قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والستون

(اتركها يا ولد)
تسمر قاصي مكانه فجأة، و استدار ناظرا الى سالم الذي خرج من غرفة الجلوس ببساطة
و ما أن أخذته المفاجأة، حتى تحررت تيماء منه و ركضت لتقف خلف والدها!
فغر قاصي شفتيه وهو ينظر الى هذه الصورة التي لم يراها من قبل، تيماء واقفة تحتمي خلف سالم الرافعي منه!
حينها فقط شعر و كأنه تلقى صفعة من حديد...

رمش بعينيه و هز رأسه للحظة، قبل أن يفتحهما من جديد على اقصى اتساعهما، بنظرات كالحمم وهو يدقق النظر بهما...
بسالم الرافعي، و تيماء تحتمي به و تقف خلفه، ناظرة اليه بعينين حذرتين كعيون القطط!
للحظات تبادلا النظر طويلا و كأنهما غريبين، يتعرفان بعضهما للمرة الأولى...
الا أن الغريب لا يمكنه ان يتسبب له في الألم كما فعلت تيماء للتو!
تيمائه!
طفلته و امرأته، ملكه الحصري!

تلك التي كان يتفاخر بأنها اتخذته بديلا عن والدها فجعلت منه مالك أمرها، وولته حياتها و سلمته قلبها...
قد تكون تلك دناءة منه، الا أن حرب تيماء المتواصلة تجاه والدها دفاعا عن وجود قاصي في حياتها...
كان يشعره بالزهو، بالثراء، بالثقة حد الغرور...
كيف انقلبت الصورة و جعلتها واقفة خلف والدها احتماءا منه!
للحظات أراد الصراخ عاليا كثور هائج مجنون...

تيماااااااااااااااااااااااااااااء، ذبحتني يا تيماء، قتلتني بأكثر الطرق شراسة، و ماكنت قاسية القلب بهذا الشكل من قبل!
أراد تحطيم المكان و قتل الجميع و خطفها من بين أشلاء الجثث التي سيخلفها من مجزرة هدفها استعادة ما هو ملك له...
تيمائه وحده...
الا أنه أخذ ينظم أنفاسه المرتجفة، كان جسده يرتجف من ثورة المشاعر المتدافعة داخله...
وهو يحاول السيطرة جاهدا...

استطاع استيعاب الموقف كله في عدة لحظات قبل أن يتراجع برأسه للخلف، مرتديا اكثر أقنعته اثارة للنفور وهو قناعه الساخر البارد...
واضعها اصبعيه في حزام بنطاله الجلدي ثم قال هازئا...
(ياللها من صورة مثالية لأسرة متماسكة!)
لم يتحرك اي من ثلاثتهم وهم يحدقون به بصمت و توتر و غضب، بينما تابع قاصي بكل سخرية.

(لكن أتسائل ماذا يفعل عمي سالم هنا، آخر مرة اتيت كنت متزوجة من شاب مفتول العضلات يا ثريا، هل حدث تغيير في الخطط؟)
وهو يتكلم كانت عيناه مثبتتين على تيماء، فالتقط اتساع عينيها للحظة قبل ان يتحول اتساعهما الى ما يشبه اليأس و ال، الكره!
أما ثريا فقد امتقع وجهها بشدة و ارتبكت ملامحها الهزيلة حتى بدت أقرب الى الفزع...
فنظر اليها سالم متفاجئا، ليقول بخفوت متقزز وكأنه لم يستطع أن يمنع نفسه.

(هل تزوجت؟، دون علمي!)
ازداد وجه ثريا امتقاعا حتى أن الخطوط في وجهها باتت اكثر عمقا و بدت مثيرة للشفقة في فزعها...
أما تيماء فكانت تنقل عينيها بينهما، شاعرة بالخزي، و الرغبة في الصراخ عاليا أن يخرج ثلاثتهم من حياتها للأبد...

لكن ثريا تكلمت و هي ترفع وجهها ناظرة الى سالم، محدقة في ملامحه الظالمة، (فات أوان هذا السؤال يا سالم، فات كثيرا، ترى مما أخاف الآن؟، لقد كبرت تيماء و اصبحت استاذة في الجامعة و لم يعد تهديدك لي بأخذها مني بذو قيمة، كما ان المال الذي كنت تتكرم علينا به، سبق و منعته ما أن خرجت تيماء عن طوعك، فمما أخاف؟، )
ساد صمت أسود، مقيت بينهم، قبل أن يقول سالم بصوت غريب، مخيف.

(اذن لماذا هرعتما طلبا لمساعدتي ما ان اوقعت ابنتك نفسها مغمضة العينين في فخ شخص وضيع الأصل، لماذا لم تلجأي الى زوجك الجديد؟)
اشتعلت نيران الحقد في عيني قاصي مهددة بحريق مستعر قد يلتهم من أمامه بلا رحمة...
لكنه تماسك بكل قوته، و ابتلع نيران الألم الحارقة و تمكن من الضحك بسخرية وهو ينظر اليهما، مدعيا التسلية بتلك المهزلة القائمة أمامه...
لكن ضحكته تسمرت فجأة حين وقعت عيناه على عيني تيماء!

كانت عيناها جامدتان في نظرتهما اليه...
نظرة صامتة، بلا روح أو حياة...
حينها ضاعت الابتسامة عن وجهه و حدق بها طويلا و كأن قراءة عينيها في تلك اللحظة اكثر الردود بلاغة...
تكلمت ثريا بقهر و هي تخاطب سالم
(لجأنا اليك لأنك والدها، أنت من تركتها، )
قال سالم بصوت مزدري
(و هذا هو اكبر خطأ ارتكبته في حياتي، أن تركتها لك، و انظري الى تربيتك!).

اطرقت ثريا برأسها و قد عجزت عن الكلام، ليس احساسا بالذنب، بل احساسا باليأس...
رفع قاصي صوته
(أكره أن اقاطع هذا الحديث العائلي الرائع، لكن لا وجود لنا هنا، لذا سآخذ ما يخصني و أنصرف تراكا لكما المساحة لتتعاتبا بحرية)
و دون انتظارلجواب اي منهما، مد كفه آمرا بسلطة
(تعالي يا تيماء)
ساد صمت مشحون بينهم، بينما ظلت تيماء مكانها متسمرة خلف سالم الرافعي!
مرت لحظة، لحظتين، ثلاث!

و كفه ممتدة، بينما تيماء واقفة مكانها كالتمثال لا تستجيب!
انعقد حاجبيه قليلا وهو ينظر اليها، إنها لا تتحرك!
حتى بعد أن عرى لها حقيقة والديها أمام عينيها إن كانت قد نست!
لا تزال واقفة خلف سالم!
هدر فجأة بصوت بدى كدوي المدافع دون أن يخفض كفه
(تيماااااااااء، تعالي الى هنا)
لكنها أيضا لم تتحرك!
و أمام عينيه الذاهلتين ببريق الجنون، رآها ترفع كفها ببطىء شديد جدا، حتى مست بأصابعها ذراع والدها!

مجرد لمسة!، مجرد لمسة قد لا تتخلل قماش سترته...
لكن تلك اللمسة جعلت من النصل الحاد يخترق صدر قاصي اكثر و أكثر دون رحمة!
بالنسبة له، فزوجته الآن تلامس رجل غريب، هذا هو الشعور الوحيد الذي يعرفه
أنها تلامس رجل غريب لا يحل لها لمسه...
هذه هي مكانة سالم الرافعي الوحيدة بالنسبة لتيماء و تلك اللمسة أثارت به شعورا مدمرا أكثر من الغيرة الطبيعية...

و مما زاد جنون غيرته أن رآى ذراع سالم تمتد للخلف حتى أمسكت كفه بخصر تيماء و كأنه يمنعها من التحرك...
عند هذه الحركة، ثارت بداخله الغيرة المجنونة وصرخ عاليا
(ابعد يدك عنها، لآخر مرة يا تيماء، تعالي الى هنا حالا)
كانت صرخته عنيفة جعلت ثريا تنتفض مكانها كالمجنونة، بينما ارتجفت تيماء، الا أنها لم تتحرك...
فابتسم سالم الرافعي ابتسامة ثقيلة وهو يجابه قاصي قائلا بازدراء
(ثقتك بنفسك مثيرة للاشمئزاز).

اندفع قاصي عند تلك النقطة كالمجنون و دون تفكير، تجاوز سالم بذراعه ليجذب تيماء من ذراعها بعنف حتى نشبت أصابعه في لحم ذراعها كالمخالب بدرجة من العنف جعلتها تغمض عينيها و تصرخ ألما، بينما هو يصرخ
(تعالي، سنخرج من هنا، حالا)
الا أن ما لم ينتظره هو أن يمسك سالم بمقدمة قميص قاصي باحدى قبضتيه، بينما ارتفعت الأخرى لتهوي على وجهه بصفعة لم يتوقعها!

شهقت تيماء بصوت عال وهي تغطي فمها بكفيها بينما اتسعت عينيها بذهول...
أما قاصي فقد جن جنونه بعد لحظة الصدمة الأولى، فترك ذراعها ليصرخ عاليا بهياج وهو يرفع قبضته ليرد الصفعة لسالم، الا أن تيماء، قفزت بينهما و هي تصرخ عاليا ممسكة بذراعه
(لا يا قاصي، لا، أرجووووك، أرجوك، اصفعني أنا، ارجوك).

ظل معصم قاصي مرتفعا في الهواء و يد تيماء ممسكة به بكل قوتها لدرجة ان ابيضت مفاصل اصابعها، بينما عيناه المجنونتين تنظران الى عينيها و صدره يلهث بعنف بالغ مرسلا أنفاسه المشتعلة لتلفح وجهها و تخبرها بوضوح عما يعتمل في صدره من ثورة...
فهمست تيماء بقوة و هي تنظر الى عينيه
(ارجوك، اصفعني أنا، ان كنت غير قادر على السيطرة على غضبك، لكن لا تفعل)
ظل قاصي ينظر اليها طويلا، قبل ان يخفض ذراعه ببطىء...

بينما كان سالم هو الآخر قد وصل الى حالة من الغضب مما جعله ينتزع قبضة قاصي من قميصه بعنف لدرجة ان مزقت جزءا صغيرا منه بصوت حاد، فصرخ عاليا
(أتريد التهجم على مجددا يا وضيع الأصل!، يا ابن ال)
حينها استدارت تيماء اليه صارخة بقوة
(كفى، كفى، كفى)
صمت سالم وهو ينظر الى قاصي بعنف، و على الرغم من هذا العنف الظاهري الا أنه تذكر منذ ايام حين لم يستطع السيطرة على غضبه، فهبطت صفعة مماثلة على وجه مسك...

أما قاصي، فقد سيطر على نفسه، لدرجة أنه أغمض عينيه محاولا التنفس بانتظام دون جدوى...
تكلم أخيرا دون أن يفتح عينيه، بصوت غريب
(إن كنت عديم الأصل، فما عليك سوى أن تراجع شجرة عائلتك، فأنا فرع منها، شئت أم أبيت، و رغم انها صلة لا تشرفني)
فتح عينيه لينظر الى عيني تيماء متابعا بصوت بارد كالجليد...
(اذهبي و جهزي نفسك، أمامك ثلاث دقائك لترافقيني، أو آخذك كما أنت).

ابتعد عنها متراجعا لعدة خطوات، نظارا الى عينيها، متحديا أن تجرؤ على معارضته...
فقالت تيماء بخفوت بعد فترة طويلة
(لا أريد سوى الإنفصال يا قاصي، ارجوك، )
لم يتحرك من مكانه، و لم تتحرك عضلة بجسده، لكن نظرة عينيه الجامدتين بدت مخيفة اكثر، مهددة...
تكلم سالم من خلفها بكل عنجهية قائلا
(ستطلقها رغما عنك، و أعدك أن تطلب مني الرحمة بعدها مما سأفعله بك)
التفتت تيماء الى والدها قائلة بقوة.

(لا أريد له الأذى، أريد فقط الإنفصال بهدوء)
نظر سالم الى عينيها و قال ببطىء مشدا على كل حرف
(لن أرحمهه)
انعقد حاجبي تيماء قليلا و هي تنظر الى الشر المسطور في عيني والدها، ثم قالت
(لن تساندني الا بشروطك)
لم تكن تسأل سؤالا، بل كانت تقر واقعا مريرا، فقال سالم الرافعي بكل وضوح
(هذا الوضيع غمر اسمي في الوحل و أنا لن أرحمه و لا يمنعني عنه حاليا الا زواجك البائس به).

تراجعت تيماء خطوة عنه للخلف و هي لا تزال تنظر اليه...
ثم قالت أخيرا بصوت قاتم
(لن يدفع الثمن وحده، فلقد شاركته منذ البداية، لكن أنا شاكرة لك المحاولة في المساعدة)
استدارت الى قاصي دون ان تنتظر ردا من والدها، ثم قالت دون أن ترفع وجهها اليه
(ثلاث دقائق و سأكون جاهزة، انتظرني خارج البيت من فضلك)
ظل قاصي مكانه ينظر اليها بوجه متجهم و نظرات غامضة، فرفعت وجهها اليه و ابتسمت قائلة بسخرية حزينة.

(لن أهرب، لم أعتده، فلا تقلق)
ازداد انعقاد حاجبي قاصي، لكنه قال بصوت قاتم
(سأنتظرك في الخارج، لا تتأخري)
ثم خرج دون أن ينتظر ردها، وقفت تيماء مكانها لعدة لحظات، تنظر الى باب الشقة الذي صفقه خلفه بعد خروجه...
بينما قال سالم من خلفها بصوت متشنج مزدري
(فقدت القدرة على عدد المرات التي تحديتني بها و ركضت فيها خلف هذا الدنيء، مخلفة كرامتك و شرفك و شرف عائلتك).

ظلت تيماء على نفس وقفتها لعدة لحظات اضافية، قبل أن تستدير الى والدها قائلة بهدوء و هي تنظر الى عينيه الغاضبتين
(أما أنا فقد تمكنت من عد كل المرات التي كنت ترسله نيابة عنك، اربعة وستين مرة، أربعة و ستين مرة لم افقد فيها الأمل من أن تأتي بنفسك في احداها)
اظلمت عينا سالم قليلا وهو ينظر اليها، بينما أخفضت وجهها و تحركت الى غرفتها، الا أن ثريا أمسكت بذراعها و هتفت.

(لا تفعلي يا تيماء، لا تفعلي، تمسكي بوالدك مهما كان وجعك منه، فمن لا سند له، تدهسه الأقدام)
ربتت تيماء على كفها قائلة بخفوت
(تعلمت أنه لا سند لي الا الله يا أمي منذ سنوات طويلة، و لن أغير ما علمتني اياه الحياة الآن)
نظرت الى والدها نظرة أخيرة ثم تحركت الى الغرفة، بينما هتفت ثريا من خلفها بأسى
(ستندمين يا تيماء، ستندمين).

لكن تيماء لم تلتفت اليها، بل دخلت الغرفة و أغلقت الباب خلفها، أما ثريا فقد التفتت لسالم و هتفت باكية
(أرجوك لا تتركها، كنت تعلم أن هذه ستكون ردة فعلها، تحملها أرجوك فهي تبدو الممسوسة بوهم اسمه قاصي الحكيم، و لا تنسى أنك انت من أدخلته الى حياتنا، لا تتركها أرجوك فهي لا تزال صغيرة و لا تدرك صالحها)
ظل سالم متجهم الوجه وهو ينظر الى ثريا الباكية بقوة، متشبثة بذراعه، أما هو فكان يشعر بشعور غريب...

للمرة الأولى بحياته...
تلك الفتاة التي دخلت الغرفة للتو، ابنته.

دخلت تيماء الى شقتها ببطىء و صوت خطواته من خلفها بطيئا، مزلزلا في نفس الوقت...
تسمع صوت أنفاسه و كأنها هدير أمواج عال...
لقد ظلا صامتين الطريق بأكمله، و كأنهما قد فقدا القدرة على ادارة حوار متزن...
فبداخل كلا منهما الكثير و الكثير، عجلتهما عاجزين عن المواجهة حاليا...
سمعت تيماء صوت الباب يغلق خلفهما، فاستدارت لتنظر الى قاصي، و الذي استند الى الباب لينظر اليها بصمت...

كانت عيناه غريبتين، و ملامحه غير مريحة و كأنه ينوي ان يوقع بها عقابا عنيفا جراء تجرأها على طلب الإنفصال...
رفعت تيماء وجهها و قالت بخفوت فاقدا للروح و لطبعها الثائر
(حسنا، لقد عدت الى شقتي، آمل أن تكون راضيا الآن)
رفع قاصي احدى حاجبيه وهو ينظر اليها دون ان يجيب، و قد جعلتها تلك الحركة البسيطة تزداد قلقا، الا أنها تابعت بشجاعة
(يمكنك المغادرة الآن، أنا لن أذهب لأي مكان فكن مطمئنا).

ارتفع حاجبه أكثر وهو ينظر اليها بتلك النظرة التي تخللت أعماقها بقوة نافذة و كأنه يعري روحها المنهزمة بقوة لا تملك أن تقاومها...
ساد الصمت بينهما طويلا، الى أن قالت أخيرا بصوت أكثر علوا و اندفاعا
(هل تنوي مشاركتي شقتي؟)
التوت زاوية شفتيه بشكل مستفز و كأنه يملك الجرأة على أن يكون مستاءا، لكنه تكلم أخيرا و قال بصوت بارد كالجليد
(هل تظنين أنني أحتاج منك سقفا ليأويني؟).

شعرت تيماء بالألم من لهجته، ترى هل يعلم أن أشد أسلحته ايلاما هي تلك النبرة الساخرة التي تجعلها تشعر أنها ما كانت في حياته يوما سوى مجرد وسيلة لتفريغ شحناته المؤذية...
الا أنها قالت بجمود.

(أعلم تماما أنك لا تحتاج مني لأي شيء، لكنني فقط أعلمك أن هذه الشقة ليست استراحة لك، تأتيها كي ترتاح و تنال بعضا من متعتك، ثم تعود الى حياتك و عملك و، و زوجتك و ابنك، عاشت أمي هذا الدور من قبل و أقسمت الا أحياه أبدا)
لمع بريق غاضب في عينيه، فاستقام واقفا واقترب منها ببطى دون أن يزيح عينيه عن عينيها، فتراجعت تيماء للخلف و قصف صوتها بقوة، صارما، عاليا
لكن دوي قلبها كان له رأي آخر...
(أنا جادة يا قاصي).

الا أنه لم يتوقف وهو يقول بكل هدوء
(انت تقارينني بهذا الرجل الذي يلي اسمه اسمك في بطاقتك!)
كانت تتراجع و هي تنظر الى عينيه الغاضبتين ثم صرخت من فرط
(لا أراك سوى نسخة منه، نسخة رديئة رخيصة)
كان قد وصل اليها فأمسك بذراعيها بكل قوته و هزها بقوة هاتفا أمام وجهها الشاحب
(نسخة رخيصة؟، بينما هو الأصل اليس كذلك؟، بعد كل ما اقترفه في حقك، عدت تطلبين رضاه مع أول اشارة من اصبعه يا عديمة الكرامة).

أجفلت من صرخته القوية و التي رجتها من الأعماق، الا أن كلماته بدت كالصفعات على وجهها من كل صوب و بلا رحمة...
لذا صرخت في وجهه باصقة الكلمات أمام عينيه
(على الأقل هو والدي، و من ليس له كبير يشتري واحد)
توقف فجأة، و نظر اليها بصدمة...
بينما كانت أنفاسها متسارعة، الى أن قال في النهاية ببطىء
(و اشتريت لك كبيرا يا تيماء؟، ليواجهني؟، لكنك أغفلت شيئا واحدا، الوالد لا يشترى، يا عديمة الكرامة).

صرخت تيماء فجأة بجنون و أخذت تضرب صدره بقبضتيها و تركل ساقيه بقدمها
(لا تكررها، لن أسمح لك)
الا أنه هزها بقوة حتى اندفع وجهها مرتميا الى الخلف، مرتفعا اليه، فنظر الى عينيها البراقتين بألم و غضب، ثم قال من بين أسنانه
(اخترت أسوأ الطرق لإيلامي يا تيماء، و هذا ما لن أسامحك عليه لفترة طويلة)
من بين كلامه كله، التقط قلبها كلمة واحدة...
ايلامه!

ترى هل يتألم؟، هل يمكنها يوما ايلام هذا الشخص ميت الروح و فاقد الإحساس؟
أخذت تتنفس بتسارع و هي تنظر الى ملامحه الداكنة...
ثم همست اخيرا بصوت قاسي.

(و ماذا عني؟، كيف اسامحك؟، هل نسيت ما فعلته بكليتي؟، لقد عاملتني و كأنني مجرد زوجة جاهلة، تربطها بحبل و تتصرف بأمرها كما تشاء، عشت سنوات طويلة احاول ان ابني لنفسي كيانا قويا، و مركزا يجبر الجميع على احترامي و انت في لحظة واحدة دمرت ما سعيت اليه، لمجرد هوسك المتملك، بعد كذبك على مرة بعد مرة، هذه تصرفات يكره امرأة و يسعى الى تدميرها تدريجيا)
كان يستمع اليها متجهما، ثم قال أخيرا بصوت متشنج.

(لم أفكر يوما في ربطك بحبل و تدمير الكيان الذي بنيته، ما هذه الأوصاف المبالغ بها؟)
اتسعت عيناها و هتفت بذهول غاضب
(مبالغ بها؟، لقد تركت دراسة الطب لأجل ذات مرة، و حرمتني المنحة التي انتظرها طويلا، و بخلاف هذا كله، انا مجرد زوجة ثااااااااااااااااااااااااااانية لك)
نطقت كلمة ثانية في صراخ مجنون حتى انه أجفل من الحالة الهيستيرية التي اصابتها...
لكنه و بدلا من أن يهدئها صرخ بها بقوة.

(لم أظن أنك تقدمين كل تضحية، ليأتي يوما تستخدمينها في دور الضحية، أنا لم أجبرك على شيء، كل ما فعلته، كان دفاعا عن الرجل الذي احببته، لم يكن حب سيطرة مني أو تسلط، كان على معرفة أنك مجرد طفلة، طفلة تافهة، تتخذ دور المحاربة، ثم تعود و تبكي بعدها ندما)
لم تصدق مدى وقاحته، كان جسدها كله يشتعل بالغضب و الجنون مما تسمعه...
فصرخت به عاليا
(انا لا أصدق مدى وقاحتك).

صرخ بها هو الآخر، و قد تحولت عيناه الى طاقتين من الشر الأعمى
(صدقي اذن، الوقاحة هي أن توهمينني بأنني عالمك كله، الرجل الوحيد بحياتك، ثم تطلبين العون من الرجل الذي نبذك طوال عمرك)
صرخت به تيماء
(و لو تجرأت على الإقدام على خطوة جديدة تكسرني بها فسوف ألجأ اليه مجددا، و هذه المرة سأقبل بشروطه)
توقف قاصي مكانه وهو ينظر اليها بنظرة جعلتها تدرك اي جنون تفوهت به...

كانت في حالة يرثى لها من الجنون و القهر، و كل مشاعر الإنهزامية المحيطة بها بينما هي تحاربها بعجز كمن يحارب طواحين الهواء، مدعية الشجاعة الزائفة...
فتح فمه، فتعلقت عيناها بشفتيه بخوف، الا أنه قال بصوت غريب
(و ما الذي أعادك الآن؟، لماذا لم تبقي معه؟)
شعرت بقلبها يهوى متساقطا في شظايا مهشمة و هي تسمع تلك النبرة منه، و كأنه يتألم فعلا...
الا أنها قالت بخفوت بائس.

(لأنني تعودت تحمل مسؤولية قراراتي، حتى و إن أخطأت، لكن احذر يا قاصي، فحتى الفرص التي تأتيك لها حد ستنتهي عنده)
مالت شفتاه في بطىء، في تلك الإبتسامة التي طالما أخافتها، و هي الإبتسامة التي تسبق العاصفة...
ثم قال أخيرا بصوت غريب
(مجرد مسؤولية!)
سقطت كتفاها بتعب، و تطلعت الى عينيه بألم و هي تهمس
(نعم، بت لا أشعر بغيرها حاليا، و الفضل يرجع لك).

كانت تعرف أنها اشعلت ثقابا بجوار روحه المتفجرة، لكنها كانت من التعب بحيث لم تعد تأبه...
فأغمضت عينيها منتظرة نوبة جديدة من الجنون...
و بالفعل، صرخ فجأة في وجهها وهو يتراجع بها الى أن ارتطم ظهرها بالجدار بعنف فتأوهت عاليا
(مسؤولية؟)
رفع قبضته و ضرب بها لوحة زجاجية مؤطرة و معلقة الى الحائط فوق رأسها...
فسقطت متهشمة بصوت عنيف، مما جعلها تصرخ منتفضة للحظة، و ما أن التقطت أنفاسها.

حتى فتحت شفتيها محاولة أن تهدىء من غضبه، الا أنها لم تجد الفرصة، فقد وجدت وجهه يندفع اليها، ملتهما ردها قبل حتى ان يغادر شفتيها...
كان يبدو كطوفان لا سبيل لمقاومته، يداه على جسدها قوية و كأنه يتشبث بحياته، أو المتبقي منها...
أما شفتيه فكانتا كالنار التي أضرمت في الهشيم...

ارتبكت تيماء و تلجمت أمام هذا الهجوم الصاعق، و شعرت بنفسها ترتجف عجزا، الا أن الهلع أصابها و هي ترى قدميها ترتفعان عن الأرض، وهو لا يزال يمسكها بين ذراعيه بقوة، ممارسا عليها كل جنون مشاعره...
لم تستطع اتهامه بالهمجية...
ففي الطريقة التي كان يقبلها بها، كانت تشعر بأنه شخص يبحث عن نفسه، في كيان امرأة تحتويه...
قد تكون غبية، و تستحق كل ما يلحقه الغباء و السذاجة بها...
الا أن هذا كان شعورها...

في كل مرة يقبلها بها قاصي، كان يستنجد بها، يبحث و يحارب لأجل المتبقي منه...
أخذت تتأوه و هي تهمس بضعف
(كفى، كفى جنونا أرجوك لم أعد أحتمل هذا)
الا أنها كانت كمن تخاطب شخصا أصما...
كانت شفتاه تلتهمان كل ما تشتهيانه منها، عينيها. وجنتيها، ذقنها و تعود لتلتهم شفتيها لتوقفانها عن الإعتراض...
بينما كان يلتقط نفسه الهادر بين كل عاصفة و أخرى هامسا
(اقنعيني أن ما بيننا ما هو الا، مسؤولية ).

كان يسخر منها و هي تعرف هذا جيدا، لكنها كانت كريشة في مهب الريح أمام سيل عواطفه المجنونة...
و دون أن تدري، وجدت ذراعاها ترتفعان ببطىء لتحيط بهما عنقه، بينما ارتاحت وجنتها على كتفه...
مستسلمة لفيض من تلك المشاعر، توهم به نفسها أن كل ما بينهما رائع، و لا ألم أو تجريح...
زمجر قاصي بجنون و رضا وهو يستشعر استسلامها بين ذراعيه كقطة صغيرة عادت لمالكها نادمة بعد أن خدشته بتمرد...

كانت في دوامة تبتلعها لأسفل، و هي غير قادرة على استعادة وعيها و رفع رأسها أعلى تلك الموجة كي تلتقط أنفاسها...
مجرد شعور خجول بقميصها يتحرر من قيوده و ينحدر من على كتفيها ليسقط أرضا، مجاورا لوشاح رأسها الذي لا تعرف متى ترك رأسها و متى اندفع شعرها غزيرا يحاوطها...
و من بين غيوم تلك العاصفة وجدت نفسها ترتفع في الهواء وهو يحملها اليه بقوة، و بعينين شبه مغمضتين رأته يتجه بها الى غرفة نومها...

كانت تريد الصراخ و الإعتراض، لكن أحضانه و قبلاته كانت تسكن الألم بداخلها و تخدرها، و تجعلها لا ترى سوى هذا الإحتياج الذي يعانيه، احتياجه لها...
في المرة الوحيدة التي هاجمها بها، لم يوقفه سوى وجود ابنه...
أما الآن فابنه ليس موجودا لينقذها...
همست في محاولة أخيرة و هي تئن ببكاء طفولي محبب
(قاصي)
الا أنه أنزلها للسرير و أمسك بمعصميها ناظرا الى وجهها، بينما شعره مندفعا حول تلك الملامح الغجرية بالفطرة...

ثم همس لها بصوت عميق، و عنيف...
(اهمسي باسمي في كل مرة أقبلك فيها، كي أثبت على قرار انتزاعك من الجميع و ابقائك الى نفسي فقط)
تنهدت تيماء بعذاب و أغمضت عينيها، لا تعرف ان كانت تفعل لتريحه أن تريح نفسها...
فبداخل صدر كل منهما روح معذبة تئن جوعا للآخر...
مع آخر هتاف آمر له باسمها، كانت قد اتخذت قرارها و سلمت جميع حصونها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة