قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والخمسون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل التاسع والخمسون

لوحت تيماء بيدها الى عمرو الذي كان يصرخ ضاحكا وهو جالسا باحدى عربات الألعاب الكهربية بأحد المجمعات...
الولد فعلا كالعفريت، كان يخدعها تماما بخجله في البداية و ما أن تعود عليها حتى انطلقت طاقاته العفريتية، و أوشك على أن يسير على الجدران بالفعل كما قالت السيدة امتثال...

ابتسمت تيماء بقوة و هي تشير اليه مشجعة من خلف السياج، و ما أن انشغل عنها، حتى تساقطت ابتسامتها، حتى بدا الوجه البائس من تحتها و هي تراقبه بصمت...
الآن ستبدأ طريق طويل في البحث عن جواب، و ستحصل عليه، لكن ليس من قاصي...
لكن تثق بكلمة واحدة مما سينطق بها بعد الآن...
همست تيماء بصوت جاف ميت
(بمن أبدا؟، و هل أملك الكثيرين كي أستعين بهم؟).

ابتسمت بمرارة و هي تراقب عمرو، فيما يخص تلك العائلة الواسعة، لم يمنحها المساعدة سوى شخصين اثنين فقط، سوار و فريد...
لقد تركت لها سوار رقم هاتفها و طلبت منها أن تتصل بها لو احتاجت أي شيء...
لكن ما علاقة سوار بالأمر؟، و هل سيكون لديها أي معلومات؟..
لقد لاحظت في الفترة التي مكثتها في البلد أن هناك نوعا من التوتر و القطيعة من جهة سوار تجاه راجح...

وهو في النهاية ابن عمها، ربما كانت تعرف عنه أكثر منها، بالتأكيد تعرف...
أطرقت تيماء برأسها و أخرجت هاتفها من حقيبتها و بأصابع ثابتة، طلبت رقم سوار...
حين أتاها الصوت الأنثوي الخافت. قوي النبرة، قالت تيماء بتردد
(صباح الخير يا سوار، إنه أنا تيماء)
ردت عليها سوار قائلة بلهفة
(تيماء، كيف حالك، أخبريني عنك، كان رحيلك بتلك الطريقة).

قاطعتها تيماء تقول بصوت مختنق قليلا و هي تستدير مستندة الى السياج بساقين رخوتين
(أنا بخير يا سوار، قد حدث ما حدث و انتهى الأمر، أنا بحاجة لبعض الأجوبة يا سوار، أعرف أن ظروفك صعبة و أنني أثقل عليك الآن، لكنني مضطرة ارجوك ساعديني)
عقد سوار حاجبيها و استقامت في مقعدها بجوار نافذة غرفتها و قالت بتوجس
(ما الأمر يا تيماء، أخبريني)
عضت تيماء على شفتيها قليلا، ثم قالت بحزم قبل أن تتردد أكثر.

(سوار قد يبدو سؤالي غريبا قليلا، لكن رجاءا الجواب هام جدا بالنسبة لي، راجح ابن عمك، ألديه طفل من زواج سابق؟، حسب ما اعرفه أن زواجه ببدور لا يزال عقد قران)
تحفزت عضلات سوار و هي تعقد حاجبيها بحدة، بينما برقت عيناها بسطوة غاضبة...
الا أنها قالت بصوت متصلب
(نعم، لديه طفل، لكنه بعيد عن العائلة منذ مولده، كيف عرفت عن الأمر؟).

فغرت تيماء شفتيها و رمشت بعينيها و الشك لديها يتحول الى يقين مع كل لحظة تمر، الا أنها تحتاج المزيد، لن تترك الأمر عند هذا الحد، فقالت تسأل سوار بقوة
(هل لا يزال متزوج من أم الولد؟، أرجوك يا سوار أخبريني، هل تعرفين شيئا أكثر؟)
كانت سوار تتنفس بحدة و غضب من ذكرى تلك القصة الكريهة بالنسبة لها، الا أنها اجابت بهدوء دون أن تخوض في الأعراض و هي تعرف سبب الزواج جيدا.

(لقد طلقها منذ فترة طويلة، لم يقبل بها جدي كفرد في العائلة)
هبط قلب تيماء بين قدميها و أظلمت عيناها، ثم سألتها بخفوت شارد
(عمر الطفل حوالي خمس سنوات، اليس كذلك؟)
ساد صمت قصير، جعل أعصاب تيماء تتحفز و تتوتر، حتى اوشكت على الاحتراق قبل ان تجيب سوار بحيرة
(بل ثمانية على ما أعتقد، مر على أمر الطفل ثمانية سنوات).

استقامت تيماء فجأة قفزا، و تصلبت ملامحها بعنف عاقدة حاجبيها بشدة، ثم لم تلبث ان استدارت تنظر الى عمرو الذي كان لا يزال يضحك وهو مستقلا للعربة الكهربية...
ففغرت شفتيها و قالت و الهاتف لا يزال على اذنها
(خمسة يا سوار، لا يمكن أن يكون أكبر من خمس سنوات، ربما تكونين قد أخطأت العد أو نسيت بعد مضي كل تلك السنوات)
قالت سوار بصوت أكثر تصلبا.

(بل ثمانية، أنا لن أخطىء عمر تلك القصة يا تيماء، عليها اعتمدت الكثير من الأمور بحياتي)
فغرت تيماء شفتيها و هي تراقب عمرو الذي كان يلوح لها بقوة، ثم همست
(لا أفهم، لا افهم)
ردت عليها سوار بقوة
(أخبريني عن الأمر يا تيماء و حالا، أي شيء قد يخصك و يخص راجح؟، هذا الشخص شديد الخطورة يا تيماء، لا تعبثي معه)
همست تيماء و هي لا تزال في حالة من اللا وعي، اللا فهم، التداعي...

(ليت الأمر كان عبثا يا سوار، ليته كان، لقد تعبت جدا، والله أنا تعبت، لم أظن أن يفعل بي قاصي ذلك)
قالت سوار بحدة
(ماذا فعل بك قاصي، و ما علاقة راجح بالأمر؟)
قالت تيماء ترد عليها بخفوت
(سوار، هلا كلمتك بعد قليل، رجاءا لا أستطيع الكلام الآن)
الا أن سوار قالت بسطوة
(لن يحدث، الآن أخبريني الامر من أوله و بالتفصيل، طالما أن اسم راجح قد دخل في الأمر فلن أتركك أبدا).

(أريد ابني، أرييييد أبني حالاااااااااااااااااااا)
صرخت ريماس بجنون و هي تدور حول نفسها في شقتها الصغيرة، بينما كان قاصي يجلس أمامها مطرق الرأس، مستندا بمرفقيه الى ركبتيه...
لا يجد ردا، فما كان منها الا أن صرخت بقسوة أكبر
(لماذا أنت صامت بهذا الشكل؟، قم و ابحث عنهما تحت الارض، أريد ابني حالا)
بقى قاصي على صمته بينما ازدادت قتامة ملامحه، ثم قال بصوت أجش.

(اهدأي يا ريماس، غضبك سيزيد الأمر سوءا ليس الا)
توقفت ريماس عن الدوران و التفتت اليه صارخة بذهول
(أهدأ!، أهدأ!، هل هذا هو كل ما تملكه لتخبرني به؟، لقد اختطفت تلك المجنونة أبني بسببك و انت تجلس هنا هادئا بل و تدعوني للهدوء أيضا!)
رفع قاصي وجهه الغاضب اليها و هتف بقوة
(ابنك أنا المسؤول عن اعادته لك سالما، أعتقد أنك بعد كل تلك السنوات بت تعرفين أنني أجيد حماية من هم تحت رعايتي).

ضحكت ريماس بصوت عالي مجنون، ثم هتفت بقسوة
(واضح، واضح للغاية، كيف يمكنك تركه لها للمرة الثانية؟)
قال قاصي ملوحا بيديه بعصبية
(تيماء ليست مجرمة أو خاطفة أطفال، أنا بالفعل قلقا على كلا منهما، الا أنني لا أخاف من تيماء، أنا أثق بها أكثر من نفسي)
صرخت ريماس فجأة بجنون أكبر
(يا غبي، يا غبي، أنت لا تعرف كيف يمكن للغيرة أن تحول المرأة الى مجرمة، خطيرة على نفسها و على غيرها، لقد تركت لها ابن غريمتها).

نظر اليها قاصي ثم قال قبل أن يفكر
(لم تكوني يوما غريمتها)
بهتت ملامح ريماس فجأة، و شحب وجهها، بينما بدت عينيها غائرتين و شديدتي العمق، ثم قالت بصوت واهي ضعيف
(كم هذا رائع!، الا يكفي أنك قد أضعت ابني، بل و تجلس هنا لتجرحني بكل قسوة)
نهض قاصي من مكانه و اقترب منها بينما استدارت بعيدا عنه و هي تضع يدها على جبهتها، و حاولت الابتعاد حين وضع يديه على كتفيها، الا أنه شدد عليهما كي لا تبتعد و قال بجمود.

(أنا لم أقصد أن أجرحك يا ريماس، أنا أجرح كل من يقترب مني دون أن تكون لدي النية المبيتة لذلك، الا من هم ضمن قائمة محددة، و أنت بالتأكيد لست واحدة منهم)
رفعت وجهها الشاحب اليه، تنظر اليه نظرات خاصة، بات يفهمها بوضوح مؤخرا و يعمل جاهدا على تجاهلها، ثم قال بصوت أجش وهو يشدد على كتفيها
(أنت تثيرين غضبي كثيرا، الا أنني لن أتخلى عن حمايتكما أبدا)
نظرت ريماس الى عينيه و قالت بصوت مشتد و متوتر.

(لن تتخلى عنا، رغبة في ذلك أم رغبة في قهر من ظلموك أكثر؟)
أظلمت عينا قاصي و قال بخشونة وهو يبعد يداه عنها
(هل هذا وقت مناسب لمثل هذه التفاهات!)
استدارت ريماس بعيدا عنه و رفعت رأسها مغمضة عينيها و هي تهتف بأسى
(معك حق، ها أنت قد أضعت ابني، و قد اخطفته حبيبتك الصغيرة بينما أنا أقف هنا و استجدي منك بعض العطف، كم هذا مثير للشفقة)
زفر قاصي بقوة وهو يحك جبهته بيده، ثم التفت اليها قائلا بصرامة.

(أنت متوترة الآن و خائفة، و هذا حقك، ارتاحي هنا و انتظريني، لن أعود الا به)
ثم تركها و خرج بينما وقفت تنظر الى خروجه بعينين ضائعتين و غائرتين، شديدتي الأسى...

كان يدور بسيارته كالمجنون في كل مكان...
منذ أن اكتشف أنها قد حررت سيارتها، و قد ازداد خوفه أضعافا...
هي لا تعرف أحدا هنا، سوى مسك، و التي اتصل بها منذ الصباح الا أنها أجابته بحيرة أن تيماء لم تذهب اليها و لم ترها منذ أن تركتهما، و قبل أن تزيد في الأسئلة كان قد أغلق الخط بقوة...
الآن و بما أنها في مدينة غير مدينتها، و قد حررت سيارتها، فمن المنطقي أن تعود الى مدينتها...

لكن هل يعقل أن تأخذ عمرو معها كي تعاقبه!
لم يكن ليدع الأمر للظنون أكثر، حين مرت ساعات النهار ببطىء وهو يبحث عنها دون جدوى...
أتخذ قراره و خرج الى الطريق السريع بكل قوته، متجها الى مدينة تيماء للبحث عنها...
و خلال الطريق الطويل كانت عيناه ترسمان له صورا مروعة عن كافة حوادث الطرق التي من الممكن ان تكون قد تعرضت لها هي و عمرو...

و مع كل صورة كان يشعر بأنفاسه تزهق بين أضلعه، و صدره يتمزق إربا، فيزيد من سرعته...
المنطق يخبره بوضوح أنها ستهجره و تعود الى حياتها السابقة...
لكنه كان يكذب كل منطق، كان يصدق روحه فقط فيما يخصها...
زاد من ضغط قدمه على محرك السرعة، و بدت عيناه في جنون مختل عقليا، لا ينوي على شيء سوى الدفاع عن نفسه و استعادة أملاكه...

سمعت مسك صوت المفتاح في الشقة، الساعة الثانية عشر ليلا، فارتفع حاجبيها بعجب و تركت الكتاب من يدها قبل أن تنهض من فراشها و تجري للخارج لترى من أتى في مثل هذا الوقت...
قالت مسك بقلق
(أبي!، متى وصلت و لماذا لم تخبرني بموعد عودتك؟)
دخل سالم يجر قدميه و قد بدا متعبا جدا، مظلم العينين ممتقع الوجه أكثر مما عهدته يوما، فقالت بقلق
(أبي هل أنت بخير؟)
أومأ سالم برأسه و قال بخفوت مجهد.

(نعم، نعم، لقد وصلت للتو، ربما أرهقني السفر فحسب)
جلس على الأريكة وهو يرجع رأسه للخلف قليلا كي يرتاح، فجلست مسك بجواره و نظرت اليه عاقدة حاجبيها ثم قالت بقلق
(لا، أنت لست بخير يا أبي، ماذا حدث أخبرني؟)
ظل سالم ينظر الى السقف طويلا وهو يحك جبهته قبل أن يقول بصوت كئيب
(أختك المحترمة، تزوجت الوضيع دون علمنا ووضعتنا أمام الأمر الواقع)
اتسعت عينا مسك بذهول و هتفت
(تزوجا فعلا؟، متى و كيف؟).

ظل سالم صامتا وهو يشعر بالخزي و المهانة، ثم قال أخيرا
(أول أمس، جائا الى البلد بكل وقاحة، ممسكين بأيدي بعضهما، تخيلي بنتي أنا تضعني في هذا الموقف أمام الجميع)
فغرت مسك شفتيها و همست
(ياله من مجنون!)
نظر اليها والدها بغضب و هتف
(هل هذا كل ما تملكينه؟، ياله من مجنون!)
رفعت مسك كتفيها و قالت بخفوت.

(ماذا تريد مني القول غير ذلك يا أبي؟، لقد حاولتما التفريق بينهما على مدى سنوات عديدة و لم يفلح الامر، فلتسلمو اذن، لم تكن تيماء يوما محل اهتمامكم، فلماذا الآن؟)
نظر اليها سالم بذهول و هتف بغضب
(ما هذا البرود يا مسك، لقد أهدرت كرامتي في الوحل و بقيت مكاني بكل تدني أراقب رحيلهما دون ان أتفوه بكلمة خوفا من الفضيحة)
نظرت اليه مسك طويلا ثم قالت بعملية.

(انسى امرها يا أبي كما كنت تفعل طوال كل تلك السنوات، لا تأبه بطريقة الحياة التي اختارتها)
تعاظم ذهول سالم وهو ينظر اليها غير مصدقا لما يسمعه منها، ثم قال بخفوت مصدوم
(ما بالك يا مسك!، ما بالك!)
لم تهتز ملامحها الساكنة و هي تقول بفتور.

(ما بالي يا أبي!، أنا أتكلم بعملية، لم تهتم لأمرها يوما، كيف تشعر بالغضب الآن لمجرد أنها قد اختارت الشخص الغير مناسب للعائلة و القوانين؟، أنا أخبرك لماذا، لأنها حين كبرت و اصبحت عروسا تليق بحمل وريثا لك، أصبحت لها أهمية قصوى، خاصة و أنني حرمتك من هذا)
استقام سالم جالسا و أمسك بكتفيها يقول
(ما هذا الذي تخبريني به يا مسك؟، هل ترينني أنت أيضا لست أكثر من طامع في الأرض؟).

عادت مسك لتهز كتفيها و هي تقول بهدوء.

(ليس طمعا يا أبي، أنا مقدرة لموقفك، الأرض تكون أغلى من الولد أحيانا، ذلك هو الشعور الذي نشأتم عليه، و لم يشأ الله أن يكون لك ولد ليرث لك أرضك، و الحل الوحيد في أحفاد يحملون اسم الرافعي عن طريق زواج تيماء بأحد أبناء أعمامها، لن ادعي المثالية و أقول أن الامر مادي و غير مهم، أعرف أنه شيء صعب عليك، لكن في النهاية تظل تيماء روح، انسانة، لا تملك أدنى فكرة عن الأولويات في حياتكم و قد نشأت بعيدا عنك فبالتالي لا تحملان لبعضكما أي مشاعر، ليس من المنطقي أن تخضع لكم فجأة هكذا و دون مقدمات لمجرد انكم طلبتم منها ذلك).

صرخ سالم بغضب
(لقد تزوجت ابن زنا، تزوجت من ل)
قالت مسك بقوة و هي تدير وجهها عنه
(رجاءا يا أبي، لا أحب سماع التالي)
هتف بها سالم بغضب
(ما الذي يملكه ذلك الولد و يجعلكم تتعلقون به بهذا الشكل؟، هل سحركم جميعا؟)
التفتت اليه مسك و قالت بقوة
(أنت من وضعته في حياتنا يا أبي، من اين كان لنا معرفته قبل أن تنشئه بيننا؟)
صرخ سالم بغضب أكبر
(كخادم، عينته كخادم لكما ليس أكثر)
هزت مسك رأسها و قالت باصرار.

(لا يا أبي، لم يكن خادما ابدا، لم يكن ينقصنا أي خدم، صلة الدم بيننا انتصرت في النهاية و أصبح ذو أهمية لي و لتيماء، لم يكن عليك وضع البنزين بجوار النار، و الآن تشكو من اندلاع الحريق)
بهت لون سالم أكثر و امتقع وجهه و قال بذهول
(كان يستغلكما فقط للوصول الى مآربه)
أطرقت مسك برأسها و هي تقول بخفوت
(هذا ليس حقيقيا يا ابي، لكنك مقتنع بما أنت مقتنع به)
أبعدت وجهها عنه و قالت بخفوت.

(لا أزال أتذكر نبرة صوته حتى الآن حين أخبرته بمرضي، كنت في الخارج وحيدة في المشفى، كنت أحاول ادعاء القوة، الى ان وجدت اتصالا منه يسألني عن حالي...
لم يتوقف أبدا عن التواصل معي بعد أن منعته عنا، ظل يتصل بي دائما كي يطمئن على حالي، الى أن كان هذا الإتصال الذي لا ازال أتذكره حتى الآن، بكل حرف به)
صمتت مسك و هي تشعر باختناق شديد منعها من المتابعة...

الا ان عيناها شردتا و هي تتذكر نبره صوته القوية حين رفعت الهاتف الى أذنها...
كانت تشعر باعياء شديد، وحيدة في غرفة العلاج و كأن صوته قد جائها كنجدة من السماء...
حينها هتفت بضعف جديد عليها
قاصي، كيف حالك؟، لم تتصل بي منذ فترة، ساد صمت قصير قبل أن يقول بصوته الذي فقد مرحه القديم و مشاغبته التي كانت تحبها...

أعلم يا اميرة، اعذريني، أحيانا أفضل لو لا أتواصل معك، لكن أعود و أتشوق للسؤال عنك، كيف حالك؟، و كيف حال خطيبك البائس؟
صمتت مسك يومها و أسلبت جفنيها ثم قالت بخفوت ضعيف جدا
احتاج اليك يا قاصي، لم أشعر بالحاجة اليك يوما كما أشعر اليوم، صمت قاصي و سمعت صوت أنفاسه قبل أن يقول بخشونة.

ماذا حدث؟، هذا ليس صوتك أبدا، هل أغضبك التعيس مجددا، أخبرتك أنني أستطيع ضربه و أنت من تمنعينني، ضحكت مسك بينما انسابت دموعها بصمت فجأة، ثم همست باختناق منتحب
قاصي، حينها سمعت صوت أنفاسه أعلى وهو يقول بقوة
هل تبكين؟، ماذا حدث؟، يومها حاولت السيطرة على نفسها بقوة، لم يكن من عادتها البكاء، لم تحبه أبدا و لا أي مظهر من مظاهر الضعف، لكنها كانت ضعيفة بالفعل...
فالتقطت أنفاسها ثم حاولت القول باتزان...

قاصي، هناك ما أريد أخبارك به، ساد صمت متوتر قبل أن يقول بصوت متوجس قلق
ماذا؟، ابتلعت ريقها ثم قالت بهدوء و شجاعة
لقد تم تشخيص اصابتي بمرض خبيث منذ فترة قصيرة، و لقد بدأت العلاج بالفعل، لا تزال تتذكر فترة الصمت الذي تلت قولها الهادىء حتى الآن...
دقيقتين و اربع ثوان...
كانت تعرف أنه اصيب بالصدمة، الا أنها في النهاية ظنته قد ترك الهاتف من يده فنادت بقلق.

قاصي!، الازلت تسمعني؟، ساد المزيد من الصمت قبل أن ينطق بصوت غريب جدا
ماذا قلت؟، تنهدت مسك و قالت باستسلام
للأسف ما سمعته يا قاصي، الحمد لله على كل حال، تحشرج صوت انفاسه و اختنقت نبرته وهو يقول بذهول
كيف؟، تنهدت مسك مجددا و قالت بخفوت.

لقد تجاوزت مرحلة كيف، و بدأت أتعود الأمر، أرجوك لا تبث الخوف في قلبي، لا أحب الخوف أو الضعف، كانت تسمع بوضوح صوت ابتلاعه للغصة في حلقه، فمنحته فترة و هي تبتسم بعطف قبل أن تقول بمرح ضعيف
كنت أظنك تراني كعالة متعبة فوق كتفيك، لكن على ما يبدو انك تكن بعض المشاعر الأخوية لي، همس قاصي بصوت متأوه
اصمتي، فقط، اصمتي، أغمضت مسك عينيها فانسابت دمعتان على وجنتيها بصمت، ثم همست بضعف أكبر.

أنا أشعر بالوحدة هنا يا قاصي، و كأنني في المنفى أنتظر الموت في كل لحظة، سمعت صوته يقول عنيفا رغم تورم حلقه
لماذا أنت وحيدة؟، أين والدك و الغبي خطيبك؟، صمتت مسك حينها قليلا و همست بخفوت.

أبي يعاني حالة من الصدمة منذ أن علم بالأمر، لا يصدق حتى الآن، لقد كان حريصا منذ أن توفت أي بنفس المرض في التشديد على بكشوف دورية خوفا من اصابتي بالمرض، و كان هذا من حسن حظي فقد اسفر آخر كشف عن اصابتي به في مرحلة مبكرة، لكن و على الرغم من استعداد أبي كل تلك السنوات، فقد أصابته حالة غريبة من الضعف، هذه ثاني مرة أراه يبكي بها بعد موت أمي، كان يبكي مثل الأطفال الصغار، أتصدق هذا، و من يومها طلبت منه الا يعود الا بعد أن يتمالك نفسه، أما أشرف، صمتت مسك غير قادرة على المتابعة فحثها قاصي بعنف.

أين هو؟، همست يومها بألم
لا اعلم ماذا به، منذ فترة وهو متغير تجاههي، أحيانا أقنع نفسي أنه مثل أبي غير قادر على رؤيتي في مرضي، لكنني أشعر بأنه يبتعد عني لسبب آخر، منذ فترة طويلة، قبل مرضي حتى، شتم قاصي بشتيمة نابية بقوة، فعضت مسك على شفتها و همست
اهدأ يا قاصي، الأمر ليس سهلا عليهما، الا أنه قاطعها بقوة و صرامة...
أخبريني أين أنت تحديدا و سآتي اليك و لن اتركك أبدا، ذهلت مسك و هتفت بقوة.

مستحيل يا قاصي، هل جننت؟، تأتي أين؟، أنا في الخارج، و أبي لن يسمح بذلك، سيقتلك ان رآك، صرخ قاصي بصوت متحشرج
و سأقتله أنا إن اعترض، لكن لا تفكري في هذا الآن، فهو غير موجود معظم الوقت على ما يبدو، سنعالج الأمر حين يكتشف، أما الآن فأخبريني عن مكانك، هتفت مسك غير مصدقة
لن تتحمل تكاليف السفر و الإقامة هنا يا قاصي، هذا مستحيل، قال بعنف.

سأتصرف في تكاليف السفر، ثم سأجد عملا هناك، الآن أخبريني، أم تراك لا تحتاجين وجودي؟، ابتلعت ريقها بصعوبة، في الواقع كانت تحتاجه جدا، و جدا...
كانت تحتاج الى بعض من قوته، كي تتقوى بها، فهمست أخيرا باختناق
على شرط، سأتحمل أنا تكاليف اقامتك هنا، هدر بقوة
اخرسي يا تافهة، الآن أخبريني،
عادت مسك من ذكرياتها الحزينة و القوية في آن واحد...

كانت عيناها متلألأتين بالدموع لكنها كانت أقوى الآن من أن تذرفها، فقالت بجمود و هي تولي ظهرها الى والدها.

(أشهر طويلة يا أبي وهو يعمل في كل ما تتخيله، كل مهنة مهينة أو صعبة طالما انها تجني مالا أكثر، كي يتمكن فقط من البقاء بجواري، ليس له مطلب أو غاية، لم تكن حتى قصة حب، فقط بعض الضمير الحي لديه، لم أتخيل أن هناك بشرا يمكنهم التصرف بتلك الطريقة، أبدا، بينما خطيبي المحترم كان يواعد أعز صديقاتي، الى ان عرف قاصي بالأمر و ضربه في أول زيارة له).

استدارت مسك تنظر الى سالم الذي كان يبادلها النظر بصمت تام، و ملامح وجهه مسودة و بائسة...
ثم تابعت بخفوت
(و عرفت أنت، و عرف الجميع أن قاصي يجلس بجواري، بل و يمسك بيدي أيضا، أنا أيضا وقفت أمام الجميع و تحديتكم أن يتجرأ أحد على المساس به، فلماذا لا تصب نقمتك على كما تفعل لتيماء؟)
رفعت ذقنها و تابعت بقسوة أكبر.

(حتى جدي عفا عنه و اعاده للبلد و لدار الرافعية بعد موقفه الرائع تجاه راجح بعد أن أنقذ حياته، هل تناسيت كل ذلك يا أبي؟، لقد أنقذ حياة حفيده و استعاد مكانته)
نهض سالم من مكانه بعنف و هدر بقوة
(و كان لديه مآرب في ذلك، أنا الوحيد الذي اكتشفت غاياته، لقد خدعكم جميعا)
هتفت مسك بقوة
(أنت الذي لا تزال تخدع نفسك يا أبي، قاصي لا يريد منك سوى تيماء، لا يريد غيرها و سترى الآن أنه سيبتعد عن طريقك تماما).

صرخ سالم بعنف
(لقد اخذها ضد ارادتي، لقد فضحتني تلك الفاجرة ال)
وضعت مسك يديها على أذنيها و أغمضت عينيها بيأس هاتفة
(كفى أرجوك، كفي، ما دخلي أنا بكل هذا؟)
صرخ سالم بغضب
(ما دخلك؟، انت ابنتي، من يساندني في تلك المحنة سواك؟، بعد كل المحبة التي قدمتها لك تضنين على بمجرد المساندة؟)
نزعت مسك يديها عن اذنيها و صرخت بغضب مماثل.

(يا أبي أنا دائما أساندك، لكن في تلك الحالة لا أملك اي شيء، قاصي يريد تيماء و تيماء تريد قاصي و قد اخذها بالفعل، و نحن لم نعد في زمن استخدام السلاح لمنعهما من الزواج، فقد سلم بالأمر الواقع و انساها، اعتبر أن لا ابنة لديك سواي، هذه هي المساندة الوحيدة التي أستطيع تقديمها لك)
وقفا كل منهما يواجه الآخر وهما يلهثان و كأنهما في حلبة سباق، الى أن زفرت مسك أخيرا و قالت بخفوت.

(أول أمس كان موعد الكشف الدوري لي)
بهتت ملامح سالم و أجفل فجأة، فارتعشت أصابع يده و همس بصدمة
(لقد، لقد)
رفعت مسك وجهها اليه و ابتسمت قائلة
(لقد نسيت، بسبب تيماء، على الأرجح أنها المرة الأولى التي تشغلك تيماء فيها عني)
ابتلع سالم ريقه و قال باختناق و خوف واضح...
(و، و، ماذا؟)
ظلت مسك على صمتها تعذبه قليلا ثم لم تلبث أن ابتسمت بهدوء قائلة
(الحمد لله).

زفر سالم بقوة وهو يضع يده على صدره، قبل أن يتراجع ليعاود الجلوس على الأريكة مجددا و قد عجزت قدماه عن تحمل ثقله، ثم قال بتعب
(لقد كبر والدك يا مسك، و بات غير قادر على المزيد من الحروب)
وقفت مسك تنظر اليه بحزن ثم قالت بخفوت
(اذن ارفع رايتك و سلم يا أبي، الحياة قصيرة جدا و لا تستحق مثل هذا الجهد في اللهاث على أشياء زائلة).

ظل سالم على وضعه يحاول تهدئة نفسه قليلا، ثم فتح عينيه و نظر اليها قبل أن يمد يده اليها قائلا بحنان
(تعالي يا مسك، هناك ما أريد مكالمتك بشأنه)
اقتربت منه مسك الى أن أمسكت بيده و جلست بجواره تماما، فنظر اليها طويلا ثم قال
(جميلة مثل أمك رحمها الله، نسخة منها في جمالها و قوتها و أصلها المشرف)
افترت شفتيها عن ابتسامة حزينة، فتابع والدها يقول بخفوت.

(لن أنسى أبدا اليوم الذي وقفت فيه أمام الجميع و اختارتني دونا عن جميل أعمامك)
اتسعت ابتسامة مسك الحزينة أكثر قليلا و قالت
(رحمها الله)
تنهد سالم وهو يقول بتعب
(رحمها الله)
نظر اليها مجددا ثم ربت على ظاهر يدها قائلا ببطىء
(لقد تقدم أحدهم لخطبتك مني)
تصلب جسد مسك و ارتسمت المفاجأة على ملامحها...
معقول؟، هل فاتح أمجد والدها في الأمر؟

لكن كيف لوالدها أن يكون بمثل هذا الهدوء و التقبل على الرغم من أن أمجد ليس من عائلة الرافعي!
قال سالم باجهاد
(لم تسأليني عن هويته!، الا ينتابك الفضول لمعرفة من هو؟)
مطت مسك شفتيها بصدمة، ثم قالت بخفوت
(بلى ينتابني، من هو؟)
ابتسم سالم و عاد ليربت على ظاهر يدها قائلا
(زاهر ابن عمك)
سقط فك مسك السفلي في بلاهة و صدمة و هي تكرر مجفلة
(زاهر!، هل تمزح معي يا أبي؟)
عقد سالم حاجبيه و قال بجدية.

(و هل أمزح في أمر كهذا، لقد حادثني في أمرك بالأمس، و أنا لم أكن في حال يسمح لي بالزيادة في الكلام معه، فوعدته بأن أرد عليه قريبا)
كانت مسك تستمع الى والدها غير مستوعبة، ثم قالت ما أن انتهى
(لكن هذا غير معقول، أنا قطعا لست مقتنعة بعرضه هذا!)
رد عليها سالم متوترا
(و لماذا عدم الإقتناع؟، أنسيت من أنت و ابنة من؟، أنت فخر تلك العائلة)
ابتسمت مسك بسخرية و أمالت رأسها قائلة بنبرة ذات مغزى.

(أبييييي!، انت تعلم لماذا لست مقتنعة، من المستحيل أن يتنازل زاهر عن فكرة الحصول على ابن، و جميع أفراد العائلة باتو يعرفون بأنني لن)
قاطعها سالم قائلا بقوة
(هذا ما حدث، لقد طلب يدك مني و بدا متلهفا لدرجة تدعو للضحك، فهل أقف و أستجوبه عن مدى رغبته في الأطفال؟)
فغرت مسك شفتيها قليلا و هي تنظر الى والدها بصمت، ثم لم تلبث أن هزت رأسها قائلة
(عامة من المستحيل أن يناسبني زاهر، هذا عرض فاشل من البداية).

هتف سالم بقوة
(عرض فاشل؟، زاهر تتمناه كل فتيات العائلة، قوة و مال و شجاعة و أصل، و يريدك في الحلال و مصمم على هذا، فماذا يعيبه؟)
قالت مسك غير مصدقة لمدى لهفة والدها
(أبي انظر اليه، شخصيته على النقيض مني في كل شيء، لو أردنا ضرب مثال في الفشل الزوجي قبل أن تبدا العلاقة فلا أحسن مني أنا و زاهر)
تذمر والدها وهو يقول باصرار
(اسمعيني جيدا يا مسك، من الجنون أن ترفضي رجلا كزاهر، خاصة و أن).

صمت وهو لا يجد الطريقة التي يصيغ بها الكلام، فأتمت مسك كلامه قائلة بهدوء
(خاصة و انه ثبت بأنني بضاعة معيبة، و لن يرغب في أحد غيره من أبناء العائلة، اليس هذا ما تود قوله؟)
تنهد سالم بصمت، ثم قال بحزن بعد فترة
(لماذا ترهقين قلبي المثقل تجاهك أكثر يا مسك، لماذا الجدال؟، شاب رائع و تقدم لخطبتك فلماذا الرفض؟)
ظلت مسك تراقبه طويلا و هي صامتة، كان لسانها يحثها على الرفض القاطع...

لكن اشارة ما في زاوية عقلها أمرتها أن تتريث قليلا...
فمنذ وقت طويل و عقلها قد اصبح العضو الوحيد الذي يحركها، بلا أي مشاعر...
فقد التفكير و التفكير، ثم مزيد من التفكير...
صمتت مسك و قالت بخفوت
(دع هذا الأمر لنناقشه غدا يا ابي، لما لا تدخل و تبدل ملابسك و أنا سأحضر لك ما تأكله، فأنت تبدو مرهقا للغاية)
أومأ سالم برأسه وهو يقول بصوت متهاوي.

(نعم، نعم أنا متعب جدا يا مسك، أشعر فجأة بالعجز و عدم القدرة على فعل شيء)
أمسكت مسك بكفه و قالت بهدوء
(تعال معي، سأساعدك)
لكن و قبل أن يتحرك من مكانه، سمعا صوت رنين جرس الباب، فعقد سالم حاجبيه و قال بحيرة
(من سيأتي في مثل هذا الوقت؟)
قالت مسك بتوجس
(لا علم لي، فأنا كنت سأخلد للفراش قبل وصولك، سأفتح الباب، لا تقلق)
تحركت مسك الى باب الشقة و فتحته!

الا أنها تسمرت و هي ترى تيماء واقفة مكانها ممسكة بكف طفل صغير في يدها، طفل يحمل عددا من البالونات و بعض الهدايا و الحلوى، و في عينيه نعاس شديد و كأنه قد استيقظ من النوم للتو...
ارتفع حاجبي مسك بشدة و هي تقول مصدومة
(تيماء؟، ماذا تفعلين هنا؟)
كانت تيماء واقفة بهدوء، ملامحها فاترة جدا، عيناها كبيرتين و تحتهما هالات زرقاء، الا أنها كانت هادئة و لا يبدو عليها الإنهيار الذي عانت منه صباحا...

فقط جمود غريب...
قالت تيماء بهدوء
(كنت أحتاج منك خدمة، هلا سمحت لي بالدخول؟)
التفت وجه مسك جانبا، الا أنها فتحت الباب و ابتعدت قائلة
(تعالي، ادخلي)
دخلت تيماء متشبثة بكف عمرو، لكنها تسمرت مكانها و هي ترى والدها الذي وقف ببطىء وهو ينظر اليها بازدراء ممتزج بالصدمة...
ابتلعت تيماء غصة في حلقها و حمدت ربها انها قد اشترت بعض الملابس الأنيقة صباحا، من ثوب بسيط وردي و سترة من الجينز، و حجاب وردي يناسبه...

ملابسها جعلت منها فتاة جامعية شابة، الا أنها على الأقل وفرت عليها بعض الذل كي لا يراها والدها بقميص قاصي الفضفاض الرجولي على بنطالها الجينز كما خرجت صباحا...
لكن سالم الرافعي لم يتنازل عن تجريحها فقال بقسوة و عنف
(ماذا تفعلين خارج بيتك في مثل هذه الساعة يا محترمة؟، و أين زوجك الوضيع الذي سمح لك بالخروج في مثل هذا الوقت؟).

امتقع وجه تيماء قليلا، الا أنها ثبتت نفسها و رفعت وجهها بثقة زائفة، فتابع سالم باحتقار
(لكن هذا هو المتوقع من ابن حرام لا يعرف شيئا عن النخوة و الشرف)
اتسعت عينا مسك بصدمة الا أن تيماء قالت بصوت مزلزل فجأة
(لن أسمح لك بقول المزيد عن زوجي، فهو أشرف من الكثير ممن يدعون الشرف)
صرخ سالم فجأة بعنف وهو يهجم عليها
(أتتجرأين على الرد على ايضا يا فاجرة بعد ما فعلته).

رفع يده ينوي ضربها، الا ان مسك وقفت بينهما بسرعة و هي تهتف بوالدها أن يتوقف، فنزلت الضربة على وجهها بكل قوة...
شهقت بصوت عال شهقة امتزجت بأخرى مماثلة من فم تيماء المذهولة...
بينما هتف سالم بقوة وهو يمسك بذراعيها
(مسك حبيبتي لم أقصد، ابعدي يدك عن وجهك دعيني أرى وجنتك).

علي الرغم من شهقة تيماء و فزعها على مسك، الا أن منظر والدها المرتعب من الصفعة التي نزلت على وجه مسك بدلا من وجهها هي جلب الى نفسها المزيد من الشعور بالأسى و الحرمان...
لمعت الدموع في عينيها، الا أنها ابتلعتها على قلبها بقسوة، و همست بخفوت جاف
(أنا آسفة يا مسك، لم أقصد أن أتسبب لك في الأذى)
صرخ سالم بها وهو يحاول رميها خارجا.

(الا زلت هنا تتكلمين، أخرجي، أخرجي من هنا و عودي الى المستنقع الذي اخترته بملىء ارادتك)
أمسكت مسك بذراعي والدها و قالت بقوة
(انتظر يا أبي، لا يمكننا طردها في مثل هذا الوقت، أرجوك)
هنا تعالى صوت تيماء بقوة و صلابة مزينة بالشجاعة
(أنا سأذهب يا مسك، لا داعي للاستجداء، أردت منك خدمة أخيرة)
التفتت اليها مسك بوجه باهت جامد، و قد بدأت الصفعة في الإحمرار بشدة
فأمسكت تيماء بذراعها و جذبتها اليها و همست في أذنها.

(هذا الطفل أمانة عندك، سيأتي قاصي ليأخذه بعد قليل ما أن تخبريه أنه لديك، فقط أخبريه أن عمرو عندك، لم أثق بغيرك لتركه عنده، فهو أمانة كما أخبرتك)
ابعدت مسك وجهها قليلا و قالت بخفوت
(من هو؟، و لماذا لن تذهبي به الى قاصي بنفسك؟، هل اختلفتما في أول يوم زواج؟)
ابتسمت تيماء و قالت برقة
(انه مجرد أمانة، لا جواب عندي اكثر من هذا، و أنا، أنا)
صمتت قليلا مرتبكة ثم رفعت وجهها لتقول بخفوت.

(اردت الإطمئنان على نتيجة كشفك الدوري)
ظنت تيماء أن مسك ستمطرها سخرية من تأخيرها في السؤال، الا أنها على العكس، فقد قالت بجدية خافتة
(هذا دليل على أنكما قد اختلفتما فعلا، فلقد اتصل بي قاصي بالأمس ليطمئن بنفسه)
شعرت تيماء بشعور مرير من الهجر و الحرمان، لم تعد غيرة...
بل بات شعور آخر اكثر مرارة، ذلك الحنان الذي يغدق به على الجميع، أين هي منه؟
ابتلعت تيماء الغصة في حلقها ثم قالت بهدوء.

(أنا ذاهبة، الحمد لله أنك بخير و أنا آسفة جدا أنني لم أستطع تقديم العون لك في الوقت الذي احتجته، فأنا)
اختنق صوتها و تبللت عينيها و هي تهمس بصعوبة
(فأنا معطوبة بدونه)
عقدت مسك حاجبيها و هي تسمع تلك النبرة المنهزمة، لكن و قبل أن تسألها عما يحدث، كانت تيماء قد استدارت و ابتعدت عدة خطوات...
لكنها و قبل الخروج التفتت تنظر الى والدها، كانت نظرة طويلة، و من حيث لا تعلم ظهرت ابتسامة على شفتيها!

ان كان وجه والدها منذ لحظة واحدة ملبدا و عاصفا بعنف مجنونة، فتلك الابتسامة أربكته، و جعلته يجفل قليلا، و كأن شيئا ما قد ضربه...
كانت ابتسامة غريبة، بها من الحسرة و الجمال و الاتهام و خيبة الامل، لكن في نفس الوقت، نوع غريب من الحرمان...
لكن و قبل أن يتكلم كانت قد خرجت مغلقة الباب خلفها بهدوء...
نظرت مسك الى الطفل بصمت طويل، فقال سالم بعنف
(من هذا الطفل يا مسك؟).

رفعت مسك وجهها الى والدها و قالت بعد فترة من الصمت...
(ابن صديقة لتيماء يا أبي، ستمر بعد دقائق و سأنزل لاسلمه لها من باب البناية)
هتف والدها بالكثير من الاسئلة الغاضبة، الا ان مسك كانت شاردة الذهن فلم تسمعه، كانت تلامس شعر الطفل و تتلاعب بنعومته بين أصابعها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة