قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الستون

قبل نصف ساعة، تعالى نحيبها بصوت عالي مرتجف و هي تجلس على حافة الأريكة تضرب رأسها بقوة و هي تهتف بنشيج متقطع
(أريد ابنيييييييييييييي، احضر لي ابنييييييييي)
كان قاصي يدور كالمجنون في المكان و هو يشعر بالعجز و الرعب...
لقد سافر و عاد من فوره...
بحث عنها في شقتها التي استأجرتها و عند ثريا و في كل مكان يعرفه دون جدوى، و ما ان أخبرته ريماس أنها ستتصل بالشرطة حتى ترجاها متوسلا الا تفعل حتى يعود اليها...

و بالفعل عاد اليها و قد اقترب الليل من منتصفه...
فوجدها على هذا الحال من الهيستيريا، حاول تهدئتها مرارا دون جدوى، كانت في حالة من الرعب الذي بدا ينتقل منها اليه، ليس خوفا من تيماء، بل مجددا خوفا حتى الرعب عليهما معا...
مع كل ساعة تمر كان الرعب يتملك منه أكثر...
تيماء في أضعف حالاتها الآن، و قد تكون في اكثر حالتها جنونا أيضا...
سمعت ريماس صوت رنين هاتفها النقال فجأة...

فرفعت وجهها المتورم، و هي تنظر الى قاصي نظرة لهفة، قبل أن تقفز على هاتفها لترد بسرعة
(آلووو، نعم، نعم أنا)
تسمرت عيناها و نظرت الى قاصي الذي كان يبادلها النظر بلهفة اكبر، ثم فتحت مكبر الصوت ووضعت الهاتف بينهما لترد بصوت مرتجف
(نعم، نعم أنا أم عمرو)
ابتلع قاصي ريقه بخوف من القادم، الا أن صوت تيماء انساب فجأة من الهاتف محررا الدم في عروقه بعد ان اوشك على التجلط خوفا...
(أنا تيماء، زوجة زوجك).

انتفض جسد قاصي بعنف و اوشك على الهجوم ليخطف الهاتف، الا أن ريماس منعته بحركة من يدها في منتهى الصرامة ثم رمشت بعينيها المتورمتين و هتفت بسرعة
(أين عمرو؟، أين أبني، ماذا فعلت به؟)
ردت تيماء بصوتها الطفولي الخافت
(عمرو بجواري، لقد قضينا يوما ممتعا معا، إنه طفل رائع، و قد وجدت رقم هاتفك لديه، هو طفل ذكي و يحفظ اوراقه المهمة بحرص كي لا يضيع)
قفزت ريماس من مكانها و هي تصرخ بغضب مجنون بينما تنتحب بشدة.

(من أعطاك الحق لتخطفي ابني دون اذن مني؟)
قالت تيماء بنفس الهدوء القاتل و بنغمة محببة بريئة
(كان عليك كامرأة عدم الوثوق في زوجة زوجك التي اكتشفت خداعه في اول يوم زواج لهما، لكنك تركت طفلك لي لليوم الثاني، لذا كان على التصرف)
أغمض قاصي عينيه وهو يتخلل خصلات شعره بأصابعه بقوة كادت أن تقتلعه من جذوره...
بينما هتفت ريماس وهي تبكي بشدة مثيرة للشفقة.

(لست أنا من تركته، قاصي هو من تركه لك كي لا تهربي، كان يثق بك)
تأتأت تيماء بأسف
(تؤ، تؤ، تؤ، كان يثق بي بعد أن أفقدني الثقة به!، منتهى السذاجة)
اطبق قاصي جفنيه أكثر وبدا و كأنه يعاني ألما يفوق طاقته، بينما هتفت ريماس و هي تبكي بشدة
(أقسم بالله ان لم تعيدي طفلي حالا فسأبلغ الشرطة عنك)
هتفت تيماء مصدومة
(تبلغين عني و أنا عروس لم تتم الأسبوع حتى!، لم يكن هذا العشم يا ضرتي).

صرخت ريماس بقسوة و صوتها يختنق من قوة البكاء
(أريد ابني، أريد ابني أو أقتلكما معا)
قالت تيماء بخفوت
(ليس بهذه السرعة، أريد بعض الأجوبة أولا و اعذريني ان كنت لا اثق في زوجي كي أنالها منه)
تأوه قاصي دون صمت، بينما همست ريماس و هي تبكي
(ماذا تريدين؟)
قالت تيماء بصوتها الرقيق الطفولي الا أنه بدا أكثر صلابة
(عمرو، ابن راجع أخو قاصي، اليس كذلك؟).

فتح قاصي عينيه بقوة وهو ينظر الى ريماس التي توقفت عن البكاء بصدمة، و تبادلا النظر طويلا قبل ان تقول ريماس بصوت مختنق
(لا أريد لعمرو أن يسمع ذلك، الا تملكين بعض الرحمة؟)
ردت تيماء بفتور خالي الروح
(عمرو راح في سبات عميق منذ ساعة)
افلتت شهقة بكاء منتحبة من بين شفتي ريماس و هي تهمس بألم
(حبيبي يا ابني)
ردت تيماء بصوت ميت خافت.

(انه بخير، لكن أريد أجوبة صريحة على الفور كي ينام في حضنك الليلة، أو سآخذه و نكمل الليلة خارجا)
نظرت ريماس الى قاصي بذعر فأشار اليها أن تتابع الحديث، فقالت ريماس باختناق بعد فترة طويلة
(نعم، عمرو هو ابن راجح)
ساد صمت قصير قبل أن تسألها تيماء بجمود
(لكنه ليس ابنك الأول، اليس كذلك؟)
بهتت ملامح ريماس و هي تنظر الى قاصي بعينيها المتورمتين، أما قاصي فبدا مصدوما مثلها و أكثر، بينما تابعت تيماء بخفوت.

(من صمتك أفهم أن ما أقوله هو الحقيقة، أين ابنك الأكبر و الذي عمره ثمان سنوات الآن تقريبا؟)
ارتجفت شفتي ريماس بشدة، بينما عقد قاصي حاجبيه أكثر و تصلبت ملامحه، فقالت بصوت مختنق
(توفي، توفي قبل حملي بعمرو)
ساد صمت بائس بينهما، طويلا، و ظنت ان تيماء ستتابع اسئلتها لكنها ظلت صامتة، فقالت ريماس بصوت اشد اختناقا
(كان من ذوي الاحتياجات الخاصة و يعاني من تشوه بالقلب و لم يصمد طويلا).

صمتت لتبكي بخفوت، ثم تابعت بصوتها الأنثوي الرخيم بالبكاء
(كان زواجا عرفيا، لكنه مزق ورقة الزواج، و حين أوشكت على رفع دعوى ضده أتهمه فيها بالاغتصاب، أجبرته عائلته على الزواج بي، ثم طلقني بعدها بفترة قصيرة)
اغمضت عينيها و اخذت تبكي بينما انحنى قاصي ليجلس على الاريكة وهو يسند رأسه بكفيه صامتا...
فهمست تيماء بخفوت
(و ماذا حدث بعد ذلك؟، كيف حملت بعمرو، و متى كان دور قاصي؟)
لعقت ريماس شفتيها بضعف و همست.

(عدت أليه مجددا، كنت أعاني من فقدي لطفلي، فلقد بقى في احضاني فترة كافية كي احبه و اتعلق به، قبل ان يختطفه الموت مني، فعشت أياما عصيبة جعلتني أعود راكعة لراجح، فأنا كنت المفضلة لديه حين لا أيبس رأسي كما كان يقول دائما، كنت في حاجة شديدة اليه و قد بدأت أتعاطى المخدرات، حينها حملت بطفلي الثاني، فطردني خارجا، لكنني لم أسكت ظللت أهدده و أهدد جده باستمرار أنني لن أسكت هذه المرة، لكن في الحقيقة كنت أضعف من المرة الأولى، فقد طردتني أسرتي خارج البيت و أصبحت مجرد نكرة لا تمتلك ثمن هذا التهديد الواهي، حينها أخبرني جده أن هناك من سيعتني بي و ينفق على بشرط أن أبتعد تماما، أو أنني لن أكسب شيئا على الإطلاق).

زفر قاصي نفسا مرتجفا من بين شفتيه، و بدا و كأنه لا يمتلك القدرة على رفع رأسه...
أما تيماء فهمست بصوت مختنق
(و كان هذا الشخص المطلوب هو قاصي)
بكت ريماس و هي تقول باختناق
(نعم)
بدا صوت ابتلاع تيماء للغصة في حلقها واضحا للغاية، قبل أن تهمس بصوت ميت
(و لماذا تزوجك؟)
شهقت ريماس شهقة بكاء بخفوت، ثم قالت.

(كان من المفترض أن يرعاني دون أن يتورط، الا أنني بدأت أزيد من تعاطي المخدرات و كان هو معي باستمرار ليل نهار كي لا أعود و أفضح راجح و عائلته...
مهمته كانت ابعادي، و أنا كنت في عالم غير العالم، غير واعية، أهدد باستمرار و أبحث عن المخدر بأي طريقة دون الإهتمام بحملي، حتى بتنا شبه متأكدين أن الطفل سيكون مشوها...

لكنه أخلف ما اعتقدناه، فقد جاء سليما بمعجزة، كان رائع الجمال، يخطف القلب، و كان قاصي هو أول من حمله بين ذراعيه، يومها بكيت بشدة و اخبرته برغبتي في الاقلاع عن حياتي السابقة كلها، احيانا كنت انجح و احيانا كنت اخفق، فكانت النتيجة انه بات شبه مقيما عندي، يمنعني من الاقدام على ما يضر بطفلي فيلحق بالأول، و يمنعني من التوجه الى عائلة راجح مجددا...

و حين أصبحنا مصدر اتهام في أعين من يقطنون حولنا، عرض على الزواج صوريا)
صمتت ريماس و اخذت تبكي بشدة، بينما ساد صمت خانق بين ثلاثتهم...
لا يقطعه سوى صوت بكاء ريماس الخافت...
تكلمت تيماء اخيرا بصوتها الطفولي الرقيق و الذي بدا أكثر موتا و ضياعا
(إنه بجوارك و يسمعني، اليس كذلك؟)
رفعت ريماس وجهها المتورم و همست
(نعم)
فهمست تيماء عبر الهاتف بينهما.

(اليوم فقط شعرت أنني أكثر يتما من أي يوم آخر، لقد جرحتني بشكل لم يجرحني أحد به سواك، كل ما تألمته في حياتي لا يقارن بلحظة من ألمي الآن على يدك)
رفع قاصي وجهه الشاحب و قد حفر الألم به كل خط دقيق في بشرته وحول فمه، بينما تابعت تيماء بصوت أكثر همسا و خفوتا...

(أنت رائع، أنت شديد الروعة مع الجميع الا أنا، الآن فقط اكتشفت أنك لم تكن يوما رائعا معي، بل كنت مؤذيا بدرجة موجعة، إن كان هذا سيؤلمك يا قاصي فاسمع اعترافي هذا، أنا أحبك)
صمتت و بهتت ملامح قاصي بشدة، لكنها تابعت بغصة بكاء خافتة
(و إن كان سيؤلمك موتي فأنا أتمنى الموت، لا أتمنى شيء في تلك اللحظة سوى اذاقتك لمحة من ألمي على يدك)
و قبل أن تغلق الخط، وصلته شهقة بكائها واضحة بقوة ضاربة...

حينها قفز قاصي من مكانه صارخا و شياطين العالم تتقافز أمام عينيه المعذبتين
(تيماء)
و امتزجت صرخته بصرخة ريماس
(ابني، انتظري اريد ابني)
لكن رعبهما لم يستمر طويلا، فبعد دقائق، سمع قاصي صوت هاتفه فرد سريعا صارخا بعنف
(تيماااء!)
الا أن صوت مسك هو ما وصله و هي تقول بخفوت
(عمرو عندي يا قاصي، تعال و خذه، ).

لقد اكتشف مخبأها، حسنا الذكية لو كانت تريد تجنبه لإختارت مكانا لشرب قهوتها غير الحديقة الصغيرة أسفل نافذة مكتبه تماما...
لقد وجدها بالصدفة حين كان يمد برأسه ناظرا الى صوت ما خارج النافذة...
جالسة بأناقة على مقعد حديقة بسيطة لم ينتبه لوجوده قبلا...
تضع ساقا فوق أخرى و هي تضع نظارة سوداء على عينيها تناسب حلتها الأنيقة السوداء...
بدت مثالا للكلاسيكية الأنيقة في أبهى صورها...

ارتشف أمجد قهوته بصمت وهو يراقبها، انها تبدو كالزئبق...
علي الرغم من ثبات شخصيتها و اتزانها الظاهري الا أنها لا تمكن مخلوق من امساك اي شيء عليها...
أو أخذ أي عهد منها...
حتى الآن لا تزال تماطله في التقدم لوالدها طلبا ليدها، كان هذا حقها في اخذ وقتها في التفكير، هو يعلم ذلك...
لكن رغما عنه كان يشعر بالغضب، لماذا تتردد في القبول به؟
هل ترى نفسها تستحق الأفضل؟

ظاهريا كانت تمتلك كل طباع الخيلاء و الغرور، لذا لا يستبعد أن تكون شاعرة بقدر نفسها...
لكنه خالف ما يراه الجميع، و وضع رهانا على أن تكون مسك الرافعي شخصية مختلفة عما يظنوها...
و ما حدث هو أنه يرغبها زوجة بالفعل!
هذا هو الاعتراف الذي استغرقه وقتا طويلا كي يعترف به أمام نفسه...
ربما كانت مشاعره قد اتجهت الى غدير يوما، لكن اعجابه الآن هو ما يتجه الى مسك...
كل ما بها يثير اعجابه...

و هذا ما هو غريب عليه، لطالما كان يظن أن لديه نموذج معين في النساء اللاتي يثرن اعجابه...
وهو النقيض تماما من مسك...
دوما كان يحلم بزوجة شديدة الرقة و الهشاشة، متواضعة كالنسيم حين يلامس الجميع دون تفريق...
حتى ملامحها فقد رسم لها ملامح بريئة و ناعمة أشبه بطفلة...
و لذا فقد جائت غدير و ملأت تلك الصورة المحفوظة لديه تماما...
كانت تفتنه بمزاحها مع جميع العاملين و ضحكاتها الرقيقة التي لا تتوقف...

و براءة ملامحها كانت تجذب عينيه، أما غريزة الحماية لديه فكانت تشبعها دون حرج و هي تبث له مدى ضعفها و الصعوبات التي تعانيها...
كان يظن أنه قد وجد ضالته الرقيقة الضائعة بدونه، فاقترب بشدة من حبها بصدق...
الا أن النتيجة كانت كارثية...
ثم ظهرت مسك...
شخصية مستفزة لدرجة الجنون، باردة و مغرورة و، لذيذة، لذيذة لدرجة لا تصدق...
مجرد نظرتها المتعالية تجعله يرغب في الابتسام ثم ضربها...
مضحكة من شدة استفزازها...

و محترمة، كانت لديها قوانين صارمة لا تتعداها، لا تتمادى مع غيرها، لا تسمح لأحد بتجاوز مساحتها الخاصة كما تسميها...
الا أنه قد لاحظ شيئا، وهو أنها قد بدأت تسمح له نوعا ما بتجاوز تلك المساحة...
ابتسامتها سماح، اسبال جفنيها أمامه سماح...
تنهدها المستسلم بحنق منه، ما هو الا سماح له بتجاوز تلك المساحة الخاصة الباردة التي تحيط نفسها بها بقوة...

الغريب أنه قد أعجب بها، و الأغرب أنها بدأت تسمح له بتجاوز مساحتها الباردة الخاصة...
و الأكثر غرابة أن أمه تبدو و كانها مدلهة في حبها من مجرد لقاء واحد فقط، و لم تكن مسك به مثال الشخصية الودودة...
وضع أمجد كوب القهوة الفارغ على سطح المكتب الخاص به، ثم أخرج هاتفه و طلب رقمها قبل أن يعود للنافذة و يمد رأسه نظرا اليها...

رآها تمسك بهاتفها الموضوع بجوارها على المقعد لتنظر الى الاسم، ثم لم تلبث أن أطفات الصوت و أعادته الى مكانه مجددا و هي تعاود النظر الى البعيد بملامح باردة...
تصلبت ملامح أمجد فجأة وهو يخفض هاتفه!
الآن أصبح غضبه حقيقيا، لا يعلم إن كان غضبه منها أم من نفسه...
دس الهاتف في جيب بنطاله، قبل أن يستدير بغضب خارجا من مكتبه وهو يعقد العزم على الا يحترمها مجددا و لو بمجرد نظرة...

كان يسير في الممر و ملامحه متصلبة، بادية التجمد، الى أن وصل الى المصعد و الذي ما أن فتح ابوابه حتى وجد مسك تخرج منه بأناقة...
توقفت مكانها و هي ترفع وجهها اليه حين رأته لا يبتعد عن طريقها فقالت بهدوء
(هل تنوي سد الطريق طويلا؟)
أوشك أن يرد عليها بغضب و يهاجمها بسبب عدم ردها عليه، الا أنه في النهاية أفسح لها الطريق و أشار بكفه قائلا بخفوت فاتر
(تفضلي).

مرت مسك من أمامه و هي ترفع حاجبها متعجبة من استسلامه المهذب على غير العادة...
و اوشكت على تركه و الابتعاد، لكن و ما أن رأته ينوي دخول المصعد حتى نادته بحيرة
(ألن تحضر اجتماع مجلس الادارة؟، بما أنك هنا، لما لا تتنازل وتحضره من باب التغيير)
عقد أمجد حاجبيه و قال بدهشة
(هل هو الآن؟)
ارتفع حاجبي مسك معا و قالت تمط شفتيها.

(كان على توقع ذلك منك، انه الآن يا أستاذ في قاعة الاجتماعات على يدك اليمنى، طبعا نسيت مكانها و معك كل الحق، أعضاء مجلس الادارة قرروا وضع لوحة بصورتك في خانة المفقودين)
ظل أمجد مكانه متصلبا، صارم الملامح، الا أن الابتسامة أوشكت على امالة زاوية شفتيه قليلا...
كلمة أستاذ خرجت مازحة من بين شفتيها بحلاوة السكر...
أخفض عينيه و قال بجفاء
(لا بأس، تقدميني)
تقدمته مسك، الا أنه قال بفظاظة
(لا، انتظري، اتبعيني).

ارتفع حاجبيها من تحت نظارتها السوداء و هي تراه يتجاوزها و يسير أمامها، فقالت بغضب
(الا لديك أي فكرة عن الذوق؟)
رد أمجد بغضب أكبر دون أن يستدير اليها...
(لا ليس لدي، و حلتك شديدة الضيق بالمناسبة)
تسمرت مسك مكانها و هي تنظر اليه مذهولة وهو يبعد عنها بقوة...
بينما وقفت فاغرة شفتيها، ثم امالت رأسها تنظر الى نفسها من الخلف و من الجانبين...
كانت الحلة تناسب شكل قوامها الا أنها لم تكن شديدة الضيق أبدا...

اعتدلت مسك بوجنتين محمرتين و هي تراقب دخوله الى قاعة الاجتماعات، ثم شدت سترة الحلة الى أسفل بقوة و شدت صدرها بغضب و اندفعت الى القاعة...
بحثت عنه فرأته و قد اتخذ احد المقاعد ليجلس عليها باهمال دون ورقة بيضاء حتى، بينما هي تحمل ملف اوراقها كاملة، و كانت تود احضار حاسوبها ايضا لكنها تراجعت...
اندفعت مسك و جذبت الكرسي المجاور له و ارتمت عليه بعنف لتهمس فجأة بشراسة و هي ترمي بنظارتها على سطح الطاولة.

(أنت وقح، كيف تسمح لنفسك؟)
نظر اليها بطرف عينيه ليقول باهمال و برود
(هل الخطأ خطأي لانني أنبهك الى، يا الهي ما هذا؟)
استقام جالسا في مقعده وهو ينظر اليها مصدوما عاقدا حاجبيه و قد تغيرت ملامح وجهه تماما الى الاهتمام البحت...
فعبست مسك و هي تقول بتوجس
(ماذا؟)
اشار أمجد الى وجهها و هتف بغضب
(تلك الكدمة في وجهك!، من صفعك؟)
سارعت مسك برفع اصابعها الى وجنتها و قد نستها تماما، فقالت بغباء.

(اوووووف، لقد نسيت اضافة المزيد من مسحوق الزينة لاخفائها)
مال امجد الى الأمام و همس بغضب
(من ضربك؟)
نظرت اليه مسك بغضب مماثل و قالت من بين أسنانها...
(لم يضربني أحد، أساسا لا يتجرأ أحد على ضربي)
قال أمجد بعنف و قد ساعده خلو القاعة الا منهما...
(تكلمي يا مسك، من أين حصلت على تلك الكدمة؟)
نظرت اليه بتوتر ثم قالت بلامبالاة
(وقع أحد أرفف المكتبة على رأسي)
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول ساخرا.

(ما شاء الله!، و قد انحرف بمهارة ليقع فوق اعلى وجنتك تحديدا!، تكلمي يا مسك)
عقدت حاجبيها و قالت بتوتر مشيرة بيدها كحركة البطة
(كنت منحنية و أنا أسند أحد أرجل المكتبة، هكذا، فوقع الرف على)
قال أمجد بقوة
(أنت كاذبة فاشلة جدا فلا تحاولي، هناك أربعة أصابع مرتسمة على وجنتك يا مسك)
عقدت مسك حاجبيها و رفعت يدها تغطي الكدمة قائلة بحرج
(حقا؟، ياللهي، كيف سأحضر الآجتماع الآن؟)
ضرب أمجد على سطح الطاولة وهو يقول.

(تبا للاجتماع، اخبريني من ضربك؟)
نظرت مسك اليه ثم هزت كتفها و قالت ببساطة
(أبي)
تسمر وجه أمجد و ارتفع حاجبيه و قال غير مصدقا
(ضربك و أنت في مثل هذا العمر؟، لماذا؟، ماذا فعلت؟)
مطت مسك شفتيها و بدأت في اخراج أوراقها و هي تقول ببرود
(أيجب أن أكون قد اقترفت أمرا جلل كي يضربني؟)
هتف أمجد بذهول
(بالطبع!)
نظرت اليه بطرف عينيها و قالت باهتمام
(الن تضرب ابنتك أبدا؟).

رمشت عينا أمجد و لمعت بهما الرقة رغم عنه في لمحة خاطفة، ثم قال بخفوت مفاجىء بدا حنونا
(لو كانت لدي بنت فلن أضربها أبدا، ستكون ملكة كأمها)
ارتجفت أصابع مسك رغم عنها، و قد لاحظ أمجد ارتجاف أصابعها، و سره هذا جدا، الا أنها عادت لترتب ورقها و هي تقول بفتور
(هذا كلام عاطفي جدا، لا وجود لرجل يعامل زوجته كملكة)
قال أمجد بجدية
(والدي رحمه الله كان يعامل أمي كملكة).

افلتت ضحكة ساخرة من بين شفتي مسك، جعلت أمجد يعقد حاجبيه بقسوة، فنظرت اليه مسك و رأت أنها قد أغضبته بحق، فقالت بخفوت
(آسفة لم أقصد السخرية، لكن لو كنت ممن يقدرون الصراحة، فأنا رأيت والدتك، لا تبدو أنها كانت تعامل كملكة، و أنا لا أقصد أي اهانة)
أظلمت عيناه بشدة فقال بقسوة.

(هذا يتوقف على تعريف لفظ ملكة بالنسبة لك، هل كل ما يعنيه هو الرشاقة و الملابس الأنيقة و الماسات؟، لو كان هذا هو التعريف لديك فأنت اذن سطحية بدرجة لم أتوقعها، الملكة هي المرأة التي تجبر زوجها على احترامها و مراعاتها في كل كلمة قد تجرحها حتى و لو كانت مجرد همسة، هل عاملك أحد يوما بهذا الشكل؟)
ظل وجه مسك منخفضا شاحبا و هي تتظاهر بترتيب الأوراق، ثم قالت.

(لي صديق، أعتقد أنه الوحيد الذي عاملني بهذا الشكل رغم فظاظة أخلاقه، ووالدي يدللني، لكن ما وصفته بهذه الدقة، لا، لا أعتقد أنني جربت الشعور من قبل)
ساد صمت متوتر بينهما، و رفضت أن ترفع وجهها اليه، فقال أمجد بصلابة
(من هو هذا الصديق؟)
ارتفع وجهها اليه مجفلة و هي تقول بعدم فهم...
(ماذا؟)
قال أمجد بفظاظة
(من هو هذا الصديق الفظ الرقيق؟)
ابتسمت مسك رغم عنها و قالت.

(آآآآه، إنه ابن عمي قاصي، لقد رأيته، الذي تركني و تزوج أختي)
عقد أمجد حاجبيه أكثر و قال بخشونة
(أنتم عائلة غير مطمئنة على فكرة)
افلتت منها ضحكة رقيقة رغم ارادتها، و تلك الضحكة كانت السبب في اضطرابه بشدة، فقال فجأة دون استعداد
(ألديك الرغبة في أن تعيشي كملكة لبيتي؟، الآن يا مسك أريد جوابا واضحا).

رفعت وجهها المصدوم اليه، ووجدت أنه لن ينتظر أكثر، يريد قرارا حاسما، و ما أن فغرت شفتيها لتجيب حتى قال يقاطعها بجدية رقيقة
(و أريك كيف يمكنني أن أعامل طفلتي كملكة كما تستحق أمها)
اغلقت شفتيها ببطىء عن الرد الذي أوشكت على قوله، و زاد عمق الخطين الفاتنين على زاويتي شفتيها...
و مرت عدة لحظات من الصمت بينهما قبل أن تقول بهدوء.

(أنا آسفة يا أمجد، لقد فكرت مليا في الأمر و وجدت أننا لا نناسب بعضنا، لقد تقدم لي أحد أبناء أعمامي ووافقت، و معلومة أخرى، عائلتي لن تقبل بتزويج احد بناتها الا من ابناء أعمامهم، و من تفعل غير ذلك يكون مصيرها أن تخرج من العائلة للابد)
أجفل أمجد بشدة من بساطة رفضها!، لم يتوقع تلك البساطة المهينة أبدا!
و قبل أن يجد الرد، كانت مسك قد نهضت من جواره مع دخول أول الأعضاء، فقالت ببرود.

(لقد وصل ابي، نسيت اخبارك بأنه سيحضر الإجتماع)
ابتعدت عنه بسرعة بينما ظل هو مكانه يحاول استيعاب رفضها البارد عكس ما ظنه خلال الأيام الماضية تماما، و نظر اليها و هي تقترب من والدها برأس منخفض فابتسم لها سالم الرافعي و قد بدأ أعضاء مجلس الادارة في التوافد، وهو يقدمها لهم بفخر. محيطا كتفيها بذراعه...
أما هي فقد اسدلت غرة ناعمة في حركة سحرية كي تغطي بها كدمة وجهها، وجهها الذي بدا شاحبا و بعيدا جدا...

أما هو فقد نهض من مكانه و غادر القاعة أمام أعين الجميع المتسائلة، و أمام عينيها المظلمتين بخيبة أمل لم تحسب لها حساب قبلا...

الليلة التي كان يأتيها بها في الحلم...
كانت هي السعادة الوحيدة التي باتت تعيشها هذه الأيام الطويلة و الليالي الاطول...
ابتسمت له و همست برقة
سليم، اشتقت لك، كان وجهه مضيئا في بياض القمر، و ابتسامته خطفت عينيها الشاحبتين...
تعلم أنها تحلم...
كانت من البشر القلائل اللذين يعلمون أن الحلم حلما وهم يعيشون تفاصيله، فتبقى بداخلهم المرارة و الخوف من الاستيقاظ...
تململت قليلا و همست بأسى...

لا تذهب الآن، ابقى قليلا، الا ان ابتسامة سليم بدأت تتلاشى، و رائحته الطيبة تختفي ببطىء ليحل محلها عطر قوي جدا و كثيف، كثيف الى درجة خانقة...
عقدت سوار حاجبيها في نومها المتقطع، و هي تتعرف ذلك العطر دون ان تستوعب صاحبه...
لكن ما هي الا لحظة و اختفى حلمها الجميل من أمام عينيها، حين أطبقت كف قوية خانقة على فمها بقوة...
فتحت سوار عينيها على أقصى اتساعهما، الا أن الظلام كان دامسا...

لا شيء ينير الغرفة سوى ضوء القمر الشاحب المتسلل من النافذة...
و كان هذا الشعاع الشاحب كافيا لرؤية العينين الشرستين اللتين تعلوان عينيها مباشرة...
بينما جسدا قوي يسجى فوق جسدها و يكبلها بالأغطية...
ذعرت سوار و اخذت تصرخ بقوة من تحت تلك الكف القوية، الا أن صوته الأجش همس في أذنها بلهجة غريبة
(لن تكوني لغيري، سأقتل عنادك هذا، فقد أخطأت في محاربة حقي بك من جديد يا سوار).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة