قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع والخمسون

أصوات الضحكات في الخارج كانت و كأنما هي سيوف تقطع من روحها رويدا...
منذ ما يقرب من الساعة و هي جالسة في، سريره...
تنظر الى النافذة البعيدة و كأنها ترى منها فعلا، بينما صوت ضحكاتهما يصلها بوضوح و على الأرجح أنه الصوت الذي أيقظها من النوم!
لا تصدق أنها قد نامت بالفعل!، بعد فعلتها السوداء في الاستسلام له ما أن استيقظت ليلة أمس على قبلاته الدافئة...

أغمضت عينيها الميتتين النظرات و هي تتذكر تلك اللحظات الناعسة و عقلها الغير مستوعب لوجوده أخيرا...
كانت قد بدأت تستفيق و تعترض...
الا أنه لم يتح لها الفرصة، بل انقض عليها بكل مشاعره القوية كبحر هائج...
بدت و كأنها تحارب وحدها وسط دوامة تبتلعها الى أعمق أعماقها دون أن تجد القدرة على الإعتراض...
فتحت تيماء عينيها و هي تنظر الى النافذة البعيدة مجددا...

تحاول تحليل مشاعرها الغبية، على الرغم من أن عقلها بدا أجوفا فارغا تماما...
لكنها لم تجد الفرصة...
فقد سمعت صوت باب الغرفة يفتح بهدوء...
بقت على حالها دون أن تدير وجهها للباب على الرغم من تلك المشاعر العاصفة التي انتابتها...
مشاعر متضاربة و متناقضة...
و مرت عدة لحظات من الصمت قبل أن تسمع صوت الباب يغلق بنفس الهدوء!
للحظات ظنت بأنه قد فضل منحها بعض الخصوصية و تركها لنفسها قليلا...

الا أنها اكتشفت وجوده في الغرفة و هي تسمع وقع قدميه الخافت على أرض الغرفة وهو يقترب منها بثقة
لم تتحرك. بل بدت و كأنما قد تحولت الى تمثال فاقد للروح...
حتى و هي تشعر بثقل الفراش بجوارها وهو يجلس و عيناه تخترقان جانب وجهها و شعرها الهمجي من حولها...
ظل الصمت طويلا، طويلا، بدا مهلكا و عنيفا...
حتى شعرت بأنفاسه اللافحة تقترب منها الى أن لامست شفتيه كتفها الغض وهو يهمس فوقه بنعومة.

(اذن فقد استيقظت أخيرا، صباح الخير)
أجفلت تيماء و تصلب جسدها على الفور، و هذا ما لاحظه قاصي فرفع وجهه ينظر اليها بصمت و قد انعقد حاجباه قليلا، الا أنه لم يتكلم على الفور...
بل ساد الصمت مجددا لعدة لحظات قبل أن يرفع يده ليبعد موجات الشعر الكثة بحثا عن عينيها ثم قال بصوت أجش خافت
(ألا تريدين النظر إلى حتى؟)
لا تعلم كيف أفلتت منها ضحكة صغيرة ساخرة.!

و سمعها هو و كأنها ضحكة عالية هيستيرية على الرغم من خفوتها الشديد، فازداد انعقاد حاجبيه...
، ثم قال بصوت أجش خافت
(لا تليق بك تلك السخرية المريرة يا زمردة، لما لا تنظرين الى عيني و تواجهيني بشجاعة؟)
مرت عدة لحظات من الصمت قبل أن تنفض شعرها و تدير وجهها الشاحب لتنظر الى عينيه كما طلب...
كان وجهه صلبا، مرهقا و غير حليق الذقن، وعيناه غابتين مظلمتين من الأسرار...

الا إنهما ما أن واجهتا عينيها الفيروزيتين حتى رقتا فجأة، و خفت صلابة ملامحه رغم عنه و كأن النظر بهما أضعفه...
فقال بنفس الصوت الأجش، بنبرة أكثر خفوتا و كأنه شاردا يحادث نفسه
(عرفت لسنوات طويلة أن عينيك جميلتين، لكنني لم أعرف مبلغ تأثير النظر اليهما في الصباح الباكر، حين يصبح لونهما أكثر شحوبا)
لم ترد تيماء و هي تنظر اليه بدون تعبير، فتحركت عيناه مجددا على ملامحها ببطىء.

وجهها صامت، شديد البياض أما عيناها فتنظران اليه بلا معنى...
رأت وجهه يقترب منها ببطىء، فأخفضت عينيها تلقائيا الى شفتيه اللتين تعرفان وجهتهما تماما، و ما أن اقتربتا من شفتيها حتى ادارت وجهها الى الجهة الأخرى فسقطت قبلته على وجنتها بنعومة...
تصلبت ملامح وجهه الا أنه لم يبتعد عنها، بل ضم كتفيها من الأمام بذراعه وكأنه على وشك خنقها لو أقدمت على أي اعتراض...

تسمرت تيماء و أوشكت على الصراخ الا أنها اجبرت نفسها على الصمت و السكون مكانها وهو يشدد من ضمها الى صدره...
ثم همس أخيرا فوق وجنتها، (لا زلت لا أصدق حتى الآن أنك أصبحت زوجتي، بعد كل تلك السنوات!)
ابتلعت تيماء ريقها بصعوبة، بينما أبقت عيناها مسمرتين على النافذة البعيدة وهي تستمع الى الهمس الاجش فوق بشرتها...
الى أن تابع بصوت أكثر خشونة و خفوتا...
(أخشى أن يكون حلما)
أغمض عينيه و تأوه هامسا.

(و كأن السنوات لم تمر، نفس عطرك و نفس رائحة شعرك و ملمسه، و ذكرى قبلة قلبت كياني فأنستني نفسي منذ دهور)
ظلت تيماء صامتة و هي تشعر بالألم الحاد يمزق صدرها، الا أنها لم تجرؤ على النطق و الإعتراض
فبأي وجه تعترض و تصرخ به غضبا بعد استسلامها المخزي له،!
شعرت بأصابعه تداعب ظهرها وهو يلامس أطراف شعرها بجنون ثم همس في أذنها بخفوت.

(هذا الشعر لا تقصيه أبدا، يبدو شديد الجنون مثلك تماما، كقطعة منك يا زمردة النار)
تحركت تيماء في النهاية و هي تبعد شعرها عن متناول يده ببطىء، ثم حاولت التحرك الا أنه شدد قبضته عليها فسكنت و هي تقول بصوت فاتر خافت
(ابتعد عني رجاءا).

بدا و كأنه لن يتركها فقد انقبضت أصابع ذراعه المحيطة بعنقها على كتفها بقوة، و كانت تشعر بقوة ضربات قلبه المهددة بوضوح فوق ظهرها الا أنه في النهاية تركها فابتعدت عنه قليلا متنفسة الصعداء دون أن يظهر أي تعبير على ملامح وجهها الشاحب...

تأمل قاصي وجهها المحني طويلا ثم فتح فمه ينوي الكلام، الا أنه عاد و أغلقه و ازداد انعقاد حاجبيه، فأخفض عينيه وهو ينظر الى أصابعه التي كانت تلاعب أصابع كفها المتمسكة بالغطاء، شارد الفكر تماما...
ثم قال أخيرا بصوت أجش جاف
(ليلة أمس، كنت في حال، سيء، لكن قبولك بي في نهاية جعلني أفضل)
رفع عينيه الى عينيها الصامتتين المتباعدتين، ثم تابع بصوت أكثر خشونة و خفوتا
(شكرا لك).

ساد صمت غريب بينهما، و تيماء تنظر الى عينيه دون أن تفزع أو حتى دون أن تصدر اي ردة فعل، ثم قالت أخيرا بصوت فاتر
(العفو، لا شكر على واجب)
حينها ازداد انعقاد حاجبيه بشدة ثم لم يلبث أن نهض من السرير بقوة جعلتها تترنح من عنف حركته، ونظر اليها مكفهر الوجه قائلا بخفوت أجش
(جهزي نفسك و اخرجي لتتناولي الإفطار معنا، سننتظرك).

القى عليها نظرة أخيرة غامضة، و بدا على وشك الإنفجار غضبا لسبب مجهول، الا أنه سيطر على نفسه و ابتعد عنها متجها الى باب الغرفة...
بينما كانت عيناها تنظران الى ظهره القوي و شعره المتناثر الناعم...
لكنه و ما أن مر بالباب المفتوح حتى ضربه بقبضته المضمومة بكل قوته، ضربة أطاحت بالباب جعلته يرتطم بالحائط خلفه بكل عنف.

صوت الضربة القوي جعل تيماء تنتفض مكانها بذعر و هي ترى تلك الإنفجارة القوية المفاجئة، قبل أن يخرج من الغرفة دون أن يستدير اليها...
أما هي فقد فغرت شفتيها قليلا و عيناها ترسمان أمام ادراكها المتهاوي عبارة واحدة قاتلة...
هذا الرجل أصبح زوجي، و كم أجهله!، لا أعرف منه سوى ظلال الخيانة، بينما قلبي الغبي لا يزال يهفو ليداوي ألمه قبل ألمي!، أغمضت تيماء عينيها وتركت وجهها يتهاوى و هي تهمس بعذاب.

(أستحق هذا العذاب، أنا أستحق هذا العذاب بجدارة!).

كانت عيناها هي من تقوداها، مسمرتين على المطبخ الذي تسمع منه صوت قاصي الهادىء وهو يكلم ابنه!
و صوت الطفل الصغير يرد عليه مغمغما بصوت خافت طفولي...
أما هي فقد كانت تتحرك بخطوات بطيئة، و عينان تنظران أمامهما فاقدتي الحياة...
الى أن وصلت لباب المطبخ فوقفت به تنظر اليهما بصمت بارد...

كان عمرو يجلس على احدى الكراسي أمام الطاولة الخشبية البسيطة، و أمامه طبق واسع، بينما قاصي يقف بجواره وهو يسكب في طبقه ما أعده اليه من فطائر ساخنة...
شعرت تيماء بالألم ينحر قلبها وهي تتأمله...
كان نفس الطعام تقريبا!، لا تزال تتذكر طعمه في فمها بعد عشر سنوات كاملة!
نفس البيض و النقانق التي أعدها لها كي تأكل و هي في الرابعة عشر من عمرها...

حتى أنه في تلك اللحظة بدا أصغر و كأنه قد عاد الى عمر الرابعة و العشرين!
نفس ملامحه و نفس شعره!، لكن الخطوط و الجروح بوجهه هي الدليل الوحيد على أن السنوات مرت بهما بكل مرارتها...
رفع وجهه اليها فجأة و كأنه شعر بوجودها دون أن تصدر صوتا...
لمعت عيناه قليلا ثم ابتسم قائلا بهدوء
(انظر من قرر ان يشاركنا الإفطار!).

رفع عمرو عينيه ينظر الى تيماء بصمت دون أن يجيب بينما وقفت مكانها و هي ترفع وجهها ببرود و هي تطع كفيها في جيبي بنطالها الجينز...
ثم قالت بفتور
(لم يكن عليكما انتظاري)
لم تختفي ابتسامة قاصي، بل رد ببساطة
(كيف لا ننتظر العروس؟)
اختفى قناعها البارد و ظهر الألم بعينيها واضحا و هي تنظر الى عينيه و كأنها تسأله في صمت.

كيف يمكنك أن تكون بهذه القسوة؟، و قد قرأ رسالة عينيها بالفعل، فنظر اليهما طويلا قبل ان يقول بمرح مصطنع
(تعالي اجلسي، سأحضر اليك طبقا)
ظلت واقفة مكانها و هي تنظر اليه يستدير و يوليها ظهره، فقالت بجمود
(لست جائعة، أحتاج الى قهوة فقط)
قال قاصي بلامبالاة بردها الخافت الميت
(بل ستأكلين، اجلسي يا تيماء).

رفعت عينيها الى عينيه و هي تلمح النبرة العدائية التي ظهرت في أمره الهادىء، فصدمتها عيناه العميقتان المحذرتان...
ضاقت عيناها و هي تتسائل إن كان يتخيل أنه قد يسيطر عليها لمجرد استسلامها له ليلة أمس!
سيكون خاطىء اذن، و سيدفع ثمن ذلك و ثمن كل ما اقترفه بحقها...

اسبلت جفنيها حين لاحظت تحديقه المدقق بها ثم تحركت ببطىء الى أن سحبت الكرسي المجاور لعمرو مباشرة و هي تبعد شعرها المبلل عن وجهها و الذي لم تهتم حتى بجمعه...
الا أنها انتفضت حين شعرت به يقف خلفها و شعرت بيداه تجمعان لها شعرها فجذبت رأسها بقوة الا أنها تأوهت و أغمضت عينيها حين شدد قبضتيه على شعرها، و حين سمرت رأسها أخيرا، قال قاصي بهدوء بارد
(توقفي عن ذلك يا تيماء).

سحبت نفسا خشنا عنيفا و عضت على شفتيها كي لا تتكلم، فأخذ يجمع لها شعرها المبلل بكلتا يديه بينما هي تنظر الى عمرو نظرات مبهمة، وهو يبادلها النظر بفضول...
و ما أن انتهى قاصي من جمع شعرها في كتلة كثيفة خلف رأسها حتى قال بخفوت أجش
(ها قد رفعته لك عن ظهرك، لقد بلل قميصي تماما!).

اطرقت تيماء بوجهها صامته، الا أنه مد قبضته ليمسك بذقنها وهو يدير وجهها و يرفعه حتى واجهت عينيه العميقتين المشتعلتين، فتحركت شفتاه و قال بخفوت هامس
(تبدين جميلة بهذا القميص)
ظلت تنظر اليه بصمت ثم قالت أخيرا بجمود
(لم أرتديه رغبة مني في ذلك، أنا أحتاج الى ملابسي)
ضاقت عيناه و يده تربت على وجنتها بنعومة، ثم قال بنبرة لطيفة مخادعة
(سنشتري ملابس جديدة، سأشتري لك كل ما تتمنينه من ملابس تليق بعروس جديدة).

اوشكت تيماء على الصراخ بجنون و كسر الأطباق أمامها
هل تدعي الجنووووووون!، الا أنها عادت و سيطرت على نفسها فأبعدت وجهها عن مرمى يده و قالت بنفس الجمود
(يوما ما يجب على العودة الى بيتي، لا أظنك تمانع)
تركها قاصي ليفرغ الطعام في طبقها، ثم دار حول الطاولة ليجلس أمامها بأريحية قبل أن يقول مبتسما و متمهلا.

(سنذهب معا بالتأكيد كي تحضري أغراضك، على أنني لست في عجلة من أمري، فنحن لا نزال بأول يوم من أيام شهر عسلنا)
تصلبت عيناها و هي تبادله النظر بينما هو يبدأ في تناول طعامه ناظرا اليها بابتسامة لم تصل الى عينيه الحادتين...
ثم قال ببساطة وهو يمضغ طعامه
(كلي حبيبتي)
ألم جديد، سكين حادة أخرى، وهو يلفظ بتلك الكلمة بمنتهى البساطة و كأنه يدللها بالفعل!
و كأنها عروسه الحبيبة فعلا!

أطرقت تيماء وجهها الشاحب لتخفيه عن عينيه المراقبتين لكل حركة و لمحة منها، ثم أمسكت بشوكتها و أخذت تتلاعب في طعامها دون أن تتذوقه حتى...
و هي تشعر بأنه على الرغم من تظاهره بالهدوء و اللامبالاة الا أنه يراقبها بعينين كعيني الصقر...
لا بأس، لا بأس...
زمت شفتيها هي تضيق عينيها على الطبق أمامها مغلفة نفسها بدرع واقي يحميها منه حاليا...
لكن خلف ذلك الدرع، كانت هناك غصة تشطر حلقها نصفين، و قلب يموت ببطىء...

قال قاصي يجذبها بقوة من شرودها الجليدي الجامد
(تيماء)
ارتفع وجهها اليه دون ارادة منها، فنظر الى عينيها قبل ان يقول مبتسما دون مرح
(لا أحب صمتك هذا، اما أن تتكلمي أو اشغليه بتناولك الطعام)
أرادت الصراخ به أن يضرب بما يحب و ما لا يحب عرض الحائط...
الا أنها وجدت يدها ترتفع لتضع بعض الطعام في فمها دون أن تبعد عينيها الجليديتين عن عينيه المتفرستين بها...
و اخذت تمضغ ببطىء و هي تحاصره بعينيها كما يفعل هو...

الا انه لم يشعر بالحرج، بل ظل ينظر اليها بقوة دون أن يرف جفناه و كأن بين أعينهما حوار ناري صاعق، لا يصل صوته اليهما...
صوت رنين هاتفه دوى فجأة من الخارج مما قطع عليهما اتصال اعينهما...
فزفر قاصي بضيق قبل أن ينهض من مكانه قائلا بهدوء أجش
(ابقيا مكانيكما، و لا تتحركا قبل أن ينهي كل منكما طعامه)
ابتعد ليخرج من المطبخ بينهما اطلقت تيماء نفسها المكبوت اخيرا.

نفسا ساخنا ممزقا بدا أشبه بشهقة عالية، مما جعل عمرو ينظر اليها بصمت، أما هي فقد التفتت اليه بقصد و حدة...
يوم أمس لم تكن مستعدة لمزيد من الصدمات، كانت تمر بحال من انعدام الوزن و الوعي...
و هي تقضي الساعات ناظرة للطفل دون ان تحاول استجوابه...
أما الآن...
نظرت تيماء بطرف عينيها الى الباب الذي خرج منه قاصي للتو، ثم أعادت عينيها الى عمرو بسرعة
و همست تسأله باهتمام
(كم عمرك؟).

نظر اليها عمرو نظرته الصامتة و ظنت أنه سيتجاهلها، الا أنه ترك شوكة الطعام ثم رفع كفه مفرودة الأصابع أمام عينيها المعذبتين...
كان الجواب الذي كانت تخشاه...
منظر كفه الصغيرة المفرودة كان كأكبر صفعة رفضت تصديقها حتى الآن...
خمس سنوات!
أي أن أمه حملت به منذ ست سنوات تقريبا!
همست تيماء بذهول...
(قبل أن نفترق!)
نظرت الى عمرو مجددا ثم شهقت و همست بألم يكاد أن يكون توسلا
(ما اسمك؟، هل تعرف اسمك كاملا؟).

ظل عمرو صامتا للحظة ثم فتح فمه و تكلم أخيرا بخفوت
(عمرو الرافعي)
أغمضت تيماء عينيها و أخفضت وجهها و هي تحيط جبهتها بكفيها هامسة بصدمة و ذهول
(ياللهي!، ياللهي!)
رفعت وجهها بعنف و نظرت الى عمرو و همست بصوت مشتد كالوتر
(هل يعيش والديك معا؟)
لكن و قبل أن يجيبها عمرو على سؤالها الهامس، سمعت صوت قاصي يقول فجأة بوضوح قوي
(لست بحاجة للهمس، يمكنك سؤالي عما تشائين تيمائي).

رفعت عينيها العنيفتين و نظرت اليه يقف في اطار باب المطبخ وهو ينظر اليها مقطب الجبين على الرغم من الابتسامة الساخرة على شفتيه...
فقذفت الكلام بوجهه دون أن تستطيع منع نفسها
(أسألك أنت!، أثق بأول من أقابله في الطريق و لا أثق بك أنت)
ضاقت عينا قاصي وهما تنظران اليها بنظرات مخيفة، و شعرت و كأنها قد آلمته بحق رغم سذاجة عبارتها المنتقمة، و كم أشعرها ذلك بالتشفي اللحظي و الإنتصار عليه...

كم رغبت في تلك اللحظة في ايلامه أكثر، و أكثر حتى يصرخ طلبا للرحمة
و على ما يبدو أن مشاعرها السادية المعذبة قد ظهرت بوضوح في عينيها الشفافتين، فقال قاصي أخيرا بهدوء
(عمرو، خذ طبقك و اذهب الى غرفة الجلوس، شاهد التلفاز أثناء تناولك الطعام)
بدا عمرو مطيعا تماما وهو ينهض من مكانه ليحمل طبقه معه و يغادر المطبخ بخطواته الطفولية، بينما وقف قاصي مكانه وهو ينظر الى تيما، ثم كتف ذراعيه ليقول بجمود صلب.

(ها أنا أمامك، اسألي ما بدا لك، أنا مستعد لكل اسئلتك)
نهضت من مكانها ببطىء دون أن تحيد بعينيها الناريتين عن عينيه، ثم قالت بصوت غريب يرتجف بكل طاقات الاحساس بالغدر و الخيانة
(لقد اكتفيت، لقد سمعت كل ما أريده)
ثم اندفعت تنوي تجاوزه لتخرج من المطبخ اللعين، الا أنه كان أسرع منها فقبض على ذراعها ما أن مرت بجانبه و دفعها بكل قوته يعيدها الى داخل المطبخ مجددا...

صرخت تيماء بصدمة و هي تصطدم بالحاجز الرخامي من خلفها فتشبثت به بكفيها ناظرة الى قاصي بعينين متسعتين و هي تراه يغلق باب المطبخ ليقترب منها ببطىء و عيناه تبدوان مرعبتين...
الا أنها رفضت أن تسمح له بارعابها، فاستقامت و قالت بصوت عنيف
(افتح الباب، أريد الخروج من هنا)
لم تتغير ملامح قاصي من القساوة و الجمود، بينما هو يقترب منها ببطىء قائلا
(ليس قبل أن تتكلمي).

حاولت التراجع الا أن الحاجز الرخامي منعها من التراجع اكثر، فصرخت بقوة
(لا أريد الكلام، و الأكثر هو انني لا اريد سماع أي كذبة أخرى منك)
ارتجفت شفتي قاصي للحظة، الا أنه لم يلبث أن ابتسم بسخرية قائلا
(على الأقل ها قد عدت الى صراخك، فهذا افضل لدي من حالة الجمود الغير مبشرة التي كانت تنتابك منذ الصباح).

عضت تيماء على شفتيها و عيناها تبرقان بشراسة لم تعد قادرة على السيطرة عليها أكثر و همست من بين أسنانها بصوت مختنق
(أنت، أنت)
كان قاصي قد وصل اليها، فوقف على بعد خطوة منها مكتفا ذراعيه و قدا بدا ضخما جدا و مخيفا...
مخفضا رأسه لينظر اليها عن قرب بعينيه المحترقتين، ثم قال أخيرا بصوت غريب
(أنا ماذا، تابعي، فأنت تثيرين اهتمامي)
كيف يمكنه أن يكون بمثل هذا البرود و القسوة؟، ألهذه الدرجة كانت تجهله كليا؟

الهذه الدرجة كانت تحيا وهما لا يصدق!، كذبة كبيرة حاكها فصدقتها!
قالت تيماء من بين أسنانها بصوت يرتجف قسوة
(كيف استطعت، كيف استطعت خداعي كل هذه السنوات؟، اي مهارة تمتلك!)
لم تتغير ملامح قاصي وهو يراقب عينيها العنيفتين المبلللتين عن قرب، و ما أن اختنق صوتها في حلقها و صمتت، حتر رفع يده ليحيط بها عنقها الأبيض الهش، ثم همس بخفوت
(ربما كنت مخطئة، أين تلك الثقة التي كنت تتشدقين بها دوما).

ضربت يده بكل عنف لتبعدها عن عنقها و هي تصرخ بجنون بينما سقطت دمعة حارقة على وجنتها قبل ان تستطيع منعها
(الديك الجرأة لتتحدث عن الثقة؟، أي نوع من البشر أنت؟، كيف استطعت اخفاء وجهك الحقيقي عني كل تلك السنوات؟، أنت شيطان، شيطان)
أخذت تضرب صدره بقبضتيها بكل عنف وهو لم يتحرك ليمنعها بل تركها تفرغ به كل عنفها و قهرها...
ثم قال بصوت أجش خافت
(و ما دمت شيطان لماذا سمحت لي بالإقتراب منك ليلة أمس؟).

بهت وجهها و هي تنظر اليه بينما العالم يدور حولها بعنف، ثم لم تلبث أن همست باختناق
(اخرس)
الا أن قاصي اقترب منها خطوة أخرى حتى التصق جسده بجسدها وهمس بصوت أجش أكثر
(لماذا يا تيماء؟، أعرف لماذا عدت أنا اليك و ارتميت في أحضانك لأجد نفسي بك، لكن ماذا عنك؟، لماذا سمحت لي بهذا؟)
لا تزال الغبية تملك الحنين اليه كلما تحدث بتلك اللغة الخاصة بينهما...
عضت على أسنانها بقسوة و هي تخفض وجهها بقهر...

قلبها الغبي اللعين يستجيب لكلماته التي توهمها أنها وطنه و عالمه الوحيد...
الا أنها قطعت هذا الطريق بكل قسوة و هي ترفع وجهها اليه لتهمس بشراسة رغم الدموع التي انسابت على وجنتيها
(أم عمرو حملت به منذ ست سنوات)
رمش قاصي بعينيه و كأنها قد اخرجته للتو من ذلك العالم الذي لا يضم سواهمها...
و بقى على صمته و ملامحه المبهمة، بينما ضربته تيماء على صدره بكل قوة و صرخت.

(ست سنوات يا قاصي!، اي قبل أن نفترق حتى!، أي عذر يمكنني أن أمنحك؟)
بقى قاصي على صمته عدة لحظات و هو يراقب انهيارها المعذب امام عينيه، ثم قال بقسوة
(لم أطلب منك أية أعذار)
بهت وجهها و هي تسمع منه تلك النبرة الجافة الخالية من الرحمة، و الحياة...
فهزت رأسها قليلا و كأنها تهمس بكلمة لا، و كأنها لا تصدق هذا الانسان أمامها الذي تراه حاليا كمنبع للشر و القسوة...
فغرت تيماء شفتيها و قالت بصوت الحديد الصدىء.

(هل انت متزوج منها فعلا؟)
انعقد حاجباه قليلا، الا أنه قال بخفوت
(أخبرتك أنني متزوج منها، نعم يا تيماء أنا متزوج من ريماس والدة عمرو)
ريماس، هل هذا هو اسمها؟..
هل همس بذلك الاسم وهو يضمها الى صدره!
أومأت تيماء برأسها و كأنها تحاول أن تستمد بعض القسوة منه، أومأت و كأنها تتوعده و تتوعد نفسها...
كانت تعض على شفتها السفلى و هي تنظر جانبا و هي تتنفس بسرعة، بينما دموع القهر لا تزال تتوالى...

ثم لم تلبث أن رفعت وجهها و نظرت اليه و قالت بصوت هادىء، صلب...
(طلقني)
تراجع رأسه للخلف قليلا، و شحب وجهه للحظة الا أنها كانت تتوهم، فقد قال بصوت كريه
(ظننت أنك قد انتهيت من جنون الأمس)
اتسعت عيناها بعدم تصديق و هي تسمع عبارته الوقحة، فصرخت به بكل عنف
(هل أنت عديم الاحساس؟، أتظن أنني قد أحيا لحظة واحدة مع رجل خائن؟)
التوى حلقه بصورة واضحة، الا أنه همس بصوت اجش وهو يداعب وجنتها.

(لا ينبغي عليك مخاطبة زوجك بهذه الطريقة)
اتسعت عيناها بذهول اكثر و أكثر، ثم ضربت يده مجددا بكل عنف و هي تصرخ
(يا عديم الأخلاق و الإحساس، أنت خائن، خائن، خائن، هل تسمعني؟)
نظر اليها قاصي بصمت طويل قبل أن يحيط عنقها بكلتا يديه رافعا وجهها اليه بابهاميه، ثم نظر الى عينيها و همس بصوته الأجش
(اهدئي قليلا، لا تفعلي هذا بنفسك، ستنهارين قريبا)
حاولت التملص منه و هي تصرخ
(ابتعد عني، ابتعد عني أيها المجنون الخا).

الا أنها لم تستطع اكمال عبارتها، فقد أخفض وجهه و قبلها برفق...
أغمضت تيماء عينيها و هي تئن برفض محاولة دفع جسده القوي...
الا أنه هذا كان من رابع المستحيلات، فقد كان جسده كجدار حجري، لم تقوى على ابعاده، بينما شفتيه على النقيض تماما...
كانتا حنونتين، مترفقتين، و كأنه يواسيها و يمتص ألمها عبر قبلتهما...
صرخت تيماء بصوت متداعي
(ابتعد عني، لا أتحمل اقترابك مني).

الا ان قاصي لم يبتعد بل تنقلت شفتاه ما بين وجنتيها و شفتيها هامسا بحنان
(بلى تتحملين، ليلة أمس حين ضممتك الى صدري دفنت نفسك به بقوة و لم ترغبي في الابتعاد، لا يمكنك الابتعاد يا تيماء)
كانت تصدر أنينا معذبا مع كل قبلة و همسة حنونة منه، و هي تحاول التخلص من ذلك السحر الذي يربطهما دون أن تنجح...
كل لحظة تمر بينهما كانت تجعلها تكرهه أكثر و تكره نفسها معه...

مرة أخرى تدرك أن ذلك السحر لم يكن جسديا أبدا، لهان الامر لو كان جسديا...
بل هو سحر يربط بين قلبها الغبي و قبل ذلك الرجل الخائن الشيطاني لا تملك أن تمحوه...
أطبقت جفنيها أكثر و هي تقنع نفسها بأنها ستستجمع قوتها خلال لحظة، فقط لحظة ثم تضربه بأقرب شيء لها...
الا أن اللحظة أصبحت اثنتين و ثلاث، ثم أربع...

الى أن شعرت بنفسها ترتفع عن الأرض وهو يرفع خصرها كدمية صغيرة ليجلسها على الحاجز الرخامي خلفها و ما أن فتحت عينيها الواسعتين حتى انقض عليها هامسا بعنف أجش
(آآآآآآه يا صغيرة، لم أعرف يوما فرحة سواك)
لو فقط يتوقف عن تلك الكلمات!
لو صمت لاستطاعت أن تقاومه، الا ان كلماته هي القيد الذي يأسر روحها به...
روحها التي تصرخ الآن طالبة الحرية...
تصرخ و تصرخ دون أن يتجاوز صراخها شفتيها الضائعتين بشفتيه...

أما يداه فكانتا تفكان ربطة شعرها الذي ربطها بنفسه منذ دقائق...
فاندفع غزيرا نديا لينسكب على كتفه، يقربه منها اكثر...
أما ذراعه فقد كانت تضم خصرها اليه بقوة، همس في أذنها بجنون
(لن تبتعدي عني مطلقا، أتتخيلين أن أتركك بعد كل تلك السنوات؟)
حاولت الابتعاد عنه بالقوة الا أنه شدد من ضمه اليها، فأغمضت عينيها لتنساب دموعها من تحت جفنيها و هي ترى نفسها على وشك الاستسلام له مجددا...

فأطرقت بوجهها حتى لامست جبهتها تجويف عنقه، الى أن قالت أخيرا
(لقد سألتني لماذا استسلمت لك ليلة امس، أتريد معرفة الجواب؟)
شعرت بجسده يتصلب للحظة، لم يتركها، الا أنها أدركت بأنها قد نجحت في انتزاعه من العالم الذي يعيشه و يضيع به كل مرة...
همس لها قاصي في اذنها
(لماذا، اخبريني).

رفعت وجهها المحمر المعذب و نظت الى عينيه ذاتا الجمر المشتعل بعينين تماثلهما اشتعالا، الا أنها كانت نيرانا من اللهب الازرق يحمل من الكره و الغضب ما يماثل العشق تماما...
نيران جعلت عينا قاصي تظلمان قليلا...
الى أن فتحت تيماء شفتيها و قالت بصوت ميت
(لأن الألم بداخلي كان أكبر من قدرتي على الإحتمال)
الآن رأت الشحوب في وجهه بوضوح و قد فقد احمرار عواطفه الجامحة في لحظة...
الا أنها تابعت بنفس النبرة المقهورة.

(لم أتألم يوما مثلما آلمتني أنت بهذا القدر، ليلة أمس كنت أموت، كنت اموت يا قاصي طوال اليوم و انا أضع كل القصص المحتملة لخيانتك لي، و لم تنجح أي منها في تبرئتك أمام عيني)
صمتت للحظة تبتلع تلك الغصة الحارقة في حلقها، ثم تابعت مختنقة.

(و حين أوشكت على الموت من شدة الألم، كنت على استعداد للقبول بأي شيء يريحني ولو للحظات، فقط لحظات قليلة أوهمت نفسي بها أن ما أحياه ما هو الا كابوس بشع، و أنك هنا، تضمني الى صدرك، و تخبرني بأن كل شيء على ما يرام)
أظلمت عينا قاصي أكثر و أكثر، بينما التوى حلقه أكثر، في حركة لا ارادية، فهمست بصوت معذب قاسي.

(لقد خنت نفسي باستسلامي لك، لا لشيء سوى لأرحم نفسي من الألم لعدة لحظات فقط، هل يمكنك أن تتخيل الآن مدى كرهي لك و لنفسي؟)
ابتعد عنها قاصي خطوة، بينما ذراعاه تتباطئان في تركها، أما عيناه فلا...
نزلت تيماء ببطىء عن الحاجز الرخامي و هي تخفض وجهها لتنظر بعيدا و هي تبكي بصمت، ثم هتفت باختناق.

(وعدت نفسي الا أبكي مرة أخرى قبل رحيلي، لكنني لا أستطيع، ماذا فعلت لك كي تؤلمني بهذا الشكل؟، لقد أعطيتك كل شيء بحياتي، أعطيتك حياتي كلها و حاربت الجميع لأجلك)
ابتعد قاصي عنها و أدار ظهره لها بينما كانت هي تبكي بصوت خافت، ثم هتفت باختناق
(كيف تمكنت من خيانتي؟، كنا لا نزال مرتبطين، أوشكت على أن أفقد حياتي بسببك)
ضحك قاصي ضحكة خافتة، أجشة، غريبة الصوت وهو يقول بصوت أكثر غرابة، مؤذي لدرجة عنيفة.

(إن أردت الحقيقة فأنا لم أخونك أنت، لقد خنتها هي، فهي من تزوجت في النهاية)
رفعت تيماء وجهها و هي تشهق شهقة لم تستطع منعها!
شهقة عالية و هي تسمعه يجرحها بوضوح، لا لشيء سوى كي يؤلمها فقط...

كانت لا تزال فاغرة شفتيها من شدة الألم للحظة، لكن و قبل أن تنطق، صرخ قاصي فجأة بكل عنف و هو يطيح ذراعه بكل قوته ليضرب صفا من الأكواب الزجاجية التي تطايرت و سقطت على الارض متهشمة بصوت عالي مرعب و قد تناثرت شظاياها كأمطار ماسية، أو أشبه بقطرات من الدموع...
صرخت تيماء بذهول و هي ترفع يديها لتغطي بهما أذنيها، و هي تراقب ما يحدث برعب...
أما هو فلم ينظر اليها، بل فتح باب المطبخ بعنف و خرج...

وقفت تيماء مكانها ترتجف بكل معنى الكلمة حتى احاطت نفسها بذراعيها و هي تنظر الى تلك الفوضى أمامها، لا تزال في حالة من الصدمة و قد تجمدت دموعها على وجنتيها و بردت حتى أصبحت كالجليد...
أما عينيها فقد اتسعتا و هي تشعر بنفسها و قد ضاعت في أمر أكبر منها...

صوت تنفسها كان عاليا و ساقيها لا تحملانها، و ما أن شعرت بأنها على وشك السقوط، حتى انخفضت ببطىء و جلست أرضا، تضم ساقيها الى صدرها بقوة و قد تناثر شعرها الهمجي حولها حتى لامس الأرض...
و بدت في تلك اللحظة أشبه بنفسها، حين اختبئت في هذا المطبخ تحديدا منذ عشر سنوات...
اختبأت لتبكي بعد أن رفضها والدها، و بقت هنا تبكي وحدها بصمت
كل شيء يربطها بنفس اليوم...

و كان هذا اليوم كان بداية لحياتها القصيرة، أنا الآن، فهو يوم النهاية...
أغمضت عينيها و أخذت تبكي بخفوت حتى دفنت وجهها بين ركبتيها...
الى أن سمعت صوت صغير يقول بخفوت
(تيما)
رفعت تيماء وجهها لتنظر الى عمرو الذي وقف في الباب ينظر اليها بصمت وهو يتلاعب باصابع كفه الصغير، فقالت تيماء بدهشة
(هل تعرف اسمي؟).

أومأ عمرو برأسه بصمت، بينما كانت تنظر اليه بتأمل، من المؤكد أنه سمع قاصي يدعوها باسمها أكثر من مرة، الا أنها لم تتخيل أن تلتقط أذناه الاسم بهذه السرعة رغم صعوبته...
مد عمرو قدمه الحافية ينوي الدخول الى المطبخ، الا أنها صرخت به فجأة
(لا تدخل، ستجرح قدمك، الزجاج متناثر في كل مكان)
تراجع عمرو بالفعل، بينما نهضت تيماء باجهاد، ثم قالت بصوت مختنق و هي تمسح وجهها
(انتظر، سأنظف المكان).

بحثت عن المكنسة، الى أن وجدتها في مكانها، أمسكت بها تيماء ثم رفعت حاجبيها...
انها نفس المكنسة!، التي نظفت بها المكان و هي في الرابعة عشر
تنهدت بصمت ثم أخذت تنظف تلك الفوضى بحرص، لكن ألمها لم يكن حريصا...
كانت تمشي على قطع الزجاج المكسور و هي شاردة الذهن و نازفة الروح...
فلم تشعر بالجروح التي بدأت تتساقط منها قطرات الدم من قدمها على أرض المطبخ...
(تيماااااااء، احترسي، قدميك).

أجفلت تيماء من صوت الصرخة الرجولية التي انطلقت فجأة فرفعت وجهها لترى قاصي ينظر الى قدميها برعب...
الا أنها لم تنتبه الى ما يقصد الى أن اندفع اليها و انتزع المكنسة من يدها و رماها بعيدا، ثم جذبها من يدها ليحميها بقوة بين ذراعيه، خارجا بها من المطبخ يتبعهما عمرو وهو ينظر اليهما بفضول و عينين متسعتين...
اندفع بها الى غرفة الجلوس ثم انحنى و أرقدها على الأريكة الواسعة، و جلس بجوارها...

ثم رفع قدميها الى ركبتيه وهو ينظر بغضب و قلق الى الدم الذي يغرقهما، بينما كانت تيماء شاحبة تماما و صامتة، لا ترتجف حتى، و بمنتهى الغباء قالت بفتور
(الدم سيغرق بنطالك، و الأريكة أيضا)
رفع قاصي يده الى جبهته وهو يصرخ فجأة بغضب
(اخرسي يا تيماء، اكرميني بصمتك فقد اكتفيت من غبائك ليوم واحد)
نظر قاصي الى عمرو و قال آمرا
(عمرو، اذهب الى الحمام و أحضر صندوق الاسعافات، أنت تعرف مكانه).

أومأ عمرو و انطلق يجري الى الحمام، فنظرت تيماء بصمت في اثره شاحبة الوجه، ثم القت رأسها للخلف و هي تتطلع الى السقف طويلا قبل أن تقول بخفوت
(إنه يعرف البيت جيدا، يحفظ كل زاوية به)
نظر اليها قاصي بطرف عينيه الناريتين قبل أن يهمس من بين اسنانه
(قلت لك اخرسي)
الا أنها ظلت على حالها تنظر الى السقف رافعة يدها الى عينيها و هي تقول باختناق
(كيف كنت عمياء الى تلك الدرجة!)
صرخ بها قاصي فجأة بعنف.

(أنت عمياء دائما، عمياء و غبية)
أطبقت تيماء جفنيها و انفجرت في البكاء فجأة بشدة، لكنها انتفضت مذعورة حين شعرت بكفه تطبق على فمها بقوة وهو يصرخ مجددا
(توقفي عن البكاء، بكائك يثير جنوني، توقفي)
اتسعت عيناها المغرقتين في الدموع و هي تنظر اليها من فوق يده المكممة لفمها بينما ملامحه عنيفة لا تلين...

لكن ضغط يده أخذ يخف تدريجيا، حتى بدأت أصابعه تمسح الدموع عن وجنتيها بلمسات قوية حازمة، و عيناه تحدقان بعينيها بمشاعرهما الهادرة الى أن عاد عمرو جريا وهو يحمل صندوق الاسعافات...
و قال باهتمام طفولي
(ها هو أبي)
كلمة أبي جعلتها تغلق عينيها مجددا، الا أن قاصي قال بخفوت شرس
(أنا لن أكون مسؤولا عن تصرفاتي لو بكيت مجددا).

ابتلعت تيماء شهقة مختنقة، فنظر اليها نظرة عاصفة قبل أن يبعد يده عن وجهها ثم يلتفت الى عمرو ليأخذ الصندوق منه...
نظرت اليها تيماء وهو يعامل قدميها برقة و حنان لم يعامل بهما قلبها الذي رماه أرضا و سحقه بقدميه...
كانت يداه حانيتين وهما تتعاملان مع جروحها رغم خشونتهما...

و ما أن انتهي من ربط قدميها أخيرا حتى أزاحهما بحرص ليضعهما على الأريكة بجواره، و بقى مكانه جالسا، مطرق الرأس و شعره يغطي ملامح وجهه عنها، بينما صدره يعلو و يهبط بسرعة...
بدا و كأنه يفكر في حل لمعضلة عويصة، بينما تيماء تنظر اليه طويلا و كأنها تتأمله للمرة الأخيرة!
حينها رفع وجهه المتعب ليبادلها النظر، و كأنه قد التقط أنها النظرة الأخيرة، فازداد عبوسه و قال بصوت أجش خافت
(يجب أن أخرج من هنا).

ارتفع حاجبي تيماء قليلا، الا أنها كانت أضعف من أن تعترض أو أن ترد حتى...
حين لم تنطق قال بخفوت
(لا تغادري قبل عودتي)
أخذت تيماء نفسا مرتجفا ثم قالت بصوت لم تتعرف عليه
(ماذا تريد مني بعد؟، لقد حصلت على ما أردته، و أسدل الستار على هذا المشهد الساخر الحزين، ما الذي يمكنني تقديمه لك أكثر؟)
تعقدت ملامح وجهه أكثر، وهو ينظر الى عينيها المنكسرتين...
كم بدت في تلك اللحظة كطفلة صغيرة!

مجرد طفلة مجروحة، بعينيها المتورمتين و شعرها المشعث، و قدميها المصابتين...
لا يذكر أنه قد رآها يوما أكثر ألما من هذه اللحظة
حتى في كل ما مر بها، لم يرها مجروحة الى هذا الحد...
حين استيقظت صباحا و رآى حالة الفتور الميت الذي تعيشه، شعر بقلبه يهبط بين قدميه...
شعر بخوف عنيف عليها، أراد أن يهزها بقوة أو حتى يضربها كي تصرخ و تعلمه أنها لا تزال على قيد الحياة...

و قد حصل على مبتغاه و انفجرت أخيرا، الا أنه لم يرتاح...
كان يعلم أنها تموت أمام عينيه في كل لحظة تمر، وهو يقف عاجزا، عالما بأنه الذي أمسك السكين و ذبحها هذه المرة، لا أحد غيره...
أبعد عينيه القاتمتين عنها و قال بجفاء أجش
(زوجنا ليس مشهدا من مسرحية يا تيماء، زواجنا حقيقة عليك التعامل معها، شئت أم ابيت، لا الهرب)
ابتسمت تيماء بمرارة و هي غير قادرة على البكاء و الصراخ أكثر، ثم همست بعدم تصديق.

(كيف يمكنك أن تكون بهذه الصورة أمامي الآن؟، كيف تستطيع؟)
نظر الى عينيها بنظرته العنيفة المنذرة بالشر، لذا قال بصوت أكثر عنفا
(سأخرج من هنا، لكن اياك أن تحاولي الهرب مني، فأنا قادر على اللحاق بك الى أي مكان، اياك يا تيماء)
نظرت اليه و شفتيها ترتجفان بشدة، بينما عيناها ترسلان له رسائل الكره واضحة، الى أن همست باختناق كلمة واحدة فقط
(أخرج).

أبعدت وجهها عنه لا تريد أن تراه، بل تتمنى لو أنها لم تره في حياتها كلها...
ليتها فقط لم تسعى يوما لوالدها، فهاهي، لم تحصل على والد و لكن حصلت على جرح غائر لا يطيب بدلا عنه...
شعرت به ينظر اليها طويلا، لكنها أبت أن تنظر اليه، فشعرت بقبضتيه تقبضان على ذراعيها لتنهضانها نصف جالسة بقوة، قبل أن يضمها الى صدره بعنف!

ظنت أنه سيحاول اغوائها و ارضاء نفسه من جديد، الا أنه لم يتحرك من مكانه وهو يضمها الى صدره...
كان ممسكا بها بكل قوته و كأنه ينحتها كضلع من أضلعه...
أرادت ضربه و الإبتعاد...
الا انه كان ممسكا بها بطريقة غريبة و كأنها الخلاص الوحيد له، و كان صدره راحة لها مما فعله بها ذلك القلب القاسي المختبىء خلف ذلك الصدر الرحب...
أغمضت عينيها على دموع متحسرة و هي تتذكر شعورها منذ يوم و نصف فقط...

حين كانت تحلق فوق الغمام متخيلة حياتها معه أخيرا...
بعد أن نالت عشقها المستحيل، بعد أن فازت بحبها بعد سنوات الفراق...
لم تتخيل أبدا أن تسوء الأمور الى تلك الدرجة، و أن يتحول العشق الى خيانة بأبشع صورها...
لو يتكلم فقط، لو يتكلم و يمنحها اي عذر، أي مبرر ليريح به قلبها قبل أن تتركه...
لكن من تخدع!، الأمور واضحة امام عينيها وضوح الشمس و لا تحتمل أي تبرير أو أعذار...
سمعته يهمس في أذنها بقوة.

(حين أضمك الى صدري بهذا الشكل، أشعر بأنني قد وصلت الى نهاية المطاف، أشعر براحة بعد لهاث عنيف، أي سحر يحدثه بي عناقك يا تيمائي)
افلتت شهقة مدمرة من بين شفتيها المرتجفتين، و هي ترى الحقيقة المأساوية أمام عينيها
فعناقه يشعرها بالمثل تماما، و كأنه يصف ما تشعر به بكل مهارة...
هل يعقل أن تكون تلك المشاعر الجارفة ما هي الا وهم زائف!
هل يعقل؟

فتحت تيماء عينيها ببطىء و قد تحجرت دموعها، و ظلت ساكنة على صدره عدة لحظات في شرود تام...
ثم تملمت أخيرا و هي تحاول الابتعاد عنه، و حين يأست قالت باختناق
(أخرج من هنا أرجوك)
تصلب جسده لعدة لحظات، ثم أبعدها عنه برفق فأطرقت بوجهها بعيدا عن عينيه...
الا انه أمسك بذقنها يرفع ذلك الوجه الشاحب المبلل اليه لتواجه، و قال بصوت أجش خشن و شديد الخفوت
(سأخرج، هل ستكونين بخير؟).

رفعت عينيها المصدومتين المبللتين الى عينيه، ثم لم تلبث أن ضحكت عاليا بأقسى درجات المرار...
لكن ضحكتها ماتت حين ضمها اليه يقتل تلك الضحكة بشفتيه...
كانت قبلة مريرة كضحكتها، قوية و عاصفة...
و قد نجحت في قتل ضحكتها بالفعل، و ربما كانت هذه الضحكة هي الضحكة الوحيدة التي يحل قتلها...
بكل ما حوته من ألم لا يوصف...

شعرت به يدفعها أخيرا عنه بقوة وهو ينهض من مكانه، فجلست تيماء تنظر الى ابتعاده العنيف عنها و هي لا تزال تلهث قليلا، مذهولة من عنف مشاعره و عنف ابتعاده...
ضمت جسدها بذراعيها بقوة و هي تنظر أرضا، مخفضة ساقيها عن الأريكة، لقد أوشكت على أن تناديه كي تمنعه من الإبتعاد عنها!
الا أنها منعت نفسها في اللحظة الأخيرة و جمدت مكانها تفكر بشرود، تحتاج الى الإختلاء بنفسها كي تفكر مليا، دون تأثيره الطاغي عليها...

مرت الدقائق تسمع فيها أصوات حركاته المجنونة في الداخل و كأنه أسد حبيس في قفصه...
و بعد فترة طويلة سمعت صوت خطواته تقترب منها اخيرا، و قال في النهاية بهدوء خافت أجش
(هل تحتاجين شيئا قبل خروجي؟)
رفعت وجهها اليه...
كان قد ارتدى ملابسه الأنيقة كاملة، و بدا كشخص آخر مختلفة كلية...
شعره مصفف بعناية و قميصه يزيد من جاذبيته، الا أن ذقنه لا تزال غير حليقة...
لكنه كان جذابا بشكل يوجع القلب...

مفاتيحه تتدلى من أصابعه، مصدرة رنينا رتيب...
و كل ما استطاعت فعله هو أن هزت رأسها نفيا، اجابة على سؤاله...
لم يتحرك على الفور، بل ظل واقفا مكانه ينظر اليها و هي تعود و تخفض وجهها أرضا، ثم تنهد أخيرا ليقول بخشونة
(هيا بنا يا عمرو)
نهض عمرو من مكانه كي يذهب الى يد والده الممتدة اليه، الا أن تيماء رفعت وجهها في تلك اللحظة ناظرة اليهما ثم همست بصوت فاتر غريب
(يمكنك، يمكنك تركه معي).

تسمر قاصي مكانه غير مصدقا لاستسلامها الخافت، بدت شاحبة و صامتة، و مسالمة جدا و كأنها قد استسلمت أخيرا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة