي مسك اكثر، حتى كادا أن يلامسا منابت شعرها!، تلك السيدة لا تنفك عن ادهاشها و صدمتها كل لحظة، لكنها تمالكت نفسها و قالت باتزان
(لماذا السؤال تحديدا؟)
اجابتها أم أمجد بمزيد من الخجل.

(آآآه، أنا لا أقصد أن أضايقك، لكن أمجد لطالما فضل أن يتزوج من فتاة محجبة)
فغرت مسك شفتيها باستنكار، و كانت على وشك الصراخ بغضب ملوحة بكفيها، الا أن منظر وجه السيدة الهادىء و المليء بالأمل و السعادة، كان يمنعها و يجعلها تتمسك بذرة التهذيب المتبقية لديها...
الا أنها ظلت تلوح في الهواء و تضغط على أسنانها حتى كادت أن تحطمها، بينما تابعت أم امجد قائلة برقة.

(شعرك ناعم كالحرير، من المؤكد ان أمجد يغار من رؤية الجميع له)
أرادت مسك الصراخ عاليا و بسخرية أن غدير لم تكن محجبة؟، و لا تظن أن أمجد قد اعترض يوما...
و لا تظن أن غدير نفسها فكرت في الحجاب يوما، علي الرغم من أنها ارتدته و خلعته أكثر من مرة، الا أن مسك تعرفها أكثر من نفسها...
كانت تفعل هذا كل مرة لسبب معين، و ليس عن اقتناع...
ترى هل تعرف أم أمجد عن غدير؟

أسقطت مسك كفيها و قد شعرت فجأة بحالة من اليأس و الكآبة، و نظرت حولها بنظرات غائرة...
ما اللذي يحدث؟
ما تلك الأسرة الغريبة؟، و لماذا اقتحمت حياتها دون اذن؟
أسرة متراجعة فكريا، تتعامل مع الفتاة المترشحة للزواج من ابنها و كأنها ملكية خاصة، قد يتوجب اجراء بعض التعديلات عليها...
لا عجب أن هذا البغيض هو نتاج تلك الأسرة بتفكيرها المتراجع...
ارجعت مسك ظهرها للخلف و هي تكتف ذراعيها متنهدة بحزن...

شيء ما بعث من حولها غيمة من الكآبة، طغت على موجات الغضب، و كانت تفضل الغضب أكثر!

اثناء قيادته لسيارته متجها إلى بيتهكان يشعر بنوع من الخيبةشيء ما أصابهاحباطا تملكه، منذ فترة قصيرة لا يستطيع تفسيرهتحديدا منذ ان رفضته مسك الرافعيبداخله حالة من الغضب العارم من نفسه قبل أن يكون منها، لم يكن شديد الاعجاب بشخصها منذ البداية، فلماذا اذن تلك الموجة من الاحباط؟ لم يكن يوما من هذا النوع من الرجال، ممن تخدعهم كبرياء حمقاء اقرب الى الكبر لمجرد ان فتاة رفضت عرضه للزواج!، من حقها ان ترفض، ضرب امجد المقود فجأه وهو يهتف محادثا نفسه بغضب(لا ليس من حقها الرفض، لقد تعمدت التلاعب بعرضي فلم تكن حاسمة في رفضه من البداية لقد كان كلام الجميع صحيحا عنها منذ البداية، ما هي الا مجرد مغرورة متكبرة، تتلاعب باعجاب الجميع بها)زفر بصوت مكتوم، و تمالك نفسه كي يركز على الطريق، بينما عيناه تلمعان بذلك الغضب من الذات، ثم همس مجددا من بين أسنانه، (كان عليك الحذرمنها يا أمجد، كليوباترا هي، لم يكن عليك النظر اليها قبل محاربتها، فقبلك هزمت رجالا بغرورها)كيف له أن يواجهها الآن في العمل، وجها لوجه، و كل منهما يعرف أنها حققت نصرا رخيصا عليه، أمجد الحسيني تقدم لطلب يدها و هي كمسك الرافعي، رفضته بالطبع!، ضرب المقود مججدا بغضب وهو يهمس من بين أسنانه(من أين جائتك فكرة الزواج بها بالله عليك؟، و لماذا؟، هل نفذت فتيات الكوكب و لم تتبقى منهن سوى ألمظ الرافعي، تبا لها)و أثناء موجة الغضب التي جعلته يهمس شاتما من بين أسنانه، سمع رنين هاتفه، فرفعه الى أذنه ما أن رأى اسم أخته و رد عليها(السلام عليكم يا مهجة، كيف الحال حبيبتي؟)ردت عليه مهجة بصوتها الحنون الأقرب الى صوت أمهما، (و عليكم السلام و رحمة الله يا حبيب أختك، أين أنت؟، الازلت في العمل؟)رد عليها أمجد بصوت رقيق و قد ساعدته نبرة أخته في التخلص من بعض ضيقه، (أنا في طريقي للبيت، لقد تأخرت اليوم قليلا)عقد أمجد حاجبيه وهو يسمع ضحكة قصيرة من أخته، ضحكة خبيثة لم تطمئنه، قبل أن تقول بمرح(حسنا أردت فقط أن أطمئنك كي لا تقلق حين تصل الى البيت و لا تجد أمي هناك، فهي معي)اتسعت عينا أمجد على أقصى مداهما و هو يشعر بقلبه يسقط أرضا، فهتف فجأة بقلق(معك؟، كيف معك؟، أين أنتما؟، هل أمي مريضة؟، هل انتما لدى الطبيب؟، تكلمي يا مهجة)قالت مهجة بسرعة و حرارة(لا تقلق يا حبيبي، امي في احسن حال، أنها معي)هتف أمجد بقوة و قلقه يتضاعف(كيف لا أقلق، أمي لا تخرج الا بصحبتي فقط، أين أنتما يا مهجة، تكلمي فقلبي على وشك أن يقتلع من مكانه)هتفت مهجة بصدق(والله يا حبيبي أمك في أحسن حال، لقد خرجنا قليلا فحسب، اليس من حقي اصطحابها الى حيث تريد أم أن الدور يقتصر عليك فقط؟، الا يكفي أنك ترفض اقامتها عندي؟)قال أمجد بصوت متشنج(توقفي عن اللعب على أوتار العواطف يا مهجة، أمي لا تخرج بدوني، أين أنتما و كيف خرجتما)ردت مهجة متنهدة بيأس(لقد استقلينا سيارة أجرة)هتف أمجد بغضب(سيارة أجرة يا مهجة؟، ماذا لو حدث أي شيء؟، ماذا لو تعثرت أمك أو أصابها مكروه، ماذا لو تاهت؟)صرخت به مهجة بنفاذ صبر(أنا أم لأربعة أطفال يا امجد، هذا يعني أنني لن أضيع أمي مطلقا، هلا توقفت عن الحماقة؟)هتف أمجد بقوة(أين أنتما الآن؟، سآتي لآخذكما)ترددت مهجة قليلا مما جعل أمجد يقول بقلق متضاعف(مهجة، بالله عليك، هل أمي بخير؟، هل هي مريضة؟)تأففت مهجة و هي تقول(لا حول و لا قوة الا بالله، والله أمك بخير، حسنا نحن في زيارة لابن خالتك)عند هذه الجملة شعر أمجد فجأة بأن كل قلقه تحول الى جليد تصلب في منتصف عموده الفقري، فقال بلا تفكير و التوجس ينتشر في جسده كالنار في الهشيم(أيهن؟)ردت مهجة و قد تألقت بنعومة خبيثة؟ (أمممممم ترى أي واحدة؟، هل هي مثلا التي تسكن فوق ست الحسن و الجمال؟، عروس المستقبل؟)أصدرت سيارة أمجد صوت صريرا عاليا وهو يضغط على المكابح، متجها الى جانب الطريق قبل أن يوقف السيارة تماما متجاهلا عددا من السباب و الشتائم المنطلقة من سيارات خلفه، انه حتى لم يسمعها، كان كل تركيزه منصبا على ما تفوهت به مهجة للتو، فقال بصوت متشنج مرتعب(اياك، اياك. اياك أن يكون ما أفكر به صحيحا؟، سأقتلك يا مهجة و أشرب من دمك اقداحا)لكنها و بدلا من أن ترد عليه، هتفت به بغضب(كيف تنوي الزواج يا أمجد و تختار العروس و تخفي الأمر عني؟، كيف تفعل هذا؟، أنا غاضبة منك جدا، لكنني أجلت الشجار قليلا الى بعد أن يتمم الله أمر خطبتك على خير)اتسعت عينا أمجد بذهول وهو يقول(خط،؟، مهجة أين أمي؟)عادت مهجة لتضحك من جديد ضحكة أرسلت في جسده موجة من الرعشة المرتابة، ثم قالت بدلال و أنوثة(تحت)تصلب أمجد تماما، و توقف قلبه و زهقت أنفاسه وهو يقول(تحت أين؟)قالت مهجة بامتعاض(تحت أين بالله عليك؟، تحت الأريكة مثلا؟، تحت عند العروس تزورها)لقد تحققت المأساة، وقعت الكارثة، ضرب أمجد جبهته بكف يده بقوة، قبل أن يخفضها ليضرب بها المقود هاتفا بغضب(لااا، لاااااا، لاااااااا، تبا لك يا مهجة، أقسم أن، سأقتلع قلبك و ألقي به في أقرب سلة مهملات)هتفت مهجة بغضب هي أيضا(لماذا؟، أمك هي من طلبت و ذهبت، اطمئن لن تتكلم في الموضوع رسميا، لقد ارادت فقط أن تسلم على المذكورة)أغمض أمجد عينيه وهو يقول بخفوت(ياللهي، لن يكون وضعي أسوأ، يا فرحة المذكورة بالمزيد من الانتصار، منك لله يا مهجة)قالت مهجة باستياء(لا تدعو علي، أنا لدي أطفال أريد أن أرعاهم، أمك هي من طلبت و أنا كابنة بارة نفذت لها ما تريده، حتى أنني نفذت أوامرها بألا أنزل معهما، على الرغم من احتراقي رغبة في رؤية العروس، هل هي جميلة يا أمجد؟)هتف أمجد بجنون(اخرسي، اخرسي، كلمة اخرى و اقتلع أنفك و اثبته في الحائط، هل أنت في شقة الخائبة الأخرى وفاء؟)قالت بقنوط كالأطفال(نعم)هتف بقوة و حنق(اذن ابقي عندك و لا تتحركي، سآتي لآخذكما، تبا لك يا مهجة، ظلمك من سماك مهجة، انت ابتلاء)أغلق الهاتف و رماه على المقعد المجاور له، ثم تحرك بسيارته وهو يشتم بكل قوة، ماذا يفعل الآن؟، كيف يتصرف؟، يا فرحة ألمظ فيك يا أمجد، ياللشماتتها الآن!، تذكر عبارة عادل امام الشهيرة في احدى المسرحيات، حينها فقط زاد السرعة وهو يشتم مجددا بصوت عال، و خلال دقائق قليلة كان قد وصل الى البناية التي تقطنها وفاء و مسك، فأوقف السيارة و نظر اليها بوجه قاتم من شدة الغيظ و الغضب، لو كان عليه لكان اتصل بأمه و طلب منها أن تنزل على الفور، الا أنه كان مضطرا لرؤية مسك، ليؤكد لها بنبرة قاطعة أنه لم يرسلهما و أن الموضوع قد انتهى، سيخبرها بهذا من أمام الباب و بكل ترفع، ثم يصحب أمه و الغبية ابنة خالته و يغادرها للأبد، كانت مسك لا تزال على حالها، تنقل عينيها الجامدتين بين أم أمجد و وفاء المبتسمة تلقائيا و كأنها ولدت بهذه الإبتسامة، الى أن تنحنحت أم أمجد و انحنت لتلتقط حقيبتها الموضوعة أرضا، فأخذت تفتشها بأصابع حساسة و هي تقول مبتسمة(لم أحضر معي هدية تليق بك يا مسك، لكن لدي شيء غالي بقلبي لك، و أتمنى أن تقبليه)أخرجت علبة من القطيفة الحمراء، ففتحتها بأصابعها المكتنزة و هي تمدها الى مسك قائلة بسعادة(هذا الخاتم كان لأمي، كان لديها خاتمين، أحدهما بفصوص خضراء أخذته مهجة يوم خطبتها، أما هذا ففصوصه سوداء براقة، بلون شعرك الجميل، وهو من نصيبك)نظرت مسك الى الخاتم فاغرة شفتيها، كان خاتما ضخم من الذهب الأصفر، الفصوص السوداء به متراصة حول نفسها في دوائر لتبدو في النهاية كوردة سوداء لامعها يتخللها الأصفر الذهبي، كان الخاتم رغم ضخامته، الا أنه يبدو كتحفة فنية، أو أثرية، رمشت مسك بعينيها قبل أن تأخذ نفسا عميقا، ثم قالت بهدوء خافت(إنه رائع يا سيدتي، لكنني لا أستطيع القبول به)انعقد حاجبي أم أمجد بانكسار خاطر واضح، لكنها قالت بصوت متقطع(لكن لماذا؟، ألم يعجبك؟، أتذكر أنه كان جميلا)اطرقت مسك بوجهها قبل أن تقول بخفوت(أظن أنه من الأفضل أن تتكلمي مع أمجد قبلا، هناك أمور اختلفت)أعادت أم أمجد العلبة الى حجرها و قالت بوجه ممتقع(أي أمور، آخر مرة تكلمت معه، كان متحمسا و كان على وشك أخذ موعدا من والدك!)لعقت مسك شفتيها، الا أنها رفعت ذقنها و نفضت شعرها للوراء و هي تقول ببساطة(ربما كان كلامك مع أمجد أفضل، لكن أنا آسفة، لا يمكنني القبول بالخاتم)أغلقت أم أمجد العلبة الصغيرة ببطىء و عي تنظر أمامها بعينين منكسرتين، و لم ترد، مما جعل مسك تنظر اليها بطرف عينيها، فلعنت هذا الضعف المتسرب الى نفسها، ليس من المفترض أن تشعر بالأسى عليها، تلك السيدة جريئة أكثر من اللازم، و مقتحمة لحياة الغير في سبيل ما يريده ابنها، كما أنه لا تمتلك أي أصول للزيارات و الخصوصيات، عليها أن تعرف من الآن أن بنات الناس لسن رهن اشارة اصبع من اصابع ابنها الغالي، حسنا انها تبالغ قليلا، لكن عليها أن تكون حازمة في تعاملها مع هذا النوع من البشر، سمعت صوت رنين جرس الباب، فنهضت مسرعة، و هي ترحب بتلك المقاطعة التي منحتها الفرصة للهرب مؤقتا من تلك النظرة المنكسرة، فتحت مسك الباب بسرعة أكثر من اللازم، الا أنها توقفت مكانها تلهث قليلا و هي تنظر، اليه!، المنطقة الغير مرغوبة بنفسها تقف على باب بيتهاكان واقفا منخفض الرأس، ثم رفعه ببطىء كي ينظر اليها، على الرغم من انه حضر الكلمتين اللتين آتا خصيصا كي يلقي بهما في وجهها دون النظر اليها، لكنه فعل، و فعلت هي، نظر اليها فارتبكت و تأرجح الباب في يدها، كانت ترتدي حلة رياضية بيتية و قد تركت شعرها منسابا على كتفيها بحريته، أما عينيها فكانتا قلقتين و هي تختلس النظر اليه، حينها فقط سمع عبارته مجددا ترن في أذنه كليوباترا هي، لم يكن عليك النظر اليها قبل محاربتها، فقبلك هزمت رجالا بغرورها، فتح أمجد فمه ليقول بخفوت(أنا آسف)اتسعت عينا مسك و فغرت شفتيها قليلا قبل أن تقول بعدم فهم(ماذا؟)رد عليها أمجد بنفس الخفوت وهو ينظر الى عينيها(أنا آسف على ما حدث، لم أجد الوقت لأخبر أمي عن انتهاء الأمر و للأبد. لم أكن أعلم بزيارتها لك)أخفضت وجهها و هي تلعق شفتيها بتوتر، فانساب شعرها حول ذلك الوجه الكلاسيكي الأنيق، مما جعله ينظر اليها مجددا، قالت مسك بخفوت(لا بأس، أعلم أنك لم تكن على علم بهذا)رفعت وجهها اليه فأخفض وجهه وهو يمتنع عن النظر اليها بقوة ارادة، كان من الواضح على هيئتها أنها ترتاح في بيتها دون أن تعلم بمجىء كل هذا الجمهور المفاجىء، و كانت جميلة، جميلة بشكل استثنائي، الحقيقة أن مسك الرافعي جمالها استثنائي في كل حالاتها، عليه ان يعترف بهذا، تكلم امجد اخيرا بخفوت ناظرا الى الأرض، و يداه في جيبي بنطاله بيأس(هلا اخبرتهما بوصولي)فتحت شفتيها، ثم سارعت بالقول(آآآه، نعم، بالتأكيد، لحظة واحدة)نظرت اليه للحظة، فاختلس اليها نظرة جعلتها تستدير بسرعة و تدخل الى شقتها، بينما وقف أمجد مكانه رافعا رأسه وهو يتنهد بعمق، ما هذا الغباء في التعامل؟، إنه يبدو كالأخرق، رفع رأسه حين أطلت وفاء و هي تسند والدته بحرص، فحدجها بنظرة مهددة غاضبة، مما جعلها تسارع بخفض عينيها و هي تقول(أمجد واقف أمام الباب يا خالتي)رفعت أمه وجهها المنكسر و هي تقول بخفوت(أمجد حبيبي)عقد أمجد حاجبيه وهو يقول بقلق(هل أنت بخير يا أمي؟)ردت أمه بابتسامة حزينة(نعم حبيبي أنا في أحسن حال، لقد أتيت دون اذن منك، لا تغضب مني)ارتفع حاجبي مسك و هي تتسائل في صمت اذن منه هو؟، هل اشتروا الشقة؟، ما تلك الأسرة ذات العشم الزائد؟، و ما جعل حاجبيها يرتفعان أكثر هو نبرة أمجد الهادئة(مستحيل أن أغضب منك يا حبيبة؟، وفاء هلا ساعدت أمي في الذهاب الى المصعد، أريد الكلام مع مسك للحظات)أومأت وفاء برأسها ثم ساندت والدته و هي تقول بخفوت(هيا يا خالتي)ابتعدا عنهما ببطىء، فالتفت أمجد الى مسك قائلا بخفوت كي لا يسمعاه(حسنا لقد اعتذرت لك لكن هلا اخبرتني الآن لماذا تبدو أمي منكسرة الملامح الى هذا الحد؟)وضعت مسك كفيها في خصرها و هي تنظر اليه في وقفة متحدية لتقول بتهديد خافت(لحظة، لحظة، هل تحاسبني؟)غصبا عنه رمقتها عيناه في وقفتها المستفزة، و لم تدرك أن تلك العينين قد فتنتا بها، مما جعله يسارع بخفض وجهه وهو يقول بخفوت متذمر(أنا لا أحاسبك، لكن أمي امرأة مريضة و ضريرة، هل تقبلها بعفويتها التي قد تبدو جريئة في بعض الأحيان أمر شاق تماما؟)هتفت مسك من بين أسنانها همسا(و من أخبرك انني لم أتقبلها؟)أشار أمجد جانبا حيث تقف امه و ابنة خالته على مسافة قريبة، ثم همس من بين أسنانها(انظري الى وجهها و أنت تعرفين الجواب)مدت مسك وجهها و همست بغيظ و شراسة(هذا لأنك لم تخبرها بقراري، كبريائك الذكوري رفض الاقتناع بأن هناك امرأة تجرأت و رفضت عرضك الكريم للزواج، أنت السبب في الانكسار البادي على وجه أمك، لأنني بكل تهذيب اضطررت الى رفض خاتم جدتك التي كانت تريد اهدائه لي بمناسبة قرب الخطبة السعيدة)عقد امجد حاجبيه و قال بصدمة(هل حاولت اهدائك الخاتم؟، خاتم جدتي الأسود؟) كم يشبهها هذا الخاتم؟، كيف لم يلحظ هذا من قبل؟، الا ان مسك لم تلحظ شروده، بل قالت بعنف(نعم حاولت، ربما كنت تفضل أن آخذه منها شاكرة، ثم ارفض الخطبة فيما بعد؟)زم أمجد شفتيه و ضيق عينيه، ثم قال اخيرا بخفوت(هلا اخبرتني ماذا قالت لك أيضا؟)رفعت مسك ذقنها فانسابت نظراته على شعرها الذي تراجع للخلف و هي تقول بخيلاء(طلبت مني ترك العمل للتفرغ للأولاد، و التزام الحجاب)أغمض عينيه وهو يقول هامسا بخفوت(آآآه يا أمي، ما هذا الموقف الذي وضعتني به)الا ان مسك لم تتراجع بل تابعت بنبرة بدت باهتة قليلا(و أخبرتني كم أنت متلهف للحصول على الكثير و الكثير من الأطفال)نظرت اليه نظرة طويلة بصمت، بينما هو يبادلها النظر، قبل ان يقول بصوت جامد(على ما يبدو أنك لا ترغبين في الأطفال من الأساس!)ساد الصمت بينهما طويلا، ثم رفعت ذقنها اكثر و همست بترفع(نعم، أنا لا أحتاج للأطفال، أنا راضية بحياتي كما هي)حينها لم يرد عليها أمجد على الفور، بل رمقها من قمة رأسها و حتى أخمص قدميها، ثم قال أخيرا بمنتهى الهدوء و بابتسامة مهذبة(و أنا لا أراك أما مناسبة تليق بأطفالي)اهتزت حدقتي مسك قليلا، وارتبكت ملامحها للحظة قبل أن تتكفل ابتسامة مصطنعة و هي تقول بأناقة(جيد، يبدو أن كل منا قد عاد الى مساره الصحيح)أومأ أمجد برأسه تهذيبا وهو يقول بنفس الابتسامة الباردة(على ما يبدو، و الآن اسمحي لي، يجب أن أذهب الى أمي فقد طال انتظارها)رفعت مسك وجهها الأنيق و قالت بترفع(هيا، الحق بأمك)ثم أغلقت الباب في وجهه دون حتى القاء التحية، ظل أمجد واقفا مكانه وهو يعض على شفته السفلى بينما النيران تغلي في صدره على مهل فتحرقه أكثر، لكنه سرعان ما سيطر على نفسه و استدار متجها الى أمه و ابنة خالته التي كانت تنظر إلى ما يحدث بنظرة كئيبة، بينما والدته لا ترى لحسن الحظ، أما مسك فقد استندت الى الباب المغلق و هي تتنفس بسرعة، ثم لم تلبث أن رفعت يدها لتمسح دمعة حارقة. اقتلعتها بعنف قبل أن تطول وجنتها، ثم ابتسمت بأناقة...

نفس الجلسة، و نفس الساق فوق أخرى، و عيناها تراقبان الجالس أمامها يتلاعب بفنجان قهوته، و كأنه يحاول فتح الحوار دون أن يجد السبيل، كانت تراقبه بصمت، لا تترك منه اي انفعال الا و تسجله داخلها، رأته يبتسم أخيرا محدقا في الفنجان، ثم قال دون أن يرفع وجهه اليها(الشعر القصير يليق بك، حين أتذكر ثورتي عليك كلم قصصت أطرافه، لا أتخيل أنه يعجبني الآن بتلك الصورة الأنيقة)ساد صمت طويل بينهما و مسك تراقب ارتباكه بدقة، لا يزال جذابا، لكن الشقاوة قاربت على الاختفاء من عينيه و ابتسامته!، لم يعد نفس الفتى البراق الذي يلفت الأنظار اليه من مجرد ابتسامة، قالت مسك بنعومة و هي ترفح الفنجان الى شفتيها(هذا الشعر لا يعد قصيرا، لقد تجاوز حدود كتفي، انت لم تراه حين كان قصيرا بحق، كشعر صبي مراهق، و الأسوأ، رأسي خالية من الشعر تماما)ضاعت الابتسامة عن شفتيه و ازداد تقليبه للقهوة في فنجانه حتى باتت سائلا لا شكل له، لقد تعمدت مسك ترك شعرها اليوم حرا طليقا متطايرا في الهواء بنعومة، و اعتنت بمظهرها جيدا، و لم تنسى احمر الشفاة القاني الذي نادرا ما تضعه، حتى الإبتسامة المدروسة لم تنساها، ارتدتها مع حذائها ذو الكعب العالي، قالت مسك بتهذيب و لطف(كيف حال غدير؟، لم أراها في العمل منذ عدة أيام!)الآن لم يفقد ابتسامته فحسب، بل انعقد حاجبيه و تلبدت ملامحه كلها، لكنه لم يرفع وجهه لها، بل قال بصوت متوتر بعد فترة صمت طويل(لقد فقدت طفلها)اتسعت عينا مسك بصدمة حقيقية، ثم قالت بتعجب(حقا؟، كيف حدث هذا؟)هز أشرف كتفيه و قال بخفوت(دون أي سبب، كان حملا غير مستقرا، لكنها تبالغ في ردة فعلها بالنسبة لكونها فقدته في بداية الحمل، تبكي ليل نهار و عازفة عني تماما و كأنني السبب في فقدانها للطفل!)رفع كفيه مستسلما وهو يضحك باستهزاء مرير، نظرت اليه مسك ثم قالت بهدوء(لا تبدو حزينا لفقدانك للطفل!، اليس طفلك أنت أيضا)هز أشرف كتفيه و قال باستسلام(بالطبع حزنت لفقده، الا أن على الإعتراف بأنني لست مولعا بالأطفال تماما)راقبته مسك طويلا ثم قالت بخفوت(نعم أعرف هذا، لم تكن الأبوة هي حلمك الأول، لذلك لم أستطع أن أمنحك العذر حين تركتني، كانت خيانة مع سبق الإصرار، لا دخل للأطفال في الأمر)نظر اليها مبهوتا من كلامها الصادم المفاجىء، فغر شفتيه للحظة قبل ان يقول بوجوم(مسك)ابتسمت ابتسامة من اجمل ابتسامتها و هي تقول بنعومة مميزة(نعم؟)فتنته ابتسامتها، فنظر اليها طويلا و بداخله شوقا اليها منذ سنوات، فمال فجأة الى الطاولة و همس من بين أسنانه(لا تتزوجي زاهر، اياك)ارتفع حاجبي مسك ببراءة و رفعت فنجانها الى شفتيها مجددا و هي تقول بدهشة زائفة(هل عرفت بالأمر؟)هتف أشرف بقوة(بالطبع عرفت، اخبرني والدي، و بات الجميع يعلمون في العائلة، كيف تقدمين على فعلة كهذه؟، هل جننت يا مسك؟ )بينما هي تنظر اليه مبتسمة بأناقة، كان أمجد يدخل الى المقهى حيث اعتاد في كثير من الاحيان الخروج من العمل و المجيء الى هنا طلبا لكوب ورقي من القهوة، لا يستسيغه الا من هذا المكان كمعظم العاملين في الشركة، وقف ليسجل طلبه بهدوء، و ما ان انتهى، حانت منه التفاتة بنظرة لا مبالية شاردة للطاولات، الى ان تسمرت عيناه عليهما! مسك و زوج غدير!، لم يكن يوما متهورا، كان مثالا لهدوء الاعصاب طوال عمره، فماذا حدث الآن؟، نظرت مسك الى أشرف و قالت برقة(زاهر ابن عمك زوج تتمناه الكثيرات)هتف أشرف من بين أسنانه(كثيرات لكن اي منهن ليست أنت يا مسك، بالله عليك هل جننت؟، مسك أنا)توقف عن الكلام و عقد حاجبيه وهو يرى ظل الرجل الذي اقترب منهما و عيناه تلمعان بشرر صامت، كان هذا مدير غدير في العمل!، ماذا يريد منهما؟، وصل أمجد اليهما فرأته مسك و عقدت حاجبيها بدهشة قبل أن تنزل ساقها من فوق الأخرى، أما هو فأسند كفه الى ظهر مقعدها و انحنى اليهما مبتسما بزيف قائلا بنبرة متشنجة(المقهى ممتلىء بالعاملين في الشركة، لذا دون فضائح انهضي و اسبقيني للشركة)، انحنى الى الحوض في حمام شقته ضاربا وجهه المكدوم بالماء البارد عدة مرات، ثم استقام ناظرا الى صورته في المرآة، كان وجهه مشوها من شدة الضرب، شفتيه مجروحتين و منتفختين، ووجنته زرقاء أسفل عينه اليمنى، بينما لون داكن منتشر في خط كالسيف على الوجنة الأخرى، بخلاف ما نال جسده من اصابات و مهانة، لكن كل الألم، لا يعادل ألما آخر، ألم فقده لسوار من جديد، لقد ضاعت منه سوار للأبد، خطفها منه ابن الهلالي، تمتع بها و ذاق من جمالها المحرم، نال ما تاه اليه طويلا، ضاعت سوار للأبد، بداخله نيران هوجاء، رغبة سادية في تعذيب أي كائن حي، سمع صوت رنين باب شقته، فنظر جانبا بملامح جامدة، لا حياة بها، ميتة كجثة هامدة، ثم تحرك ببطىء ليفتح الباب، و ما أن فتحه حتى ابتسم قليلا، ابتسامة غامضة وهو ينظر الى من تقف بالباب، لقد كانت بدور، بعينيها المتورمتين من بكاء ليال طويلة، هتفت بدور من بين شفتيها بصوت مرتجف(راجح، راجح أريد الكلام معك أرجوووك)ظلت الإبتسامة الغامضة على وجهه وهو ينظر الى ملامحها التي لم تفقد برائتها رغم أن جسدها قد فعل، كانت فوضوية الملابس و كأنها ارتدت أول ما وقعت عليه يداها، قال راجح بصوت غريب(كيف تمكنت من السفر الى هنا؟)ردت بدور بصوت مرتجف(توسلت لأمي أن تقنع أبي بان يسمح لي بالسفر لأن لدي اختبار هام، هل أستطيع الدخول؟)برقت عينا راجح و همس بنعومة(بالطبع، تعالي)تقدمت بدور للداخل و قد زاد عرجها وضوحا، و ما أن أغلق باب الشقة خلفها حتى استدارت اليه و هتفت بتوسل(راجح، ماذا سنفعل؟، أرجوك طمئنني، أنا أموت في اليوم ألف مرة)ارتفع حاجبي راجح وهو يخرج سيجارة من علبته، ثم أشعلها وهو يقول بعدم فهم(عما تتكلمين؟، لا أفهم)هتفت بدور بذعر(عن موقف العائلة منك، ماذا فعلت لتستحق ما حدث لك؟، كيف ستقنعهم بإعادتي الى عصمتك؟)ضحك راجح وهو يقول بدهشة(من قال أنني سأحاول من الأساس؟!، لن يقتنعوا مطلقا)فغرت بدور شفتيها، و امتقع وجهها المتورم، بينما تسمرت مكانها تنظر اليه كالمجنونة، فهمست بعدم استيعاب(ماذا، ماذا تقصد بأنك لن تحاول؟)قال راجح ببساطة وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء، (أعني أن كل شيء قسمة و نصيب، و أنا لن أفرض نفسي كزوج على أسرة لا تريدني لابنتها)ازداد اتساع شفتيها و امتقاع وجهها، و تحولت عينيها الى بركتين غائرتين من الذعر، بينما أخذت تهذي قليلا(لكن، لكن، و ماذا عن ما حدث بيننا؟)ابتسم راجح بغموض وهو ينظر الى عينيها المرتعبتين، ثم قال ببساطة(ماذا حدث؟، كنا زوجين و ما فعلناه لم يكن حراما)لطمت بدور وجهها و هي تصرخ بجنون(لم يكن حراما؟، لم يكن حراما؟، و هل تسري الامور بتلك الطريقة في بلدنا؟)قال راجح ببرود وهو ينفث دخان سيجارته في وجهها المذعور(و ما دامت تعلمين أن الامور لا تسري بتلك الطريقة في بلدنا، لماذا وافقت و فرطت في نفسك بهذه السهولة؟)ازداد شحوب وجهها حتى حاكى شحوب الموتى، فرفت اصبعها المرتجف الى صدرها(هل تكلمني أنا يا راجح؟، أنا من فرطت بنفسها؟)قال راجح بلامبالاة(و من غيرك هنا؟)صرخت بدور بجنون(كنت مرغمة، انت أرغمتني في المرة الأولى بيننا، أتذكر؟)ضحك راجح عاليا أمام عينيها المرتعبتين، ثم لم يلبث أن نظر اليها و قال بتلذذ(أول مرة كنت مرغمة!، و ماذا عن عشرات المرات بعدها؟، هل أرغمتك بهم أيضا؟)صرخت بدور فجأة و هي تهز رأسها ذعرا(توقف، توقف، أرجوك قل أنك لا تعني ما تقول. أنت فقط تخيفني، ترعبني كي تأدبني، و أنا موافقة، لكن ارجوك اقنعهم بالعودة لي، ارجوك يا راجح، سمعتي بين يديك)كان ينظر اليها مستمتعا، ينال بعضا من كرامته المراقة كزوج ضربوه أمام زوجته و ارغموه على طلاقها، لذا فلتنال ابنتهم من بعض ما أذاقوه، اقتربت منه بدور لتمسك بكفه و هي تشهق باكية متوسلة(أرجوك يا راجح تستر علي، انا أبنة عمك، لا تفضحني، أرجوك، سأقبل يدك إن أردت)انحنت على ركبتيها و اخذت تقبل كفه، بينما وقف مكانه ينظر اليها من علو وهو ينفث من دخان سيجارته، و هي تبكي و تتوسل مجددا(سأقبل قدمك لو أردت، و سأكون خادمة لك العمر بأكمله، لكن لا تفضحني)انحنت أمام عينيه و قبلت قدمه بالفعل حتى بللتها بدموعها، ثم قال راجح أخيرا بمنتهى الهدوء(انهضي)رفعت بدور وجهها المتورم لتنظر اليه بأمل، فمسحته بظاهر يدها، الا أنها نهضت واقفة و هي تشهق باكية، اقترب منها راجح و لامس وجنتها ليقول بنعومة(أنت ترتجفين ذعرا كأرنب مسلط سكين على عنقه، تعالي إلى و أنا سأهدىء من ذعرك)تشنجت بدور للحظة و هي تستوعب تلك النبرة التي تعرفها جيدا، الا أنها لم تتأكد من مقصده الا بعد ان شدها اليه محاولا اقتناص شفتيها بقوة، فصرخت بدور بذعر و هي تقاومه بكل قوتها، لكنه بدا كالثور الهائج وهو يهاجمها مجددا، حتى خلع الحجاب عن شعرها بعنف، و حرر شعرها الأسود على كتفيها، هامسا بقساوة(لا زلت زوجتي)صرخت بدور أعلى و أعلى، الا انه رماها أرضا بسهولة مع ساقها العرجاء و التي لم توفر لها الهرب السريع، ثم انقض عليها محاولا فتح أزرار قميصها، ظلت بدور تقاتل باستماتة وهو يبدو كالمجنون المنتشى بصراخها، الى ان طالت يدها مطفئة السجائر الزجاجية الموضوعة على احدى الطاولات القصيرة، فأمسكتها و ضربته على رأسه بقوة، رأت بدور بذعر خيط من الدم يسيل على جبهته وهو يصيح عاليا بألم كحيوان متوحش(أيتها المجنونة)لكنها لم تنتظر، بل قفزت واقفة لتلتقط حقيبتها و حجابها، ثم خرجت من الشقة جريا و كأن الشياطين تلاحقها بينما أصابعها ترتجف محاولة غلق أزرار قميصها و لف حجابها بعشوائية، أما راجح فقد انهال عليها بسباب عال وهو يمسك رأسه النازف متأوها بوحشية، استلقت تيماء في فراشها القديم و هي تنظر الى السقف بعينين متورمتين من البكاء، لكنهما جافتينككل مرة بكت فيها الى أن نفذت دموعها، سمعت طرقا على باب غرفتها فقالت بهدوء(ادخلي يا أمي)دخلت ثريا الى غرفة تيماء، ثم أغلقت الباب خلفها و قالت برقة مبتسمة(كيف حالك الآن؟)استقامت تيماء لتجلس في السرير ثم قالت بخفوت(أفضل حالا يا أمي، لماذا لم تنامي حتى الآن؟)بدا بعض الارتباك على وجه ثريا، الا أنها اقتربت من سرير تيماء لتجلس على حافته بالقرب من ابنتها، بينما أخذت تفرك أصابعها بتوتر، نظرت تيماء اليها بصمت، ثم قالت بتوجس(ما الأمر يا أمي، أنت تخفين عني شيئا، قولي رجاءا، لم أعد أمتلك القوة لتحمل الصدمات)ابتسمت أمها بتوتر و قالت بمرح(جيد أنك تركت بعض الملابس هنا، غرفتك كما هي و كأنها تنتظرك)حكت تيماء شعرها الغزير، ثم قالت(أشك في أن شيئا ما كان ينتظرني، أنا شخصية لم يقسم لها أن ينتظرها انسان أو حتى جماد، أنا أفكر حاليا في اقتناء قطة، ربما كان حظي معها أوفر)همست ثريا بألم(لا تتشائمي بهذه الدرجة، مررت بتجربة سيئة و مضت، لست الوحيدة، لقد مررت أنا بأسوأ منها على الأقل حظك أفضل من حظي، فأنت أدركت خطأك و أنت وحدك دون طفل، أما أنا فقد شاء حظي العثر أن أحمل بك)صمتت فجأة و هتفت بوجه باهت(لم أقصد، لم أقصد ما تفوهت به، لقد قصدت أنني كنت شابة صغيرة بمفردي و أنت تربيت وحدك دون أب)ابتسمت تيماء بمرارة و قالت(لا عليك يا أمي، أفهم ما تقصدين، أعتقد انني صرت منيعة ضد الألم، انظري إلى، زوجة ثانية، ضاعت منها المنحة التي كانت تتمناها و هي الآن على وشك الإنفصال و مع هذا أجد القدرة على الإبتسام!، انا عديمة الإحساس، الست كذلك؟)ابتسمت ثريا بحزن و قالت بخفوت(لا، لست عديمة الإحساس، انما أنت قوية بشكل اثار دهشتي منذ طفولتك، لا تستلمين و لا تخضعين للكآبة فتسمحي لها بهزيمتك، بعكسي تماما، أحيانا كثيرة كنت أغار منك، أتصدقين ذلك؟، كنت أنظر اليك في طفولتك و مراهقتك و كنت أشعر بالغيرة من مدى صلابتك و مرونتك في نفس الوقت كما أنك كنت شجاعة و ذكية و متفوقة، بينما أنا)صمتت و هي تطرق بوجهها بحزن، ففكرت تيماء أن تلك هي عادة ثريا دائما، تحب أن تأخذ دور البطولة، انها تحتاج الى دورها في الكآبة الآن و أن تكون ملكة الدراما، الا أن ثريا تنوي أن تسرق منها الدور، تنهدت تيماء باستسلام و همست متراجعة للخلف(و أنا أيضا كنت أغار منك)ارتفع وجه ثريا بصدمة و هي تقول متفاجئة(تغارين مني أنا؟، على أي شيء؟ و هل أمتلك شيئا تغارين مني لأجله؟)قالت تيماء رغبة منها في منحها القليل من الرضا عن الذات(لطالما كنت أجمل مني بكثير، كان كل من ينظر الينا يتسائل لماذا لم أولد جميلة مثلك و اشبهك)ابتسمت ثريا و قد بدت ملامح الرضا على وجهها بالفعل، فابتسمت تيماء و هي تراقبها بصمت، أمها تستحق الشفقة، لا القسوة كما كانت تعاملها احيانا، قالت تيماء بخفوت(أين زوجك عاري الصدر؟، لماذا لا أسمع صوت ضحكاته الغبية؟)ردت ثريا بتوتر(لقد طلبت منه المبيت خارجا الليلة)ارتفع حاجبي تيماء و بدت متفاجئة بالفعل، ثم سألت أمها مذهولة(حقا يا أمي؟، فعلت هذا لأجلي؟ لم يكن عليك فعل ذلك!)ازداد الإرتباك على وجه ثريا، فبدأ الشك يساور تيماء، الا أن ثريا قالت متجنبة الموضوع أكثر(هكذا أفضل، المهم الآن أن تتخلصي من هذا الحيوان الذي تزوجت منه، و للأبد هذه المرة)شعرت تيماء بالألم يشطر صدرها نصفين ما ان سمعت كلمة للابد، المها في حد ذاته كان كفيلا بأن يجعلها تلتقط نفسا متوجعا و تغمض عينيها، ظلت ثريا تراقبها طويلا ثم همست بخفوت مندهش و حنون في آن واحد(الازلت تحبينه يا تيماء؟)ردت عليها تيماء بهدوء دون أن تفتح عينيها(نعم يا أمي، أحبه و لن أتوقف عن حبه طوال حياتي، تلك باتت حقيقة سلمت بها منذ وقت طويل و على التعامل مع ألمها)همست ثريا بخفوت(كيف هو الحب يا تيماء؟، هل نشوته تفوق هذا الألم الذي تعيشينه حاليا؟)فتحت تيماء عينيها و نظرت الى أمها متفاجئة، ثم قالت تسألها(كيف تسألين؟، الا تحبين زوجك عاري الصدر؟، إنه أحمق ومستوى ذكائه محدود، لكن من الممكن أن يكون محبوبا لو أراد)ابتسمت ثريا بسخرية مريرة و قالت بخفوت(رامي!، إنه ليس حبيبا و لا يليق بهذا المنصب، إنه فقط)صمتت بحرج، فقالت تيماء بقوة(لا أريد سماع تفاصيل مقرفة يا أمي رجاءا، وصلني المعنى)أطرقت ثريا بوجهها المتخاذل، فشعرت تيماء بتأنيب الضمير، حينها ربتت على كفيها المتشابكين و قالت بلطف(حسنا دعنا من عاري الصدر، و أخبريني عن أبي)انتفضت ثريا و هتفت مجفلة(والدك؟، ماذا به؟، هل عرفت أنني؟)قاطعتها تيماء لتقول برفق(اهدئي يا أمي، كنت فقط أسألك إن كنت قد أحببته يوما؟)زفرت ثريا نفسا متوترا أثار ريبة تيماء أكثر، الا ان ثريا أجابت بحزن مرير(لم أجد الوقت لأقرر، لقد دخل حياتي سريعا و خرج بصورة أسرع، ما كنت بالنسبة اليه سوى نزوة، رماها ما أن أخطأت و جلبت الى هذا العالم عواقب غير محمودة)ابتسمت تيماء ابتسامة بلا مرح و قالت بفتور(و كنت أنا العواقب الغير محمودة، هذا الحديث يمنحنى القوة كل مرة أسمعه بها، كي لا اسمح للتخاذل بأن ينال مني)قالت ثريا اخيرا بقوة(لن اسمح لك بأن تتخاذلي هذه المرة يا تيماء، ستتخلصين من هذا الظالم زوجك)تنهدت تيماء و قالت بألم(الامر ليس بمثل هذه البساطة يا أمي، قاصي لا يستسلم أبدا، انه خصم شديد الشراسة)تنهدت ثريا و همست بغضب(آآآآآآه يا تيماء، كم حذرتك منه!، لطالما كنت ذكية في كل شيء، الا فيما يتعلق بقاصي، تتحولين فيه الى حمارة و تطول اذناك)ظلت تيماء صامتة لعدة لحظات قبل ان تنفجر ضاحكة فجأة، رمقتها ثريا باستياء، ثم لم تلبث ان ضحكت هي الأخرى، ظلت تيماء تضحك و تضحك و تضحك حتى دفنت وجهها في الوسادة، فقالت ثريا بعد فترة طويلة بشك(تيماء؟، هل تضحكين أم تبكين؟)ظلت تيماء تشهق تلك الشهقات الى أن أمسكت ثريا بكتفيها و رفعتها بالقوة، ثم لم تلبث أن هتفت بحزن(تيماااااااااااء)كان وجه تيماء مغرقا بالدموع و هي تشهق باكية، فضمتها ثريا الى صدرها و أخذت تمسح شعرها بوجنتها و هي تهمس برفق(لا بأس حبيبتي، لا بأس، سيزول هذا الألم سريعا)صرخت تيماء بقوة باكية كالأطفال(أنا أحبه يا أمي، أحبه جدا)همست ثريا بأسى(ياللهي، ما أغباك!)أخذت تيماء تبكي باختناق، حتى تحول بكائها أخيرا الى شهقات خافتة، و استمرت ثريا في التربيت على شعرها بحنان، الى أن دق جرس الباب فجأة، رفعت تيماء وجهها و قالت بخفوت(هل عاد زوجك؟)ارتبكت ثريا و قالت بخفوت مطرقة الوجه، (لا أظن، ابقي هنا، سأذهب لأرى من بالباب)، (كبرت يا ثريا و بان عليك العمر)نظرت ثريا الى سالم بنظرات فارغة، و رفعت يدا تلامس بها شعرها دون وعي، لم تظن أن رؤيته بعد كل هذه السنوات ستولد بها كل هذا الإحساس بالمرارة! الا أنها قالت بخفوت(و أنت أيضا كبرت يا سالم، و بان عليك العمر، لكنك لم تأتي الى هنا كي نتحسر على الشباب الضائع، لقد أتيت من أجل ابنتك، شئت أم أبيت، فهي ابنتك، قف بجوارها لمرة واحدة في حياتك، استشعر أبوتك لها، فقد تندهش حين تعثر عليها، تيماء شابة نادرة، ينتظرها مستقبل مبهر، ارجوك ساعدها حتى لو أخطأت، تظل ابنتك، ماذا لو أخطأت مسك ابنتك الأخرى؟ هل كنت لتلقي بها في الطريق كما فعلت مع تيماء؟)نظر اليها سالم طويلا قبل أن يقول بجمود(أين هي؟)ردت ثريا بقلق(في غرفتها، لا تعرف بمجيئك)قال سالم بنبرة صارمة(اذهبي و نادها، أريد الكلام معها)سمع صوت تيماء يقول من خلفهما بهدوء(لا داعي، ها قد أتت أليك بنفسها)شحب وجه ثريا و هي تنظر الى تيماء مرتبكة من النظرة الميتة التي رمتها بها، بينما استدار سالم لينظر الى تيماء ببطىء، توقف للحظة وهو يراها بصورة مختلفة، كانت تبدو كأمرأة صغيرة، امرأة غير ناضجة بعد، بان عليها الزواج، لا يستطيع تفسير ذلك لكنه ظهر عليها، قد يكون في ملامح جسدها الفتية أو ربما في هذا الإدراك المؤلم بعينيها الشفافتين، هل حقا كانت عينيها بمثل هذا اللون منذ مولدها.؟، أم أن لونهما ازداد عمقا بسبب ما تعرضت له؟، شعرها الطويل جدا، متى كان طويلا؟، هل كان طويلا طوال عمرها أم أنه كان قصيرا؟، قميص نومها الطفولي هو الشيء الوحيد الذي جعلها أشبه بطفلة حزينة، كسرت دميتها، فظهر هذا في عينيها، الا أنها هي كانت الدمية المكسورة هذه المرة، قال سالم دون مقدمات(هل أدركت الآن مدى غبائك؟، أم أنك لن تتعلمي بعد؟)نظرت اليه تيماء و تفحصت شكله ككل مرة تراه بها، ثم قالت أخيرا بهدوء(نعم يا أبي، أدركت مدى غبائي، لا أملك الإنكار، فمن الواضح أن أمي قد تطوعت و أخبرتك بكل شيء)أطرقت ثريا بوجهها كثر، بينما ظهر شيء ما في عيني سالم، و كأن لفظ أبي بتلك النبرة قد أربكه للمرة الثانية، زم سالم شفتيه و قال مشيرا اليها باصبعه قائلا(اسمعيني جيدا يا فتاة، حين اتصلت بي أمك، تركت كل ما بيدي و أتيت، عسى أن تدركي أخيرا أنني لم أكن مثال الوالد الشيطاني كما تخيلت، لقد اخترت طريقك، و الصواب أن أتركك لهذا الطريق حتىت تهلكين في نهايته، الا أنني سأحاول مساعدتك للمرة الأخيرة، هذا الحقير ستتطلقين منه، برغبتك و ارادتك، فهل أنت موافقة على أن أحررك منه أم تريدين الحياة لمتبقي من عمرك كمجرد جارية لشخص وضيع مثله؟)وقفت تيماء مكانها، تنظر الى والدها طويلا وهو يقدم لها المساعدة للمرة الأولى متنازلا، عيناها تراقبانه بصمت حزين، لكم اشتاقت هاتان العينان اليه، لكنها الآن باتت ضريرة، لا تعرف الشوق له و لا تتذكر ملامحه، تعالى صوت طرق على باب الشقة مع رنين مستمر للجرس جعل ثريا تهتف بتوتر(من الآن؟)خرجت من غرفة الجلوس تاركة تيماء و سالم مع بعضهما، ثم فتحت الباب بعنف و هي تصرخ(ما اللذي؟)الا أن عاصفة اقتحمت البيت بقوة وهو يدفعها مناديا بقوة(أين تيماء؟، تيماااااء)صرخت به ثريا بجنون(هل تمتلك الجرأة على المجيء الى هنا بعد كل ما فعلته بابنتي؟)الا أنه لم يرد، بل نادى مجددا بقسوة (تيماااااء؟)خرجت تيماء جريا من غرفة الجلوس فوجدت قاصي يقف في منتصف الشقة صارخا يناديها كالمجنون، و ما أن نظر اليها بقميص نومها حتى اشتعلت عيناه و صرخ فيها بعنف(كيف تأتين الى هنا و في البيت رجل غريب؟، منحتك بعض الوقت كي تهدأي لكن لا ان تعودي الى هنا، اذهبي و ارتدي ملابسك، ستأتين معي حالا)فغرت تيماء شفتيها و قالت بعدم تصديق(الا حدود لجبروتك يا قاصي؟، انا لا أصدق نفسي)هدر بها صارخا(صدقي اذن، ستأتين معي رغما عنك)و دون أن يترك لها المجال اندفع اليها و جرها من خصرها بالقوة، الا انها اخذت تصرخ به و أمها تضربه بكلتا قبضتيها، (أتركني يا قاصي، أتركني لن آتي معك)صرخ بها قاصي وهو يجرها جرا الى باب الشقة(و أنا لن أسمح لك بالبقاء بهذا الشكل مع رجل غريب، حاولي منعي و سترين وجها أشد سوادا من كل ما رأيته مني حتى الآن)كانت تحاربه باستماتة، بينما هو يبدو كرجل كهف وصل الى نهاية صبره، تعالى صوت سالم هادرا فجأة بقوة(اتركها يا ولد)تسمر قاصي مكانه فجأة، و استدار ناظرا الى سالم الذي خرج من غرفة الجلوس ببساطةو ما أن أخذته المفاجأة، حتى تحررت تيماء منه و ركضت لتقف خلف والدها! فغر قاصي شفتيه وهو ينظر الى هذه الصورة التي لم يراها من قبل، تيماء واقفة تحتمي خلف سالم الرافعي منه!

حينها فقط شعر و كأنه تلقى صفعة من حديد...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة