قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج1 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع عشر

تسمرت تيماء مكانها و شبكت اصابعها كتلميذة مرتبكة، و تسارعت انفاسها قليلا قبل ان تقول بخفوت
(غرفة، نومي؟)
استدار قاصي اليها حاملا الصندوق، رافعا حاجبيه ليقول بهدوء
(و هل لدى السيدة غرفا أخرى؟)
ابتلعت تيماء ريقها بتوتر و خجل، منذ ثلاث سنوات و نصف، سنوات معرفتها به...
دخل بيتهم كثيرا، الا أنه لم يدخل مسبقا الى غرفة نومها، و لا يعرف طريقها في الرواق الطويل...
همست تيماء بخفوت
(سأسبقك).

سارت أمامه بتمهل، و هي تعرف جيدا أنه يراقبها، لم ينطق حتى الآن بكلمة عن فستانها الأنثوي الرقيق البسيط، و شعرها الذي تركته كما هو هالة مجعدة نحاسية حول وجهها...
فتحت الباب و دخلت ببطىء، لكن عيناها اتسعت فجأة بذعر و هي تهتف
(لحظة واحدة)
ثم جرت تلتقط بعض ملابسها البيتية و الداخلية من هنا و هناك، و ضمتها خلف ظهرها بينما قاصي ينظر اليها مبتسما بتسلية وهو يقف عند الباب حاملا الصندوق...

ابتعدت عنه بظهرها و كومة الملابس خلفها لتقول بخفوت
(تفضل)
دخل قاصي حاملا الصندوق، الا أن خطواته كانت بطيئة، متمهلة...
عيناه تتأملان كل أرجاء الغرفة، تسجلان كل تفاصيلها، ما بين ألوان أنثوية متداخلة، بعض الدمى و الكثير من الكتب، و سرير فوضوي...
كانت غرفة مراهقة...
تكلم قاصي أخيرا بصوت خافت
(اذن هذه هي غرفتك؟)
كانت نبرته تكاد أن تكون مبتسمة، خافتة و بها لمحة غريبة من الشوق
هل كان يمنى رؤيتها من قبل؟

همست تيماء قائلة
(نعم، هي نفسها منذ طفولتي)
التفت قاصي لينظر اليها بتمعن، و ابتسامة حنونة تظلل شفتيه قبل ان يقول بهمس أجش
(أي ليست منذ فترة ببعيدة)
زفرت تيماء بقنوط، قبل ان تقول بيأس
(توقف عن هذا يا قاصي، بت تضايقني)
لم يبتسم وهو يمعن النظر بها، قبل ان يقول بجدية خافتة
(ما ذنبي إن كانت الحقيقة)
عادت لتتنهد و هي تشبك اصابعها تنظر الى البعيد بشرود...

هناك شيء ناقص بعلاقتهما، و كأنهما في زمنين مختلفين، أو عالمين أكثر اختلافا...
لم يناقشا يوما مستقبل علاقتهما، و كأنهما لا يجرؤان على ذلك...
و هذا يقتلها...
زمجر قاصي قائلا بقسوة مفاجئة
(سأذهب لأحضر الصندوقين المتبقيين)
وضع الصندوق من يده، قبل أن يخرج مسرعا، بينما ارتمت تيماء جالسة على حافة السرير، مخفضة الوجه، و قد زالت عنها الفرحة فجأة و شعرت بغصة غريبة في حلقها، دون أن تدرك لها سببا...

حين عاد بالصندوقين...
كانت لا تزال على وضعها جالسة، مخفضة الوجه...
فبقى مكانه عدة لحظات ينظر اليها قبل أن يقول بصوت أجش خافت...
(خططت طويلا كي أسعدك يوم نجاحك، لكنني أرى العكس الآن)
رفعت وجهها الشاحب اليه...
تحب النظر لوجهه، تحب وسامته الرجولية المبكرة، تحبه شكله المختلف عن والدها و عن كل من عرفتهم من رجال...
بالنسبة لها المفهوم الوحيد لكلمة رجل. تم حصره في قاصي، قاصي فقط...
ابتسمت ابتسامة شاحبة و همست.

(وجودك وحده يسعدني)
دائما كانت هي المتكلمة عن حبها بوضوح و صراحة، أما هو، فهو المسيطر فقط...
ارتجفت عضلة بجانب شفتيه، كانت تعرفها جيدا، فهي العضلة الوحيدة من جسده التي لا يستطيع السيطرة عليها، تلك أيضا من ممتلكاتها هي وحدها، لا تظهر الا لها...
هز رأسه قليلا قبل أن يقول بخشونة زائفة
(حسنا يا مخادعة، نجحت في استمالة عطفي، اذن افتحي هديتك).

نهضت تيماء من مكانها و هي تفتعل ابتسامة و تنوي التهام كل لحظة يقضيها معها قبل أن يسافر و يفصل بينهما مئات الكيلومترات...
جثت بجوار أحد الصناديق و بدأت في فتحها، بينما استقام قاصي و ابتعد لينتهز الفرصة و ينظر اليها طويلا...
و هي جاثية تتراقص على كاحليها، بينما فستانها المنقوش بالورود ملتف حولها، و شعرها الذي يثير جنونه يمنح وجهها اطارا أثريا مذهبا، و كأنه مزخرفا بالطبيعة...

فضت تيماء الغلاف و عبست قليلا قبل ان تتسع عيناها بقوة و هي تصرخ
(مسجل صوت؟)
لم يرد على الفور وهو ينظر اليها، قبل ان يقول اخيرا
(نظام صوتي مجسم كامل، مشغل الاسطوانات بسماعتين ضخمتين، يكفيك كي تسمعي المدينة المجاورة، لكن احرصي الا يستدعي الجيران الشرطة لك، لا أريد البحث عنك في اقسام الشرطة)
كانت تيماء تمزق باقي الورق عن الصناديق و هي تهتف بسعادة حقيقة.

(قاصي، قاصي، قاصي، كم تمنيته و على الرغم من ذلك لم أفكر يوما في شراؤه)
رد قاصي بخفوت هادىء
(أعرف)
رفعت عينيها البراقتين و قد تحولتا الى نجمين ساطعين فيروزيتي اللون، و قالت بصوت متأوه مجنون
(كيف اشكرك؟)
هذه المرة لم يرد، طال به النظر فنسى السؤال، على ان الجواب لم يكن لنطق به...
جوابا حرمه على نفسه و لا يزال...
اخذ نفسا عميقا قبل ان يقول بهدوء.

(هيا ابتعدي و دعيني اتم عملي، سأجهزه لك في الغرفة، و يمكنك توصيل تلفازك به كي يصبح صوته مجسما كذلك)
قفزت تيماء واقفة كالعفريت برشاقة، و هي تترك له حرية التحرك، فأخذت مكانه و أخذ مكانها...
و كان دورها كي تتأمله، بينما يدها مرتفعة و مستكينة فوق صدرها، تهدىء من عنف نبضاته...
قال قاصي بهدوء وهو يمزق لاصق الصندوق بمفتاحه
(ماذا تفعل ثريا حتى الآن؟، لم أرها منذ أن أتيت).

ردت تيماء بخفوت شارد و هي تتأمله بقلبها و روحها...
(لقد خرجت أمي لتتسوق منذ فترة)
تسمر قاصي مكانه و رفع وجهه اليها ليقول بصوت غريب
(هل أنت وحدك هنا؟)
عقدت حاجبيها قليلا من تغير لهجته. لكنها قالت ببساطة
(نعم)
كانت ملامح قاصي غريبة، و عيناه تنظران اليها بقلق ثم قال أخيرا
(كان عليك اخباري)
قالت تيماء بحيرة
(و ما الفارق؟)
ازداد انعقاد حاجبيه، و ظهر التوتر بعينيه ليقول بصوت غامض
(ما كنت لأدخل).

تنهدت تيماء لتقول بيأس
(بالله عليك يا قاصي، هل أرسلك بعيدا و أمي على وشك أن تصل بأي لحظة؟، أنت تدخل هذا البيت منذ سنوات و أصبحت واحدا منا)
صمتت قليلا قبل أن تنطق بما في قلبها منذ زمن
(لقد أصبحت أقرب لي من والدي يا قاصي، فلا تزيد من الحواجز بيننا)
تصلب فكه وهو ينظر اليها بتعب، فتابعت تقول بصدق
(أنا أثق بك، أكثر مما أثق بنفسي)
ظل صامتا مكانه، بينما الجو من حولهما امتلأ فجأة بشحنات من التوتر، و شيء آخر!

لكن قاصي فصل تيارات التواصل بينهما لينكب على الجهاز الصوتي كي يعد توصيله و تشغيله، بينما بقت تيماء تراقبه عن بعد و هي تتلاعب بأصابعها بتوتر...
كيمياء المشاعر بينهما قوية جدا و منذ زمن، و قد بدأت تهدد بالانفجار...
خلال دقائق. انهى قاصي عمله ثم اخرج من جيب قميصه اسطوانة قام بتشغيلها...
انبعث فجأة لحن جيتار بصوت قوي رغم ان قاصي قام باخفاضه، الا انه كان مجسما، يبعث شحنات عاطفية في الجسد...

فغرت تيماء شفتيها ذهولا من جمال الصوت و اللحن، فهمست بانبهار
(هل احلم يا قاصي؟)
لم يرد عليها، بل كانت ملامحه قد تلونت بلون قاتم، بينما انفاسه تسارعت قليلا...
فاقترب منها ببطىء الى ان امسك بكفها، و دون ان تدرك ما يحدث...
كان قد رفع ذراعها ليدفعها في دورة كاملة، فدارت حول نفسها تحت ذراعه و فستانها يدور من حولها قبل ان يجذبها اليه و يضع يده على خصرها كي يراقصها...

كانت تلك هي المرة الثانية التي يراقصها فيها بهذا القرب، بعد حفل مولدها السابع عشر...
كانا يتحركان بسرعة و لم يتلامسا رغم قربهما...
أحيانا تخونه أصابعه فيعاود العزف على انحناء خصرها المتمايل...
الى أن أدارها مجددا، فأصبح ظهرها له، ووجهها للمرآة وهما يتمايلان معا على اللحن الغربي المزلزل رغم خفوته...
ابتعدا عن الأرض و العالم بأسره، نسيا والدها و أمها...
كانا فقط، قاصي و تيماء...

تبتسم له، بينما يرسم لملامحها لوحة في ذاكرته...
وجهه خلف وجهها كان عابسا، و عيناه تشتعلان بجمر متوهج...
بدا كرجل، يقاوم نفسه، و كأنه وصل الى نهاية حافة السيطرة على ذاته...
فترك لنفسه القليل من هواها...
التقت أعينهما فابتسمت هي بعشق صريح، أما هو فقال هامسا بصوت أجش
(من أين أتيت الي؟، و متى أصبحت لي الأرض التي أعود اليها دائما، رحبة، رحبة أنت لا تضيقين بي أبدا)
همست تيماء بقوة و صدق.

(لن يحدث، لن يحدث، تلك الأرض لو ضاقت بالبشر جميعا، لن تضيق بك)
انعقد حاجبيه، بدا و كأنه يتألم...
و كم تمنت في تلك اللحظة لو تمكنت من ازالة هذا الألم القاتم بداخله، لو ملأت تلك الهوة السوداء السحيقة...
تابع قاصي بصوت مجهد، متألم...
(أنت صغيرة جدا، جدا)
زفرت بقوة و غضب و هي تهتف متأوهة
(قاصي ليس مجددا)
الا أنه تابع و كأنه لم يسمع احتجاجها المتأوه.

(ليس من العدل أن تتحملي ما يفوق قدرة كتفيك الصغيرتين على التحمل. لقد دخلت أرضا ملغمة)
توقفت عن الرقص، ثم استدارت اليه بقوة رافعة ذقنها لتقول بقوة
(هذه الأرض هي أرضي كذلك، و هي ليست ملغمة، فقط أرشدني اليها، امسك بكفي كي أسعادك، أدخلني الى حياتك مهما تخيلت خوفي من ظلامها، فأنا لا أخاف الظلام)
كان يستمع إلى صوتها الصادق المترجي، بعينين ضيقتين، و صدر متسارع الأنفاس...

الى ان تحرك فجأة و أحاط خصرها بذراعين كالحديد وهو يجذبها الى صدره بقوة كادت أن تحطم أضلعها...
ذهلت تيماء من تلك القوة الهائلة في أول عناق بينهما...
اتسعت عيناها و فغرت شفتيها و هي تشعر بجسدها الغض ينصهر فوق صدره القوي بينما كفيه على ظهرها تمنعان هربها، أو ربما تدمغانها على قلبه...
كانت ترتجف فعليا بين ذراعيه، خاصة و أن تردد أنفاسه الهادرة كان يطوف في اذنها كحلقات من دخان ساخن...

لم تكن هي الوحيدة التي ترتجف، بل هو أيضا...
جسده القوي كان يرتجف بالقرب منها، ذبذباته تنتقل منه اليها فتزيد من رجفتها...
كانت مرتعبة، لم تشعر يوما بمثل هذه المشاعر العاصفة...
و لم تخضع أبدا لتجربة مماثلة...
ارتجفت شفتيها بشدة و هي على وشك الانفجار في البكاء، فأخفضت وجهها و هي تحاول بكل قوتها السيطرة على الشعور بالدوار الذي انتابها...
قاصي بدا كفرس جامح في تلك اللحظة، لا توقفه الحواجز...

يزيد من ضمها اليه حتى لم يعد هناك المزيد، بينما شفتاه تهمسان باسمها بصوت يائس فوق جبهتها...
و اعلى وجنتها، وصولا الى فكها...
و حينها فقط ادركت انها هي الأخرى كانت تهمس باسمه، تستنجد به، منه...
تدور بها دوامة جنونه المفاجىء، فتشعر و كأنها قدر ارتفعت عن الأرض رافعة ذراعيها...
تدور و تدور في دوامته السريعة المتداخلة الألوان...
شعرت فجأة باحدى يديه تبتعد عن ظهرها، فظنته قرر ان يحررها...

لكنها لم تنتظر طويلا، فقد أمسكت يده بذقنها برفق يتناقض مع قوة ضمه اليها...
لتجد وجهها يرتفع اليه...
و حينها انهارت كل قواها و هي تنظر الى وجهه الذي فقد كل اثر لسخريته المعتادة، او سيطرته المستفزة
و تحول الى كتلة من الحمم الحمراء، بينما الجمرتين بعينيه تشتعلان كما لم تراهما من قبل...
لا تعلم من منهما نطق باسم الآخر أولا...

كل ما تعرفه، هي أنها رأت وجهه ينحنى اليها، و عيناه تطفئان جمرتيهما بعد أن أغمضهما...
حينها، أغمضت عينيها هي الأخرى تلقائيا...
و لا تعلم كم لحظة مرت قبل، ان تشعر بشفتيه تسحقان شفتيها...
شهقت محاولة التقاط انفاسها، الا أنه كان مغيبا، و كأنه يبحث عن مجهول بها، شيء لا يستطيع تفسيره...
و كأنه يبحث عن نفسها بها، بقبلتها التي يرتوي منها اكسير الحياة في تلك اللحظة تحديدا...

حين تحرك جسدها الضعيف بين ذراعيه، وجدت ذراعيها ترتفعان بوهن الى عنقه...
و أصابعها تتلمس خصلات شعره، بينما عيناها لا تجرؤان على مواجهته...
فبقت مستسلمة الى تلك الدوامة، تدور و تدور...
الى أن سقطت فجأة!
فتحت عينيها لتجد انها قد سقطت على سريرها وهو معها، ففغرت شفتيها بذعر و هي ترى وجهه ذي اللون الاحمر القاتم و العينين المشتعلتان، يبعدان عن وجهها بمقدار نفس، نفس واحد فقط...
و صوته يهمس ذاهلا.

تيمائي، و كان هذا آخر ما سمعته قبل أن تغيبها شفتاه مجددا في عالمه القاتم بالأحمر و الأسود...
يده على خصرها كانت ثابته، قوية، و كأنها تأمرها أمرا سلطانيا بعدم التحرك من مكانها...
و ذراعه الأخرى تحت ظهرها ترفعانها اليه، الى شوقه الجامح...
و شفتاه لا ترحمان، قويتين، و مكتسحتين بلا هوادة...
كلما حرر شفتيها كانت تهمس باسمه، لتخبره بأنها تحبه...
بينما كان يهمس بصك الملكية من بين ثورة عاطفته المجنونة...

تيمائي، حبيبتي، مرت لحظات طويلة، أو ربما أعوام، لا تستطيع التحديد...
لكن كل ما تعرفه انها فجأة انتفضت بردا...
بل احساسا بالصقيع و هو ينتفض ليدفع ذراعيها عن عنقه
و يقفز واقفا، مبتعدا بظهره الى ان وصل لنهاية الغرفة...
استقامت تيماء، لتجلس شبه مستلقية و هي تنظر اليه بذهول، بينما كانت تلهث بعنف و العالم يدور من حولها و عينيها غير ثابتتين...

اما قاصي فقد كان يبادلها النظر بذهول اكبر و انفاسه متسارعة، و عالية الصوت الى درجة الحشرجة...
لم تعلم ان الدموع قد انسابت على وجنتيها، قبل حتى ام تستوعب ما حدث...
أما هو فقد رفع اصابعه ليتخلل بها خصلات شعره المتناثرة، يكاد أن يقتتلعها، وهو يهمس بذهول و بصوت متحشرج
(ياللهي!)
بكاؤها اخذ يتزايد دون صوت، فقط شهقات صامتة و هي تتمنى لو يطمئنها...

تمنت لو يأخذها بين ذراعيه، لا لشيء الا ليمحو خوفها و يخبرها ان كل شيء سيكون على ما يرام...
لكن قاصي كان في تلك اللحظة يبدو كمن ارتكب جريمة و ينظر الى ضحيته...
الألحان لا تزال تصدح بينهما، الا أنها كانت تتجمد و تتساقط نغماتها...
فهمست تيماء باكية و هي تشهق بضعف
(قاصي)
رأت حلقه يتحرك بصعوبة و اختناق بينما عيناه لا تبصرانها تقريبا، الى أن تمكن من النطق أخيرا بصوت غير صوته، صوت مرتعش، بائس...

(أنا، يجب أن أرحل)
أفلتت منها شهقة باكية بصوت مرتعش و هي تهمس متوسلة
(لا تتركني، أرجوك)
الا أن قاصي كان يتراجع بالفعل و عيناه غير قادرتين على تحريرها، قبل ان يهمس بنفس الصوت المتحشرج
(أنا، آسف)
لا ليس الأسف ما تريده، تريده أن يطمئنها، يضمها الى صدره، لكن دون عاطفة هوجاء...
تريد فقط ان تريح رأسها على كتفه...
لكن قاصي هتف منهيا كل أمل لها
(سأرحل).

و قبل أن تترجاه مجددا كان قد نهب الطريق الى الباب مندفعا، و خلال لحظات سمعت صوت الباب الخارجي يصفق، بقوة رجل يريد الفرار، من نفسه...

أخذت تيماء تبكي و ترتعش بعنف...
مما جعل مسك تنهض من سريرها بحذر، لتقترب من سريرها و هي تراها تتلوى باختناق...
و الدموع تغرق وجهها، بينما اسم قاصي لا يبارح شفتيها...
انحنت مسك لتربت على كتف تيماء و همست
(تيماء، تيماء، هل تحلمين؟، تيماء اهدئي، انه مجرد كابوس)
لكن تيماء لم تسمعها، لأنها لم تستيقظ، بل كانت بكل كيانها مع ذكريات ليست بعيدة جدا...

الا ان عقلها اوهما انها كانت ابعد مما تظن، كان قد أوهمها أنها دفنتها بعيدا، و انتهت
عادت مسك لتهمس
(تيماء استيقظي، إنه مجرد كابوس).

قاصي استيقظ، استيقظ، انه مجرد كابوس
صوتها يتردد بتلك الذكرى البعيدة...
بعد قبلتهما العاصفة...
امتنع قاصي عن السفر اليها، رؤيتها، بل و حتى سماع صوتها...
مرت أشهر وهو لا يرد على اتصالاتها له...
حتى اوشكت على الإنهيار، كانت بشرتها تزداد ذبولا، و جسدها نحافة...
و عيناها أصبحا غائرتين، عميقتين كبئرين من الأحزان...
الى ان اضطرت لإرسال الرسائل اليومية له دون أن تفقد الأمل أبدا.

قاصي، رد على اتصالاتي، أنت تقتلني بصمتك،
قاصي، لا أريدك أن تأتي إن كنت لا تريد أن تراني لكن على الأقل أسمعني صوتك، لا تشعرني بأنني وحيدة،
قاصي، شهرين كاملين، لم أراك بهما، و لم أسمع صوتك، ليس من العدل أن تعاقبني.

قاصي، أنا أثق بك، حتى هذه اللحظة أثق بك أكثر مما أثق بنفسي، فقط كلمني،
قاصي، اليوم هو اليوم الأول لي في الكلية، كم تمنيت لو خرجت ووجدتك تنتظرني كما كنت تنتظرني أمام المدرسة، فقط، اتصل بي،
قاصي، لا استطيع الدراسة، لا أفقه كلمة، لا أسمع سوى صوتك،.

قاصي، للمرة الأولى أشعر بالخوف من السفر، سافرت وحدي مرارا و أنا طفلة، لكن الآن أشعر بالخوف من السفر و المجيء اليك، لكن لو هذا هو السبيل الوحيد لرؤيتك، فسآتي أنا اليك،
خرجت من أبواب كليتها...
تسير بتعب و هي تجر حقيبتها بلا حماس، شعرها متطاير ووجهها شاحب...
بينما عيناها غير ثابتتين، و كأنها لا تبصر من أمامها...

كان أحدهم ينادي باسمها من خلفها، الا أنها لم تسمعه، بل كانت في عالم غير العالم و هي تخرج من البوابة بذبول...
الى ان شعرت فجأة بمن يمسك بذراعها و يديرها اليه...
شهقت تيماء و هي تنظر الى ذلك الشاب الذي كان يلهث جريا ورائها...
فقال مبتسما
(هل من عادتك أن تطلقين ساقيك للريح هكذا كل يوم؟)
لم ترد تيماء، بل كانت تنظر اليه عاقدة حاجبيها، ثم سألت أخيرا بصوت جامد
(من أنت؟).

عقد الشاب حاجبيه بشدة، قبل ان يضحك باستياء واضح، ثم قال بخشونة
(أنا زميلك في الدفعة إن كنت لم تلاحظي ذلك بعد)
ازداد انعقاد حاجبيها، ثم قالت بنفس الجمود
(اذن!، و ماذا؟)
نظر اليها الشاب بنفاذ صبر و استياء أخذ في التزايد، من الواضح أنه قد اعتاد الا يكون مجهولا من الجنس الآخر، لذا قال بصلف
(اذن أعرفك بنفسي، أنا عمرو الحداد، زميلك في الدفعة)
ظلت تيماء صامتة تنتظر المزيد، ثم قالت أخيرا بصوت لا حياة به.

(هذا ما سبق و أخبرتني أياه، فهل من جديد يمكنني أن أقدمه لك؟)
عاد عمرو ليضحك، لكن بتسلية هذه المرة، ثم قال و عيناه تمران عليها ببطىء
(أنت انطوائية جدا، هذا ما لاحظته خلال شهرين من الدراسة)
تنهدت تيماء بنفاذ صبر قبل أن تقول بملل
(نعم أنا انطوائية، كشفتني، اذن هل يمكنني الذهاب الآن؟)
زم شفتيه بغضب، لكنه أخذ نفسا عميقا، ليقول بعدها بهدوء
(ما رأيك لو اصطحبتك لتناول الغذاء؟)
ارتفع حاجبي تيماء و هي تقول ببرود.

(لماذا؟)
تنهد الشاب بنفاذ صبر، قبل أن يقول بتملق
(أريد التعرف اليك أكثر، أنت تجذبينني، هل هذا هو النوع من الصراحة التي تطلبين؟)
أخذت تيماء نفسا عميقا قبل أن تقول ببرود
(آسفة، لست مهتمة، عن اذنك)
الا أنه عاد و أسرع بإمساك ذراعها ليقول
(انتظري قليلا، تعالي لأقلك على الأقل، سيارتي هناك. )
أشار بذقنه الى سيارة مصطفة، حمراء مكشوفة، أوضحت بما لا يقبل الشك أنه شاب مدلل و لا يتقبل الرفض بسهولة...

نظرت تيماء الى السيارة، ثم أخفضت عينيها الى الكف الممسكة بذراعها...
و قبل أن تفتح فمها لتسمعه ما يليق به...
كان الشاب قد اندفع للخلف فجأة وهو ينتزع يده من ذراعها...
و أمام ذهولها وجدت قاصي و كأنه قد انبثق من تحت الأرض، ليمسك بمقدمة قميص الشاب و يلقيه على مقدمة أحد السيارات...
هادرا بوحشية
(لا تضع يدك على ما لا يخصك).

و قبل أن يستقيم الشاب من ذهوله كان قاصي قد لكمه بقوة أزالت الدم من أنفه أمام ذهول الجميع...
تركه قاصي ليتراجع للخلف، بينما بدا منظره وحشي، مخيف، و عيناه تشتعلان بنيران مجنونة...
فنهض الشاب بصعوبة وهو يبصق الدم من شفتيه و أنفه، ليصرخ بجنون
(يا ابن الزانية!، ما الذي)
لم يجد الوقت للمتابعة بالمزيد...
كان قاصي قد استدار ليواجه تيماء، لتلتقي أعينهما بعد فراق أشهر طويلة...

عيناه تشتعلان بنار سوداء، بينما عينيها مذهولتين، مشتاقتين...
لكن ما أن نطق الشاب من خلفه بما نطق...
حتى ارتفع كف تيماء الى شفتيها و اتسعت عيناها بذعر، و هي ترى عيني قاصي و كيف تحولتا الى شيء داكن أكثر رعبا...
قبل أن يستدير الى الشاب مجددا، ثم خلال لحظات، رأت قاصي كما لم تراه من قبل...

منعدم الإنسانية، وهو يكيل اللكمات الى زميلها بجنون ووحشية، بينما الأناس المتجمهرين يحاولون فصلهم بأقصى استطاعتهم، لكن لم يستطع أحد أن يتغلب على قوة قاصي في تلك اللحظة
و كأنه قد تحول الى آلة من الضرب و الهمجية...
استعادت تيماء وعيها خلال لحظات من الذعر قبل أن تهجم عليه و تتشبث بذراعه و هي تصرخ
(توقف، توقف يا قاصي أرجوك، أرجوك).

كان كمن لم يسمعها للحظات، فتركت ذراعه لتتشبث بوجهه بكلتا كفيها و هي تصرخ أمام عينيه بكل قوة و صلابة
(كفى يا قاصي، لقد نلت حقك، كفى الآن)
نظر اليها وهو يلهث بصعوبة، فعاودت القول لعينيه وهي تمسك وجهه بين كفيها بقوة و بصوت أقل صراخا، و أكبر وضوحا، كي يقرأ شفتيها بعينيه و يستوعب...
(لقد نلت حقك، لقد نلت حقك، اهدأ حبيبي)
أخذ يتنفس بصعوبة، وهو يستعيد وعيه ببطىء، فقالت برجاء.

(هيا لنذهب أرجوك، قبل أن يأتي حرس الجامعة، أرجوك)
نظر اليها للحظات و كأنه لا يراها، قبل أن تلتقط عيناه أخيرا اشارت التواصل مع لونهما الفيروزي...
حينها عرفت تيماء أنه قد عاد الى أرض الواقع...
مد قاصي يده ليمسك بذراعها و يسحبها معه الى دراجته التي اشتاقت اليها كما اشتاقت اليه...
حين شعرت بيديه على خصرها، ترفعانها و تضعانها على الدراجة قبل أن يلبسها الخوذة...
علمت وقتها بأنها عادت الى موطنها من جديد...

كان شوقها اليه يكاد أن يكون نارا مستعرة تحرق احشائها، كان أكبر من أن تتذكر لقائهما الاخير...
مهما حدث بينهما، يظل رجوعهما اكثر منطقية و طبيعية...
لكنها لم تستطع حتى أن تهمس باسمه في تلك اللحظة...
من منظر وجهه علمت أن هذا هو وقت الصمت، فتشبثت بخصره وهو يجلس أمامها لينطلق بها أمام جميع زملائها...
و كان هذا اقرارا رسميا منها أنها تخص هذا الرجل وحده...
لذا، ممنوع الإقتراب منها!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة