قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السبعون والأخير

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السبعون والأخير

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السبعون والأخير

بعد ان انتهى من أخذ حمامه و لف خصره بمنشفة كبيرة، كان يبدو كفهد راض كسول...
أشبع حد التخمة...
نظر الى نفسه في المرآة، وهو يزيح قطرات الماء عنها بجانب كفه...
كانت ملامح الرضا ترسم ملامحه ظاهريا، الا أن بداخله شيئا آخر...
شيئا أسود، يحيط بلطمة لا شفاء منها...
صورة تيماء و هي تقف خلف والدها لم تبارح ذهنه حتى الآن، و غضبه منها لم يتجاوزه بعد...

و الأسوأ، هو شعور بالخوف مختفيا تحت ستار تلك المشاعر العنيفة...
ضاقت عيناه وهو ينظر اليهما، عينان مشتعلتان و صدر ينبض بصدمة لم تغادره بعد...
رفع اصابعه يتلمس بها ذلك الجرح الطولي بين عينيه...
بات مجرد خطا باهتا، بعد مرور كل تلك الأشهر...
مواجهته مع راجح بعد أن زلزل كيان تلك العائلة في اجتماعها...
كان ينتظره، و كان يعرف أنه قادم لا محالة...
و بالفعل ما أن عرف حتى سعى خلفه بنفسه...

صرخته الوحشية ترددت تشق سكون الليل المحيط بهما ما أن وجده
(انت يا ابن الحرااااااااااام)
توقف قاصي مكانه، و رفع وجهه دون أن يستدير، بينما نفذت الكلمة من ظهره و اخترقت أضلعه كسهم طائش...
ضيق عينيه القاسيتين ثم علا صوته ليقول بجمود
(كنت أنتظرك)
حينها توقفت خطوات راجح ليهتف هائلا بصوت يغلي بنار هوجاء
(استدر وواجهني أيها الجبان).

استدار قاصي اليه مبتسما ابتسامة باردة قاسية، لم تطل عيناه المنذرتان بالشر، ثم قال بصوت هادىء
(لو كنت جبانا لغادرت قبل أن أواجهك، لكنني كنت أنتظرك)
اقترب راجح منه و عيناه في خطورة أفعى سامة، ثم قال بصوت يهتز بصورة واضحة من شدة الخطر القابع بداخله...
(اذن فقد انتظرت موتك يا ابن الزانية، يا من تجرأت على أسيادك و تخيلت أن يكون لك مكان بينهم).

لم تتحرك عضلة في جسد قاصي، لكن عيناه التقطتا الكلمة في مقتل، حينها تكلم قائلا بهدوء ظاهري
(أنا أعذرك لما أنت فيه حاليا، اعتراف الجميع بوجود أخ لك حتى و لو لم يكن اعترافا رسميا، ووالدك الذي فضح أمام كل العائلة و عرف بأنه مجرم و مغتصب، و هو الآن مقيد في الزريبة كالبهائم، بخلاف حرمان جدك له من حقوقه المادية، كل تلك صدمات لا يستوعبها عقل شاب مثلك، ظن أن يمتلك العالم بأسره).

صرخ راجح فجأة بوحشية وهو يسدل من حزام بنطالة مدية حادة...
(يا ابن الحراااااااااااااام، يا نجس الدم)
كان قاصي متوقعا لهجوم راجح عليه، الا انه لم يتخيل ان يشهر سلاحا في وجهه مهما حدث، حسب ما يعرفه عنه، انه لا يحب الحرام، وهو ليس بقاتل!
تدارك قاصي السلاح في اللحظة الأخيرة، لكنه أصاب وجهه في خط دموي بين عينيه تماما...
نازلا الى احدى وجنتيه...

أمسك قاصي بمعصم راجح بكل قوته، ولواه قبل أن يضرب مؤخرة ساقيه بساقه، مماجعله يسقط أرضا...
حينها حاول النهوض الا أن قاصي قبض على عنقه بكل قوته و ضرب معصمه في الأرض على احدى الحصوات الناتئة عدة مرات حتى صرخ مسقطا المدية...
ثم نظر الى عيني راجح المتسعتين، و بدا قاصي مخيفا وهو يعلوه، بنظرات كالجمر. و خط من الدماء بين عينيه، بينما الليل الأسود من فوقه، يخفي معظم ملامحه...

قال قاصي أخيرا بصوت يرتجف من الخطورة
(يوما ما، انقذتك من موت محتم، الا يعلمك ذلك الا ترد الجميل، بمجرد الإمتناع عن محاولة قتلي؟)
بصق راجح في وجهه بكل قوته ثم هدر بوحشية رغم عنقه الذي يتلوى في قبضة قاصي...
(أنت تنقذني أنا يا لقيط!، انا راجح الرافعي يا ابن عديمة الشرف!، ما أنت بالنسبة إلى سوى جامع للمخلفات التي ألقيها)
ظل قاصي ساكنا لا يتحرك، و عيناه تتسعان حتى بديتا مرعبتين، لكنه حين تكلم قال بهدوء.

(القذر هو من يلقي بالمخلفات، لا من يجمعها خلفه، يا ابن الشريفة)
و دون كلمة اخرى انهال عليه باللكمات حتى غاب راجح عن الوعي، تماما...
بينما تساقطت قطرات من دم قاصي على الدم النازف من شفتيه، فامتزجا...
استعاد قاصي وعيه وهو يعود من ذكرياته المعتمة، ليعاود التحديق في صورته من جديد...
همس أخيرا بخفوت...

ان كنت أنا من أجمع مخلفاتكم، فليس الحق لمخلوق منكم العودة و المطالبة باسترجاع أحدها، اقترب من المرآة وهو يتشبث في الحوض بكلتا قبضتيه، ناظرا الى عينيه الشيطانيتين، ثم تابع بصوت خطير.

تيماء ملكي، و لمسك لها ستدفع ثمنه غاليا يا سالم، ستدفع ثمن احتمائها بك، ثمن تلك اللطمة التي وجهتها الي، ابتعد عن المرآة وهو يرجع شعره المبلل للوراء، الى أن استقرت عيناه على غرض نسائي مفتوح و موضوع على أحد الأرفف الجانبية الزجاجية...
تسمرت يد قاصي، ثم أخفضها على مهل وهو يتأمله مليا، قبل أن يستدير الى سلة المهملات، ففتحها بقدمه ناظرا اليها...

حينها عقد حاجبيه و شعر بخيبة أمل، فأغلقها بعنف محدثا صوتا عاليا...
لكنه أخذ نفسا عميقا وهمس بهدوء
لا بأس، يوما ما ستحمل بابني، قد يكون قد بدأ في التكون الآن، فتح باب الحمام، ليجد تيماء واقفة خلفه. فتراجعت للخلف مجفلة، ممتقعة الوجه...
توقف قاصي مكانه يراقبها بصمت ثم قال بخفوت عابث
(هل تنتظرين خروجي؟).

اختلست تيماء النظر اليه و هي تراه لا يضع على جسده الا منشفة يحيط بها خصره، فاحمر وجهها رغما عنها و أطرقت و هي تقول بقنوط خافت
(كنت أريد دخول الحمام)
التوت ابتسامة قاصي أكثر و اقترب منها خطوة فتراجعت، الا انه لف خصرها بذراعه وجذبها اليه
حاولت منعه الا انه قبض على كفها فوق قلبه مباشرة، ثم قال بصوت أجش
(لماذا لم تطرقي الباب اذن؟)
تلوت تيماء و هي تقول بصوت معترض
(لقد فتحت الباب سريعا).

اقترب منها قاصي و قبل الوحمة الوردية فوق وجنتها هامسا...
(لما لا أشاركك؟)
انتفضت تيماء و ابتعدت عنه قائلة بقوة بينما احمر وجهها اكثر
(لا، رجاءا دعني ادخل)
الا انه لم يتركها، بل شدد عليها و قال بصوته الأجش الجذاب...
(يمكنني اقناعك، أريد أن أعلمك المتعة في قربي)
تأفتت بصوت متوتر و همست برجاء
(ارجوك ابتعد عني، لقد أخذت حقوقك و انتهى الأمر، فلا تضغط على أكثر).

تصلب جسده فورا، و أظلمت عيناه، بينما شددت كفه على أصابعها حتى كادت أن تهشمها...
ظل الصمت بينهما طويلا و هي تحاول التلوي و التهرب منه بينما هو واقف كالقيد الحيدي ممسكا بها دون جدوى...
تكلم أخيرا ليقول بجفاء
(يوما ما، لن يكون هذا مجرد واجبا)
أرادت اخباره أن هذا اليوم لن يأتي، لكن بأي وجه ستتشدق بهذا و قد سلمته نفسها مجددا...

زمت شفتيها و نظرت بعيدا ممتنعة عن الرد، بينما هو يراقبها بصمت ثم قال أخيرا بخفوت
(تبدين جميلة للغاية)
ابتلعت تيماء ريقها و ظلت متجنبة النظر اليه، الى أن قال بخفوت أكبر
و كأنه يهمس لها
(متى كانت عادتك الشهرية؟)
امتقع وجه تيماء اكثر و اصابتها الصدمة، ثم احمرت بشدة و قالت مستاءة
(ما هذا السؤال؟)
قال قاصي بصلابة آمرا
(أنا الآن زوجك، اخبريني)
أخذت نفسا متوترا ثم قالت دون أن تنظر اليه
(انتهت بالأمس).

ضيق قاصي عينيه وهو ينظر اليها مليا، بينما هي تتحرك بعصبية بين ذراعيه، الى أن قال أخيرا وهو ينحني بوجهه ليقبل وحمتها الوردية مجددا برقة
(لا بأس)
ثم تركها أخيرا فسارعت لتدخل الحمام جريا، لكن و قبل أن تغلق الباب استدار قاصي اليها قائلا بابتسامة
(ألم تغيري رأيك فأشاركك)
و ما كان منها الا أن صفقت الباب في وجهه بكل عنف...

استندت تيماء الى الباب المغلق و هي تسمع صوت ضحكاته العابثة تتراجع وهو يبتعد عن الباب، بينما بقت هي تتنفس بسرعة و توتر...
ثم تحركت لتقف أمام المرآة حيث كان واقفا للتو، تنظر الى نفسها في المرآة و كأنها تنظر الى المتبقي من صورته فيها...
لقد اختارت، و عادت اليه...
في اللحظة الأخيرة قبل أن تصدر الأمر بقتله معنويا باختيار والدها، اختارته...

كانت تعلم ما تفعل جيدا، مع كل نظرة بينهما في بيت والدتها، كانت تعلم بأنها قد أصابت الهدف و ضربته في مقتل...
لم تكن فخورة تماما بما فعلت، لكن لحظة ايذائه كانت مرضية لها...
لكن اللحظة طالت، طالت حين شعرت للمرة الأولى بأن لديها والد تحتمي خلفه...
لقد تمتعت بكل لحظة من تلك اللحظات القليلة، خاصة حين مد ذراعه و أمسك بخصرها بقوة...
صرخته في قاصي.

اتركها يا ولد، لم تنظر اليه على انه سالم الرافعي، لم تتذكر ماضيه معها و كل فعله بها...
بل جردته من كل القابه، و نظرت اليه على انه رجل غريب تمتعت معه بشعور الأبوة لعدة لحظات...
لكن كان عليها الاستفاقة...
لذا اجربت نفسها على العودة للواقع و اختارت قاصي...
قاصي لم يكن خيارا مع والدها من الأساس...
فحتى لو طلبت منه الانفصال، فسيكون هذا بعيدا عن سالم الرافعي...
لكن تلك المواجهة لن ينساها قاصي بسهولة...

خاصة ضرب سالم له أمامها...
شيء غريب اكتنف لمساته لها، كانت شديدة التملك و كأنه يحدد لها موقعها تماما...
و هذا الشعور جعلها تتذوق طعم الصدأ في حلقها...
تنهدت بكآبة و هي تنظر الى نفسها في المرآة، ثم أخفضت عينيها تنظر الى سلة المهملات المعدنية التي ضربها بقدمه منذ لحظات و سمعت صوتها...

بالأمس تحديدا كانت هي من وضعت اغراضها الخاصة على الرف عن قصد، و تلك المستخدمة لم تكن كذلك، بل هي من جعدتها و رمتها في سلة المهملات...
اعادت تيماء عينيها الى المرآة، ثم انخفضت يدها الى بطنها برفق...
و صوت أمها لا يزال في أذنها و هي تقول.

على الأقل حظك أفضل من حظي، فأنت أدركت خطأك و أنت وحدك دون طفل، أما أنا فقد شاء حظي العثر أن أحمل بك، رسمت عيناها الفيروزيتان انحنائتين من الألم، و يدها تداعب بطنها برفق...
حين خرجت من هنا، لم تظن أنها ستعود مجددا، وهو معها...
أخفضت عينيها الى بطنها و همست
(لقد تأخر موعدي، ترى هل أحمل ابنه فعلا؟، هل اتخذ القدر القرار نيابة عني؟).

حين خرجت عائدة الى غرفتها، توقفت للحظة و هي تراه و قد ارتدى بنطاله مجددا، بينما وقف أمام المرآة يمشط شعره بفرشاتها و كأنه يتصرف في بيته...
أخذت تيماء تتأمله لعدة لحظات خلسة...
كان جذابا كجاذبية الرجل الخطأ تماما...
و تشك في أن أي واحدة من علاقاته النسائية قديما كان من الممكن أن تربط حياتها به للأبد...
أما هي ففعلت...
ليست مرة أو اثنتين، بل كما قال والدها...

لقد يئس من عد المرات التي لحقت فيها بقاصي، رفع قاصي وجهه لينظر اليها في المرآة فجأة، فارتبكت و اخفضت وجهها ثم خطت الى الغرفة بتعثر...
و اتجهت الى دولابها تخرج منه ملابس رياضية مريحة...
استدار قاصي اليها و قال بهدوء مخرجا رزمة من الأوراق المالية من جيب بنطاله ثم وضعها على طاولة الزينة
(قبل أن أنسى، هذه لك)
استدارت تيماء ببطىء تنظر اليه، لتراه يضع تلك الرزمة، فعقدت حاجبيها و قالت بخفوت
(ما هي تلك؟).

ابتسم قاصي و قال بهدوء
(ماذا ترينها؟، مبلغ من المال)
استدارت اليه بكليتها الآن، ثم قالت بجدية
(أرى أنه مبلغا من المال، لكن لاي شيء؟)
قال قاصي ببساطة
(هذا لمصاريفك الشخصية، و مصروف البيت كما أنني سأتكفل بدفع ايجار الشقة)
ساد الصمت بينهما طويلا و هي تحدق به عاقدة حاجبيها مكتفة ذراعيها، ثم قالت اخيرا بصوت جامد.

(شكرا، لكن لدي راتبي الخاص، و لا أحتاج لأي مال منك، و ايجار الشقة بالتأكيد لن تتكفل به، لأنها ليست استراحة لك كما سبق و اخبرتك)
ارتفع حاجبي قاصي و نظر اليها نظرة مبهمة شديدة الاستفزاز قبل ان يقول ببساطة
(هل تظنين أن آتي الى هنا، و أحيا معك حياة الأزواج دون أن أتكفل بمصاريفك؟)
ضاقت عينا تيماء، و شعرت بجرح غائر في قلبها...
هل هذه هي نهايتها؟
أن تكون مجرد زوجة للمتعة؟، دون اهل أو عائلة...

دون بيت أو استقرار؟
هل هذا هو ما فعله الحب بها؟
اتجهت تيماء الى السرير ثم جلست على حافته و هي تضع ساقا فوق اخرى، بينما نظرات قاصي تلاحقها بنهم و هي تلف نفسها بمنشفة تكاد ان تلتهما، و شعرها المعدني المجعد مبلل حول رأسها و ظهرها مما جعلها شبية بحورية البحر تماما...
الا أنها تكلمت بهدوء و قالت.

(أتعلم أنه لا فكرة لدي عن وظيفتك حتى الآن؟، هل تتخيل مدى غبائي؟، لم أسالك من اين تحصل على المال و كيف تتدبر أمر معيشتك؟)
ابتسم قاصي ابتسامة موجزة...
الا أنها لم تكن ابتسامة تماما، كانت انطباعا او ردة فعل لسؤال لم يستسيغه...
الا أنه قال ببساطة وهو يجلس على كرسي طاولة الزينة الصغير ليواجهها، مريحا ذراعيه الى ركبتيه
(تشاركت مع رجل صالح منذ فترة قصيرة في مطبعة قديمة يملكها، كانت على وشك الإفلاس. ).

بهتت ملامح تيماء فجأة و قالت مصدومة...
(تشاركت مع من، في، ماذا؟)
ازدادت التواءة شفتيه، و من المفترض أنها ابتسامة، الا أنه قال بنبرة باردة قليلا
(اشتركت مع رجل طيب، كان يملك مطبعة تعمل بالأجهزة القديمة، كانت على وشك الإفلاس، كان لدي مبلغ ادخرته، فاشتريت به جهازا للطبع أحدث قليلا و شاركته، و العائد نقسمه بيننا)
كانت تيماء لا تزال تنظر اليه مبهوتة، فاغرة شفتيها...
ثم ابتلعت ريقها و قالت بتلعثم...

(لكن، أين ذهبت طموحاتك و أحلامك و مشاريعك؟)
افلتت من بين شفتيه ضحكة ساخرة و قال بنبرة قاسية
(ماذا تتوقعين من خريج معهد؟)
هتفت تيماء
(لكنه يعد معهد جامعي رغم كل شيء، ثم أنه لم يكن حاجزا لك أمام طموحاتك من قبل)
قال قاصي بنبرة قاتمة، وهو ينظر الى عينيها المفجوعتين...
(تأخرت جدا في السؤال يا تيماء، كان عليك القائه قبل موافقتك على الزواج بي).

ضحكت تيماء ضحكة ليس لها صوت، مجرد نفسا مرتجفا خرج مع ابتسامة ساخرة...
ثم لم تلبث أن همست
(كان على فعل الكثير من الأشياء قبل الموافقة على الزواج منك!، و على الآن تحمل تبعات غبائي!)
رفع قاصي ذقنه بينما تسمر فكه بشعور غريب من الخيبة...
الا أنه تماسك و قال ببرود
(لن ينقصك شيء، فلا تخافي)
رفعت تيماء وجهها اليه و قالت بنفس النبرة الفارغة.

(أنا بالفعل لا ينقصني شيء، لقد أخبرتك أن لدي راتبي الخاص، لكن لو لا تعتبرها اساءة و زيادة فضول مني، كيف تدبر نفسك؟، من المؤكد أن عائد مطبعة قديمة ليس بالكثير، و أنت، أنت ماذا تفعل في حياتك؟، الا تفعل أكثر من انتظارك للعائد؟)
كل كلمة تنطق بها تحول ملامحه الى لوحة قاتمة أكثر...
لكنه قال ببساطة.

(بعد شراء الجهاز الجديد ازداد عائد المطبعة، أعيش به مستور الحال، أنا وعمرو ووالدته، كما أنني ألحقت عمرو بمدرسة ليست زهيدة الثمن و لا ينقصه شيء، مثلي مثل الآلاف في هذا البلد)
أغمضت تيماء عينيها و رفعت كفيها و هي تقول
(حسنا، حسنا، لحظة، و ماذا عن سيارتك؟)
قال قاصي بهدوء
(أدفع أقساطها شهريا)
فغرت تيماء شفتيها و قالت مصدومة
(تلك التي كسرت لها خلفيتها و مصابيحها؟)
مط قاصي شفتيه في ابتسامة ساخرة وهو يقول.

(هي بعينها، كانت بعينيها، لكن بفضلك أصبحت بعينها)
كانت تيماء تهز رأسها بعدم تصديق، ثم قالت بخفوت
(لم تجيبني على سؤالي، أنت ماذا تفعل عدى انتظارك لعائد المطبعة؟)
قال قاصي مبتسما ببساطة
(أطبع بالأجهزة القديمة ثلاثة أيام في الأسبوع، و هذا العمل له حصة منفصلة عن العائد)
وضعت تيماء يدها برفق على بطنها دون أن تشعر، بينما ظلت تنظر اليه بنظرة لا معنى لها...
التقط هو معناها بوضوح...

كانت نظرة احباط و خيبة أمل، و صدمة...
نهض قاصي من مكانه و اتجه اليها ببطىء، بينما كانت هي في نفس جلستها شاردة تماما...
الى أن جلس بجوارها فانتبهت اليه، حاولت الإبتعاد الا أنه جذبها اليه قائلا بنعومة
(لا تبتئسي بهذا الشكل، عشت أياما أسوأ، أنا الآن أفضل بكثير)
هتفت تيماء فجأة بيأس بالغ.

(أي حال قد يكون أسوأ من هذا!، أنت مجرد عامل و مسؤول عن بيتين و طفل، لقد ظننت، لقد ظننت أن جدي يساعدك، أنت شديد الأناقة و كنت مقربا منه حتى شهور مضت)
نظر اليها بنظرة غريبة قاتمة، ثم قال بصوت جامد
(عرض علي، و رفضت، حتى ترويض خيولهم، أفعلها كهواية فقط)
نظرت اليه تيماء بعجز، ثم صرخت بقوة.

(أنت تفعل كل شيء كهواية يا قاصي!، الا ترى!، حياتك كلها ما هي الا مجموعة من النزوات و الرغبة في الإنتقام، لم تحقق اي تقدم بحياتك، و أنا التي كنت أتسائل عن سبب عدم اهتمامك بدراستي التي غيرتها، و المنحة التي ضاعت مني، الآن فقط فهمت...
أنت لا تعطي لاي شيء في هذه الحياة قيمة الا رغباتك الخاصة فقط، تسعى خلفها منتشيا دون هدف أو تخطيط، لكن لا مكان لديك لطموح أو مسؤولية).

أمسك بوجهها بين كفيه فجأة، ثم نظر إلى عينيها قائلا بنبرة غامضة...
(يمكنك ادعاء هذا في أي شيء، الا وجودك في حياتي، لم يكن مطلقا نزوة أو رغبة خاصة، بل كان السير المنطقي لحياة كل منا، في الحقيقة لم يختر أي منا الآخر، بل هي حياتينا. اندمجنتا في خط واحد، خط واحد سنسير به معا للنهاية يا تيماء، و لا مجال للتراجع، فلا تقنعي نفسك بأنه كان بامكانك اختيار الأفضل، لأن هذا غير وارد مهما حاولتي).

تأوهت تيماء بعذاب و همست...
(أرجوك اتركني، لا أستطيع التفكير الآن)
لكن قاصي أحاط كتفيها بذراعه يشدها الى صدره و يده الأخرى تداعب فكها هامسا
(أنت دائما تقولين هذا، و أنا لا أتركك)
مرت أصابعه فوق العلامات الزرقاء أعلى ذراعها و قال بصوت أجش هامس
(كيف حدثت تلك.؟)
نظرت تيماء بطرف عينيها الى العلامات، ثم تنهدت قائلة
(عندما كنت تجذبني من خلف والدي، لقد فقدت السيطرة على نفسك تماما)
ضاقت عينا قاصي وهو يقول بخفوت.

(والدك؟)
صمتت تيماء متخوفة من نوبة أخرى من نوبات غضبه، الا أنه رفع ذراعها حتى لامس العلامات الزرقاء بشفتيه هامسا
(ليس لك والد غيري يا تيماء، ضعي هذا في عقلك، و قلبك)
كانت يده تلمس جانب رأسها، ثم موضع قلبها وهو يتكلم، قبل أن يميل بها و يغيبها في قبلة طويلة...
تسائلت تيماء معها، هل كانت لتكون أسعد حالا في العلاقة معه إن لم يفعل والدها معها ما فعل منذ سنوات؟

بداخلها رغبة عاطفية عنيفة في أن تكون طبيعية مع زوجها، تشعر بقوة مشاعره التي يشعر بها هو...
و جانب آخر يخبرها، ربما ما فعله والدها كان الأفضل...
إن كانت على هذا الحال و تبدو كالمغيبة خلفه، فماذا لو أضافت الى عشقها رغبات كتلك التي تظهر في عينيه فتشعلانهما أكثر...
ربما علم والدها أي جنون يرميها في طريق قاصي فوضع بعض الحد له...
أي مرحلة من التشوه النفسي تسبب بها هاذان الرجلان في حياتها؟

في مرحلة متأخرة من الليل...
ظلت تيماء تنظر الى قاصي النائم في سريرها...
مرت ساعات قليلة و هي تحاول مساعدته في النوم، فكلما أغمض عينيه و غاب عنها، تنتابه الكوابيس فتتحشرج أنفاسه...
و بعضا منها كان ينادي أمه كالعادة، أما البعض الآخر، فنادى باسمها هي، تيماء...
أخذت تمشط له شعره بأصابعها و هي تهمس له في أذنه برقة أن يرتاح، و أنها ساهرة هنا الى جواره و أنها لن تذهب الى أي مكان...

كانت تضمه اليها برقة، و تهمس له بحنان...
لكن الروح لها رأي آخر...
كانت روحها تبدو ميتة، و كأنها غير قادرة على الاندفاع في مشاعرها تجاهه ككل مرة...
بداخلها شيء قد خدش تجاهه، و لا تعرف ان كانت ستستطيع اصلاحه يوما...
نام قاصي اخيرا لما يقرب من الساعة دون ان يتململ او ينتفض، خاصة و أنها تركت له ضوءا جانبيا صغيرا كي لا يزيد الظلام من قلق نومه...
و بقت هي مستندة الى مرفقها تراقبه في صمت...

اخذت أصابعها تمر على ملامحه برقة و كأنها تحفظها عن ظهر قلب، بينما ملامحها ساكنة تماما الى أن همست بخفوت تحادثه.

ترى لو لم تتصرف كما تصرفت، هل كنت أخذت القرار بالسفر و الابتعاد عنك فعلا؟، هل كنت بيدي وقعت قرار الفراق لما يزيد عن أربع سنوات و أنا لم أهنأ بعد في زواجي منك ولو ليوم واحد!، لكنني لم أفعل، أنت من وقعت القرار بجرحي، ومنحتني الفرصة لالقاء اللوم عليك، و احداث الخدش بقلبي، أشكرك لأنك لم تهزمني أمام نفسي و تلقيت اللوم بدلا عني، أنت الآن الملام و عليك التحمل، سمعت فجأة صوت رنين هاتفه، فعقدت حاجبيها و هي تتسائل عن هوية من يتصل به في مثل هذه الساعة...

ظلت تيماء ساكنة مكانها لعدة لحظات، ثم انحنت فوقه تمد ذراعها لتلتقط هاتفه و نظرت الى الاسم المضيىء في عتمة الليل...
ريماس...
شعرت تيماء بأن الخدش في قلبها قد تحول الى جرح عميق نافذ...
زوجته تتصل به، بينما هو الآن يرقد هنا في سريرها هي!
أظلمت عيناها بألم و هي تحدق في الاسم دون تهاون و كأنها تعاقب نفسها على هذا الحب اليائس...
رفعت الهاتف أخيرا الى أذنها و ردت بخفوت
(نعم).

سمعت تردد في الجانب الآخر، و بدت و كأنها اجفلت من صوت تيماء، لكنها نطقت أخيرا بخفوت
(هل يمكنني مكالمة قاصي؟)
كان صوتها أجش، لكنه أنثويا كالخرير، به بحة مميزة، مما جعل نار تيماء تشتعل في صدرها أكثر...
الا أنها أجابت بخفوت بلا تعبير
(إنه نائم الآن، هل أبلغه رسالة معينة؟)
لم تتوقع ريماس هذا الهدوء و التعقل من قبل تيماء، خاصة بعد جنونها في المرة السابقة...

و هذا الهدوء أثار في نفسها حقد خفي، و تصورات عدة، مما جعلها تقول بصوت أنعم
(هلا أيقظته رجاءا؟، أريده في أمر هام جدا، و خاص)
أغمضت تيماء عينيها لعدة لحظات، ثم فتحتهما لتهز كتف قاصي بقوة و هي تقول بجمود
(قاصي، قاصي، استيقظ)
انتفض جسده قليلا وهو يهمهم
(هه، ماذا)
ناولته تيماء الهاتف بفظاظة و هي تقول بفتور
(زوجتك تريدك في أمر هام).

استيقظ قاصي على الفور و نظر الى تيماء نظرة طويلة، وهو يضع الهاتف على أذنه ليقول بجفاء
(ما الأمر يا ريماس؟)
حاولت تيماء النهوض، الا أنه لف خصرها بذراعه و جذبها اليه الى أن قيدها اليه تماما و منعها من الحركة
بينما سمعت تيماء صوت ريماس و هي تقول له بوضوح
(عمرو، حرارته مرتفعة للغاية، و قد حاولت بكل الطرق خفضها الا أنني لم أنجح و بدأت أشعر بالخوف، إنه دائخ للغاية من شدة الحرارة)
رد عليها قاصي بصوت مغمغم.

(كم الساعة الآن؟)
قالت ريماس بوداعة و صوت منغم، لمحت تيماء الدلال فيه دون شك
(قبل الفجر بساعة، لم أرد ازعاجك، لذا انتظرت الليل كاملا، لكن حالة عمرو لا تتحسن)
قال قاصي بصوت أجش
(حمميه بماء بارد الى أن يحل الصباح يا ريماس، و سآتي اليك، أنا متعب قليلا الآن كي أقود كل تلك المسافة في الظلام)
حاولت تيماء الإبتعاد مجددا، لكنه جذبها اليه أكثر حتى مال عليها و هنا أصبح تحركها مستحيلا، فنظر الى عينيها محذرا...

بادلته تيماء النظر بعينيها الواسعتين المحدقتين به بشرر أزرق، ثم سمعت ريماس تقول له بخفوت
(لا داعي لتزعج نفسك، سألبسه ملابسه و انزل به الى أقرب مشفى)
الا أن قاصي قال آمرا
(لا تخرجي به من البيت في مثل هذه الساعة يا ريماس، كم هي درجة حرارته؟)
قالت ريماس باستسلام
(تقارب الأربعين)
قال قاصي بصوت واثق.

(حسنا حمميه بماء بارد، و واظبي على كمادات الماء البارد و ما أن تشرق الشمس حتى أعود اليكما، و إن لم تنخفض الحرارة خلال ساعة اتصلي بي مجددا، سأكون مستيقظا. )
همست ريماس برقة
(حاضر، شكرا لك يا قاصي، كنت احتاج لسماع صوتك الواثق حتى أطمئن)
قال قاصي بخفوت
(لا بأس، سيكون بخير، لا تقلقي)
أغلق الخط، ثم نظر إلى تيماء في الضوء الخافت طويلا، الى أن قال هامسا بصوت أجش
(هل أنت بخير؟)
قالت تيماء و هي تتململ.

(أريد النهوض، سأذهب الى الحمام)
بدا قاصي و كأنه لا ينوي تركها، وهو يدقق النظر بها بعين نافذة، ثم تركها اخيرا لتقفز مبتعدة عن السرير و عنه...

نكمل في الجزء الثاني من طائف في رحلة أبدية.

تمت
الجزء التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة