قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والخمسون

اتسعت عيناه و تسارعت حدة تنفسه، و قال بشك
(هل تريدينه معك؟)
هزت تيماء كتفها بلامبالاة ثم قالت بنفس الفتور الخافت
(أنت تبدو منفعلا الآن، و أنا أيضا، لذا أرى من أن تتركه معي و لا تخرج به و انت في هذا الحال، كما لا أبقى أنا وحيدة هنا)
ساد صمت متوتر مشحون بينهما، و هي تنظر أرضا، تمنع نفسها من فرك أصابعها بتوتر...
ثم قال قاصي أخيرا بصوت بدا، بدا سعيدا بشكل لم تسمعه منذ فترة طويلة.

(نعم، نعم يمكنني ذلك، سأكون أكثر راحة لو تركته برفقتك)
لم ترفع تيماء وجهها اليه، فلو كانت قد فعلت لرأت ابتسامة من الحنان مرتسمة على ملامحه القاسية...
ابتلعت ريقها بتوتر، الى أن قال قاصي أخيرا مخاطبا ابنه
(ابقى هنا يا عمرو، لكن كن مهذبا و لا ترهق تيماء، اتفقنا؟)
رفعت تيماء وجهها تنظر الى الطفل الصغير، الذي أومأ برأسه فأخفضت وجهها مجددا تنظر أرضا...

و ساد الصمت لعدة لحظات أخرى قبل أن تسمع صوت خطوات قاصي وهو يبتعد بتردد...
لكنه لم يلبث أن استدار و قال بصوت أجش
(تيماء، أرغب في البقاء معك)
شعرت بيد تعتصر قلبها بعنف و هي تسمع تلك النبرة الصادقة في صوته، الا أنها ابتلعت الغصة في حلقها و همست دون أن تنظر اليه
(كل ما أريده هو البقاء وحدي لفترة، فهل ما أطلبه يعد أمرا مستحيلا بعد كل ما مررت به خلال يومين؟)
تنهد قاصي بعنف قبل أن يقول بخفوت مكبوت.

(حسنا لا بأس، ربما كان هذا أفضل لي أنا أيضا، سأخرج الآن، )
أومأت برأسها متجنبة النظر اليه، الا أنه ناداها بقوة
(تيماء)
قوة ندائه جعلها ترفع وجهها الشاحب اليه، فرأت عيناه تتوهجان وهما تشملانها بشعلة من الجمر، ثم رفع قبضته و ضرب بها على صدره مرتين قبل أن يشير اليها...
التوت زاوية شفتيها في ابتسامة حزينة، فسارعت الى اخفاض وجهها بعيدا عنه، فهمس لها بخفوت
(سأفكر في اللحظات التي ستبعدني عنك الى أن تنقضي).

أبقت وجهها منخفضا، ثم قالت بخفوت ناعم
(نعم)
حين طال الصمت ظنت أنه سيتراجع عن قراره و يعود اليها، الا أنها سمعت خلال لحظات صوت خروجه قبل أن يصفق الباب خلفه بكل عنف...
أطلقت تيماء نفسا مرتجفا و هي ترجع ظهرها للخلف مرتمية على الأريكة...
لن تملكني امرأة أخرى كما تملكتني أنت، فتوقفي عن جنونك
كانت تلك هي احدى عباراته التي صرخ بها ذات يوم امام نوبة من نوبات غيرتها الجنونية...
منذ سنوات طويلة...

صوته كان صارخا، صادقا، و حين نظرت إلى عينيه صدقته...
لم تكن لتكذب عيناه أبدا...
فتحت تيماء عينيها و استقامت جالسة تنظر الى عمرو الذي جلس قبالها على الكرسي، فربتت على الأريكة بجوارها و قالت بخفوت
(تعال و اجلس بجواري، تعال لا تخف)
في الأمس لم يتبادلا الحديث كثيرا، كانت ترعاه فقط في صمت و دموع الى أن ذهب للنوم، اما اليوم فعزمت على أن تغير هذا الحال...

نهض عمرو من مكانه و تحرك تجاهها الى أن جلس بجوارها حيث تشير...
ظلت تيماء تنظر اليه طويلا ثم قالت باهتمام
(أخبرني مجددا، كم عمرك؟)
رفع عمرو كف يده مفرودة في نفس الإجابة، زفرت تيماء نفسا حارقا و رقم خمسة يمزقها بعنف، الا أنها سيطرت على مشاعرها و ابتسمت له ثم قالت بخفوت
(رائع، ووالدك هو قاصي؟).

اومأ عمرو براسه في صمت مما جعلها تتنهد مجددا و نفس الالم يتجدد و بقوة أكبر، الا أنها قالت و هي تستدير اليه هامسة بحذر
(هل يسكن معكما؟، أقصد معك أنت و، أمك)
هز عمرو رأسه نفيا، و ظل صامتا، فقالت تيماء باهتمام
(هل تأتي أمك الى هنا اذن؟)
مجددا هز عمرو رأسه نفيا مما أراح تيماء قليلا، على الأقل أن زوجته المدعوة ريماس لم تنم في هذا السرير قبلها، فهذا يشعرها بغثيان لا يوصف...

حسنا لقد غير أثاث الغرفة كلها، لكنه ليس مهما، المهم ألا يكونا قد تشاركا الغرفة...
لكن من اين لها أن تتأكد؟
ربما كانت الغرفة التي حملت فيها زوجته بابنه، ثم انفصلا بعدها!
أغمض تيماء عينيها و هي تتأوه بصوت معذب، تحك شعرها بقوة عل الصداع الناشب في رأسها يخف قليلا...
رفعت وجهها اليه، ثم قالت بيأس
(هل لديك اخوة؟)
هز عمرو رأسه نفيا، فقالت تيماء ساخرة بمرارة و هي تنظر أمامها.

(و ما الفارق؟، طفل واحد أو عشر أطفال، هل يهم حقا؟)
عادت لتتأوه بصوت عال و هي ترتمي للخلف بقوة، ناظرة الى السقف...
للحظة مجنونة و حين كان قاصي يضمها الى صدره...
صرخ صوت عالي بداخلها، صرخة مدوية...
مستحييييييل...
مستحيل...
لم يكن قاصي ليخونها أبدا...
طريقة ضمه لها، عيناه اللتين تنضحان ألما خلف قسوتهما...
لا يوجد انسان في هذا العالم على هذا القدر من المهارة في فن الزيف و الخداع...

و قاصي خصيصا، جلف و همجي و لا يتقن التمثيل أبدا...
من المستحيل أن يكون حبهما مزيفا أبدا، من المستحيل أن تكون صرخته بأنه لا امراة غيرها ستملكه. كذبا...
مستحيل أن يصرخ بها بينما هو متزوج من أخرى!
فتحت تيماء عينيها الحمراوين و هي تنظر الى السقف بعذاب، و همست كي تقنع نفسها
(عمرو قاصي الرافعي، عمرو قاصي الرافعي، عمرو قاصي)
قاطعها صوت عمرو الطفولي وهو يقول بخفوت
(خطأ).

التقطت أذنا تيماء كلمة عمرو الخافتة فنظرت اليه بطرف عينيها و هي تقول بعدم فهم
(ماذا؟)
قال عمرو بجدية
(أنت تخطئين في اسمي)
عقدت تيماء حاجبيها قليلا و قالت بتوجس
(و ما هو الخطأ؟)
قال عمرو ببساطة
(اسمي عمرو راجح الرافعي)
شعرت تيماء فجأة أن العالم قد تجمد من حولها كما تجمدت الدماء في عروقها، و الإسم يقصف أذنها كدوي المدافع!
راجح!، اليس هذا هو اسم ابن عمران الرافعي، أخا قاصي!

قفزت تيماء منتفضة و هي تستقيم جالسة. مما جعل عمرو يجفل و يبتعد خطوة، الا أنها أمسكت بذراعيه و هتفت بقوة
(لا تخف، لا تخف، تعال، اقترب مني)
عاد عمرو ليقترب منها خطوة، فسحبت تيماء نفسا مرتجفا كي تهدىء من ضربات قلبها المتسارعة...
كانت تبذل مجهودا جبار كي تسيطر على نفسها فلا تفزعه...
ثم ابتسمت له بصعوبة و سألته بصوت مرتجف
(هل أنت متأكد من أنك تحفظ اسمك كاملا بطريقة صحيحة؟)
أومأ عمرو برأسه، ثم قال.

(نعم، نحن نحفظ اسمائنا في المدرسة و الأستاذة تجعلنا نعيدها كل يوم)
فغرت تيماء شفتيها و هي تلهث بقوة...
ابن راجح!، لكن كيف انتهى به الحال كابن لقاصي!
ابتلعت ريقها بصعوبة و أبعدت شعرها عن وجهها بأصابع مرتجفة، ثم همست باختناق و توسل
(راجح؟، راجح؟، هل أنت متأكد؟)
أومأ عمرو برأسه، فهزت تيماء رأسها قليلا و هي تحاول الإستيعاب...
بالطبع، كيف نست أن قاصي لا يحمل أسم الرافعية أصلا!

لقد غفلت عن هذه النقطة في خضم ما كانت تعانيه، لذا من المستحيل أن يحمل ابنه لقب رافعي...
ثم نظرت الى عمرو و قالت بلهفة
(و لماذا لا تسكن مع والدك؟)
قال عمرو بخفوت
(هو يحضرني الى هنا ثم يعيدني الى أمي)
هتفت تيماء بقوة
(لا أقصد قاصي، بل أقصد)
صمتت تيماء فجأة مذعورة و هي ترفع يدها الى فمها، فمن الواضح أن راجح لا وجود له في حياة عمرو سوى اسم محفوظ على الورق فقط...

هو لا يعرفه أبدا، و هي ليست من الوضاعة أن تصدم الطفل بتلك الطريقة الخسيسة. مرهقة سنوات عمره القليلة...
كان عمرو ينظر اليها بعدم فهم، فرفعت تيماء يدها تربت على وجنته برقة و هي تهمس
(نعم، نعم أقصد قاصي، أنت تحبه، اليس كذلك؟)
أومأ عمرو برأسه بكل قوة، فابتسمت تيماء و عيناها تتلألآن بالدموع و همست باختناق مرير
(طبعا، و من لا يحبه!)
عضت على شفتيها بقوة و هي تبعد وجهها محاولة التقاط أنفاسها...

حين طلبت من قاصي ترك ابنه معها، كانت تنوي قلب البيت رأسا على عقب نبشا عن أي شيء يوصلها للحقيقة، و منها استجواب عمرو مجددا، و بعدها...
نظرت الى وجه عمرو الطفولي، و هي تفكر بأنها الآن لا تملك سوى اسم جديد ظهر في الصورة و المزيد من الألغاز...
رفعت ذقنها و قالت بهدوء غريب فجأة على الرغم من نفسها المتسارع و عيناها المشتعلتين
(ما رأيك أن نخرج و نمضي اليوم سويا؟).

ظل عمرو صامتا، الا أنها لاحظت من بريق عينيه الصغيرتين أن الإقتراح قد لاقى سعادة في نفسه...
فابتسمت له و قالت بغموض
(هيا بنا لنستعد اذن).

حين نزلت تيماء درجات السلم مسرعة و هي ممسكة بيد عمرو في يدها و في اليد الأخرى حقيبتيهما...
فتح باب الشقة في الطابق أسفل شقة قاصي مباشرة فجأة و خرجت منه امرأة متوسطة العمر...
كانت تضع القمامة في الخارج، الا أنها توقفت و هي تنظر اليهما باهتمام ثم قالت مبتسمة
(صباح الخير يا عمرو)
توقفت تيماء متسمرة مكانها و هي تنظر اليها، من الواضح أن الجميع يعرف عمرو، الا هي...
كم تشعر بالغباء، و الغضب...

نظرت اليها المرأة و هي تضيق عينيها، ثم لم تلبث أن هتفت بذهول
(تيماء!، هل أنت تيماء ابنة أخت قاصي؟)
ابتلعت تيماء ريقها و هي تنظر الى المرأة دون جواب، ثم ابتسمت أخيرا و قالت بخفوت
(كيف حالك سيدة امتثال؟، مر زمن منذ أن رأيتك، كيف تذكرتني؟)
ابتسمت امتثال بذهول و هي تنظر اليها لتقول
(لن أنسى عينيك بالتأكيد، كما أنني كنت أسأل قاصي عنك باستمرار، ألم يوصل اليك السلام؟)
ابتسمت تيماء بحزن و قالت.

(بلى أوصله، أوصله بأفضل الطرق)
هزت امتثال رأسها و قالت غير مصدقة
(كبرت يا تيماء و أصبحت عروس)
مطت تيماء شفتيها و قالت بصوت واهي
(نعم أصبحت عروس، لا تتخيلي الى أي مدى)
قالت امتثال بفضول و هي تداعب شعر عمرو
(متى عدت من السفر؟)
حسنا من الواضح أن قاصي قد نسج الكثير من القصص عن ابنة أخته المزعومة...
فردت ببساطة
(عدت منذ أشهر قليلة، هل، هل ترين عمرو كثيرا؟)
ضحكت امتثال و هي تداعب شعر عمر مجددا قائلة.

(أكثر من مرة في الاسبوع، تعرفين قاصي، فاشل تماما في رعاية طفل، لذا لا غنى له عن خدماتي بين الحين و الآخر، على الرغم من الشعرتين البيضاوين في رأسه)
تنهدت امتثال و قالت بمودة
(آآآه العمر يمر بسرعة، لقد أصبح ذلك الفتى العابث الذي يرهقني بموسيقاه المزعجة، أبا مسؤولا، وحيدا و حزينا)
ارتجفت شفتي تيماء و همست بخفوت
(الا يزال يرهقك بموسيقاه؟)
ابتسمت امتثال و قالت مستسلمة.

(الحقيقة أنني لم أعد أسمعه يعزف على جيتاره منذ سنوات طويلة، لقد توقفت الموسيقى في هذا البيت منذ وقت طويل)
شردت عينا تيماء و اسبلت جفنيها بحزن، فقالت امتثال بمرح
(البركة في عمرو الآن، فما أن يصل الى هنا حتى ينقلب هدوئنا الى مفرمة اللحم، من شابه أباه)
ارتفع حاجبي تيماء و نظرت الى الطفل الهادىء و سألت بذهول
(هل هو مشاغب؟، حتى الآن لم أسمع منه سوى ثلاث كلمات و نصف، على أساس أنه لا يكمل اسم تيما).

ضحكت امتثال و قالت
(من الواضح أنك لم تريه منذ فترة طويلة، إنه كفرقع لوز، يسير على الجدران و يتعلق في الثريات)
نظرت تيماء بصدمة الى الطفل الهادىء مطرق الوجه، ثم قالت بخفوت
(من الواضح أنه قد ورث بعض موروثات الجنون من عمه)
قالت امتثال باهتمام
(عمه؟، هل لديك خال آخر؟)
تداركت تيماء نفسها و قالت مبتسمة بود.

(عمه قاصي، ادعوه بذلك لأنه عم الجميع في المصائب، أنا دائخة حتى الآن مما يفعله بي، أتلقى منه كل لطمة و أخرى، حتى تورمت وجنتي من شدة حبه)
ضحكت امتثال و قالت بمرح
(أصدق هذا، انه عشرة عمر و كثيرا ما جعلني أفكر في الإنتقال من هنا جديا، اذن أخبريني الى أين كنتما ستذهبان منذ الصباح الباكر؟)
رفعت تيماء عينيها البراقتين بغضب استعادته فجأة و ابتسمت بقسوة و هي تقول مدعية المرح.

(أنوي خطف هذا الصغير، أخبري قاصي ذلك بالنيابة عني)
ضحكت امتثال و قالت بمودة
(امضيا وقتا طيبا)
تحركت تيماء ممسكة بيد عمرو، فنادت امتثال من خلفها
(دعينا نراك كل فترة يا تيماء)
رفعت تيماء ملوحة بيدها دون أن تلتفت للسيدة امتثال، بينما تهمس بقسوة
(من يدري، من يدري متى سيكون اللقاء، ربما سأهاجر قبلك يا سيدة امتثال).

حين صدم الهواء البارد وجهها، أغمضت تيماء عينيها و أخذت منه نفسا عميقا قدر المستطاع، كي تهدىء من نفسها...
الى أن سمعت صوت عمرو يسألها ببساطة
(الى أين سنذهب يا تيما؟)
نظرت اليه تيماء بصمت دون أن تتخلى عن كفه الصغير، ثم قالت بهدوء
(أولا سنذهب لنستعيد سيارتي، ثم نشتري بعض الملابس لي و لك، و بعدها سنمضي وقتا طويلا مرحا سويا، لدينا وقت العالم كله، ما رأيك؟)
ابتسم عمرو حتى ظهرت أسنانه و قال بسعادة.

(نعم، و هل نشتري بعض الحلوى؟)
قالت تيماء و هي تسحبه معها
(سنشتري كل الحلوى التي تريد لو أحسنت التصرف و أبقيت يدك في يدي، اتفقنا؟)
حرصت أن تكلمه كما يكلمه قاصي تماما كي تكسب ثقته و طاعته، طالما أنه من النوع العفريت يجب عليها أن تستميله أولا...
رفعت تيماء وجهها و قد اختفت منه كل ملامح المودة و المرح الزائف، و بقت الملامح القاسية...
ملامح أنثى مجروحة بسكين الخيانة...

أبعدها، و ابتعد، لا يزال يذكر هاتين الكلمتين بوضوح، على الرغم من مرور خمس سنوات على سماعهما...
كلمتان بسيطتان في ظاهرهما، الا أنهما كانتا تضمان تهديدا واضحا بين حنايا أحرفهما القليلة...
صوت سليمان الرافعي كان قويا و مسيطرا...
أراد التخلص منها و، منه...
و قد تصادف أن ألقى بهما القدر في طريق أحفاده، كليهما...
هو و، ريماس...

كان يعلم قبل أن يحصل على مزيد من التفاصيل، أن التهديد لا يشمله، فلو كان يخصه لما كان قد رضخ...
لكن التهديد كان متجها الى تيماء، تيماء التي نقلوها بعديا عنه سرا، بعد أن عرف بما اقترفه والدها في حقها...
كان كالمجنون حين علم، و انتهى به الأمر كالثور الهائج في كل مكان الى أن وصل لسالم الرافعي و قام بكسر ذراعه...
و تلك الذراع كان ثمنها غاليا، غاليا جدا...

قست عينا قاصي وهو يراقب الحديقة الممتدة أمامه، جالسا على أحدى المقاعد العامة، يمد ساقيه أمامه بينما يدس يديه في جيبي بنطاله...
لا يعرف تحديدا كم ظل جالسا هنا، تجرفه ذكريات و ترميه أخرى...
لكن كل موجة منها كانت تعود به الى نفس الشاطىء، تيماء، بره الآمن...
كان ينتظر هذا اليوم منذ سنوات و يعرف جيدا ماذا ستكون ردة فعلها، الا أنه أجل اكتشافها عن سبق اصرار و ترصد حتى تصبح ملكه، كي يقيدها به للأبد...

أخبرها مرة منذ سنوات طويلة أن التراجع ليس خيارا بالنسبة له، مهما اكتشفت مدى السواد الذي يحيط به...
و كان عليها أن تعرف بأنه لم يكن يمزح في هذا...
حين يجد من هو مثله أرضا ووطنا، يصبح القتال دفاعا عنها حقا مشروعا بكل الوسائل...
و تيماء هي أرضه، أرضه المهلكة...
(تبدو معضلة عويصة للغاية!)
افاق قاصي من أفكاره القاتمة الهائجة على صوت رجل متقدم في العمر يجلس بجواره...

نظر اليه قاصي بطرف عينيه وهو يتسائل متى جلس هذا الرجل هنا، و كيف لم يشعر به...
كان بسيط الملابس، ودود الملامح، عيناه تثيران الشفقة تلقائيا...
لكن قاصي لم يكن في حال يسمح له بالشعور بالشفقة تجاه أي مخلوق في الوقت الحالي فقال بجمود
(هل كلمتني للتو؟)
ابتسم الرجل بمرح فازدادت الخطوط عمقا في بشرته الشاحبة وهو يقول.

(أنت جالس هنا منذ ما يقرب من الساعتين، على نفس الحال و نفس الملامح المتجهمة، يبدو أنك لم تجد الحل بعد لمعضلتك)
نظر قاصي أمامه، بينما تطايرت خصلات شعره متناثرة على جبهته ووجهه، ثم قال بصوت اكثر جمودا
(و لا يبدو أنها ستحل أبدا، علينا فقط تقبلها)
ارتفع حاجبي الرجل بفضول و قال مهتما
(يبدو انك شاب عميق، حسنا أخبرني ماذا يفعل عميق مثلك هنا في مثل هذا الصباح الباكر بمفرده، لمدة ساعتين، و ربما ستنتظر مثلهما).

ظل قاصي صامتا، متجهم الوجه، لا تحمل ملامحه أي مودة، ثم قال بجفاء أخيرا
(زوجتي طردتني من البيت)
ارتفع حاجبي الرجل أكثر وهو يسمع عبارة قاصي المختصرة، ثم قال بذهول
(يالها من صدفة!، أنا أيضا زوجتي طردتني من البيت)
نظر اليه قاصي بشك، ثم قال بخشونة
(لا، أنت اختلقت القصة للتو)
رد عليه الرجل صادقا و بجدية.

(هل يعقل أن يختلق رجل في مثل عمري قصة كهذه؟، أنا أيضا طردتني زوجتي من البيت و بصراحة كنت أشعر بشعور سيء حيال نفسي، لكن رؤيتي لك في مثل حالي جعلتني أشعر بشعور أفضل، يا محاسن الصدف)
نظر الرجل أمامه و أدخل يده المرتعشة في جيب بنطاله ثم أخرج قرطاسا من الورق، فتحه بحرص، ثم مده الى قاصي وهو يقول بجدية.

(افتح يدك و خذ بعض السوداني، لنتسلى قليلا و أنت تقص على سبب طرد زوجتك لك، بينما أنت ضخم الجثة و في حجم باب الدولاب)
زفر قاصي بضيق الا انه مد يده للرجل و تناول منه القليل من السوداني، ثم عاد لينظر أمامه قائلا بجمود وهو يتناول بعضا منه
(لتبدأ أنت، لماذا طردتك زوجتك؟، هل هي معتادة على ذلك؟)
تناول الرجل حبة سوداني وهو يقول بحسرة و ذهول.

(خمسة و أربعون سنة هي عمر زواجنا، لم يحدث أن رفعت صوتها بوجههي حتى، لم يحدث أن غضبت مثل باقي النساء، و اليوم أفاجأ بانفجارها في وجههي تعدد كل ما قصرت به في حقها)
صمت الرجل وهو يهز رأسه في ذهول، ثم لم يلبث أن قال مصدوما
(لقد تذكرت بعض المواقف التي مر عليها عشرون. و ثلاثون عاما و اكثر، و كأنها كانت تختزن كل ذلك لتفجره في وجهي يوما ما).

عاد ليهز رأسه أسفا وهو يتناول بعض حبات السوداني بدون شهية، ثم قال مفكرا
(بصراحة أنا ظننت أنها تعاني من نوبة خرف أو ما شبه، لكن و بينما هي تنفجر، وجدت أنني بالفعل أتذكر بعض مما كانت تحكي عنه، مواقف تافهة، لم أظن يوما أن تعلق بذاكرتها بتلك الصورة...
يا مؤمن لقد تذكرت جوربا صوفيا يخصها كنت قد قصصته لأستخدم قطعة منه في رتق طاقيتي الصوفية ذات نفس اللون، منذ خمسة عشر عاما!).

نظر اليه قاصي بملامح قاتمة، شديدة الجمود، ثم قال بصوت اجش خافت
(تتذكر لك مواقف تافهة بعد كل هذا العمر؟، ماذا لو كنت قد آذتيها بحق؟، أذية لا يمكنها أن تنساها أو تغفرها، ماذا لو كنت لا تستحقها من الأساس؟ ماذا كانت لتفعل بعد كل تلك السنوات من الصبر؟)
نظر اليه الرجل بوجه مغضن و مفكر، ثم لم يلبث أن قال بصدق.

(ربما حينها لم تكن لتحيا كل تلك السنوات معي، ربما لكنت قد فقدتها منذ وقت طويل في احدى نوبات الالم، و عشت بعدها أبكي على ما اقترفته)
انقبض صدر قاصي فجأة و غص حلقه فسعل بشدة، بدا سعاله مخيفا ووحشيا تقريبا، فذعر الرجل من منظره و أسرع في النهوض من مكانه ليقف خلف قاصي و يضرب على ظهره بكل قوة...
استمر سعاله للحظات الى أن هدأ بالتدريج، و بدأ يعود الى طبيعته، فقال الرجل بقلق
(هل أنت بخير الآن؟).

أومأ قاصي برأسه وهو يسترد أنفاسه بصعوبة، ثم نظر أمامه بصمت و قد شحب وجهه قليلا، الا أن عيناه قد ازدادتا عمقا و بشدة...
فجلس الرجل بجواره بحرص و قال بخفوت
(كفى كلاما عني الآن، و أخبرني عنك، لماذا طردتك زوجتك من البيت؟)
ظل قاصي على صمته و ملامحه القاتمة المتباعدة، قبل أن يقول بجمود شارد
(أشياء تافهة).

بدا بوضوح أنه غير صادق، بعكس الرجل الذي تكلم بعفوية و صراحة شديدة، الا أنه لم يصر عليه، بل نظر اليه بتفهم، ثم لم يلبث أن قال بمرح
(حسنا اذن أخبرني عن زوجتك، كيف تبدو؟ هل هي معتادة على العصبية؟).

ساد صمت طويل و قاصي يبدو شاردا تماما، و ملامحه كئيبة و كأنه قد ازداد عمرا و أصبح يماثل الرجل الجالس بجواره عمرا، لكن الفارق ان ملامح قاصي لم تكن مرتاحة كملامح هذا الرجل رغم ضيقه، بل كانت ملامحه تبدو معقدة، شديدة السواد...
الا زاوية شفتيه!، فقد التوت في شبه ابتسامة...
ثم قال بعد فترة طويلة بصوت خشن وهو يبتسم.

(إنها تبدو كالجنية، شديدة الشقاوة و العرفتة، عيناها تلمعان كالجواهر و بريقهما خبيث، يمكنها أن تثير جنون أعقل الرجال و هي، و هي مهلكة بحق، حين تتملك منك، لا تترك الا و قد تشعبت و احتلت كل ذرة من كيانك، شديدة التملك الى درجة تثير الغيظ و الضيق، لكنه مع الوقت يصبح تملكا يشعرك بالملوكية، إنها من النوع الذي تجده مرة واحدة في الحياة ان كنت محظوظا بما يكفي، قد تتعرقل به، أو قد يقع أمام باب بيتك في يوم من الأيام).

صمت قاصي حين تحشرج صوته حتى خفت تماما، ثم لم يلبث أن قال بجفاء عميق
(هي أرضي و عائلتي، هي، هي ابنتي)
عاد ليصمت قليلا، ثم ضحك بقسوة و تابع و قد نسي الرجل بجواره تماما
(ما عرفت طعم الأبوة أبدا، الا حين دخل عمرو الى حياتي، وحين عرفت ذلك الشعور، صدمت بأنه قريبا جدا لما أشعر به تجاهها منذ سنوات طويلة، إنها نسخة مكبرة منه، لكنها نسخة أكثر دفئا و أكثر جنونا، و حضنها يتسع لرأسي دائما).

صمت قاصي وهو يعقد حاجبيه، ثم قال بعد فترة طويلة بشراسة
(إنها تخصني، هي وحدها لا غيرها، و أنا أخصها، حتى لو كان هذا ينافي كل منطق لعين)
صمت قليلا ثم همس بصوت متوحش خافت.

(كلما سألني أحد إن كنت فعلا أحبها الى تلك الدرجة، أشعر بالغضب و الإستياء، فكلمة الحب تلك مناسبة أكثر لقصة وردية، أما العلاقة بيني و بين تيماء، أقوى من ذلك، المنطق هو أنها خلقت لي و خلقت لها، هذا هو المنطق الذي أفهمه أنا، و بدونه لا تستوي حياة كل منا، الحب ليس طرفا في الأمر، بل هي العودة وطن غبت عنه، و لن يكون من حقها انتزاعه مني لمجرد أنها اكتشفت انني الشخص الذي حذرها الجميع منه دوما).

عاد قاصي ليصمت وهو يلهث قليلا، و حين طال الصمت، التفت ينظر بجواره، فوجد أن الرجل الجالس على المقعد بجانبه قد راح في سبات عميق و قد ارتاحت رأسه على عنقه منحنية...
نظر اليه قاصي طويلا، بملامح غريبة، تكاد أن تكون أقرب الى الحسد...
ثم أخرج من جيبه قلما، و انتزع القرطاس الورقي من يد الرجل، ففتحه و كتب عليه عبارة واحدة.

حينما تستيقظ، عد الى زوجتك من فورك، اطلب العفو منها و اشتري لها جوربا جديدا، انتهز الفرصة فمشاكلك معها قابلة للحل، لكن هناك فجوات سوداء بين الرجل و امرأته، لا تحل الا بانكسار الروح، ليت زوجتي الصغيرة كانت تحتاج فقط الى جوربا صوفيا أحضره لها مع بداية الشتاء، ليتني أملك ما تحتاج اليه، امضاء: الزوج المطرود الذي كان يجلس بجوارك
طوى قاصي الورقة بوجه متجهم، ثم وضعها بحرص في جيب قميص الرجل النائم...

و نهض مندفعا، ينوي استعادة الجزء المتبقي من روحه و الذي لن يسمح لأحد بانتزاعه منه، حتى هي...

صعد قاصي السلم جريا، كل درجتين معا...
لا يرى أمامه سوى عينيها الفيروزيتين المتألمتين، لا يستشعر على صدره الا احتضان جسدها الدافىء الصغير...
يداه تتوقان الى الاندفاع بين أمواج شعرها المجنون، يريد فقط أن يضمها الى صدره و يغمض عينيه كي يرتاح، لم يشبع منها بعد كي تبعده عنها بهذه القسوة...
القسوة ليست غريبة عنه، لكنها غريبة عن تيماء، تلك التي كانت مرفأه دائما...

أسرع الخطا جريا، و ما أن وصل الى البيت أخرج المفتاح بأصابع خرقاء و فتحه بعنف، قبل أن يدخل مناديا بكل قوة
(تيمااااااء، تيمااااااااء)
وقف مكانه قليلا و هو لا يجد اجابة سوى صدى صوته، فعقد حاجبيه قليلا بينما صدره ينخفض و يتعالى بسرعة، ثم تحرك ليبحث عنها في كل مكان، الى أن تأكد بما لا يقبل الشكل أنها قد غادرت!
وقف قاصي وهو ينظر حوله كالمجنون، ثم نادى بعنف
(عمرووو، عمرووووو).

لكن ايضا لا جواب، شعر فجأة و كأن أحدهم قد ضرب صدره بمطرقة حديدية...
أغمض عينيه بقوة وهو يرفع كفه هامسا
حسنا اهدأ، اهدأ، لا تفقد السيطرة على نفسك، ربما كانت تشتري بعض الأغراض من مكان مجاور فحسب، أخرج هاتفه من جيبه بعنف و سارع في طلب رقمها، الا أن الهاتف المغلق كان هو المجيب عليه...
أسقط قاصي يده وهو ينظر امامه بملامح جامدة، لا تعبر عن شيء من الطوفان بداخله...

استمر به الصمت عدة دقائق طويلة، مخيفة، قبل أن يتراجع و يخرج من البيت مغلقا الباب خلفه صفقا...
من المؤكد أنها لم تأخذ عمرو معها، اذن أين يمكنها تركه سوى لدى أحد الجيران...
ضرب قاصي جرس الباب لشقة السيدة امتثال و ما أن فتحت له الباب مبتسمة حتى قالت بسعادة
(آآآه ها قد أتيت، لماذا لم تخبرني بمجيء تيماء بعد كل هذه السنوات، ما شاء الله لقد ازداد طولها و أصبحت عروس).

شعر قاصي بالراحة قليلا، الا أنها كانت راحة متوجسة، فهل تركت عمرو و غادرت؟
سيكسر عظامها الرقيقة واحدة تلو الأخرى بتمتع لو فعلت هذا، تيماء هي ملكه الوحيد في هذه الدنيا و لن يسمح لها بانتزاع الشيء الوحيد الذي يمتلكه...
تكلم قاصي بصوت أجش
(هل هما لديك سيدة امتثال؟)
ردت عليه امتثال قائلة
(لا، ألم تتصل بك تيماء؟، لقد أوصتني باخبارك أنها ستخطف عمرو اليوم بأكمله).

ضحكت السيدة امتثال و بدأت تحكي عن أشياء لم يسمعها قاصي...
فلقد توقف ذهنه تماما، و تسمرت ضلاته، بينما بدت عيناه كجمرتين من الغضب، و الخوف على كليهما...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة